هدی الطالب الی شرح المکاسب [انصاري] المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الجزائري المروج، السيد محمدجعفر، 1378 - 1288، شارح

عنوان واسم المؤلف: هدی الطالب الی شرح المکاسب [انصاري]/ تالیف السيد محمدجعفر الجزائري المروج

تفاصيل المنشور: بیروت: موسسة التاریخ العربي، 1416ق. = - 1375.

ISBN : 1250ریال(ج.1) ؛ 1250ریال(ج.1)

لسان : العربية.

ملحوظة : الإدراج على أساس معلومات الفيفا.

ملحوظة : ج. 5 (1421ق. = 1379)10000 ریال :(ج. )5ISBN 964-5594-43-x

ملحوظة : ج. 4 (چاپ اول: 1420ق. = 1378)27500 ریال :ISBN 964-5594-28-6

ملحوظة : کتابنامه

عنوان آخر: المکاسب. شرح

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق.، المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 13

المعرف المضاف: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214، المکاسب. شرح

ترتيب الكونجرس: BP190/1/الف 8م 70213 1375

تصنيف ديوي: 297/372

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

١٤٢٨ه_ - ٢٠٠٧م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

THE ARABIC HISTORY Publishing - Distributing

بيروت - لبنان - شارع دكاش - هاتف ٥٤٠٠٠٠ - ٥٤٤٤٤٠ - ٤٥٥٥٥٩ - فاكس 800717 - ص.ب. ١١/٧٩٥٧

Beyrouth - Liban - Rue Dakkache - Tel: 540000 - 544440-455559 - Fax: 850717 - p.o.box 7957/11

ص: 2

ص: 3

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء و المرسلين محمّد و آله الطيبين الطاهرين، لا سيّما الإمام المبين و غياث المضطر المستكين عجّل الله تعالى فرجه الشريف، و اللعن المؤبّد على أعدائهم أجمعين.

ص: 4

[تتمة كتاب البيع]

[المقبوض بالعقد الفاسد]

اشارة

مسألة: (1) لو قبض ما ابتاعه

______________________________

المقبوض بالعقد الفاسد

(1) هذه المسألة- بما لها من الفروع- من مهمات مسائل المعاملات، و قد تعرّض لها المصنف قدّس سرّه بعد الفراغ من المقدمة الباحثة عمّا يعتبر في صيغة البيع مادّة و هيئة، كالظهور الوضعي و تقديم الإيجاب على القبول و الموالاة بينهما و التنجيز و غيرها ممّا تقدم البحث فيه تفصيلا. إذ يتّجه حينئذ البحث عن حكم المقبوض بالعقد المختلّ بعض شرائطه، بحيث لم يؤثّر في النقل و التمليك.

و لا يخفى أنّ فساد العقد كما ينشأ من فقد شرط الصيغة، كذلك ينشأ من خلل في ما اعتبره الشارع في المتعاقدين أو العوضين، على ما استظهره المصنف في ثامن تنبيهات المعاطاة بقوله: «لأنّ مرادهم بالعقد الفاسد إمّا خصوص ما كان فساده من جهة مجرّد اختلال شروط الصيغة .. و إمّا ما يشمل هذا و غيره، كما هو الظاهر» «1».

و كيف كان فالمقبوض بالبيع الفاسد موضوع لأحكام سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء اللّه تعالى.

الأوّل: عدم دخوله في ملك القابض.

الثاني: كون القابض ضامنا له.

______________________________

(1) راجع هدى الطالب، ج 2، ص 280

ص: 5

بالعقد (1) الفاسد لم يملكه، و كان مضمونا عليه (2).

[الأمر الأول المتفرع على المقبوض بالعقد الفاسد: عدم الملك]

اشارة

أمّا عدم الملك فلأنّه مقتضى فرض الفساد (3).

______________________________

الثالث: وجوب ردّه فورا إلى المالك مع بقائه. و وجوب ردّ بدله- من المثل أو القيمة على تقدير تلفه- إليه. و يتفرّع على هذا- بالنسبة إلى المثلي- حكم تعذر المثل، أو وجوده لكن بأكثر من قيمته المتعارفة. و بالنسبة إلى القيميات يقع البحث عن تعيّن قيمة يوم التلف أو يوم الأداء أو غير ذلك على تقدير اختلاف قيم المقبوض بالبيع الفاسد.

الرابع: ضمان منافعه المستوفاة، بل الفائتة أيضا. و غير ذلك ممّا سيأتي بالتفصيل إن شاء اللّه تعالى.

و المقصود بالبحث فعلا هو الأوّلان أعني بهما عدم الملك و ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

(1) الباء للسببية، يعني: أنّ القبض نشأ من البناء على سببية العقد للملكية و تأثيره فيها، فيكون القبض بعنوان الوفاء بالعقد، لا بعنوان إنشاء النقل، إذ لو علما بفساد العقد و تقابضا بقصد إنشاء البيع كان معاطاة، على ما سبق التصريح به في ثامن تنبيهات المعاطاة بقوله: «نعم إذا حصل إنشاء آخر بالقبض المتحقق بعده، تحقق المعاطاة» «1».

(2) كذا عنون المسألة في الشرائع «2». و قريب منه ما في قواعد العلّامة، حيث قال: «و لو قبض المشتري بالعقد الفاسد لم يملك، و ضمن» «3».

(3) لأنّ فساد الناقل عبارة عن عدم ترتب الأثر المقصود من العقد عليه، كالملكية المقصودة من البيع، فمقتضى عدم تحققه هو بقاء كلّ من المالين على ملك مالكه.

______________________________

(1) هدى الطالب، ج 2، ص 274.

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 13.

(3) قواعد الأحكام، ص 47 (الطبعة الحجرية).

ص: 6

[أدلة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد]
اشارة

و أمّا الضمان- بمعنى (1) كون تلفه عليه (2)، و هو أحد الأمور المتفرّعة على القبض بالعقد الفاسد- فهو المعروف (3).

______________________________

و لا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم الانتقال، و ذلك لعدم الشك حتى يجري فيه الأصل، فإنّه بعد العلم بفساد العقد واقعا يعلم بعدم انتقال المالين عن مالكيهما، و معه لا شك حتى يعالج بالأصل.

و ادّعى صاحب الجواهر قدّس سرّه عدم الخلاف في هذا الحكم، و استدلّ عليه «بالإجماع بقسميه و بالأصل، بعد فرض بطلان السبب الذي أريد التسبّب به إلى الانتقال، و فرض عدم إرادة غيره من أسباب الملك حتى المعاطاة» «1»، فراجع.

(1) هذا المعنى للضمان سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى قريبا في ما يتعلق بشرح مفردات قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(2) لا بمعنى كون إتلافه عليه، لأنّه مما لا إشكال و لا خلاف فيه، حيث إنّه مقتضى قاعدة الإتلاف، فالضمان الذي اشتهر بين الأصحاب هو بمعنى كون تلف المقبوض- بالعقد الفاسد- عليه.

أدلة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد أ: الإجماع

(3) و في الجواهر أيضا: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، لعموم على اليد» «2». و لا يخفى أن ما في المتن من «أن الضمان هو المعروف» لا ينافي الإجماع- المنقول عن شيخ الطائفة- على الضمان، و ذلك للفرق بين التعبير بالمعروف و المشهور، فالمشهور مشعر بوجود قول آخر في المسألة، بل هو ظاهر فيه. بخلاف المعروف، فإنّه مساوق لتعبير الجواهر من عدم الظفر بالخلاف، و من المعلوم أنّ عدم وجدان الخلاف يلتئم مع الإجماع المدّعى في المبسوط.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 22، ص 256

(2) المصدر، ص 257

ص: 7

[أ: الإجماع]

و ادّعى الشيخ في باب الرّهن، و في موضع من البيع الإجماع عليه (1) صريحا. و تبعه (2) في ذلك فقيه عصره في شرح القواعد.

و في السرائر: «أنّ (3) البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب في

______________________________

(1) أي: على الضمان، و هذا الإجماع هو الدليل الأوّل في المسألة، و قد ادّعاه الشيخ قدّس سرّه في مسألة ما إذا شرط أحدهما في الرّهن شرطا فاسدا، ككون العين المرهونة مبيعا لو لم يؤدّ المديون الدّين إلى المرتهن، قال في المبسوط: «إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر- على أنّه إن لم يقبض إلى محلّه كان بيعا منه بالدّين الذي عليه- لم يصح الرّهن و لا البيع إجماعا، لأنّ الرّهن موقّت، و البيع متعلق بزمان مستقبل. فإن هلك هذا الشي ء في يده في الشّهر لم يكن مضمونا عليه، لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون عليه فكيف بفاسده؟ و بعد الأجل فهو مضمون عليه، لأنّه في يده بيع فاسد، و البيع الصحيح و الفاسد مضمون عليه إجماعا» «1» و لا يخفى صراحة الجملة الأخيرة في كون المقبوض بالبيع الفاسد مضمونا على القابض.

و قال أيضا في كتاب البيع- في حكم المقبوض بالعقد الفاسد- ما لفظه: «فإذا ثبت أنّ البيع فاسد، نظر، فإن كان المبيع قائما أخذه مالكه .. و إن كان تالفا كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما، لأنّ الأوّل لم يبرء بتسليمه إلى الثاني، لأنّه سلّمه بغير إذن صاحبه، و المشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع» «2».

(2) يعني: تبع الفقيه كاشف الغطاء- في شرح القواعد- شيخ الطائفة قدّس سرّهما في دعوى الإجماع صريحا على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

(3) دلالة كلام ابن إدريس قدّس سرّه على الإجماع من جهة أنه نسب إلى محصّلي الأحكام الشرعية- و هم الفقهاء- اتحاد المقبوض بالعقد الفاسد و المغصوب في الحكم بالضمان.

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 204

(2) المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 150

ص: 8

الضمان» «1». و في موضع آخر نسبه (1) إلى «أصحابنا» «2».

[ب: الحديث النبوي «على اليد ..»]

و يدلّ عليه (2) النبويّ المشهور «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «3».

______________________________

(1) نسبة الضمان إلى «أصحابنا» ظاهرة في الإجماع و إن لم تكن صريحة فيه، قال في السرائر: «و من ابتاع بيعا فاسدا، فهلك المبيع في يده، أو حدث فيه فساد كان ضامنا لقيمته أكثر ما كانت إلى يوم التلف و الهلاك، و لأرش ما نقص من قيمته بفساده، لأنّه باق على ملك صاحبه، ما انتقل عنه، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي ء المغصوب، إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه».

ب: الحديث النبوي «على اليد ..»

(2) يعني: و يدلّ على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد- مضافا إلى تظافر نقل الإجماع عليه حديث «على اليد» و هذا هو الدليل الثاني. و الاستدلال به يقع في مقامين أحدهما السند، و الآخر الدلالة. أمّا الأوّل فقد نبّه عليه المصنف قدّس سرّه بتوصيف هذا النبوي ب «المشهور» و مقصوده: أنّ سنده و إن كان في غاية الضعف- بل من أردء الإسناد، لكون راويه عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو سمرة بن جندب لعنه اللّه، و عناده للنبي و أهل بيته عليه السّلام و وقوفه بوجهه في حديث نفي الضرر معلوم، و كذلك افتراؤه و اختلاق الأكاذيب عليه و حثّ الناس على قتال السبط الشهيد عليه السّلام غير خفي على من راجع ترجمته- إلّا أن شهرة الحديث بين عامة الفقهاء و عملهم بمضمونه جابرة لضعف سنده، بناء على ما هو الحق من عموم دليل حجيّة الخبر الواحد للوثوق الخبري، و عدم اختصاصه بالوثوق المخبري.

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 285

(2) المصدر، ص 326

(3) عوالي اللئالي، ج 1، ص 224، الحديث 106

ص: 9

..........

______________________________

و عليه فالغرض من «المشهور» هنا ليس مجرّد شهرة الرواية بين الأصحاب، بل الشهرة العملية فإنّها الجابرة لضعف السند، كما أنّ إعراضهم عن الرواية الصحيحة كاسر لصحتها. و قد نبّه المصنف على هذه الجهة في قاعدة ما يضمن بقوله: «و أمّا خبر اليد .. و سنده منجبرا» و من المعلوم أنّ الجابر هو اشتهار الفتوى بمضمون الخبر. فلا وجه لطرحه بضعف رواته- بناء على كونه مسندا كما في كتب العامة و في الخلاف- و لا بالإرسال.

و ما في المتن من انجبار الضعف بالعمل- موافق لما عليه عدة من أساطين الفقه، قال العلّامة الشيخ البلاغي قدّس سرّه: «.. لكنّه قد شاعت روايته بين الفريقين، و كثرت روايته و الاعتماد عليه بين الأصحاب، بل لم يخل من الاعتماد عليه في الاستدلال فيما رأيناه كتاب يتعرّض لمدارك الأحكام، و وصفه في جامع الشتات بالمشهور المقبول، بل ذكر في المضاربة وصفه بالرواية المجمع عليها. و كاشف الغطاء في شرح القواعد بالمستفيض المجمع على مضمونه. و في الرياض بالمشهور المقبول. و في غصب مفتاح الكرامة بالمشهور المعمول به في أبواب الفقه. و في وديعة المقابيس بالقويّة المعروفة المجمع عليها. و في العناوين بالمنجبر بالشّهرة المتلقّى بالقبول عند العامة و الخاصة، و الملحق بالقطعيات في الصدور .. و في الجواهر أنّه مجبور بالعمل» «1».

هذا بعض الكلام في سند الحديث، و له تتمة تذكر في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا المقام الثاني- و هو دلالة النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد- فتوضيحه: أن هذه الجملة و إن كانت بظاهرها إخبارا عن كون الشي ء المأخوذ فوق يد الآخذ، إلّا أنّ المناسب لشأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنشاء الحكم الشرعي،

______________________________

(1) العقود المفصلة، المطبوعة مع تعليقة المكاسب، ص 2

ص: 10

..........

______________________________

إمّا التكليفي كما نسب إلى جمع، و إمّا الوضعي كما استظهره آخرون. و يتمّ ذلك ببيان أمرين:

الأوّل: أنّ المراد باليد ليس هو الجارحة الخاصة، بل المراد صاحبها، تسمية للكل باسم الجزء، كما شاع تسمية الجاسوس عينا، و الترجمان لسانا، و المستمع أذنا.

و عليه فالمقصود باليد هو المستولي على الشي ء.

الثاني: أنّ المراد بالموصل هو الشي ء المأخوذ بما أنّه مال عرفا. و لمّا كان المال عينا خارجية كما هو الغالب، أو ما بحكمها- كالمنفعة و بعض الحقوق- توقّف إسناد الحكم إليها على تقدير فعل مناسب يتعلّق بالمال، كتقدير الأكل في حلية الطعام، و الشرب في حرمة الدم و الخمر، و نحوهما ممّا ورد في الكتاب و السّنة.

و في هذا النبوي يدور الأمر بين إرادة التكليف و الوضع. فعلى الأوّل إمّا أن يقدّر وجوب الرد و الأداء بأن يكون المدلول: «يجب على ذي اليد أداء ما أخذه إلى مالكه» و إمّا أن يقدّر وجوب الحفظ، بأن يكون المفاد: «يجب على ذي اليد حفظ ما أخذه إلى أن يؤدّيه إلى مالكه».

و على الثاني يكون معنى الجملة: «اليد الآخذة لمال الغير ضامنة له». و رجّح المصنف قدّس سرّه هذا الاحتمال، بدعوى ظهورها عرفا في الضمان، من جهة إسناد الظرف إلى المال، لا إلى سائر الأعيان و الأفعال، للفرق بين أن يقال: «لزيد عليّ دين» حيث لا يستفاد منه إلّا الإقرار بالدين و اشتغال العهدة به، و بين أن يقال: «كتب عليكم الحج أو الصوم» أو «حرّم عليكم الدّم» فإنّ الظرف- في المثال الأوّل- أسند إلى الفعل و هو الحج و الصوم، و لا يراد به إلّا الوجوب التكليفي، و في المثال الثاني أسند التحريم إلى عين خارجية، و هو ظاهر في النهي عن الشرب و الأكل.

و الحاصل: أنّ ظهور الجملة في الحكم الوضعي- و هو الضمان- ممّا لا ينكر.

و به يتم الاستدلال بالنبوي على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

ص: 11

و الخدشة (1) في دلالته «بأنّ كلمة- على- ظاهرة في الحكم التكليفي،

______________________________

(1) ذكر هذه الخدشة في دلالة الحديث على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد شيخ الطائفة و العلامة و الفاضل النراقي قدّس سرّه حيث إنّهم استفادوا منه الحكم التكليفي لا الوضعي، فالأوّلان ذهبا إلى أنّ مفاده وجوب ردّ المأخوذ، و الفاضل ذهب إلى أنّ مدلوله وجوب الحفظ عن التلف.

أمّا شيخ الطائفة قدّس سرّه فيظهر منه ذلك في استدلاله بالنبوي على تحريم الغصب و وجوب ردّ المغصوب إلى مالكه. قال في غصب المبسوط بعد ذكر جملة من الآيات و الروايات: «و روي عن الحسن عن سمرة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1». و قال بعده: «فإذا غصب غاصب من هذا شيئا فإن كان قائما ردّه، و إن كان تالفا فعليه مثله، لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ «2»».

و الظاهر أنه قدّس سرّه استفاد من الحديث حكم بقاء العين المغصوبة، فاستدلّ بالنبوي على وجود ردّها، و استفاد وجوب ردّ المثل من الآية الشريفة.

و قال أيضا في الوديعة: «و إذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين، من جهة المودع متى شاء أن يستردّها فعل. و من جهة المودع متى شاء أن يردّها فعل، بدلالة ما تقدّم من الأخبار و الآي. و روى سمرة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «3». و مراده بالآيات و الأخبار هو ما دلّ على وجوب ردّ الأمانات و الودائع إلى أهلها، فراجع.

و أمّا العلّامة قدّس سرّه فقال في وجوب ردّ العين المغصوبة: «كلّ من غصب شيئا وجب عليه ردّه على المالك، سواء طالب المالك بردّه أولا، ما دامت العين باقية،

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 59 و 60

(2) سورة البقرة، الآية: 194

(3) المبسوط في فقه الإمامية، ج 4، ص 132

ص: 12

فلا يدلّ على الضّمان (1)» ضعيفة (2) جدّا،

______________________________

بلا خلاف، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «1».

و قال في لقطة المختلف: «و قوله عليه السّلام: على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه أوجب دفع العين» «2».

و أمّا الفاضل النراقي قدّس سرّه فقال- بعد المناقشة في استظهار كلّ من وجوب الأداء و الضمان- ما لفظه: «فالأظهر تقدير الحفظ من الضياع و التلف، أو نحوه .. فيكون معنى الحديث: يجب على ذي اليد حفظ ما أخذت إلى زمان أدائه ..» «3».

و كيف كان فتقريب دلالة الحديث على مجرّد الحكم التكليفي، و اختصاص مدلوله بحال بقاء العين الواقعة تحت اليد هو: أنّ جعل شي ء على شخص ظاهر في التكليف، كأن يقال: إذا بلغ الصغير فعليه الصوم و الصلاة. فإنّ المراد بهذه العبارة هو الوجوب التكليفي. و عليه فلا يستفاد من الحديث النبوي حكم وضعي و هو استقرار المال المأخوذ في عهدة الآخذ حتى يجب عليه دفع المثل أو القيمة إذا تلف المال بيده.

(1) يعني: في مطلق موارد وضع اليد على مال الغير، سواء في المقام و هو المقبوض بالبيع الفاسد، أم غيره.

(2) خبر قوله: «و الخدشة» و تضعيف لها، و محصّله: أنّ ظهور «على» في التكليف مسلّم فيما إذا أسند حرف الاستعلاء إلى فعل كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها، دون ما إذا أسند إلى مال من الأموال، كقوله تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «4» فإنّه ظاهر حينئذ في استقرار النفقة على عهدة الوالد. و كذا الحال في الحديث النبوي، إذ المراد بالموصول في «على اليد ما أخذت»

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383 (الطبعة الحجرية).

(2) مختلف الشيعة، ج 6، ص 87

(3) عوائد الأيام، ص 110، العائدة الثالثة و الثلاثون.

(4) سورة البقرة، الآية: 233

ص: 13

فإنّ (1) هذا الظهور إنّما هو إذا أسند الظرف إلى فعل (2) من أفعال المكلّفين، لا إلى مال من الأموال (3)، كما يقال (4): «عليه دين» فإنّ لفظة «على» حينئذ لمجرّد الاستقرار في العهدة (5)، عينا (6) كان أو دينا (7).

و من هنا (8) كان المتّجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير بل المجنون

______________________________

هو المال، فتكون عهدة المأخوذ على الآخذ، فلو تلف ثبت بدله في ذمّته، و هذا هو الضمان المبحوث عنه.

(1) هذا تقريب ضعف الخدشة، و قد عرفته آنفا.

(2) كالصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ و نحوها من أفعال المكلّفين، فإنّ إسناد «على» إلى الفعل ظاهر في التكليف.

(3) كما في الحديث النبوي.

(4) غرضه الاستشهاد بظهور إسناد حرف الاستعلاء إلى المال في استفادة الحكم الوضعي لا التكليف.

(5) فيصح الاستدلال به على الضمان، بناء على استقلال الأحكام الوضعية في الجعل، و عدم انتزاعها من التكليف.

(6) كما إذا كانت العين المأخوذة بالعقد الفاسد باقية لم يطرأ عليها التلف.

(7) كما إذا تلفت العين، أو كان المستقر في العهدة- من أوّل الأمر- دينا، كالمبيع سلفا.

(8) أي: و من ظهور إسناد «على» إلى المال في الضمان، يتجه الاستدلال بالنبوي المزبور على ضمان الصبي و المجنون كالبالغ و العاقل إذا كان لهما تميّز و شعور، حيث إنّ الأخذ ظاهر في الإرادة و الاختيار. فإن لم يكن لهما شعور لم يصدق «الأخذ» على فعلهما حتّى يصحّ الاستدلال به على الضمان. و لو كان مفاد الحديث الحكم التكليفي امتنع شموله للطفل و المجنون، لحديث رفع القلم عنهما.

ص: 14

إذا لم تكن يدهما ضعيفة، لعدم (1) التمييز [التميّز] و الشعور.

______________________________

(1) تعليل لتقييد ضمان الصبي و المجنون بعدم الضعف، إذ لو كانت يدهما ضعيفة لم يصدق «الأخذ» على الاستيلاء على مال الغير، و كان الحديث النبوي قاصرا عن إثبات ضمانهما حينئذ [1].

______________________________

[1] تنقيح البحث في هذه المسألة المعروفة بالمقبوض بالعقد الفاسد يتوقف على بيان أمور:

الأوّل: في موضوعها، و هو: أنّ مورد البحث على ما يستفاد من كلمات الأصحاب هو كون القبض بعنوان الوفاء بالعقد و من لوازمه و آثاره. و عدم كونه بنفسه إنشاء للملك كالمعاطاة، فإنّ الباء في قوله: «بالعقد الفاسد» للسببيّة، فالقبض بعنوان الإنشاء خارج عن ظاهر كلامهم. إمّا لعدم سببيّة المعاطاة للملك عندهم، و إمّا لعدم قصد المتعاقدين لها، فمصبّ كلامهم هو القبض المترتب على العقد الفاسد، و لذا قال في الجواهر: «نعم لو علم منهما و لو بالقرائن بعد ذكرهما العقد عدم إرادتهما ذلك، بل قصد الإنشاء بتقابضهما و أرادا حصول الملك أو الإباحة جرى عليه حينئذ حكم المعاطاة، و كان خارجا عمّا نحن فيه. و بذلك ظهر الفرق بين البيع الفاسد و المعاطاة. لكن قد عرفت سابقا أنّ قصد التملك العقدي غير مشخّص مع فرض تحقق البيع بالمعاطاة التي منها الصيغة الملحونة مثلا. على أنّ الأصحاب قد أطلقوا عدم الملك به و إن لم يكن قصد إلّا الى البيعية. فهذا شاهد على عدم صحة بيع المعاطاة عندهم. و من هنا يتجه إطلاقهم عدم الملك» «1».

و أنت خبير بعدم شهادة إطلاق كلامهم عدم الملك بعدم صحة المعاطاة، لتوقف هذه الشهادة على كون المعاطاة عبارة عن مطلق التقابض و لو كان حاصلا مع الصيغة الملحونة و نحوها من أفراد العقد الفاسد كما يراه الشهيد و المحقق الثانيان قدّس سرّه. إذ على هذا الفرض يدلّ إطلاق كلامهم عدم الملك في المقبوض بالبيع الفاسد على عدم صحة

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 22، ص 257

ص: 15

______________________________

المعاطاة، حيث إنّها لو كانت صحيحة كانت مملّكة، فيحصل الملك بها، و لم يكن وجه لإطلاق القول بعدم الملك.

لكن المعلوم من كلماتهم أنّ المعاطاة عندهم عبارة عن التقابض الذي يكون آلة لإنشاء البيع، سواء لم يكن لفظ في البين، أم كان مع علم المتبايعين بفساده، و إنشائهما البيع بالتعاطي مع الغضّ عن ذلك العقد الفاسد. و أمّا بدون إنشائهما البيع بالتقابض فلا يكون هنا معاطاة.

و الحاصل: أنّ إطلاق كلامهم المزبور لا يدلّ على بطلان المعاطاة.

نعم يمكن أن تكون المعاطاة باطلة لفقدانها لبعض الشرائط، لكنها لا تندرج تحت عنوان المقبوض بالعقد الفاسد. فالمراد هو المقبوض المترتب قبضه على البيع الفاسد، لا المقبوض الذي نفس قبضه إنشاء للبيع.

نعم لا تختص الأحكام الآتية بالمقبوض بالعقد البيعي، بل يعمّ المقبوض بكل عقد فاسد بيعا كان أم صلحا أم غيرهما. و قولهم: «لو قبض ما ابتاعه .. إلخ» إنّما هو لذكرهم هذه المسألة في كتاب البيع، و لذا قالوا: «ما ابتاعه» و إلّا فالمناسب أن يقال:

«لو قبض ما تملّكه أو أراد تملّكه بالعقد الفاسد».

فالمتحصل ممّا ذكرنا: عدم خصوصية بالبيع، بل العنوان عام، و هو المقبوض بالعقد الفاسد سواء أ كان بيعا أم صلحا أم غيرهما.

الثاني: المراد بالمقبوض هو كون الشي ء تحت اليد و التصرف و الاستيلاء، بحيث لو ترتب عليه أثر كصحة عقد السلم و الصرف و الرّهن و غيرهما ممّا يتوقف عليه صحة العقد، لترتّب عليه، فالقبض هنا كالقبض في سائر الموارد.

و الحاصل: أنّ المراد بالمقبوض معنى يصحّ الاستدلال على حكمه بقاعدة اليد الآتية.

الثالث: في الحكم المترتب على المقبوض بالعقد الفاسد، و هو على قسمين تكليفي و وضعي.

ص: 16

______________________________

أمّا الأوّل فحاصله: أنّ مقتضى القاعدة العقلية و النقلية حرمة التصرف و قبحه في المقبوض بالعقد الفاسد، لإناطة جوازه بطيب نفس المالك و رضاه، فيحرم على القابض التصرف فيه إلّا بإذن المالك، و الرّضا المعاوضي المتقوم بالعقد قد ارتفع، فلا مسوّغ للتصرف، إذ احتمال تجدّد الرضا- بعد ثبوت فساد العقد- منفي بالأصل و هو الاستصحاب. و لو نوقش فيه فلا مانع من جريان الاستصحاب الحكمي أعني به استصحاب الحرمة.

مضافا إلى كونه خلاف الفرض، إذا الكلام في جواز التصرف في المقبوض لأجل الرضا المعاملي، لا الرّضا الحادث بعد العلم بفساد العقد، فإنّ الرضا الجديد غير محرز، و هو منفيّ بالأصل.

فدعوى بقاء الاذن و الرضا بالتصرف الذي كان في ضمن العقد، لأنّ الجنس لا يتقوّم بفصل خاصّ، غير مسموعة، لأنّ الرضا ليس جنسا حتى يقال بعدم تقوّمه بفصل خاص، بل هو أمر بسيط ما به امتيازه عين ما به اشتراكه.

و الحاصل: أنّ التصرف في مال الغير حرام إلّا بطيب نفس المالك و رضاه، و لا يجوز عقلا إلّا بعد إحراز الرضا، هذا. فما عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه من إباحة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد مما لم يظهر له وجه «1».

و أمّا الثاني: و هو الحكم الوضعي أعني به الضّمان فيدلّ عليه- مضافا إلى الشهرة و الإجماعات المحكيّة في المتن و غيره- «النبوي المشهور» كما في كلام المصنف و غيره، و «المعمول به عند الفريقين» كما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه «2»، و غيره من أساطين الفقه. و غرضهم من نحو هذا التعبير كفاية الوثوق الخبري في العمل بالحديث، و هو متحقق في المقام، و ذلك لتماميّة أمرين:

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 192

(2) منية الطالب، ج 1، ص 116

ص: 17

______________________________

أحدهما: إحراز استناد المشهور إلى هذا النبوي و العمل بمضمونه، و ثانيهما: كون العمل برواية ضعيفة سندا جابرا لضعفها، و إعراضهم عن رواية قويّة سندا كاسرا لصحتها و موهنا لاعتبارها. و الأمر كما أفادوه.

تحقيق سند النبوي «على اليد» لكن قد نوقش في كلا الأمرين، أمّا في الكبرى فبمنع كون عمل المشهور جابرا، و إعراضهم كاسرا، كما تكرّر في كلمات بعض الأعاظم فقها و أصولا «1». و أمّا في الصغرى فلما في كلامه أيضا و كلام بعض الأجلّة من عدم إحراز عمل قدماء الأصحاب بهذا النبوي «فإنّ جمعا منهم لم يذكروه في كتبهم كما يظهر بمراجعة نكت النهاية و المقنع و الهداية و المراسم و الوسيلة و جواهر الفقه.

و جمعا منهم و إن أوردوا هذا الحديث في كتبهم كالسيدين و شيخ الطائفة، بل و ابن إدريس أيضا. إلّا أن الظاهر إيراده احتجاجا على المخالفين لا اعتمادا عليه. قال السيّد في الانتصار في مسألة ضمان الصّنّاع: «و مما يمكن أن يعارضوا به لأنّه موجود في رواياتهم و كتبهم- ما يروونه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قوله: على اليد ما أخذت حتى تؤديه» لظهور كلامه في الإيراد على المخالفين بما هو مسلّم عندهم، و لا يستفاد منه استناد السيد إليه.

و قريب منه كلام السيّد أبي المكارم في غصب الغنية و إجارتها، لقوله: «و يحتجّ على المخالف بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم .. إلخ».

و أورده شيخ الطائفة في غير مورد من الخلاف و المبسوط رواية و احتجاجا على القوم كما هو دأبه في كتابيه، لا استنادا. ففي غصب الخلاف، مسألة 20، بعد عنوانها و ذكر خلاف أبي حنيفة قال: «دليلنا أنه ثبت أنّ هذا الشي ء قبل التغيير كان ملكه،

______________________________

(1) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 88 و 89

ص: 18

______________________________

فمن ادّعى أنّه زال ملكه بعد التغيير فعليه الدلالة. و روى قتادة عن الحسن عن سمرة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه».

و الظاهر أنّ مستنده هو الأصل خاصة. إذ لو كان مستنده هو الحديث لم يكن وقع للاستدلال بعدم الدليل على زوال ملكه، و عليه فيكون إيراد الحديث لمحض الاحتجاج على أبي حنيفة.

نعم تمسّك به ابن إدريس في غصب السرائر، و نسبه جزما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع عدم عمله بالخبر الواحد، ثم شاع الاستدلال به بين المتأخرين من زمن العلّامة. مع احتمال أن يكون ذكره احتجاجا عليهم كما يظهر من موضع آخر من غصب السرائر، حيث قال: «و يحتجّ على المخالف بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على اليد. و هذا يوجب حصول الاحتمال بأن سائر الموارد من قبيل الاحتجاج عليهم، لا التمسك به، و إن كان خلاف الظاهر.

و لم أر إلى الآن فيما حضرني من كتب العلّامة تمسّكه به لإثبات حكم، و إنّما نقل عن ابن الجنيد و ابن إدريس التمسك به على ما حكي. و حدوث الاشتهار بعده لا يفيد شيئا.

و عليه فالاعتماد على هذا الحديث مشكل، و ترك العمل به مشكل آخر، مع جزم ابن إدريس بصدوره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع طريقته في العمل بالأخبار. مع احتمال أن يكون ذلك لاجتهاد منه و قيام قرائن عنده ربما لا تفيدنا علما و لا عملا. و اختلاف عبارات الحديث بحيث ربما يكشف عن تكرّره و تظافره و اعتماد محققي أصحابنا من بعد ابن إدريس إلى عصرنا مع تورّعهم و التفاتهم الى ضعفه، و لا بدّ من الجبر في مثله، و هو لا يمكن إلّا باعتماد قدماء الأصحاب عليه، مع إتقان متنه و فصاحته بما يورث قوّة الاحتمال بأنّه من كلمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا سمرة و لعلّ بناء العقلاء على مثله

ص: 19

______________________________

مع تلك الشواهد لا يقصر عن العمل بخبر الثقة. لكن بعد اللتيّا و الّتي في النفس تردد «1».

أقول: أمّا المناقشة في كبرى الجبر بالعمل فقد فرغنا من الجواب عنها بما علّقناه على بحث حجيّة الشهرة «2»، و محصّله: أنّ عمل المشهور برواية ضعيفة مع تشتت آرائهم في حجية أخبار الآحاد، و شدة ورعهم و علمهم بضعف الراوي و خبثه يوجب الوثوق العقلائي بالصدور، و هو المناط في سيرة العقلاء في العمل بالأخبار، و لا مقيّد لها بالوثوق المخبري خاصة.

و أمّا المناقشة في الصغرى- بمعنى عدم إحراز استناد قدماء الأصحاب إلى هذا النبوي- فغير ظاهرة أيضا.

أمّا قوله: «و الظاهر أنّ مستنده هو الأمر الأوّل .. إلخ» ففيه: أنّ كلمات قدماء الأصحاب و متأخّريهم في مقام الاستدلال مشحونة بذكر الأصل و الرواية و الإجماع في عرض واحد، فيقولون: «للأصل و لقول الصادق عليه السّلام و للإجماع». مع أنّ الأصل ليس في رتبة الدليل، فالشيخ في الخلاف يذكر الأصل و هو الاستصحاب بقوله: «دليلنا: أنّه ثبت أنّ هذا الشي ء قبل التغيير كان ملكه .. إلخ» ثم يعقّبه بحديث على اليد. و بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحل مال امرء مسلم إلّا (بطيب من نفسه) عن طيب نفس منه». فهل يمكن التفكيك بين كلاميه قدّس سرّه بأن يقال: إنّ الشيخ أورد الأوّل احتجاجا و الثاني استنادا، مع وحدة السياق، و ذكره لهما بعد قوله: «دليلنا» فإنّ هذه اللفظة قرينة واضحة على كون ما يذكر بعدها دليلا على الحكم و مستندا له. فإنّ الاحتجاج على الخصم و إلزامه بما ألزم به نفسه لا ينافي الاستناد. فظهور كلام الشيخ في الاستناد إلى كلا النبويّين ممّا لا ينبغي إنكاره.

______________________________

(1) كتاب البيع، ج 1، ص 247 الى 250

(2) منتهى الدراية، ج 4، ص 390

ص: 20

______________________________

و نظير هذه المسألة ما أفاده الشيخ في غصب الخلاف (في المسألة 22): «إذا غصب ساجة فبنى عليها .. إلى أن قال: كان عليه ردّه .. إلى أن قال: دليلنا ما قلناه في المسألة الأولى .. إلى أن قال: و روى سمرة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه، و هذه يد قد أخذت ساجة، فعليها أن تؤديها. و أيضا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا بطيب نفسه، نفس منه، يدلّ عليه، لأنّه ما طابت نفسه بالبناء على ساجته» «1».

فإنّ قوله: «و أيضا .. إلخ» يدلّ على أنّ ذكر «على اليد» كان للاستناد.

مضافا إلى أنّه ذكر هذا الحديث بعد قوله: «دليلنا» فكلّ ما يذكره بعد هذا اللفظ يكون حجة و مستندا للحكم، و إلّا كان عليه قدّس سرّه» أن يقول: «و يؤيده». و لو كان مقصوده الاحتجاج على العامة لكان المناسب أن يعبّر بما عبّر به السيد قدّس سرّه بقوله: «و ممّا يمكن أن يعارضوا به ما يروونه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو يقول- كما عبّر به في بعض الموارد- «و يحتج على المخالف» حتى لا يحرز استناد فتواه إلى خصوص هذا الحديث.

و نظير هذا في العمل بالحديث ما نسبه إليه العلّامة في المختلف بقوله: «مسألة:

إذا ارتهن الغاصب الغصب صحّ. قال الشيخ في الخلاف: و لا يزول الضمان، لثبوته قبل الرّهن، فمن ادّعى براءته منه فعليه الدلالة. و لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ثم قال العلّامة: «و قد ذكرنا نحن في بعض كتبنا زوال الضمان، لأنّه مأذون له في الإمساك، فيسقط الضمان، و قول الشيخ لا يخلو من قوّة» «2».

و لا يخفى دلالة كلامه في تقوية الضمان على عمله بالحديث تبعا للشيخ، كظهور نفس عبارة الخلاف في الاستناد، و لا أثر من الاحتجاج على المخالف في كلامه.

و أظهر من ذلك في الاستناد إلى الحديث كلامه في غصب المبسوط و وديعته،

______________________________

(1) الخلاف، ج 3، ص 408 و 409

(2) الخلاف، ج 3، ص 228، مختلف الشيعة، ج 5، ص 417

ص: 21

______________________________

حيث جعل الحديث النبوي في عداد ما رواه من السّنة الدّالة على وجوب ردّ المغصوب و الوديعة إلى المالك.

هذا مضافا إلى تصريح هذا القائل باستدلال الشيخ بقاعدة اليد، في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد- في الاشكال على المصنف في ما نسبه الى الشيخ من استدلاله بالاقدام- حيث قال: «مع أن عبارة الشيخ في بيع المبسوط و غصبه على ما عثرت عليه ليست كما نقلها، بل ظاهرة بضمان اليد بدليلها» «1».

فلو كان ذكر النبوي لمجرّد التأييد لا الاستناد كان إشكال شيخنا الأعظم على شيخ الطائفة في استدلاله بالاقدام في محله، و لا يتّجه الاعتراض عليه بأنّ الدليل المتكرر في بيع المبسوط و غصبه هو اليد لا الاقدام. هذا كله في استناد شيخ الطائفة إلى النبويّ.

و استند ابن الجنيد إلى هذا النبوي على ما نقله العلّامة عنه قدّس سرّهما في عارية المختلف، فقال: «و قال ابن الجنيد: و ليس يضمن المعار تلف ما تلف منها إذا كانت السلعة متاعا، إلّا أن يتعدّى. و ما كان منها عينا أو ورقا أو حيوانا ضمن المعار تلف ذلك، إلّا أن يشترط المال [المالك] سقوط الضمان عنه .. احتجّ بقوله عليه السّلام: على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «2».

و أورده السيّد أبو المكارم أيضا في الغنية «3»، و هو و إن كان في مقام الاحتجاج عليهم، إلا أنّه لم يعبّر بمثل ما عبّر به السيد المرتضى من قوله: «و ممّا يمكن أن يعارضوا به» و إنّما أسند الحديث إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ظاهره القطع بصدوره عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه لا يعمل بالأخبار الآحاد المفيدة للظن.

و أورده ابن إدريس في مواضع من السرائر، فاستدلّ به فيما إذا اختلف شخصان

______________________________

(1) كتاب البيع، ج 1، ص 270

(2) مختلف الشيعة، ج 6، ص 72

(3) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ج 4، ص 536، السطر 21 و ص 537، السطر 27

ص: 22

______________________________

في كون مال وديعة أو قرضا، و قال: «و يكون القول قول من ادّعى أنّه دين، لأنّه قد أقرّ بأنّ الشي ء في يده أوّلا، و ادّعى كونه وديعة، و الرّسول عليه السلام قال: على اليد ما أخذت حتى تردّه .. إلخ» «1». و ليس في هذا الكلام شائبة الاحتجاج على المخالفين، و إنّما عارض رأي شيخ الطائفة في نهايته.

و قال أيضا في مسألة أخرى في باب الرّهن: «و الرسول عليه السّلام قال: على اليد ما أخذت حتّى تؤديه، إلّا ما خرج بالدليل» «2».

و قال في كتاب الغصب: «و يحتجّ على المخالف بقوله عليه السّلام: على اليد ما أخذت حتّى تؤدي» «3».

و قال في كتاب الغصب أيضا: «و من غصب ساجة فأدخلها في بنائه، لزمه ردّها، و إن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه، لمثل ما قدّمناه من الأدلة، من قوله عليه السّلام: لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفس منه. و قوله عليه السّلام أيضا: على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» «4».

و مبناه الأصولي في حجية الخبر غير خفي على من يتصفّح السرائر، و أنه قدّس سرّه لا يسند الحديث الى المعصوم عليه السلام إلّا بالقطع، فقد تكرّر منه هذه الجملة في الإيراد على شيخ الطائفة قدّس سرّه: «و قد بيّنا أن أخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما و لا عملا، و الواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة» «5» و نحوه كلامه في باب الرهن «6».

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 437

(2) المصدر، ص 425

(3) المصدر، ص 481

(4) المصدر، ص 484

(5) المصدر، ص 322

(6) المصدر، ص 422

ص: 23

______________________________

و لا ينافي حجيّة هذا الحديث عنده و استناده إليه إيراده احتجاجا على المخالف في موضع من كتاب الغصب، لأنّ غايته إلزامهم بما هو حجة عندهم أيضا. فيكون الحديث مقبولا عند الخاصّة و العامّة، و لعلّ هذا منشأ استظهار صاحب العناوين و غيره من اتفاق الفريقين على صدوره منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و بهذا ظهر أن شبهة إيراده احتجاجا- في عبارة الغنية- غير جارية في كلام ابن إدريس في المواضع التي استند فيها الى الحديث.

و أمّا العلّامة قدّس سرّه فقد أورده في المختلف و التذكرة، فاستند إلى الحديث في الكتابين، و نقل في المختلف استدلال الشيخ في الخلاف، و استدلال ابن الجنيد و ابن إدريس به، و كذا نقل استدلال المشهور به.

أمّا استناده إلى الحديث ففي مواضع، ففي التذكرة: «كلّ من غصب شيئا وجب عليه ردّه على المالك، سواء طالب المالك بردّه أو لا، ما دامت العين باقية، بلا خلاف، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «1» و أسنده إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الضمان بالمباشرة، فراجع «2».

و قال في المختلف: «إذا ادّعى الراكب الإجارة و المالك العارية المضمونة بعد تلفها قبل مضيّ مدة لمثلها أجرة، قال الشيخ في المبسوط: القول قول الراكب مع يمينه، لأنّ صاحبها يدّعي ضمانا في العارية فعليه البيّنة، و الأصل براءة ذمة الراكب. و الأقرب أنّ القول قول المالك، لأنّ الأصل تضمين مال الغير، لقوله عليه السّلام: على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «3» و نحوه في الاستناد كلامه في باب اللقطة «4».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 382 و 383

(2) المصدر، ص 374

(3) مختلف الشيعة، ج 5، ص 77

(4) المصدر، ص 87

ص: 24

______________________________

و نقل استدلال المشهور به بقوله: «مسألة: المشهور أن المقبوض بالسّوم مضمون كالمقبوض بالبيع الفاسد. و قال ابن إدريس: لا يكون مضمونا، و هو الأقرب، و له قول آخر في باب الغصب: إنّه مضمون. لنا: الأصل عدم الضمان .. احتجوا بعموم قوله عليه السّلام:

على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» «1». و هذه الجملة الأخيرة هي المعتمدة في إحراز عمل المشهور بهذا النبوي و الفتوى بمضمونه، و ظاهره الأخبار الحسّي باستناد المشهور إليه، و إلّا كان المناسب أن يقول: «و يحتجّ لهم».

و بهذا ظهر أنّ عدم ظفرنا بالحديث في عدّة من المتون الفقهية القديمة كالمقنع و المقنعة و الجواهر و الكافي و غيرها غير قادح في استنادهم إليه بعد شهادة مثل العلّامة باستدلالهم به و حجيته عندهم.

كما ظهر أيضا التأمّل فيما ذكره القائل من «عدم ظفره باستدلال العلامة بهذا النبوي، و إنّما اقتصر على نقل استدلال ابن الجنيد به» إذ عرفت استناد العلّامة إليه في مواضع عديدة، و نقل استناد شيخ الطائفة و ابن إدريس و المشهور به أيضا في مواضع أخرى.

هذا مضافا إلى أنّ دعوى عدم الظفر به في كلام العلّامة ربما ينافي قوله في مقام آخر: «ثم شاع الاستدلال به بين المتأخّرين من زمن العلّامة».

هذا كلّه في إحراز عمل القدماء و بعض المتأخرين كالعلّامة. و أمّا من تأخّر عنه كالشهيدين و المحقق الثاني و غيرهم فقد أسندوه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا تأمّل، كما لا يخفى على من راجع الدروس و جامع المقاصد و المسالك و غيرها.

و قد تحصّل من هذا التتبّع في كلمات فقهائنا الأبرار الوثوق بانجبار ضعف سند الحديث. بل لا تبعد دعوى كون المضمون مجمعا عليه بينهم، و عليه لا مجال للتشكيك في عمل المشهور به كما لا مجال للمناقشة في كبرى الجبر بعملهم.

______________________________

(1) مختلف الشيعة، ج 5، ص 321

ص: 25

______________________________

فالحقّ أنّ النبوي المزبور لا يكون أقلّ من خبر الثقة، فيصح الاستناد إليه و الاعتماد عليه في استنباط الحكم الشرعي، فلا بدّ من عطف عنان البحث إلى دلالته، فنقول و به نستعين، و بوليّه صلوات اللّه عليه نتوسل و نستجير:

محتملات حديث «على اليد» إنّ الوجوه المحتملة في معنى الحديث كثيرة:

الأوّل: أنّه يدلّ على الحكم التكليفي ما دام المأخوذ موجودا، فيختص بحال وجود العين، و لا يدلّ على حكم ما بعد تلفها، و للقائلين بذلك مسلكان:

أحدهما: أن يكون متعلق الحكم التكليفي ردّ العين، فيجب ردّ العين على من أخذها. و هذا الاحتمال يستفاد من كلام الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، حيث إنّه- بعد بيان تحريم الغصب و إقامة الأدلة الأربعة عليه و ذكر النبوي على اليد ما أخذت .. إلخ- قال: «و الإجماع ثابت على أنّ الغصب حرام، فإذا ثبت تحريم الغصب فالأموال على ضربين حيوان و غير حيوان، فأمّا غير الحيوان فعلى ضربين ماله مثل و ما لا مثل له، فما له مثل ما تساوت أجزاؤه، و معناه تساوت قيمة أجزائه، فكلّ هذا له مثل كالحبوب و الأدهان و التمور و الأقطان و الخلول التي لا ماء فيها، و الأثمان و نحو هذا كلّه له مثل، فإذا غصب غاصب من هذا شيئا فإن كان قائما ردّه، و إن كان تالفا فعليه مثله، لقوله تعالى:

فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ» «1» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

و قريب منه عبارة التذكرة: «و كلّ من يثبت يده على مال الغير و لا حقّ له في إمساكه و كان المال باقيا وجب عليه ردّه على مالكه، بلا خلاف، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. و لأنّ حق المالك متعلق بماليّته، و ماليّته لا تتحقّق إلّا

______________________________

(1) المبسوط، ج 3، ص 59 و 60

ص: 26

______________________________

بردّه إليه» «1».

و لعلّ وجهه عدم تأصّل الوضع بالجعل، و كونه منتزعا عن الأحكام التكليفية.

و المناسب لكونه منشأ لانتزاع الوضع عنه هو وجوب الرّدّ بالنسبة إلى نفس المأخوذ، لا بدله، و لا الأعم منه و من بدله، لمنافاته للغاية، و لا وجوب الحفظ.

ثانيهما: ما يفيده كلام الفاضل النراقي قدّس سرّه من: أن المراد به وجوب حفظ المال عن الضياع و التلف، إلى أن يردّه إلى المالك. و الوجه فيه: أن الكلام محتاج الى التقدير، و يدور المقدّر بين الرّد و الأداء و الضمان. و لا يجوز تقدير ما عدا الحفظ من الرّدّ و الأداء و الضمان، لأنّ تقدير الأوّلين يوجب خروج المعنى عن السلاسة، إذ معناه حينئذ وجوب الرّد حتى يتحقق الرّدّ. و توقف الحكم على بقاء موضوعه عقلي، و كذلك انتفاءه بانتفائه، فالغاية حينئذ عقلية لا شرعية تعبّديّة.

و تقدير الأخير مناف لجعل الغاية أداء نفس المأخوذ، على ما يقتضيه رجوع الضمير المنصوب مفعولا ل «تؤدّيه»- المحذوف في بعض طرق الحديث، و المذكور في البعض الآخر كما تقدّم في نقل الحديث- إلى الموصول.

وجه المنافاة: أنّ الضمان عبارة عن الغرامة المجعولة في ظرف التلف، إذ لا معنى للغرامة و الخسارة مع وجود العين و ردّها، فإنّ ردّ نفس العين ليس غرامة على الآخذ، بل ردّا للمال إلى مالكه كما لا يخفى.

الثاني: ما عن بعضهم من كون الحديث مسوقا لبيان الحكم الوضعي، لكن بالنسبة إلى خصوص صورة التلف، من دون دلالة له على وجوب ردّ العين الذي هو حكم تكليفي، و لا على ضمانها ما لم تتلف.

و حاصل تقريبه: أنّ تلف العين تحت يده سبب لتعلق الغرامة به، و المراد بالضمان هو دفع المثل أو القيمة عند التعذّر، و هو المعبّر عنه بتحمّل الغرامة، إذ لا يعقل

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 374، السطر 20

ص: 27

______________________________

لضمان العين معنى محصّل، لأنّ دفع عين المال إلى المالك ليس ضمانا و لا غرامة، فمعنى الحديث حينئذ: أنّ ضمان ما أخذته اليد ثابت عليه، و أنّه لا يخرج عن الضمان إلّا بدفع بدله القائم مقامه مثلا أو قيمة، هذا. و ليس معنى الحديث «أنّه يجب دفع عين المال إلى مالكه» إذ لا يحتاج إلى هذا التعبير، بل العبارة الدالة عليه: «أنّه يجب دفع أموال الناس إلى ملّاكها» فالتعبير بقوله: «على اليد» إنّما هو لبيان معنى آخر يلائم «على اليد» و ذلك المعنى هو الضمان الذي هو مجازاة لجناية اليد. و بهذه العناية أسند الحكم إلى اليد، و جعل عليها، و قيل: «على اليد، لا على آخذ المال» ثم قال هذا القائل في جملة كلامه:

«و هذا المعنى- أي الضمان- مما لا يشك فيه مشكّك بعد ملاحظة فهم العرف حتّى من لم يتشرّع بشرعنا أيضا».

الثالث: ما حكي عن بعض، و هو: أنّ الحديث مسوق لإفادة كلّ من الحكم التكليفي و الوضعي، و أنّ كلا الحكمين مستفادان من الحديث، فيجب على الآخذ ردّ المأخوذ، و يكون عهدته أيضا عليه.

و لعلّ وجه الاستفادة هو: أنّ العرف يفهمون من كون العين المتموّلة على شخص أنّ الأعم من العين و البدل يثبت على عهدته، فلثبوت المأخوذ في عهدة ذي اليد آثار تكليفية و وضعية من حفظه، و أدائه مع التمكن، و أداء بدله عند الحيلولة أو عند التلف، فإنّ معنى اعتباره في عهدته هو كون ذي اليد مرجعا و مأخوذا به، فيجب عليه ردّه مع بقاء عينه و ردّ بدله مع تلفه، فبنحو الطولية يثبت الحكم التكليفي و الوضعي بعد إرجاعه إلى التكليفي، هذا.

و أورد عليه بما حاصله: أنّ وجوب الردّ إمّا يستفاد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد» أو من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حتّى تؤدّي» و لا يتمّ المدّعى على شي ء منهما.

أمّا الأوّل: فلأنّ لازم استفادة الحكم التكليفي إنّما هو تقدير الرّد، و لازم الحكم الوضعي تقدير الضمان بمعنى كون المأخوذ على عهدة الآخذ، و أنّه لو تلف كان عليه

ص: 28

______________________________

بدله، فإفادته للحكمين منوطة بتقديرهما معا، و ذلك مما لا يفي الكلام بإفادته، فهو أشبه شي ء باستعمال الخطاب في إنشائين، بل هو منه.

و أمّا الثاني: فلأنّ المغيّا- و هو لزوم الخروج عن عهدة المأخوذ على تقدير تلفه- ثابت إلى حين الأداء، و هذا يلائم وجوب الأداء قبل التلف و بعده، فهو أعم منهما، و لا دلالة للعامّ على تعيين الخاص، فلا بدّ من إثبات وجوب الرد قبل التلف بدليل آخر.

إذا عرفت الاحتمالات المتطرقة في معنى الحديث المزبور، فاعلم: أنّ تنقيح معنى الحديث منوط ببيان أمور:

الأوّل: أنّ الأصل عدم التقدير، فإذا لم يكن صحة الكلام عقلا منوطة بالتقدير- كقوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ أو شرعا كقوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ- فلا وجه للالتزام به.

الثاني: أنّ الأصل في الظرف أن يكون مستقرا، إذ اللغوية منوطة بتقدير فعل خاصّ ربّما لا يكون لتعيين متعلّقه دليل، فيصير الكلام لأجله مجملا، فإذا كان الظرف متعلقا ب «يجب» مثلا فلا بدّ من تقدير متعلّق له كالرّد و الحفظ و الضمان، و لا قرينة على أحدها، فيصير الكلام مجملا. بخلاف المستقر فإنّه لا يحتاج الى فعل خاصّ، بل العامل في الظرف هو أفعال العموم. فمع الدوران بين كون الظرف مستقرّا و لغوا يبنى على كونه مستقرّا متعلقا بفعل من أفعال العموم.

الثالث: أنّ الأصل في كلام الشارع أن يكون في مقام التشريع و الإنشاء لا التكوين و الاخبار، فمع الشك في كون كلامه إنشاء أو إخبارا يحمل على الإنشاء، فلا يصح أن يقال: إنّ معنى «على اليد» هو الاخبار عن كون المال تحت استيلاء الآخذ، و أنّه لا يرتفع خارجا هذا الاستيلاء إلّا بالرّدّ و الأداء.

الرابع: أنّ التشريع يكون من الاعتباريّات التي لها نحو وجود مغاير للوجود التكويني، فيمكن أن يكون لشي ء وجود تكويني و وجود اعتباري ناش من تشريع

ص: 29

______________________________

الشارع، فإذا اعتبر الشارع شيئا من الأعيان على شخص كقوله تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ فالاعتبار الشرعي يقتضي أن يكون ذلك الشي ء بوجوده الاعتباري على عهدته، إذ لا معنى لتعلق التشريع بالوجود التكويني، فلا بدّ أن يكون متعلق الاعتبار موجودا اعتباريا ثابتا على العهدة. يعني: أنّ الثابت بالتشريع هو الموجود الاعتباري، و كون الشي ء بهذا الوجود على العهدة عبارة أخرى عن الضمان، إذ لا معنى لأن يكون بوجوده الخارجي في العهدة، بل الموجودات الاعتبارية يكون وعاؤها العهدة، كالموجودات الذهنيّة التي يكون وعاؤها الذهن.

المختار في معنى حديث «على اليد» إذا عرفت هذه الأمور تعرف: أنّ مقتضى كون كلّ من التقدير و لغوية الظرف على خلاف الأصل هو أن يكون نفس المال المأخوذ على صاحب اليد، لا وجوب ردّه أو حفظه أو ضمانه، لأنّها مبنيّة على لغوية الظرف و الالتزام بالتقدير اللذين هما على خلاف الأصل، كما أنّ مقتضى إنشائية كلام الشارع و كون التشريع من الاعتباريات هو كون المأخوذ بوجوده الاعتباري ثابتا على عهدة الآخذ.

ففي وعاء الاعتبار يكون المأخوذ فوق يده، كما أنّه بوجوده التكويني يكون تحت يده، فللمأخوذ وجودان تكويني، و بهذا الوجود يكون تحت اليد. و اعتباري ناش من التشريع، و بهذا الوجود يكون فوق اليد، لأنّه مقتضى كلمة «على» الاستعلائيّة.

و حيث إنّ الحاكم بكون نفس المال على العهدة هو الشارع، و ثبوته الشرعي على اليد ليس إلّا ثبوتا اعتباريّا مقتضيا لكون الثابت بهذا الثبوت موجودا اعتباريا في العهدة، لأنّ العهدة وعاء الاعتباريّات، فالمعنى حينئذ هو: أنّ نفس المال المأخوذ بوجوده الاعتباري ثابت على العهدة، و هذا الثبوت مستمر إلى أن يحصل الأداء. و هذا الاستمرار يستفاد من كلمة «حتّى» لدلالتها على ما ثبت بما قبلها من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد». و ليس هذا

ص: 30

______________________________

إلّا عبارة عن الضمان، حيث إنّ مصداق ذلك الموجود الاعتباري مع تلف العين هو الأقرب الى التالف القائم مقامه، الواجد لغير خصوصيّاته المشخّصة من الجهات النوعية و الصنفية.

و قد ظهر ممّا ذكرنا ضعف الاحتمال الأوّل، أعني به كون مفاد الحديث تكليفا محضا، و هو وجوب ردّ العين، أو وجوب حفظها عن التلف، على الوجهين المتقدّمين عن الشيخ و العلامة و النراقي قدّس سرّهم و أنّ الحديث متكفل للحكم التكليفي المختص بالعين حال بقائها دون حكمها بعد تلفها.

وجه الضعف: أنّه مبني على لغوية الظرف، و قد عرفت أنّه خلاف الأصل، و لا يصار إليه إلّا بالقرينة.

كما أنّه ظهر أيضا ضعف الاحتمال الثاني، و هو كون الحديث مسوقا لبيان الحكم الوضعي بالنسبة إلى خصوص صورة التلف، بأن يقدّر الضمان، بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد» بأن يقال: على اليد ضمان أي غرامة ما أخذته.

وجه الضعف: أنّ تقدير الضمان خلاف الأصل بعد كون ظاهر الكلام هو اعتبار ثبوت نفس المال المأخوذ على عهدة صاحب اليد. و حيث إنّ الاعتبار يتعلق بالموجودات الاعتباريّة لا التكوينيّة، فلا بدّ أن يكون الثابت بهذا الاعتبار موجودا اعتباريا ثابتا في العهدة. و هذا الثبوت الاعتباري مستمر حتّى يحصل الأداء بعين المأخوذة التي هي مصداق حقيقي للوجود الاعتباري الذي اعتبره الشارع، لأنّه واجد للمقوّمات النوعية و الصنفية و الشخصية. و ببدله و هو المثل إن كان مثليا و القيمة إن كان قيميا، و مع فقد المماثل في المثلي يكون مصداق الأداء منحصرا بالمالية، هذا.

و كذا ظهر ضعف الوجه الثالث و هو الجمع بين الحكم التكليفي و الوضعي، و ذلك لأنّه موقوف على كون الظرف لغوا حتى يتعلق بكلمة «يجب» و على كون المتعلق كلمتين و هما: الرد و الضمان. و لا قرينة على شي ء منهما، فإنّه مع إمكان الظرف

ص: 31

______________________________

المستقر لا تصل النوبة إلى الظرف اللغو.

فالمتحصل: أنّ النبوي الشريف يدلّ على كون المال في وعاء الاعتبار على عهدة الآخذ، فإن كان موجودا ردّه إلى المالك، لأنّه المصداق الحقيقي لرد المال، حيث إنّه واجد للمقوّمات النوعية و الصنفية و الشخصية. فمفاد الحديث على هذا حكم وضعيّ، و لا يتكفل حكما تكليفيا، فيرجع في حكمه التكليفي الى ما يدلّ على حرمة حبس الحقوق و وجوب ردّها الى مالكيها.

و بالجملة: فاستدلال المصنف و غيره بهذا النبويّ على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد في محلّه، هذا.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لبعض الجهات المتعلّقة بالنبويّ المذكور:

1- عدم اختصاص الأخذ بالقهر و الغلبة منها: أنّ الأخذ هل يكون عامّا أم مختصا بما يكون على وجه القهر و الغلبة؟

فلا يشمل الأيدي الأمانيّة، و يكون خروجها عن موضوع الحديث المزبور بالتخصص، فيختص الحديث بالغصب، و لا يشمل موارد إذن المالك الحقيقي كاللقطة و غيرها من الأمانات الشرعية، و تسليط المالك غيره على ماله كالوديعة و غيرها من الأمانات المالكيّة.

و ربّما يستشهد لذلك- أي الأخذ بالقهر و الغلبة- بقوله تعالى وَ كَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذٰا أَخَذَ الْقُرىٰ «1»، و قوله تعالى لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» و قوله تعالى فَأَخَذْنٰاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ «3» و غير ذلك من موارد

______________________________

(1) سورة هود، الآية 120

(2) سورة الحاقة، الآية: 45

(3) سورة القمر، الآية 42

ص: 32

______________________________

استعماله في الأخذ بالقهر و الغلبة. و جعل المحقق النائيني هذا المعنى هو الظاهر «1».

و فيه: أنّ الأخذ لغة هو تناول الشي ء مطلقا و إن لم يكن عن قهر و عدوان، كقوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ «2» و قوله عزّ اسمه خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً «3» فتأمل، و قوله عليه السّلام: «خذها فإنّي إليك معتذر». و غير ذلك من الموارد.

و خصوصية القهر و الغلبة تستفاد من القرائن الحالية أو المقالية، من باب تعدد الدالّ و المدلول، و ليست من خصوصيات نفس المعنى اللغوي أو العرفي. فيدلّ الحديث الشريف على الضمان في جميع الموارد سواء أ كان هناك قهر أم لا، إلّا ما خرج بالدليل كالأمانات مطلقا.

و بالجملة: فلم يثبت كون مفهوم الأخذ عرفا هو التناول القهري حتى يحمل اللفظ عليه، فيحمل على معناه اللغوي، و هو مطلق التناول الذي منه المقبوض بالعقد الفاسد، و المسروق، و الوديعة، و العارية. فالأخذ يكون من قبيل المتواطي لا المشكك.

و لو سلّم التشكيك فإنّما هو من قبيل التشكيك البدوي الذي لا عبرة به في رفع اليد عن إطلاق مفهومه، هذا.

2- اعتبار الإرادة و الاختيار في الأخذ المضمّن و منها: أنّ «الأخذ» لمّا كان فعلا اختياريّا فلا بدّ من عدم صدوره بلا إرادة و لا اختيار، فإذا ألقى مال في حجر شخص بحيث صار تحت يده و استيلائه من دون دخل لإرادته و اختياره في ذلك لم يصدق عليه الأخذ حتى يشمله الحديث الشريف.

و كذا لا يصدق «الأخذ» على تناول الصبي غير المميّز الذي لا شعور و لا تمييز له بحيث

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 117

(2) سورة الأعراف، الآية 19

(3) سورة التوبة، الآية 103

ص: 33

______________________________

لا يلتفت إلى ما يصدر منه من الفعل و عنوانه، و كذا المجنون.

فيظهر من اعتبار الإرادة في حال الأخذ و كون الآخذ مستشعرا مميّزا لفعله خروج الصبي غير المميز و المجنون و النائم عن حيّز الحديث إذا أمسكوا على شي ء من المنقولات و استولوا عليه، فلا يشملهم الحديث حتى يحكم عليهم بالضمان.

و يشمل الصبي المميّز المستشعر لفعله، لصدق الأخذ الاختياري على فعله، وفاقا للمصنّف قدّس سرّه، حيث قال: «و من هنا كان المتّجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير بل المجنون إذا لم تكن يدهما ضعيفة لعدم التمييز و الشعور».

و الحاصل: أنّه يعتبر في شمول الحديث كون الفاعل مختارا في فعله، هذا.

3- شمول إطلاق الضمان للعلم بالحكم و الجهل به و منها: أنّ إطلاق الحديث يشمل كون صاحب اليد عالما بالحكم التكليفي- و هو وجوب الأداء- و الوضعي أعني به الضمان، و جاهلا بهما. كما يشمل كونه عالما بالموضوع و هو العلم بأنه مال الغير أو مغصوب أو مقبوض بالعقد الفاسد، و كونه جاهلا به كما إذا زعم أنّه مال نفسه أو أنّه وكيل عن مالكه أو وليّ عليه.

4- إطلاق الضمان لليد الأصلية و التابعة و منها: أنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون اليد أصلية و بين كونها تابعة، كيد وكيل الغاصب مع عدم علم الوكيل بالغصب، إذ مع علمه بالغصب لا تصح الوكالة حتّى ظاهرا. و كذا الحال في الوكيل في قبض المبيع بالبيع الفاسد، و ذلك لأنّه يعتبر في صحة الوكالة كون متعلّقها مباحا، و لذا قال في المسالك في ذيل قول المحقق قدّس سرّه: «و لو وكّله في بيع فاسد لم يملك الصحيح» ما لفظه: «كما لو قال: اشتر لي كذا إلى إدراك الغلّات، أو مقدم الحاج، أو بعه كذلك، أو ما شاكله. و لا فرق في ذلك بين أن يكونا عالمين بالفساد

ص: 34

______________________________

و جاهلين و بالتفريق، و إنّما لم يملك الصحيح، لعدم التوكيل فيه فيقع فضوليا» «1».

ففي الصورة المذكورة يكون الوكيل هو الذي يشمله الحديث دون الموكّل.

لا يقال: إنّ المقرّر عندهم أنّ يد الوكيل يد الموكّل، و كذا يد الأمين يد الحاكم فلا يعدّ يد أحدهما في العرف يدا له، بل يد الموكّل و الحاكم.

فإنّه يقال: إنّ معنى كون يد الوكيل يد الموكّل هو إجراء أحكام يد الموكّل عليه في التصرفات كالآثار المترتبة على قبض المالك، كفراغ ذمة المقبوض منه بقبض الوكيل، كفراغ ذمته بقبض الموكل، فإنّ قبض الوكيل كقبض الموكل في تلك الآثار. و هذا لا ينافي صدق الاستيلاء و التسلط عرفا على يد الوكيل الموجب لضمانه، فلا وجه لما قيل من:

أنّ المالك لا يرجع على الوكيل، بل على الموكل، لأنّه صاحب اليد.

و الحاصل: أنّ معنى كون يد الوكيل يد الموكّل و قبضه قبضه هو: أنّ القبض- الذي من شأنه أن يصدر من الموكّل- إذا صدر من الوكيل كان كصدوره من الموكّل في فراغ ذمة المقبوض منه، أو صحة العقد كالوكيل في عقد الصرف أو السّلم. و إجراء حكم الضمان الثابت للوكيل على الموكل أجنبي عن معنى قولهم: «يد الوكيل يد الموكل» إذ ظاهره هو أنّ كل ما يكون من وظيفة شخص إذا صدر عن غيره وكالة كان كصدوره عن نفس ذلك الشخص في الحكم الشرعي المترتب عليه، هذا.

5- إطلاق الضمان لليد المستقلّة و المشتركة و منها: أنّ قضية الإطلاق عدم الفرق بين انفراد اليد بالأخذ و تعددها بأن شاركها غيره فيها بحيث أسند إلى المتعدد، و كان المستولي على المال المأخوذ اثنين في عرض واحد. أو ترتبت إحدى اليدين على الأخرى، و هذه مسألة تعاقب الأيدي على المغصوب، و إن كان في كيفية التضمين إشكال ليس هنا محل ذكره، هذا.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 5، ص 280

ص: 35

______________________________

6- أقسام المأخوذ باليد و منها: أنّ المأخوذ قد يكون عينا من المنقول و غيره، و قد يكون منفعة كسكنى الدار و منفعة الدكان و نحوهما، و قد يكون من قبيل الحقوق كحق التحجير، و قد يكون من قبيل ما لا يدخل تحت الاستيلاء و الاستحقاق كالحرّ و الخمر و الخنزير بالنسبة إلى المسلم، فهنا أقسام أربعة:

القسم الأوّل: الأعيان الشخصيّة و الكلّية الأوّل: كون المأخوذ هو العين، و ذلك يتصور على نحوين:

أحدهما: أن يكون المأخوذ من المنقولات.

ثانيهما: أن يكون من غير المنقولات، كالدار و الدكّان و الأرض و نحوها.

أمّا الأوّل فملخّصه: أنّه لا ريب في صدق أخذ اليد على الاستيلاء عليه بالقبض و نحوه، فيصدق الأخذ و الاستيلاء باليد على ركوب دابة الغير، فيشمله النبوي «على اليد ما أخذت» و إن لم يحرّكها من مكانها.

و أمّا الثاني فحاصله: أنّ إثبات اليد عليه حقيقة غير ممكن، لعدم الإحاطة بها كالمنقول، لكن التصرّف فيه بالدخول و نحوه ممكن، و هو يتصور على وجهين:

أحدهما: ما يوجب صدق الاستيلاء عليه، كدخول الجائر- عدوانا- دار غيره للتصرف و التسلط أو السكنى فيها، أو إجارتها. و هذا القسم لا إشكال في صدق اليد عليه، فيشمله النبوي الموجب للضمان.

ثانيهما: ما لا يوجب صدق التسلط و الاستيلاء عليه، كما إذا دخل دار الغير أو بستانه بغير إذن المالك للتفرّج و التنزّه مثلا، فإنّ الاستيلاء لا يصدق عليه، فلا يشمله النبوي، فلا دليل حينئذ على الضمان. و قد صرّح بذلك العلّامة في التذكرة حيث قال:

«و لو دخل دار غيره أو بستانه لم يضمن بنفس الدخول من غير استيلاء، سواء دخلها

ص: 36

______________________________

بإذنه أو بغير إذنه، و سواء كان صاحبها فيها أم لم يكن» «1».

و لا فرق في هذا القسم- أعني الأعيان- بين ما لو كان مفرزا و ما لو كان مشاعا، لإطلاق المأخوذ و عدم اختصاصه بالمفرز، فيعدّ من سكن دار غيره مع مالكها قهرا ذائد على النصف. و لهذا قال العلامة قدّس سرّه في التذكرة: «و لو لم يزعج المالك، و لكنه دخل و استولى مع المالك كان غاصبا لنصف الدار، لاجتماع يدهما و استيلائهما عليه. نعم لو كان الداخل ضعيفا و المالك قويّا لا يعدّ مثله مستوليا عليه لم يكن غاصبا لشي ء من الدار» «2».

لا يقال: إنّ الاستيلاء لا يتحقق إلّا على الشي ء المعيّن.

فإنّه يقال: إنّ الاستيلاء أمر عرفي يتحقق في المشاع كتحقّقه في المعيّن. و يدل عليه صحة بيع المشاع و صلحه و هبته و وقفه، فقبضه جائز كالمقسوم.

و أمّا الكلّيّ فلا يدخل تحت اليد و إن قيل به، لأنّ ما يقع تحت الاستيلاء خارجا هو الفرد كما لا يخفى.

إلّا أن يقال: أنّ وجود الفرد عين وجود الكلي الطبيعي، فلأجله يدخل الكلي تحت اليد و الاستيلاء.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاق عدم اعتبار كون العين ممّا له قيمة و مالية. و دعوى تبادر ما كان له مالية ممنوعة.

إلّا أن يقال: إنّ الضمان الذي يدل عليه النبويّ- و هو تدارك خسارة المال المفوّت أو الفائت- لا يتصوّر إلّا فيما له مالية، فلا بد من شموله للمأخوذ الذي هو مال، فما ليس كذلك لا يندرج تحت هذا النبوي، هذا.

ثمّ إنّه لا فرق في ضمان المأخوذ بين بقاء عينه و بين تلفه، كعدم الفرق في ضمانه بين الأوصاف الطارية عليه من مزجه بشي ء أو تغيّر صورته كالطحن، فإنّ المأخوذ في

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 337، السطر 16

(2) المصدر، السطر: 22

ص: 37

______________________________

جميع الصور مضمون على الآخذ. كما لا فرق في الحكم بالضمان بين كون المتصدّي لذلك التصرف نفس الآخذ و غيره، و إن كان للمالك أيضا الرجوع إلى ذلك المتصرّف، لكنّه كلام آخر.

كما لا فرق في الأعيان بعد دخولها تحت اليد بين أن تكون مقصودة بالذات في الاستيلاء عليها و بين أن يتحقق الاستيلاء عليها بالتبع، و لهذا قال في الرياض: «و يضمن حمل الدابة لو غصبها. و كذا غصب الأمة الحامل غصب لحملها بلا خلاف أجده ظاهرا، لأنّه مغصوب كالأمّ. و الاستقلال باليد حاصل بالتبعية لها. و ليس كذلك حمل المبيع فاسدا، حيث لا يدخل في البيع، لأنّه ليس مبيعا، فيكون أمانة في يد المشتري، لأصالة عدم الضمان، و لأنّ تسلّمه بإذن البائع. مع احتمال الضمان، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدي، مع الشك في صدق الأمانة عليه و به قطع الماتن في الشرائع» «1» انتهى كلامه رفع مقامه.

القسم الثاني: المنافع القسم الثاني- و هو كون المأخوذ منفعة- يتصور على نحوين:

أحدهما: المنافع التي لم يستوفها آخذ العين، كما إذا استولى على دابّة غيره فغصبها منه غاصب قبل استيفاء الأوّل شيئا من منافعها، فإنّ المنافع بالنسبة إلى الآخذ الأوّل غير مستوفاة، فلا تدخل تحت عنوان قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد ما أخذت» و إن قلنا بضمان الثاني لها، لمباشرته للاستيفاء بدليل آخر.

و كذا الحال لو بقيت تحت يده و لكن لم يستعملها و لم ينتفع بها، فإنّه لا يصدق على المنافع حينئذ أنّها مأخوذة، لعدم استيفائه لها، و عدم تعلّق فعل منه بها. و إن قلنا بكونها مضمونة عليه لجهة أخرى من جهات الضمان و هي قاعدة الإتلاف، حيث إنّه

______________________________

(1) رياض المسائل، ج 2، ص 301

ص: 38

______________________________

أتلف المنافع على المالك، و لذا قال العلّامة قدّس سرّه في التذكرة: «منافع الأموال من العبيد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبدا أو جارية أو ثوبا أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه، سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده بأن بقيت في يده و لا يستعملها، عند علمائنا أجمع» «1».

ثانيهما: المنافع المستوفاة، كما إذا ركب الدابة التي غصبها، أو استخدم العبد أو الجارية مثلا. و هذا كسابقه في عدم صدق الاستيلاء على المنافع، لأنّ المنفعة غير موجودة بحيث يجتمع طرفاها في زمان واحد، بل هي تدريجية الوجود، فلا يتصور الاستيلاء على المنافع من المستولي على العين حتى في صورة استيفائها، فلا يمكن إثبات ضمانها حتى مع الاستيفاء بحديث اليد. نعم لها سبب آخر للضمان و هو الإتلاف على المالك، و تدلّ عليه العبارة المتقدمة عن العلامة قدّس سرّه.

لكن خالف فيما ذكرناه صاحب الجواهر قدّس سرّه، حيث استدلّ على ضمان المنافع المستوفاة بالحديث المزبور. قال في كتاب العارية: «و لو استعار مستعير من الغاصب- و هو لا يعلم بغصبه- كان قرار الضمان للمنفعة الفائتة على الغاصب، لغروره، و إن كان للمالك أيضا إلزام المستعير بما استوفاه من المنفعة أو فاتت في يده، لعموم من أتلف و على اليد كما هو المشهور بين الأصحاب هنا، و في الغصب عند ذكر حكم الأيادي المترتبة على يد الغاصب» «2».

و أنت خبير بضعف التمسك بقاعدة اليد، لما عرفت من ظهور «ما» الموصولة في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد ما أخذت» في عين خارجيّة استولت عليه اليد. و ليست المنفعة موجودة مجتمعة أجزاؤها في الوجود، بل هي من الموجودات التدريجية المتصرّمة التي يتوقف وجود جزء منها على انعدام سابقه، فلا تجتمع أجزاؤها في الوجود حتى تأخذها

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 381

(2) جواهر الكلام، ج 27، ص 166

ص: 39

______________________________

اليد و تستولي عليها، فالمتعيّن التمسّك لضمان المنافع مطلقا حتى المستوفاة بقاعدة الإتلاف.

لا يقال: إنّ مجموع منافع الدار سنة مثلا يعدّ في نظر العرف موجودا واحدا، و لذا يبذل بإزائه الأجرة. و هذا يدلّ على أنّ المنافع كالأعيان مما يمكن أن تنالها اليد و تندرج تحتها.

فإنّه يقال: إنّ الاعتبار العرفي المزبور إنّما يصحّح اعتبار المالية المعتبرة في العوضين، كاعتبار مالية عين كالحنطة مثلا في الذمّة، أو عمل كذلك كخياطة ثوب، أو بناء دار، فإنّ الاعتبار المزبور لا يوجب صيرورة الكليّ في الذمّة موجودا خارجيا قابلا لأن تدخل تحت اليد. بل يجدي في المالية فقط، لا في الوجود الخارجي المتوقف عليه صدق الأخذ باليد. فدعوى عدم صدق اليد على المنافع مطلقا في غاية القرب، هذا.

لكن الانصاف صدق اليد على المنافع كصدقها على الأعيان. توضيحه: أنّ المنفعة هي الحيثية القائمة بالعين التي تستوفى تارة و لا تستوفى أخرى. و إن شئت فقل: إنّ المنفعة- التي هي معنى اسم المصدر- قائمة بالعين قيام اللازم بالملزوم و العرض بالمعروض، فمنفعة الدار مثلا هي صلاحيّتها للمسكونيّة. و هذا القابلية ثابتة للعين، و ليست تدريجية الوجود، فلا يتقوّم باستيفاء المستوفي لها تدريجا، حتى يستشكل في شمول النبوي لها بعدم كونها موجودة مجتمعة أجزاؤها في الوجود.

نعم لا تصلح المنافع لشمول الأخذ لها بالأصالة. و هذا لا يقدح في شمول النبوي لها كما تقدّم من إطلاق الأخذ للأصالة و التبعية. فما أفاده الجواهر من التمسك بقاعدة اليد في العبارة المتقدمة في غاية المتانة.

نعم بناء على دخل الاستيفاء- الذي هو قائم بالشخص المنتفع في حقيقة المنفعة- كان ما أفيد من منع جريان النبوي في المنافع في محلّه، هذا.

لكنّه في غاية الضعف و السقوط، إذ لا شبهة في صحة إسناد الفوت إلى المنفعة، بأن يقال: فاتت المنفعة، أو: فوّتها الغاصب، أو: استوفاه. و صحة هذه الإضافة منوطة

ص: 40

______________________________

بكون المنفعة هي الحيثية القائمة بنفس العين التي تستوفى تارة و لا تستوفى اخرى.

و ليس الاستيفاء الذي هو معنى مصدري دخيلا في مفهوم المنفعة التي هي من الحيثيات القائمة بالعين كالدار، هذا.

ثمّ إنّه لو شكّ في دخل فعل المنتفع في حقيقة المنفعة القائمة بالعين- التي وقعت تحت اليد- بحيث رجع الى الشبهة المفهومية بأن يدّعى إجمال مفهوم المنفعة، لم يمكن التمسك بالحديث المزبور، لعدم جواز التمسك بالدليل مع عدم إحراز موضوعه. كما إذا شك في أنّ مفهوم العالم الواجب إكرامه هل له سعة يشمل العالم الفلسفي أم لا؟

فلا يجوز التمسك لحكمه بدليل وجوب إكرام العالم كما لا يخفى.

القسم الثالث: الحقوق القسم الثالث: و هو أخذ الحقوق، و الحكم فيه عند جماعة منهم العلّامة المامقاني قدّس سرّه هو حكم المنفعة في عدم تناول حديث اليد لها، لعدم صدق أخذ اليد عليها «1». و عند جماعة أخرى شمول الحديث لها كشموله للمنافع على ما عن غير واحد، فغصب الحقوق كالتحجير و حقّ السبق إلى المشتركات كالسوق و المسجد و الخان و نحوها كغصب الأعيان و المنافع، فإنّها تدخل تحت اليد، لصدق الاستيلاء عليها عرفا. و لا يراد من الأخذ القبض حتى يختص المأخوذ بالأعيان. و لا يشمل غيرها من المنافع و الحقوق.

و بالجملة: فغصب العين المتعلّقة للحق كغصب العين المتعلقة للملك في شمول النبوي لها، و أداء الحق بأداء موضوعه، فأداء حق التحجير و السبق إلى المشتركات بأداء متعلقّه كالأرض و المسجد و غيرهما.

و الحاصل: أنّه بناء على ظهور الأخذ باليد و التأدية في العين خاصّة لا يشمل

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 272

ص: 41

______________________________

النبوي المنافع و الحقوق كما عليه غير واحد على ما تقدم آنفا.

القسم الرابع: ما ليس بملك و لا حقّ القسم الرابع: أعني به ما لا يدخل تحت التسلط بالتملك أو الاستحقاق كالحرّ و الخمر و الخنزير بالنسبة إلى المسلم. و حكمه على ما ذكره غير واحد من الأصحاب عدم دخوله تحت الحديث الشريف، لما مرّ من ظهور النبوي في الضمان، و لا ضمان في غير المملوك بمجرد اليد. و لأنّ غاية الضمان هو الأداء إلى من يجب الدفع إليه كالمالك و نحوه، و لا تأدية في غير المملوك، لعدم وجود المؤدّى إليه، فخروجه عن الرواية واضح.

و لا فرق في غير المملوك بين أن لا يكون قابلا للتملك من أصله كالحرّ المسلم و الخنزير و غيرهما، فإنّ ذلك غير مضمون باليد، و بين أن يكون قابلا له و لكن لم يجر عليه ملك أحد كالمباحات، فإنّه لا ضمان في أخذه.

و عن جماعة تعليل الحكم في الحرّ بأنّه لا يدخل تحت اليد.

فإن أرادوا بذلك أنّه لا يدخل تحت اليد شرعا فهو حسن، إذ ليس الحرّ مالا مملوكا شرعا حتى يدخل تحت اليد و يكون مضمونا على آخذه. لكن مقتضى القواعد هو الأخذ بالمعنى العرفي. و هو الاستيلاء، و لا مدخل للشرع في ذلك. بل إرادة اليد الشرعية تنتج عكس المدّعى، إذ يلزم حينئذ عدم ضمان الغاصب، لأنّه لا يدله شرعا على المال. و يلزم ضمان من له يد على المال شرعا كالأولياء. و هذا عكس المدّعى.

و إن أرادوا بقولهم: «إنّه لا يدخل تحت اليد» عدم دخوله عرفا تحت اليد، ففيه منع، ضرورة أنّ الحريّة و الرقّيّة أمران اعتباريّان لا مدخل لهما في الصدق العرفي، بداهة أنّ كل من تسلّط على إنسان بحيث يتصرّف فيه كيف يشاء يقال: إنّه مستول عليه، و هو في يده، من غير فرق فيه بين كونه حرّا و مملوكا.

فالأولى أن يقال في عدم ضمانه: إنّ دليل الضمان لا يشمله إذ المتبادر منه هو

ص: 42

______________________________

المملوك، خصوصا بقرينة قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حتى تؤدّي» و نحو ذلك، لظهوره في تأدية المأخوذ إلى مالك أمره، و إلّا فلا معنى للتأدية، لقيام التأدية بالمؤدّي و المؤدّى و المؤدّى إليه، فللتأدية إضافات ثلاث، فلا يشمل ما لا يقبل الملك كالحرّ و الخمر للمسلم، لعدم من يؤدي إليه المأخوذ.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ المملوكية مما لا دخل له في صدق الأخذ و الأداء العرفيّين، فلا يعتبر في الضمان كون المأخوذ مملوكا شرعا. فالقول باعتبار كون المأخوذ ملكا شرعا في صدق الأخذ و الأداء خال عن الدليل، و مناف لأوضاع الألفاظ العربية، و لا إشعار للأخذ و الأداء باعتبار كون المأخوذ مملوكا شرعا.

و عليه فخمر المسلم و خنزيره من جملة مصاديق الحديث، لثبوت الإضافة العرفية إلى المسلم الموجبة لصدق الأداء إليه المجعول غاية في الكلام.

و كذا الحال في الأوقاف العامة و الخاصة، لثبوت الإضافة إلى الموقوف عليهم المستلزم لتحقق الأخذ و الأداء إذا استولى عليها غيرهم.

نعم يخرج الحرّ، لعدم قابليته للأداء، لعدم وجود من يؤدّي إليه و لو عرفا، إذ لا يضاف الحرّ إلى أحد بالمملوكية و الاستحقاق. و لولا التقييد بالغاية لقلنا بأنّ من استولى على الحرّ و أثبت يده عليه ضمنه لو تلف تحت يده، لصدق قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد ما أخذت» بالمعنى الذي تقدّم، و هو كون ضمانه و عهدته عليه لو تلف.

و الحاصل: أنّ الحر يخرج عن مقتضى الحديث من جهة عدم قابليّته للأداء لأجل عدم وجود من يؤدّي إليه المأخوذ و لو عرفا، إذ لا يضاف الحرّ إلى أحد بالمملوكية و الاستحقاق عرفا أيضا.

و أمّا الخمر و الخنزير فلخروجهما عن مفاد الحديث، لما دلّ على عدم احترامهما، و إلّا فلا إشكال في صدق الأخذ و الأداء عليهما عرفا، و في ثبوت الإضافة العرفية لهما إلى المسلم الموجبة لصدق الأداء إليه المجعول غاية في الكلام، كصدق الأخذ عليهما.

فالمتحصل: أنّ الحرّ خارج عن حيّز الحديث تخصّصا، لعدم إضافته إلى أحد حتى

ص: 43

______________________________

يصدق الأداء عليه و أنّ الخمر و الخنزير اللذين هما تحت يد المسلم خارجان عن حيّز الحديث بالتخصيص، لصدق الأخذ و الأداء عرفا عليهما، فالخروج حينئذ يكون بالتخصيص الناشئ عمّا دلّ على عدم احترامهما. و عدم كونهما معنونين بعنوان من الملكية و الوقفية و الزكاة و غيرها حتى يكون بدلهما حافظا لذلك العنوان، فإنّ من أتلف الغنم التي هي زكاة، كان بدلها المضمون على المتلف معنونا أيضا بعنوان الزكاة، و يقال:

إنّه زكاة كما كان مبدلها زكاة. و هذا بخلاف الخمر و الخنزير المضافين إلى المسلم. هذا.

ثم إنّ ما تقدّم في الحرّ كان بالنسبة إلى نفسه. و أمّا بالإضافة إلى منافعه، فإن استوفاها الآخذ ضمنها، لأنّ استيفاء عمل الغير يوجب الضمان، لقاعدة الاستيفاء.

و إن لم يستوفها فضمانها مشكل إلّا أن يتمسك فيه بقاعدة الإتلاف. و قد تقدم شطر من الكلام فيه في بحث عمل الحرّ، فراجع. «1»

و أمّا حديث «على اليد» فلا يشمل منافع الحرّ، لأنّ اليد على نفس الحرّ كالعدم فضلا عن منافعه، فلا بدّ من التمسك فيها بقاعدة الإتلاف، كما تقدم.

7- المراد من الأداء المجعول غاية للضمان بقي الكلام في ارتفاع الضمان المدلول عليه بالحديث. اعلم: أنّه قد جعل في الحديث رافع الضمان التأدية، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حتّى تؤدي» و محصل ما يستفاد من هذه الغاية أنّ الغاصب ضامن للمغصوب، و لا يرتفع ضمانه بمجرّد إذن المالك له في إبقائه تحت يده، بل المترتب على الاذن ليس إلّا ارتفاع الإثم الذي نشأ عن عدوانية يده، و لا ملازمة بين ارتفاع الإثم و بين بقاء الحكم الوضعي الثابت إلى أن يتحقق الأداء بتسليمه إلى المالك كما هو قضيّة قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حتّى تؤدي» فلا يرتفع الضمان إلّا بالأداء.

______________________________

(1) هدى الطالب، ج 1، ص 71 الى 85

ص: 44

______________________________

نعم إذا وكّله المالك في التسلّم من قبله، فتسلّم الغاصب ما غصبه وكالة عن مالكه أمكن القول بارتفاع الضمان حينئذ، لتبدّل يده العادية باليد الأمانية. فالغاصب لصيرورته وكيلا فعلا صار قبضه و تسلّمه كتسلّم المالك موجبا لارتفاع الضمان عنه، هذا.

و قد استشكل بعض الفقهاء في ذلك بأنّ ظاهر الحديث هو الضمان ما لم يحصل التسليم و التأدية إلى المالك، خرج عنه التسليم الى يد الوكيل إذا كان غير الغاصب بالإجماع، و أمّا الغاصب الوكيل فخروجه غير معلوم، و الأصل يقضي بالعدم، هذا.

لكنه مندفع بأنّ أدلة الوكالة- على فرض تماميتها- حاكمة على أدلة الضمان، لكونها موجبة لتبدل الموضوع الموجب للضمان، فإنّ موجبه و هو اليد العدوانية يتبدل بسبب الوكالة بالأمانية، فإذا صارت يد الغاصب أمانيّة ارتفع الضمان. و لا فرق في الحكم بارتفاع الضمان بين الوكيل الغاصب و غيره كما هو مقتضى إطلاق أدلة الوكالة. و إلّا لم يكن وجه لخروج الوكيل غير الغاصب أيضا، لعدم كونه بالخصوص مورد الإجماع حتى يمتاز به عن الغاصب كما لا يخفى.

ثمّ الظاهر أنّ المراد بالتأدية إلى المالك هو جعله مستوليا عليه. فكما أنّ مجرّد وضع اليد على ثوب الغير ليس غصبا له، فكذلك مجرّد وضع المالك يده على ما غصب منه من دون استيلائه عليه- كما إذا وضع يده على ثوبه الذي غصبه غاصب- ليس رافعا للغصب و مصداقا للتأدية الرافعة للضمان. فإذا غصب شخص نقدا من صرّاف ثم دفعه إلى ذلك الصرّاف لينقده لم يكن هذا الدفع ضدّا للغصب و تأدية للمغصوب حتّى يرتفع الضمان، بل الغاصب ضامن له إذا تلف بآفة سماوية أو أخذه ثالث من يده، لعدم حصول التأدية الرافعة للضمان.

و الحاصل: أنّه لا يصدق التأدية إلى أحد إلّا إذا استولى عليه. ألا ترى أنّ تسليم النقد إلى الصرّاف لينقده لا يسمّى تأدية إليه.

هذا مضافا الى الإجماع المستنبط من تتبّع كلماتهم.

ص: 45

______________________________

و إلى الأصل مع الإغماض عن دلالة الحديث، فإنّ الاستصحاب يقضي ببقاء الضمان ما لم يحصل استيلاء المالك على المغصوب.

فتلخص: أنّ براءة ذمة الغاصب عن المغصوب منوطة باستيلاء المالك أو من يقوم مقامه عليه و لو قهرا و بدون اطّلاع الغاصب و إذنه، كما إذا أخذه المالك بالقهر و الغلبة و استولى عليه. فالمدار في حصول البراءة- و سقوط الضمان- على وصول المال إلى مالكه على وجه يكون مستوليا عليه. و هذا المعنى يتحقق قطعا بما إذا دفع المغصوب الى المغصوب منه بعنوان أنّه ماله و ملكه ليتصرّف فيه كتصرف سائر الملّاك في أملاكهم كما اختاره الشهيد الثاني قدّس سرّه قائلا: «بأنّ التسليم التام إلى المالك الموجب لارتفاع الضمان هو التسليم بهذا النحو» «1».

و أمّا إذا دفع إليه بنحو آخر كعنوان الأمانة المضمونة كالعارية المضمونة، أو عارية الذهب و الفضة مطلقا، أو غير المضمونة كالوديعة، أو بعنوان التمليك الضماني كالبيع منه، أو الهبة المعوّضة أو الإجارة أو الصلح غير المحاباتي أو نحو ذلك أو التمليك المجّاني كالهبة غير المعوّضة، ففي كونه رافعا للضمان إشكال.

و التحقيق أن يقال: إنّ رافع الضمان هو التأدية التي هي أمر عرفي، فلا بدّ من تحقق التأدية عرفا. و الظاهر تحققا باستيلاء المالك على التصرفات في العين، بحيث يكون تصرّفه فيها مستندا إلى مالكيّته لها و لو بزعم ملكية جديدة. فالاختلاف في موجبات الملكية لا يمنع عن صدق التأدية، فإذا دفع المغصوب إلى مالكه بعنوان التمليك الضماني أو المجّاني كان ذلك ردّا للمال إلى مالكه، لأنّ التأدية مقدمة للوصول إلى المالك بنحو يكون مستوليا عليه و متصرفا فيه تصرف الملّاك في أملاكهم، كما كان متصرفا فيه قبل غصب الغاصب. فالتأدية مقدّمة لعود السلطنة التامة التي كانت ثابتة للمالك، فلا تصدق التأدية على ردّ المال إلى مالكه بعنوان الوديعة أو العارية، لعدم كونهما موجبين لعود سلطنة المالك، إلّا إذا علم بالحال. فحينئذ لا يكون قبول المالك

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 205؛ الروضة البهية، ج 7، ص 55

ص: 46

______________________________

قبولا للوديعة و العارية، فلا يتحقق عقداهما.

و على كلّ حال إذا شك في كون الرّدّ تأدية رافعة للضمان فالاستصحاب يقضي ببقاء الضمان كما لا يخفى.

و اعلم أنّ في حكم التأدية الرافعة للضمان إتلاف المالك لما غصب منه إذا كان موجبا لضمانه لو تعلّق بغير ماله.

توضيحه: أنّ إتلاف المالك تارة يكون بنحو يوجب الضمان لو كان المال لغيره، كما إذا اعتقد أنّ المتاع الفلاني مال زيد، فغصبه و أتلفه، ثم تبيّن أنّه له.

و أخرى بنحو لا يوجب الضمان، كإتلاف الضيف ما قدّمه المضيف إليه من الطعام بالأكل، فإنّ هذا الإتلاف لا يوجب الضمان، فلو غصب زيد شاة عمرو ثم أطعمه إيّاها بعنوان الضيافة، فحينئذ و إن استولت يد المالك على ماله و أتلفه بالأكل، لكنّه لا يوجب سقوط ضمان الغاصب، لتغريره للمالك. بل يتأكد الضمان بقاعدة الغرور، و لذا يستقر الضمان على الغارّ لو أكل المغرور مال ثالث بتغريره.

و اتّضح ممّا ذكرنا سرّ ما أفاده الشهيد قدّس سرّه في اللمعة و غيره من الفقهاء من: أنّه لو غصب شاة فأطعمها المالك مع جهل المالك بكونها شاته ضمنها الغاصب «1».

فالمتحصل: أنّ إتلاف المالك على الوجه الأوّل- و هو اعتقاد المالك بكون المال لغيره، فأتلفه بقصد الإضرار بمالكه- يرفع ضمان الغاصب. بخلاف ما إذا كان على الوجه الثاني، فإنّه لا يرفعه.

و لو باع المغصوب من مالكه و شرط عليه إتلافه اليوم، فاشتراه و أحرقه، فهل يعدّ هذا من الغرور حتى لا يسقط الضمان، أم لا؟ فيه وجهان، أظهرهما صدق الغرور عليه عرفا.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالنبويّ المشهور. و قد علم مما ذكر وجه دلالته على الحكم الوضعي أعني به ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و اللّه العالم.

______________________________

(1) راجع الروضة البهية، ج 7، ص 54؛ مسالك الأفهام، ج 12، ص 157 و 205؛ شرائع الإسلام، ج 3، ص 242

ص: 47

[ج الدليل الثالث: أخبار ضمان منفعة الأمة المسروقة]

و يدلّ على الحكم المذكور (1)

______________________________

الدليل الثالث: أخبار ضمان منفعة الأمة المسروقة

(1) و هو ضمان المقبوض بالبيع الفاسد، و هذا دليل ثالث على المدّعى، و محصّله استظهار الحكم بضمان الأصل بالأولوية من ضمان المنافع غير المستوفاة، توضيحه: أنّه ورد في عدّة روايات «1» السؤال عن حكم شراء جارية من السوق، و أنّه استخدمها أو استولدها المشتري، ثم تبيّن كونها مسروقة، و قد ظفر بها مالكها. فأجاب عليه السّلام بأنّ المشتري يأخذ ولده، و يردّ الجارية و قيمة الولد إلى مالكها.

و تقريب الاستدلال بها على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو: أنّ جواب الامام عليه السّلام متضمن لحكمين، أحدهما: وجوب ردّ الجارية، و هو مقتضى فرض فساد البيع، و ثانيهما:- و هو محل الشاهد- كون المشتري ضامنا لقيمة الولد.

و الاستدلال بهذا الحكم على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد يتوقف على مقدمتين:

الأولى: إثبات كون موجب الضمان هو اليد، لا غيرها من موجباته كالإتلاف و الاستيفاء و التسبيب.

الثانية: إثبات أولويّة ضمان الجارية من ضمان نمائها.

أمّا الأولى فبيانها: أنّ الضمان مستند إلى التلف الحكمي لا إلى الإتلاف و التسبيب و الاستيفاء، و ذلك لوضوح أنّ الجارية و منافعها مملوكة لسيّدها، و من منافعها قابليتها للاستيلاد، فمن استوفى شيئا من منافعها من كنس و طبخ و خياطة و وطي كان ضامنا لبدلها للمالك، كضمان من يلقي البذر في أرض الغير و يزرعه فيها، فإذا استولدها المشتري كان الولد منفعة لها، لكنّه لم يستوف هذه المنفعة، لأنّ الولد ينعقد حرّا بحكم الشارع تبعا لأبيه، و لا ينعقد رقّا حتى يقابل بالمال. و عليه فحكمه عليه السّلام بضمان نمائها- و هو الولد- إنّما هو لتلفه على مالك الجارية بسبب حرّيّته

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 592- 590، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

ص: 48

أيضا (1) قوله عليه السّلام في الأمة المبتاعة- إذا وجدت مسروقة، بعد أن أولدها المشتري- «أنّه يأخذ الجارية صاحبها، و يأخذ الرجل ولده بالقيمة» (2)

______________________________

التي هي بحكم التلف السماوي.

فإن قلت: إنّ المشتري بمباشرته للجارية ألقى نطفة الحرّ في رحمها و أتلف على مالكها قابليّتها لأن تصير حاملة بالرّق، فيكون ضمان قيمة الولد مستندا إلى إتلاف نماء الأمة لا إلى التلف، لأنّه نظير منع المستأجر أو المالك عن السكنى في الدار، فإنّ المانع ضامن لاجرة المثل.

قلت: الإتلاف هو إعدام الموجود عن صفحة الوجود، و هذا غير صادق في المقام، إذ المشتري بمباشرته معها أحدث نماء لها غير قابل للتملّك، و عدم تملكه لا يستند إليه، بل إلى حكم الشارع بحرّيّة الولد تبعا لأبيه في الحرّية، فلم يبق إلّا أن يكون ضمان قيمة الولد لأجل تلف النماء حكما، و هو كالتلف الحقيقي السماوي في اقتضائه للضمان.

و يشهد له أن المضمون هو قيمة الولد، لا قيمة منفعة الجارية و هي قابليّتها للاستيلاد. هذا تقريب كون الضمان للتلف لا الإتلاف.

و أمّا الثانية- و هي أولوية ضمان العين من ضمان النماء- فواضحة، لأنّ اليد على المنفعة تابعة لليد على العين، فإذا حكم الشارع بضمان اليد التابعة فاليد المتبوعة المتأصلة أولى بالضمان قطعا.

هذا بيان الاستدلال بهذه الطائفة على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

(1) يعني: كما دلّ الإجماع و حديث «على اليد» على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

(2) هذا مفاد مرسلة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى جارية فأولدها، فوجدت مسروقة، قال: يأخذ الجارية صاحبها، و يأخذ الرجل

ص: 49

فإنّ (1) ضمان الولد بالقيمة- مع كونه (2) نماء لم يستوفه المشتري- يستلزم ضمان

______________________________

ولده بقيمته» «1».

و بهذا المضمون روايات أخرى، منها معتبرة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرّجل يشتري الجارية من السوق، فيولدها، ثم يجي ء مستحقّ الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحقّ، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد، و يرجع على من باعه بثمن الجارية و قيمة الولد التي أخذت منه» «2». و كان الأولى الاستدلال بهذه المعتبرة لا بالمرسلة، و لعلّ نظر المصنف إلى وحدة المضمون المتضافر نقله، لا إلى خصوصيّة الخبر المتكفّل للحكم، فتأمّل.

(1) هذا تقريب الاستدلال، و قد تقدم آنفا، و محصّله: أنّ ضمان المنفعة- غير المستوفاة- للمقبوض بالبيع الفاسد يستلزم بالأولويّة ضمان الجارية لو تلفت بيد المشتري.

(2) أمّا كون الولد نماء و منفعة للجارية فواضح، لأنّه قد تكوّن في رحمها. و أمّا أنّ المشتري لم يستوف هذه المنفعة الخاصة كما استوفى سائر خدماتها من كنس و طبخ و خياطة و شبهها فلأنّ الولد تابع لوالده في الحرّيّة، فهو من حين انعقاد نطفته يتكوّن حرّا، و من المعلوم أنّ الحرّ لا يقوّم بالمال.

و عليه فغرض المصنف من قوله: «لم يستوفه» هو دفع ما توهّمه بعضهم من أنّ ضمان المشتري لقيمة الولد يكون لأجل استيفاء منفعة رحم الأمة بإشغاله بنطفته التي هي نطفة حرّ، كما يضمن قيمة سائر منافعها المستوفاة، فتكون الرواية أجنبيّة عن ضمان المقبوض بالبيع الفاسد إذا تلف بيد القابض، لدلالتها على الضمان باستيفاء المنفعة، و هو ممّا لا ريب فيه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 592، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 3

(2) وسائل الشيعة، ج 14، ص 592، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 5

ص: 50

الأصل بطريق أولى (1).

و ليس (2) استيلادها من قبيل إتلاف النماء (3) بل من قبيل إحداث

______________________________

و أجاب عنه المصنف بمنع صدق الاستيفاء هنا، لعدم انتفاع المشتري منها بالولد، ضرورة عدم مقابلة الحرّ بالمال. و بهذا يظهر الفرق بين الاستيلاد و بين منافعها الأخرى، لصدق الاستيفاء عليها، فتكون مضمونة بأجرة المثل، بخلاف الاستيلاد.

(1) لما عرفت من أنّ اليد على المنافع تكون بتبع اليد على العين، فإذا كانت اليد التابعة مضمّنة فالأصلية أولى بالتضمين.

(2) غرضه قدّس سرّه دفع إشكال، محصّله: عدم ارتباط ضمان النماء بما نحن فيه- و هو ضمان التلف باليد- حتى يصحّ الاستدلال به على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و ذلك لأنّ مورد الرواية ضمان الإتلاف لا التلف، و بيانه: أنّ استيلاد الجارية أتلف منفعتها على مالكها، لأنّ رحمها كان مستعدّا لانماء نطفة الرّق، و قد سلب المشتري عنه ذلك بإشغاله بنطفته. و بهذا يصدق الإتلاف، و لا يتوقف صدقه على فعليّة النماء، بشهادة أنّ من سقى أشجار الغير- المستعدة للإثمار- بماء مالح يمنعه عن الاثمار يصدق عليه عرفا أنّه أتلف ثمرها. و كذا في المقام، فإنّ الاستيلاد بمنزلة إتلاف النماء، لانعقاده حرّا، هذا.

و قد دفعه المصنف قدّس سرّه بمنع صدق الإتلاف- الذي هو إعدام الموجود- هنا، إذ ليس للجارية نماء موجود حتّى يتلفه المشتري. بل أحدث فيها نماء غير قابل لأن يتملّكه مالك الجارية، حيث إن حرّية المشتري منعت- شرعا- عن انعقاد ولده رقّا.

و ليس مستند عدم دخوله في ملك مالكها فعل المشتري حتى يضاف التلف إليه، و يصير هو المتلف له. و لمّا كان الولد بمنزلة التلف على المالك كان ضمان قيمته مقتضيا لضمان التالف الحقيقي بالأولويّة.

(3) حتى يكون أجنبيّا عن المدّعى و هو ضمان اليد.

ص: 51

المشتري نماءها غير (1) قابل للملك، فهو كالتالف (2) لا كالمتلف (3)، فافهم (4) [1].

______________________________

(1) حال ل «إحداث» يعني: أحدث المشتري باستيلادها نماء غير قابل للدخول في ملك مالك الجارية، و عدم دخول هذا النماء الخاصّ في ملكه يستند إلى حكم الشارع بحرّية الولد، لا إلى وطي المشتري لها.

(2) أي: التالف بالتلف السماوي، و هو مورد ضمان اليد.

(3) حتى يكون موردا لإتلاف مال الغير، فقاعدة الإتلاف أجنبية عنه.

(4) لعلّه إشارة إلى: دعوى إمكان صدق الإتلاف على مورد الرواية، فلا يصحّ الاستدلال بها على المقام.

أو إلى: أنّ الاستيلاد إشغال لها بالولد، فهو استيفاء لنمائها، فيكون الولد مضمونا بقاعدة الاستيفاء، لا باليد التي هي مورد البحث، هذا.

إلّا أن يقال: إنّ الولد من منافع الجارية، و ليس إشغالها بالمحلّ منفعة لها عرفا، و لذا تضمّنت الرواية قيمة الولد لا قيمة الأشغال.

أو يقال: إنّ الضمان في مورد الرواية إنّما هو لأجل تسليط الغاصب، بخلاف المقبوض بالعقد الفاسد، فإنّ التسليط فيه من نفس المالك و إذنه و لو بعنوان الوفاء بالعقد، فالضمان في مورد الرواية لا يقتضي الضمان في المقام.

إلّا أن يدّعى القطع بكون مناط الضمان فساد العقد، و هو جار في المقام و مورد الرواية.

لكن هذه الدعوى لا تخلو عن مجازفة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّه اختلفت أنظار الأعلام قدّس سرّهم في موجب الضمان في النصوص المتكفلة لضمان قيمة الولد، فاختار المصنّف أنّه التلف الحكمي، و وافقه المحقق النائيني قدّس سرّه ببيان آخر سيأتي التعرّض له، و رجّح السيد و المحقق الأصفهاني قدّس سرّهما أنّه إتلاف منفعة الرّحم، و احتمل المحقق الايرواني قدّس سرّه كلّا من الاستيفاء و الإتلاف.

ص: 52

..........

______________________________

فلعلّ الأولى أن يكون الأمر بالفهم إشارة إلى: أنّ الوطي إذا كان مانعا عن صدق الإتلاف على حدوث الولد غير قابل للملك، فلا محالة يكون مانعا أيضا عن صدق الضمان باليد، ضرورة أنّ التلف تحت اليد إنّما يوجب الضمان باليد إذا كان التالف ملكا للمضمون له. و من المعلوم أنّ الولد ليس كذلك، لعدم كونه ملكا لصاحب الجارية، فلا تكون الرواية شاهدة لما نحن فيه من ضمان المأخوذ باليد، بل تدلّ على ضمان الولد بسبب تعبّديّ غير الأسباب المعروفة. بل عدم تعرّض الرواية لضمان منافع الأمة من حين الشراء إلى زمان الرّدّ يومي إلى عدم ضمان الرّدّ بالنسبة إلى المنافع.

فالمتحصل: أنّ الروايات الدالة على ضمان قيمة الولد لا تدلّ على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ضمان اليد.

______________________________

أمّا المحقق النائيني فقد أفاد في تقريب استناد الضمان إلى التلف- لا إلى الإتلاف و الاستيفاء و التسبيب- ما حاصله: «أنّ استيلاد الأمة ليس داخلا تحت العناوين المذكورة، لعدم استيفاء المشتري منفعة الأمة، فإنّ استيفاء المنافع إنما هو من قبيل الركوب على الدابة و السكنى في الدار و أكل الثمرة و شرب لبن الشاة و وطي الجارية و نحوها، و ليس الولد منفعة لها، و لا ممّا كان المشتري سببا لإتلافها، إذ ليس الولد ملكا لمالك الأمة حتّى يكون المشتري سببا لإتلافه. و عدّ العرف إيّاه منفعتها لا اعتبار به، لعدم كون نظره متّبعا في تشخيص المصاديق. نعم أوجد المشتري سبب فوت النماء على المالك، لأنّ وطيه- الذي استلزم الحمل- صار سببا لفوت المنفعة عليه، لكن لا ضمان على من منع المالك من التصرّف حتى تلفت المنفعة. و عليه فضمان قيمة الولد لكونه حرّا إنّما هو من جهة تبعية المنافع التالفة للعين المغصوبة، فيدلّ الخبر على ضمان العين، لا للأولوية، بل لأنّ ضمان العين صار سببا لضمان التالف» «1».

أقول: ما أفاده قدّس سرّه مخالف لما استظهره المصنّف قدّس سرّه من وجهين: أحدهما: إنكار

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 117 و 118

ص: 53

______________________________

كون الولد منفعة للجارية، و الآخر: إنكار الأولوية، و جعل ضمان قيمة الولد مسبّبا عن ضمان العين المغصوبة. و صرّح في آخر كلامه بأنّ حكم الشارع بحرّية الولد تلف حكمي ملحق بالتلف الحقيقي.

أمّا إنكار كون الولد نماء للأمة- لعدم تبعية نظر العرف المسامحي في مقام تعيين المصاديق- فغير ظاهر، لصدق المنفعة عليه حقيقة، خصوصا بملاحظة إطلاق الانتفاع على الولد في ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حكم الجارية المسروقة التي استولدها المشتري: «يردّ إليه جاريته، و يعوّضه بما انتفع، قال: كان معناه قيمة الولد» «1» و الظاهر أنّ تفسير عوض المنفعة بقيمة الولد من زرارة، و المهمّ إطلاق المنفعة المستوفاة على الاستيلاد، إذ لم يذكر في هذه الرواية استيفاء منفعة أخرى من منافع الجارية. و هذا المقدار كاف في عدم العناية و المسامحة في إطلاق المنفعة على الولد.

لكن هذه الرواية ربّما تشكل الأمر على المصنّف قدّس سرّه أيضا، فإنّه و إن اعترف بكون الولد نماء للجارية، إلّا أنّه ادّعى عدم استيفاء المشتري له، مع أنّ ظاهر قوله عليه السّلام:

«بما انتفع» بل صريحه كون الولد منفعة مستوفاة، هذا.

و أمّا إنكار الأولويّة فغير ظاهر أيضا، لما سيأتي في بحث ضمان المنافع المستوفاة من تأمّل بعضهم في صدق الأخذ عليها، و اختصاص حديث اليد بما يقبل الرّدّ إلى مالكه و هو العين. و حينئذ فإذا حكم الشارع بضمان قيمة الولد الذي هو من قبيل منفعة الجارية كان ضمان نفسها ثابتا بالأولويّة، مع اعترافه بتسبّب ضمان المنفعة عن ضمان العين، لليد.

نعم يمكن أن يكون نظر المصنّف الى أنّ الانتفاع لا يختص بما يقوّم بالمال حتى يصدق الانتفاع المالي على الولد، بل هو أعم من المال و الاعتبارات العرفية كتحصيل الوجاهة بين الناس، و لا شكّ في أن الولد منفعة بهذا المعنى.

هذا مضافا إلى غموض قياس الاستيلاد بمنع المالك عن استيفاء منفعة ملكه، مع

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 591، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 2

ص: 54

______________________________

ما في المقيس عليه من الاشكال، لما ذكرناه في ضمان حبس الحرّ الكسوب من أن تفويت المنافع مضمّن كاستيفائها. و الوجه في فساد القياس أنّ الوطي ليس سببا للحمل، و إنّما هو معدّله، فتسميته سببا كما ترى. هذا بعض ما يتعلق بكلام المحقق النائيني قدّس سرّه.

و أمّا كون الضمان للإتلاف فقد ذكرنا تقريبه في التوضيح عن المحقق الايرواني قدّس سرّه «1»، و محصّله: إتلاف منافع الرّحم، و مثّل له بضمان من سقى أشجار الغير بماء مالح منع من إثمارها، لاستناد التلف إلى فعله.

و قريب منه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه، من «أن النطفة و إن كانت من الرّجل، إلّا أنّها كانت مكمّلة بدم الامّ، و كانت تكوّنها حيوانا بالقوى المودعة في الرّحم، فكان صيرورتها حيوانا من قبل الأمّ، فقد أتلفها الرّجل على الأب [على المالك] خصوصا إذا قيل بتكوّنه من نطفة المرأة، و كان اللقاح من الرّجل» «2».

لكن لا يخلو ما أفاداه من الغموض، فإنّ الإتلاف يقتضي ضمان الدم التالف و قوى الرّحم، مع أن المضمون في النصوص قيمة الولد. و دعوى «كون قيمة الولد تقديرا لما أصاب من منافع رحمها و لبنها، فالمضمون حقيقة هي المنفعة التي أتلفها المشتري بالاستيلاد» ممنوعة بأنّه لا شاهد لهذا الحمل، فيكون تخرّصا على الغيب.

بل يشهد بخلافه ما ورد في رواية أخرى لزرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه، فولدت منه أولادا، ثم أتاها من يزعم أنّها له، و أقام على ذلك البيّنة. قال: يقبض ولده، و يدفع إليه الجارية، و يعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «3» للتصريح بضمان خدمتها مضافا الى ضمان الولد. و عليه فالأقرب ما اختاره المصنّف من كون الضمان للتلف الحكمي لا لسائر موجباته.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 93

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 75

(3) وسائل الشيعة، ج 14، ص 592، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 4

ص: 55

[د الدليل الرابع: قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»]

ثمّ إنّ هذه المسألة (1) من جزئيات القاعدة المعروفة (2) «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده (3). و ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

و هذه القاعدة أصلا و عكسا (4) و إن لم أجدها بهذه العبارة في كلام

______________________________

الدليل الرابع: قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»

(1) الظاهر أنّ غرضه قدّس سرّه من التعرّض لقاعدة «ما يضمن» هنا هو إقامة دليل رابع على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد، لكونه من صغريات قاعدة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» المقتضية لاتحاد حكم العقد الصحيح و الفاسد في الضمان، و حيث إنّ البيع الصحيح يقتضي ضمان المشتري بالثمن، و البائع بالمثمن، فكذا فاسده.

و الأمر كما أفاده قدّس سرّه لو تمّت هذه القاعدة في نفسها بأن كانت مجمعا عليها أو دلّ عليها قاعدة الإقدام كما سيأتي نقله عن المسالك. و أمّا إذا كان الدليل عليها قاعدة اليد كما يظهر من المسالك أيضا لم تكن قاعدة «ما يضمن» دليلا مستقلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، إذ المدار حينئذ على ما يستفاد من نفس حديث «على اليد» و بناء على هذا يكون تعرّض المصنّف قدّس سرّه لهذه القاعدة هنا مماشاة للأصحاب، حيث يظهر من بعضهم إرسال القاعدة إرسال المسلّمات.

(2) قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه: «وصف القاعدة في الرياض بالشهرة، و في كتاب الإجارة منها بكونها متّفقا عليها. و في شرح القواعد بالشهرة و بكونها مجمعا عليها، و كونها موافقة للقواعد الشرعية» «1».

(3) لا يخفى أنّ مورد الاستدلال هنا هو هذه الجملة لا عكسها، إذ المقصود مضمنيّة قبض المبيع بالعقد الفاسد كالمقبوض بصحيحه.

(4) التعبير بالعكس مسامحة، و أطلق المحقق الثاني قدّس سرّه العكس على أصل القاعدة، فقال في عدم ضمان المستأجر للعين- سواء أ كانت الإجارة صحيحة أم فاسدة-: «أمّا الصحيحة فظاهر، للقطع بأنّ ذلك من مقتضياتها. و أمّا الفاسدة

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 275

ص: 56

من تقدّم على العلّامة (1)،

______________________________

فلأنّ كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، و بالعكس» «1» فيكون مراده بالعكس هو أصل قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

و كيف كان فإطلاق العكس على «ما لا يضمن» مسامحة، لعدم انطباق شي ء من العكس المستوي و عكس النقيض عليه. أما الأوّل فلأنّه تبديل طرفي القضية مع بقاء الكيف على حاله. و كلاهما مفقود في المقام، لعدم تبدل الموضوع و المحمول، و لعدم تغيير الكيف من الإيجاب إلى السلب، لقولهم: «لا يضمن بفاسده».

و أمّا الثاني فلأنّ عكس النقيض هو تبديل نقيضي الطرفين مع الاختلاف في الكيف. و وجه عدم صدقه على قاعدة «ما لا يضمن» هو: أنّ الكيف و إن كان مختلفا، إلّا أن التبديل مفقود، فالصواب التعبير بالنقيض دون العكس. أو التعبير بما في الجواهر «2» من المفهوم تارة كما في بيعه، و السالبة أخرى كما في إجارته.

(1) قال في رهن التذكرة: «إذا فسد الرّهن و قبضه المرتهن لم يكن عليه ضمان، لأنّه قبضه بحكم أنّه رهن. و كلّ عقد كان صحيحه غير مضمون ففاسده أيضا كذلك.

و كلّ عقد كان صحيحه مضمونا ففاسده مثله. أمّا الأوّل فلأنّ الصحيح إذا أوجب الضمان فالفاسد أولى باقتضائه. و أمّا الثاني فلأنّ من أثبت اليد عليه أثبته عن إذن المالك، و لم يلتزم بالعقد ضمانا، و لا يكاد يوجد التسليم و التسلّم إلّا من معتقدي الصحة» «3».

و لا يخفى وقوع السهو في العبارة- و لعلّه من الناسخ- فإنّ المناسب تبديل «أمّا الأوّل» ب «أمّا الثاني» لأن الأوّل في استدلاله هو قوله: «و كلّ عقد كان صحيحه غير مضمون ففاسده أيضا كذلك». و كذا ينبغي تبديل قوله «و أمّا الثاني» ب «و أمّا الأوّل». و الأمر سهل.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 7، ص 258

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 259 و ج 27، ص 252

(3) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 32، و لاحظ كلامه في كتاب الإجارة، ج 2، ص 318

ص: 57

إلّا (1) أنّها تظهر من كلمات الشيخ رحمه اللّه في المبسوط، فإنّه علّل الضمان في غير واحد من العقود الفاسدة «بأنّه دخل على أن يكون المال مضمونا عليه» (2).

______________________________

و قد تعرّض قدّس سرّه أيضا لذكر القاعدتين في إجارة التذكرة.

هذا كلّه في ورود القاعدة في كلام العلّامة.

و أمّا ورودها في كلمات من تأخّر عنه كالشهيد و المحقق الثانيين و المحقق الأردبيلي و غيرهم قدّس سرّهم فكثير، و سيأتي نقل بعض عبائرهم في المتن.

(1) غرضه من هذا الاستدراك أنّ قاعدة «ما يضمن» أصلا و عكسا و إن لم ترد بهذه الألفاظ في كلام من تقدّم على العلّامة، لكنّها تظهر من كلمات شيخ الطائفة قدّس سرّه، و على هذا تكون القاعدة جارية على ألسنة القدماء أيضا، و ليست متداولة بين المتأخرين خاصّة. أمّا أصل القاعدة فتستفاد من مواضع من غصب المبسوط. و أمّا عكسها فيستفاد من كتاب الرّهن.

(2) كقوله في ضمان المقبوض بالبيع الفاسد: «فإن كان المبيع قائما ردّه، و إن كان تالفا ردّ بدله، إن كان له مثل، و إلّا قيمته. لأنّ البائع دخل على أن يسلم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه، فإذا لم يسلم له المسمّى اقتضى الرجوع إلى عين ماله. فإذا هلكت كان له بدلها. و كذلك العقد الفاسد في النكاح يضمن المهر مع الدخول، و كذلك الإجارة الفاسدة. الباب واحد» «1».

و قال في موضع آخر: «و هكذا كلّ ما كان قبضا مضمونا، مثل أن يأخذه على سبيل السّوم، أو على أنّه بيع صحيح، أو كان ثوبا فأخذه على أنّه عارية مضمونة، فكلّ هذا يستقرّ عليه، لأنّه دخل على أنه مضمون عليه، فلم يكن مغرورا فيه» «2».

و قال أيضا: «لأنّه- أي المشتري- دخل على أنّ العين عليه مضمونة بالبدل» «3».

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 65

(2) المصدر، ص 89

(3) المصدر، ص 85

ص: 58

و حاصله (1) [1]: أنّ قبض المال مقدما على ضمانه بعوض واقعي أو جعلي موجب للضمان. و هذا المعنى (2) يشمل المقبوض بالعقود الفاسدة التي تضمن بصحيحها (3).

______________________________

(1) يعني: و حاصل تعليل الضمان في جملة من العقود الفاسدة- بالدخول على الضمان- هو: أنّ وضع اليد على مال الغير موجب للضمان إذا كان مقترنا بالبناء على التعهّد ببدله الواقعي، كما في المقبوض بالسّوم، أو ببدله الجعلي المسمّى كما في العقود المعاوضية الصحيحة. و هذا الاقدام يمكن أن يكون دليلا على ما ذكره العلّامة و المتأخرون عنه من قولهم: «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» الظاهر في جعل الملازمة في مضمّنية العقد المعاوضي بين صحيحه و فاسده. و على هذا فقاعدة «ما يضمن» و إن لم يصرّح بها في كلام من تقدّم على العلّامة قدّس سرّه، إلّا أنها مذكورة في المبسوط تلويحا.

(2) أي: الدخول على الضمان و الاقدام عليه، و مقصود المصنّف قدّس سرّه استظهار جريان قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» في جميع العقود التي توجب صحيحها ضمانا. و الوجه في التعميم- مع كون كلام الشيخ قدّس سرّه مختصا ببعضها كالبيع و الإجارة- هو جريان الاقدام على الضمان في كل عقد مبني على تعهّد الآخذ حتى في العارية المشروط فيها الضمان أو عارية الذهب و الفضة، فإنّها و إن لم تكن معاوضة، إلّا أنّ الاستيلاء على العين مبنيّ على الضمان، هذا.

(3) كالصلح المتضمن للمعاوضة، و كالهبة المشروط فيها العوض، بناء على عدم اختصاص اقتضاء الضمان بنفس العقد، و شموله للاقتضاء العرضي، على ما سيأتي في المتن.

______________________________

[1] ظاهر هذا التعليل كون سبب الضمان الاقدام، لكن ظاهر قولهم: «كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو سببية نفس العقد كالإتلاف للضمان، فاستظهار قاعدة «ما يضمن» من هذا التعليل الذي ذكره الشيخ قدّس سرّه في المبسوط محل نظر.

ص: 59

و ذكر (1) أيضا في مسألة عدم الضمان في الرّهن الفاسد «أنّ صحيحه لا يوجب الضمان، فكيف بفاسده؟»

______________________________

(1) غرضه استظهار قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» من كلام شيخ الطائفة في رهن المبسوط، فيما إذا فسد الرهن لاشتماله على شرط فاسد، قال قدّس سرّه:

«إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر، على أنّه إن لم يقبض إلى محلّه كان بيعا منه بالدين الذي عليه، لم يصحّ الرّهن، و لا البيع إجماعا، لأنّ الرّهن موقّت و البيع متعلّق بزمان مستقبل. فإن هلك هذا الشي ء في يده في الشهر لم يكن مضمونا عليه، لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون فكيف فاسده؟ و بعد الأجل فهو مضمون عليه، لأنّه في يده بيع فاسد، و البيع الصحيح و الفاسد مضمون عليه إجماعا» «1».

و الشاهد في قوله: «لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون فكيف فاسدة» إذ يستفاد منه الملازمة في عدم الضمان بين الرهن الصحيح و الفاسد. و حيث إنّه لا خصوصية في عقد الرّهن أمكن استظهار القاعدة الكليّة، يعني: أنّ كل عقد صحيح لا يقتضي الضمان ففاسده مثله.

و قد تحصّل إلى هنا استظهار أصل القاعدة و عكسها من كلام شيخ الطائفة، و إن كان تعبيره مغايرا لتعبير العلّامة و من تأخّر عنه.

______________________________

ثم إنّه قد يورد على الشيخ قدّس سرّه بأنّ الإقدام بنفسه ليس علّة للضمان، فلا يصح تعليل الضمان به. لكنّه يندفع بأنّ الاستدلال به ليس لأجل عليّته له، بل للتنبيه على أنّه ليس بمانع عن تأثير المقتضي- و هو القبض- كما هو مورد كلامه في جميع الموارد التي استدلّ فيها على ثبوت الضمان مع فساد العقد، فتعليل الضمان بالاقدام عليه من قبيل تعليل الشي ء بعدم المانع عن تأثير مقتضية.

و الحاصل: أنّ في تعليل الشيخ دلالة على الملازمة بين الضمان و الاقدام وجودا و عدما.

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 204

ص: 60

و هذا (1) يدلّ على العكس المذكور.

و لم أجد (2) من تأمّل فيها عدا الشهيد (3) في المسالك فيما لو فسد عقد السبق، فهل يستحق السابق أجرة المثل، أم لا (4)؟

______________________________

(1) يعني: قول الشيخ: «انّ صحيحه لا يوجب الضمان فكيف فاسده» يدلّ على العكس المذكور.

(2) مقصوده من هذه الجملة: أنّ ظاهرهم الاتفاق على الأصل و العكس المذكورين، إلّا أنّ المخالف هو الشهيد الثاني قدّس سرّه حيث تأمّل في أصل القاعدة أي:

«ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» في كتاب السبق و الرماية، و هذا التأمّل قادح في دعوى الإجماع على الأصل المذكور.

(3) و كذا المحقق الأردبيلي في ضمان المقبوض بالسوم و بالعقد الفاسد، حيث ناقش في دليل الضمان- من حديث على اليد و قاعدة ما يضمن- بقوله: «و صحتهما غير ظاهر، و الأصل يقتضي العدم» «1».

(4) توضيحه: أن المحقق قدّس سرّه فصّل- في ما لو تبيّن بعد المسابقة فساد العقد- بين كون منشأ الفساد اختلال شرط ممّا يتوقف عليه صحة العقد كتعيين مبدأ المسافة و منتهاها، و تعيين ما يسابق عليه، و تساوي ما به السباق، و غير ذلك، و بين كونه مغصوبية العوض و عدم مملوكيته لمن عليه بذله، فإنّ العقد يقع صحيحا و يتوقف على إجازة المالك، و لو لم يجز وجب على الباذل مثله أو قيمته.

و أمّا إن كان الفساد من الجهة الأولى فقد نقل الشهيد الثاني قولين في المسألة:

أحدهما: أنّه لا شي ء للسابق، و هو اختيار الشيخ و المحقق «و وجهه: أنّه لم يعمل له شيئا، و لا فوّت عليه عمله، و لا عاد نفع ما فعله إليه، و إنّما فائدة عمله راجعة إليه. بخلاف ما إذا عمل في الإجارة و الجعالة الفاسدتين، فإنّه يرجع إلى أجرة مثل عمله، لأنّ فائدة العمل للمستأجر و الجاعل».

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 192

ص: 61

[بيان معنى القاعدة أصلا و عكسا]
اشارة

و كيف كان (1) فالمهمّ بيان معنى القاعدة أصلا و عكسا، ثم بيان المدرك فيها، فنقول و من اللّه الاستعانة:

______________________________

و القول الآخر للعلّامة و جماعة من المتأخرين، و هو وجوب أجرة المثل، قال قدّس سرّه: «لأنه عقد استحق المسمّى في صحيحه، فإذا وجد المفقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. و لا نسلّم أنّ وجه وجوب اجرة المثل في العقدين و نظائرهما رجوع عمل العامل إلى من يجب عليه العوض، لأنّ العمل في القراض قد لا ينتفع به المالك، و مع ذلك يكون مضمونا».

ثمّ ناقش الشهيد الثاني في استدلال العلّامة مفصّلا إلى أن قال: «و قاعدة: أنّ كل ما كان صحيحه موجبا للمسمّى ففاسده موجب لأجرة المثل لا دليل عليها كلّيّة، بل النزاع واقع في بعض مواردها، فكلّ ما لا إجماع و لا دليل صالح يدلّ على ثبوت شي ء فالأصل يخالف مدّعي القاعدة» «1».

و الشاهد في قوله: «لا دليل عليها كلّية» و هذا مقصود المصنّف من نسبة التأمّل في قاعدة «ما يضمن» إلى الشهيد الثاني.

و لا يخفى اختلاف كلماته، فيظهر من مواضع من المسالك و بيع الرّوضة تسليم القاعدة و كلّيّتها، كقوله في عدم ضمان المحرم المستعير للصيد: «أما مع صحته فالأصل في العارية أن تكون عندنا غير مضمونة .. و أمّا مع فسادها فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان و عدمه، كما أسلفناه في مواضع قاعدة كلّيّة» «2».

(1) أي: سواء وجدت هذه العبارة في كلام من تقدّم على العلّامة أم لا؟ و سواء تمّ تأمّل الشهيد الثاني في عمومها أم لا؟ فالمهمّ .. إلخ. و هذا شروع في تحقيق أصل القاعدة الذي عدّ دليلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و الكلام يقع في مقامين، أحدهما في ما يتعلق بالأصل، و الثاني في ما يتعلق بالعكس.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 6، ص 109 و 110

(2) مسالك الافهام، ج 5، ص 139

ص: 62

[المبحث الأول: المراد بالعقد ما يشتمل على المعاوضة]

إنّ المراد بالعقد (1) أعمّ من الجائز و اللازم، بل ممّا كان فيه شائبة الإيقاع أو كان أقرب اليه.

______________________________

و الكلام في المقام الأوّل يقع في جهات:

الجهة الأولى: في معاني ألفاظ القاعدة، و هي متضمنة لأبحاث:

الأوّل: في شمول العقد للعقد الجائز و عدم اختصاصه بالعقد اللازم.

الثاني: في معنى الضمان.

الثالث: في أنّ عموم «كل عقد» يكون بلحاظ الأنواع أو الأصناف أو الأفراد.

الرابع: في أنّ اقتضاء العقد الصحيح للضمان هل يختص بذات العقد أم يعم الاقتضاء العرضي الناشئ من الشرط في ضمن العقد؟

الخامس: في أنّ الباء في قولهم: «بصحيحه» سببية أو ظرفية.

الجهة الثانية: في مدرك القاعدة و مستندها.

الجهة الثالثة: في أنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هل يختص بحال جهل الدافع بالفساد أم يعمّ صورة علمه به أيضا؟ و سيأتي الكلام في هذه المباحث بترتيب المتن إن شاء اللّه تعالى.

المبحث الأول: المراد بالعقد ما يشتمل على المعاوضة

(1) هذا شروع في البحث الأوّل من الجهة الأولى، و محصل ما أفاده: أنّ المراد بالعقد في قولهم: «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كلّ ما يشتمل على المعاوضة، سواء أ كان عقدا لازما كالبيع و الصلح، أم جائزا كالجعالة بناء على كونها عقدا لا إيقاعا، و كالهبة المشروطة بالعوض. و الوجه في الشمول وجود ملاك الضمان في كلّ من العقد اللازم و الجائز.

بل يندرج في القاعدة بعض العناوين الاعتباريّة مما يحتمل كونه إيقاعا أو كان أقرب إلى الإيقاع، و ذلك كالجعالة و الطلاق الخلعي، فإنّه و إن ذهب جمع الى كونهما

ص: 63

..........

______________________________

من العقود، إلّا أنّ القائل بكونهما من الإيقاعات موجود أيضا.

أمّا الجعالة فهي عند جمع كابن إدريس و العلّامة و الشهيد و المحقق الثاني و غيرهم قدّس سرّهم عقد جائز. قال العلّامة: «الجعالة عقد جائز من الطرفين إجماعا، لكلّ منهما فسخها قبل التلبّس بالعمل، و بعده قبل تمامه، لأنّ الجعالة تشبه الوصيّة من حيث إنّها تعليق بشرط، و الرجوع عن الوصية جائز، و كذا ما يشبهها. و أمّا بعد تمام العمل فلا معنى للفسخ، و لا أجر، لأنّ الجعل قد لزم بالعمل» «1» هذا.

و لكن استظهر صاحب الجواهر- تبعا للشهيد الثاني- من عبارة الشرائع كونها إيقاعا، قال المحقق: «أمّا الإيجاب فهو أن يقول: من ردّ عبدي أو ضالّتي أو فعل كذا فله كذا، و لا يفتقر إلى قبول .. و يصح على كل عمل مقصود محلّل، و يجوز أن يكون العمل مجهولا، لأنّه عقد جائز كالمضاربة» «2».

قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في شرحه: «قد اختلف كلام الأصحاب و غيرهم في الجعالة هل هي من قسم العقود أو الإيقاعات؟ و المصنف جعلها من الإيقاع وضعا و حكما، حيث صرّح بعدم افتقارها إلى القبول، و هو المطابق لتعريفهم لها، حيث جعلوها التزام عوض على عمل. و يؤيّده عدم اشتراط تعيين العامل، و إذا لم يكن معيّنا لا يتصور للعقد قبول، و على تقدير قبول بعض لا ينحصر فيه إجماعا. و منهم من جعلها من العقود، و جعل القبول الفعلي كافيا فيها كالوكالة، و المنفي هو القبول اللفظي. و هو ظاهر كلام المصنف فيما سيأتي حيث جعله عقدا جائزا. و الظاهر أنّه تجوّز في ذلك، إذ لو كان عقدا عنده حقيقة لذكره في قسم العقود لا في قسم الإيقاعات .. إلخ» «3».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 288

(2) شرائع الإسلام، ج 3، ص 163

________________________________________

(3) مسالك الأفهام، ج 11، ص 149 و 150

ص: 64

..........

______________________________

و اختار صاحب الجواهر كونها إيقاعا بقوله: «و لعلّه الأصح، لما تسمعه من صحة عمل المميّز بدون إذن وليّه بعد وضعها- بل قيل في غير المميّز و المجنون وجهان- و من المعلوم عدم صحة ذلك مع فرض اعتبار القبول فيها و لو فعلا، لسلب قابلية الصبي و المجنون قولا و فعلا عن ذلك، و لذا لا يجوز معه عقد من العقود الجائزة .. إلخ» «1».

و كأنّ هذه الوجوه أوجبت تردّد المصنّف في كون الجعالة عقدا جائزا، و احتمل كونها إيقاعا، و لذا قال: «ممّا كانت فيه شائبة الإيقاع».

و تظهر الثمرة بين كونها عقدا و إيقاعا في ما إذا صدر العمل من العامل خاليا عن قصد العوض و التبرّع مطلقا، سواء اطّلع على الإيجاب أم لا، فإنّه يستحق مال الجعالة على الإيقاعية دون العقدية، هذا.

و أمّا الطلاق الخلعي ففيه أيضا احتمالان بل قولان، أحدهما كونه عقدا، و الآخر كونه إيقاعا.

و الأوّل هو المشهور كما يستفاد من كلام الشهيد الثاني في شرح قول المحقق:

«و هل يصح- أي بذل الفداء- من المتبرّع؟ فيه تردّد، و الأشبه المنع». و الثاني هو الذي رجّحه الشهيد الثاني مدّعيا مخالفته لمذهب جميع الأصحاب، و وافقه الفاضل الأصفهاني قدّس سرّه.

و لا بأس بنقل جملة من عبارة المسالك، فقال: «و أمّا بذله من المتبرّع عنها، بأن يقول للزوج: طلّق امرأتك بمائه من مالي، بحيث يكون عوضا للخلع، ففي صحته قولان، أظهرهما بين الأصحاب- و هو الذي اختاره المصنّف و الشهيد و غيرهما من الأصحاب- العدم، فلا يملك الزوج البذل، و لا يقع الطلاق إن لم يتبع به، لأنّ الخلع من عقود المعاوضات، فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب المعوّض، كالبيع، لو قال:

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 35، ص 189

ص: 65

..........

______________________________

بعتك كذا بمائة في ذمة فلان» إلى أن قال: «و قول بالصحة لا يعلم قائله من الأصحاب، لكنّه مذهب جميع من خالفنا من الفقهاء إلّا من شذّ منهم.

و مبنى القولين على أنّ الخلع فداء أو معاوضة، أو على أنّه طلاق أو فسخ.

فعلى الأوّلين يصح من الأجنبي، لجواز الافتداء منه، و بذل مال له ليطلّقها، كما يصحّ التزام المال ليعتق عبده. و قد يتعلّق به غرض بأن كان ظالما بالإمساك، و تعذّر إزالة يده بالحجة، أو كان يسي ء العشرة و يمنع الحقوق، فأراد المختلع تخليصها.

و على تقدير كونه طلاقا فالطلاق يستقل به الزوج، فجاز أن يسأله الأجنبي على مال، كما إذا قال: ألق متاعك في البحر و عليّ كذا» إلى أن قال: «و يرجّح جانب الفداء: الآية الدالة عليه، إلّا أنّ مفهوم خطابها اختصاصها بها، لكن مفهوم الخطاب ليس بحجة» «1».

و هذه الجملة الأخيرة تشهد بنفي كون الطلاق الخلعي عقدا، و أنّه إيقاع، و يتفرع عليه جواز تبرّع الأجنبي ببذل الفداء، فراجع تمام كلامه.

و اقتصر قدّس سرّه في شرح اللمعة على بيان وجهي المنع و الصحة، و إن أمكن استفادة ترجيح كون الخلع إيقاعا «لأنه افتداء، و هو جائز من الأجنبي».

و نحوه كلام الفاضل الأصفهاني قدّس سرّه «2».

و الحاصل: أنّ بذل الفداء في الخلع لا يوجب صيرورته عقدا مؤلّفا من بذل الزوجة و طلاق الزوج، بل الغرض من البذل إحداث الداعي في نفس الزوج على الطلاق. نظير ما لو التزم رجل لرجل آخر مالا ليعتق عبده أو يطلق زوجته طلاقا رجعيا أو بائنا، بأن يقول له: «أعتق عبدك أو طلّق زوجتك و عليّ ألف دينار» فإنّ الألف ليس عوضا، و إنّما يقصد به حصول الرغبة لمن بيده الأمر فيما يراد منه من العتق و الطلاق.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 9، ص 392 و 393

(2) كشف اللثام، ج 1، (القسم الثاني) كتاب الطلاق، ص 151

ص: 66

[المبحث الثاني: المراد بالضمان في العقد الصحيح و الفاسد]

و المراد (1) بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون

______________________________

المبحث الثاني: المراد بالضمان في العقد الصحيح و الفاسد

(1) هذا هو المبحث الثاني من مباحث الجهة الاولى، و هو بيان معنى الضمان بحيث يكون جامعا للعقد الصحيح و الفاسد، بأن يراد من الضمان في جملتي «ما يضمن بصحيحه» و «يضمن بفاسده» معنى واحد. و قد فسّره المصنّف قدّس سرّه بوجهين:

أحدهما: ما اختاره من أن الضمان كون درك المضمون عليه.

و الثاني: ما نقله عن بعض من أنّه «كون تلفه عليه بحيث يتلف مملوكا له».

و توضيح المعنى الأوّل هو: أنّ الضمان في الجملتين عبارة عن كون درك المضمون و خسارة تلفه على الضامن، بأن يجب عليه تداركه بأداء بدله من ماله، فتلف المال المضمون يوجب نقصان مال الضامن، للزوم تداركه منه.

و الضمان بهذا المعنى جامع للضمان في موارد ثلاثة:

أحدها: الضمان المعاوضي في العقود الصحيحة.

ثانيها: ضمان التالف في العقود الفاسدة.

ثالثها: ضمان العين الموهوبة- بشرط التعويض- إذا تلفت بيد المتهب.

و الوجه في جامعية الضمان بهذا المعنى هو: أنّ خسارة تلف المال تكون على عهدة الضامن، سواء أ كانت الخسارة بدفع البدل المسمّى كما في العقد الصحيح، أم بدفع البدل الواقعي كما في غيره.

مثلا إذا باع زيد كتابه من عمرو بدينار، فالكتاب هو المال الأصلي المملوك لزيد قبل العقد، و الدينار ماله الفعلي الذي حصّله ببيع كتابه. و بالعكس بالنسبة إلى المشتري، فالدينار ماله الأصلي و الكتاب ماله الفعلي. فإن كان العقد صحيحا اقتضى ضمان كلّ من الطرفين لمال صاحبه بالضمان المعاوضي، يعني أنّ البائع يتعهّد بالكتاب قبل تسليمه للمشتري بحيث لو تلف بيده التزم بخسارته و دركه من ماله، لا من مال المشتري. و كذا يتعهّد المشتري بالدينار بحيث لو تلف بيده كانت خسارته عليه لا على البائع.

ص: 67

عليه (1)، بمعنى (2) كون خسارته و دركه (3) في ماله الأصلي (4)، فإذا (5) تلف (6)

______________________________

و إن كان العقد المعاوضي فاسدا و ترتّب عليه القبض- فصار الكتاب بيد المشتري، و الدينار بيد البائع- كان المشتري ضامنا للكتاب بحيث لو تلف بيده كانت خسارته عليه لا على البائع، و لو تلف الدينار كان على عهدة البائع لا المشتري.

و الدليل على ضمان كلّ منهما لمال الآخر هو الملازمة المستفادة من قاعدة «ما يضمن» بين صحيح العقد المعاوضي و فاسده. هذا توضيح نظر المصنف في أصل معنى الضمان. و أمّا كونه جامعا بين موارد الضمان فسيأتي.

(1) خبر «كون» و الضمير راجع إلى «الضامن» المستفاد من كلمة «الضمان».

ثمّ إن تفسير الضمان بهذا الوجه لعلّه لمراعاة قرينة السياق المقتضية لوحدة الضمان في العقد الصحيح و الفاسد، لصدق «تدارك المضمون على الضامن» سواء أ كان التدارك بعوض المسمّى كما في الصحيح، أم بالبدل الواقعي كما في الفاسد. و لا يلزم استعمال لفظ «الضمان» في أكثر من معنى، و سيأتي تقريبه.

(2) هذا تفسير لقوله: «كون درك المضمون عليه» و قد عرفته.

(3) هذا الضمير و ضمير «خسارته» راجعان إلى المال المضمون.

(4) قد عرفت المراد بما هو مال أصلي للضامن، في قبال ماله الفعلي الذي حلّ محلّ المال الأصلي بالمعاوضة.

(5) لا يخفى أنّ الضمان المعاوضي يحصل بنفس العقد، و لا يتقيّد هذا الضمان بتلف أحد العوضين أو كليهما، فذكر «التلف» إنّما هو لبيان موضوع الخسارة الواردة في المال الأصلي، إذ لو لا التلف لم ترد خسارة على المتبايعين، لوضوح أنّ بائع الكتاب يتدارك خروج كتابه عن ملكه بالدينار، و كذا المشتري يتدارك نقصان ماله بدخول الكتاب في ملكه، فورود الخسارة على كل منهما يتوقف على تلف مال الآخر بيده.

(6) يعني: فإذا تلف المضمون وقع نقصان في ماله الأصلي، لوجوب تدارك المضمون من ماله الأصلي.

ص: 68

وقع نقصان فيه، لوجوب تداركه منه.

و أمّا مجرّد كون تلفه في ملكه (1)

______________________________

(1) أي: في ملك الضامن، و هذا إشارة إلى معنى آخر للضمان نسبه الفقيه المامقاني قدّس سرّه إلى العالم الجليل الشيخ علي في حواشي الروضة، قال فيما حكاه عنه:

«معنى قولهم في القاعدة: كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده: كل عقد يضمن المال أو الشي ء فيه بسبب كونه صحيحا يضمن بسبب كونه فاسدا، بمعنى: أنّ صحة العقد إن كانت سببا للضمان كان الفساد كذلك. فالبيع الصحيح مثلا سبب في كون المبيع إذا تلف كان من مال المشتري فكذا البيع الفاسد. و ما لا يضمن بصحيحه كالعارية و مال المضاربة و الوديعة و نحو ذلك، فإن صحيح مثله لا يوجب الضمان، فكذا فاسده» «1».

و قد ينسب هذا التفسير إلى صاحب الرياض قدّس سرّه في مسألة تقدير الثمن «2»، لكن في النسبة تأمّل، فراجع الرياض. و نسبه المحقق النائيني إلى العلّامة فيما احتمله في الأواني المكسورة و إلى صاحب المقابس «3». لكنه لا يخلو من تأمل أيضا، فإنّه نقل عن المحقق التستري دخول المضمون- في مطلق موارد الضمان- في ملك الضامن آنا ما قبل التلف حتى يقع التلف في ملكه، و هذا أجنبي عمّا يكون المصنف بصدده من تحديد معنى «الضمان» الوارد في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

و كيف كان فتوضيح تعريف الضمان بأنّه «يتلف مملوكا له» هو: أنّ الضمان بمعنى الخسارة الواردة على مال الضامن، و وقوع التلف في ملكه. مثلا إذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار، فإن كان العقد صحيحا و سلّم البائع الكتاب إلى عمرو، و تسلّم الثمن

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 277، لكن لم أعثر على هذه العبارة في هامش النسخة المطبوعة من الروضة، و هي طبعة عبد الرحيم، فراجع، ج 1 ص 323

(2) حاشية السيد الاشكوري على المكاسب، ص 41

(3) منية الطالب، ج 1، ص 118؛ المكاسب و البيع، ج 1، ص 303

ص: 69

..........

______________________________

منه، ثمّ تلف الكتاب بيد المشتري، كان هو الضامن لماله، لورود الخسارة عليه بتلف الكتاب.

و إن كان العقد فاسدا و تلف المبيع بيد المشتري فهذا البيع الفاسد يقتضي وقوع التلف في ملك المشتري، بأن يقدّر دخوله في ملكه قبل التلف آنا مّا، و يكون دفع البدل خسارة واردة عليه بسبب التلف عنده.

و الوجه في العدول عن تفسير الضمان بما أفاده المصنّف- من «تدارك المضمون ببدله»- إلى تقييد المضمون بكونه مملوكا للضامن هو: أنّ الضمان- بمعنى تدارك المضمون- مخصوص بالعقد الفاسد، إذ المقبوض به لو تلف بيد المشتري كانت خسارته عليه، و وجب عليه دفع بدله إلى البائع. و أمّا في العقد الصحيح فلا يتصور معنى للضمان- بمعنى تدارك مال الغير- و ذلك لأنّ المبيع إذا تلف عند المشتري لم يلزمه شي ء أصلا، لأنّ المال تلف من ملكه، لا من ملك البائع حتّى يجب على المشتري تداركه، و حينئذ لم يتضح المراد من كلمة «الضمان» الواردة في قولهم:

«ما يضمن بصحيحه».

و لذا عدل هذا القائل إلى تعريف الضمان بنحو ينطبق على مورد العقد الصحيح أيضا، و قال: «إنّه الخسارة الواردة على الشخص حال كونها مملوكة له» فإنّ هذا المعنى ينطبق على المأخوذ بالعقد الصحيح، كما تقدم آنفا في مثال الكتاب المقبوض بالبيع الصحيح إذا تلف بيد المشتري، إذ يصدق عليه أنّ المشتري ضامن بهذا العقد، و وجه ضمانه هو وقوع التلف في ملكه.

و اعترض المصنّف قدّس سرّه على هذا التفسير بأنّه أجنبيّ عن معنى الضمان لغة و عرفا، إذ لا يصدق على «تلف المال المملوك لشخص» أنّه ضامن لماله التالف، بل المناط في صدقه تدارك الخسارة الواردة على المالك إذا تلف ماله عند غيره بلا إذن المالك، أو أتلفه ذلك الغير.

ص: 70

بحيث يتلف مملوكا له (1)- كما يتوهّم- فليس (2) هذا معنى للضمان أصلا فلا يقال (3): إنّ الإنسان ضامن لأمواله.

ثمّ (4) تداركه من ماله

______________________________

و أمّا ما زعمه هذا القائل من أنّ تصور معنى صحيح لجملة «ما يضمن بصحيحه» يتوقف على تفسير الضمان بأنّه «بحيث يتلف مملوكا له» فممنوع، إذ المقصود بالضمان في العقود الصحيحة هو الضمان المعاوضي، بمعنى أنّه بمجرّد العقد يصير المبيع ملكا للمشتري فيضمنه البائع لو تلف عنده، و يصير الثمن ملكا للبائع، و يضمنه المشتري بحيث لو تلف وجب عليه بدله. و أمّا إذا تسلّم المشتري المبيع، و تسلّم البائع الثمن، ثم تلف فلا ضمان، لوقوع التلف في ملكه. و لم يعهد صحة إطلاق أنّ كل شخص ضامن لأموال نفسه حتّى يتجه تعريف الضمان بالخسارة الواردة في ملك نفسه، هذا.

(1) أي: مملوكا للضامن، يعني: أنّ الجامع بين ضمان المال في العقد الصحيح و الفاسد هو وقوع التلف في ملك الضامن.

(2) هذا جواب قوله: «و أمّا» و ردّ تفسير الضمان المنقول عن بعضهم.

(3) هذا متفرع على قوله: «فليس» و الوجه في فساد تعريف الضمان بأنّه «يتلف مملوكا له» هو: أنّه لو كان هذا المعنى صحيحا لزم صدق ضمان الشخص لأموال نفسه التي قد تتلف منه، مع أنّه لا يصحّ الصدق المذكور، و يستكشف من عدم صدقه بطلان التعريف المذكور.

(4) بعد أن اختار المصنّف قدّس سرّه تعريف الضمان بأنّه «كون درك المال المضمون على عهدة الضامن» أراد إثبات جامعية هذا التعريف، و عدم كون الضمان مشتركا لفظيا، و عدم لزوم التفكيك في معنى الضمان بين جملة «ما يضمن بصحيحه» و «ما يضمن بفاسده».

و توضيحه: أنّه قد يتوهم اختلاف معنى الضمان في الجملتين، لأنّه في العقد

ص: 71

تارة يكون بأداء عوضه الجعلي الذي تراضى (1) هو و المالك على كونه عوضا، و أمضاه الشارع، كما في المضمون بسبب العقد الصحيح. و أخرى بأداء عوضه

______________________________

الصحيح يكون بالبدل الجعلي المسمّى في العقد كبدلية الدينار عن الكتاب. و لكن الضمان في العقد الفاسد يكون بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة. فإذا قبض المشتري الكتاب و تلف عنده و تبيّن فساد العقد كان اللازم تداركه بعوضه الواقعي لا الجعلي.

و بهذا يتفاوت معنى الضمان الذي أفاده المصنّف، لاختلاف نحوي تدارك مال الغير، هذا.

و قد دفعه قدّس سرّه بأنّ للضمان في جميع موارده مفهوما وحدانيا، و هو التدارك بمال الضامن، إلّا أنّ الاختلاف يكون فيما يتدارك به، إذ هو تارة بدل واقعي، و أخرى بدل جعليّ، و ثالثة أقلّ الأمرين من البدل الواقعي و الجعلي كما سيأتي بيانه في الهبة المعوّضة التالفة قبل دفع العوض، فللمتّهب الاقتصار في تدارك العين الموهوبة على أقلّ البدلين قيمة، فإن كان العوض المشترط أقل اكتفى به، و إن كانت القيمة الواقعية أقلّهما اكتفى به.

و الحاصل: أنّ الضمان في جميع موارده بمعنى «تدارك المال المضمون و تحمّل خسارته» و يراد به عند الإطلاق أداء العوض الواقعي، و في خصوص العقد الصحيح يراد به أداء البدل الجعلي، و ذلك من باب تعدّد الدال و المدلول و قيام القرينة على إرادة التدارك بالعوض المسمّى، و هي تعيين البدل في العقد المعاوضي الذي أمضاه الشارع، كجعل الدينار- بالبيع- بدلا عن الكتاب.

(1) كتراضي مالك الكتاب و مالك الدينار على كون كلّ منهما عوضا عن الآخر. و كتراضي مالك الدار و المستأجر على كون عشرة دنانير عوضا عن منفعتها مدة شهر مثلا. و هذا التراضي إنّما يترتب عليه الأثر بعد إمضاء الشارع لهذين العقدين و حكمه بصحتهما.

ص: 72

الواقعي- و هو المثل أو القيمة- و إن لم يتراضيا عليه (1). و ثالثة بأداء أقلّ الأمرين من العوض الواقعي و الجعلي، كما ذكره بعضهم (2) في بعض المقامات، مثل تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض.

______________________________

(1) كما في صورة فساد العقد و تلف المال، فإنّ الضمان يكون حينئذ بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

(2) كالشهيد الثاني، حيث قال: «و حاصل الأمر: أنّ العين الموهوبة المشروط فيها الثواب لو تلفت في يد المتهب أو عابت قبل دفع العوض المشروط و قبل الرجوع، سواء أ كان ذلك بفعله كلبس الثوب، أم لا، فهل يضمن المتهب الأرش أو الأصل أم لا؟ قولان: أحدهما عدم الضمان، و هو الذي اختاره المصنف، ثم تردّد فيه.

و جزم به العلّامة في التذكرة و ولده في الشرح .. و الثاني: الضمان، جزم به ابن الجنيد من المتقدمين و بعض المتأخرين، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدّى، و لأنّه لم يقبضها مجّانا بل ليؤدّي عوضها فلم يفعل، و لأنّ الواجب أحد الأمرين، ردّها أو دفع العوض، فإذا تعذّر الأول وجب الثاني. و هذا هو الوجه.

إذا تقرّر ذلك و قلنا بالضمان مع التلف، فهل الواجب مثل الموهوب أو قيمته أو أقلّ الأمرين من ذلك و من العوض؟ وجهان أجودهما الثاني، لما عرفت من أنّ المتهب مخيّر بين الأمرين، و المحقّق لزومه هو الأقل، لأنّه إن كان العوض الأقلّ فقد رضي به الواهب في مقابلة العين. و إن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض، بل يتخيّر بينه و بين بذل العين، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها. و هذا هو الأقوى. و وجه اعتبار القيمة مطلقا أنّ العين مضمونة حينئذ على القابض، فوجب ضمانها بالقيمة.

و فيه: أنّه مسلّط على إتلافها بالعوض، فلا يلزمه أزيد منه لو كان أنقص» «1».

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 6، ص 63 الى 65

ص: 73

فإذا ثبت هذا (1) فالمراد بالضمان بقول مطلق (2) هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي، لأنّ هذا (3) هو التدارك حقيقة، و لذا (4) لو اشترط ضمان العارية

______________________________

(1) يعني: فإذا ثبت أنّ معنى الضمان هو كون تدارك المضمون على عهدة الضامن و أنّ التدارك إمّا بالعوض المسمّى و إمّا بالواقعي و إمّا بأقل الأمرين، فالمراد .. إلخ.

و غرضه قدّس سرّه أنّ الضمان و إن كان هو التدارك بأحد الأنحاء الثلاثة، إلّا أنه عند الإطلاق و عدم تقييده بالعوض الواقعي أو الجعلي أو أقلّ الأمرين يحمل على التدارك الحقيقي الذي هو جبر الخسارة بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

و أمّا أداء البدل المسمّى أو أقلّ الأمرين فيحتاج إلى دليل على جوازه، مثل ما دلّ على صحة عقد البيع و الإجارة، المقتضي لضمان كلّ منهما بالضمان المعاوضي، لا الواقعي، فلو ثبت الضمان في مورد و لم يقترن معه ما يقيّده بالبدل الجعلي تعيّن تداركه بالعوض الواقعيّ. لما عرفت من أنّ جبران خسارة مال الغير لا يكون إلّا بأداء عوضه الحقيقي، و لأجله يحمل «الضمان» الوارد في أدلّة ضمان المغصوب مثل «الغاصب ضامن» و غير المغصوب مثل «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» على التعهّد بالبدل الواقعي، لا غير.

و لا يخفى أن قوله قدّس سرّه: «فالمراد بالضمان .. إلخ» تمهيد لردّ ما احتمله بعضهم من حمل الضمان في العقود الفاسدة على العوض الجعلي لا الواقعي، و سيأتي بيانه.

(2) يعني: لم يقيّد الضمان بالمسمّى، و لا بالواقعي و لا بأقلّ الأمرين، بل ورد قوله «فهو ضامن» فإنّه ينصرف إلى الواقعيّ خاصة.

(3) أي: لأنّ التدارك بالعوض الواقعيّ هو التدارك الحقيقي، و غيره منوط بقرينة تدلّ عليه.

(4) يعني: و لأجل كون الضمان بقول مطلق هو لزوم التدارك بعوضه الواقعي لزم غرامة مثلها أو قيمتها.

ص: 74

لزم غرامة مثلها أو قيمتها (1). و لم يرد (2) في أخبار ضمان المضمونات- من المغصوبات (3) و غيرها (4)- عدا لفظ الضمان بقول مطلق (5).

______________________________

(1) فإن كانت العين المعارة مثلية كان ضمانها بمثلها، و إن كانت قيمية فبقيمتها.

(2) غرضه قدّس سرّه أنّه لم يفسّر لفظ الضمان- في أخبار المضمونات- بشي ء من الواقعي و الجعلي و غيرهما، بل الوارد فيها لفظ «الضمان» فينصرف إلى المعهود منه، و هو الواقعي من المثل أو القيمة.

(3) مثل ما في مرسل حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه السّلام: «لأنّ الغصب كلّه مردود» «1».

(4) مثل ما ورد في ضمان المستودع مع التفريط في الحفظ من قوله عليه السّلام:

«هو ضامن لها إن شاء ..» «2».

و ما ورد في عدم ضمان المستعير من قوله عليه السّلام: «ليس على مستعير عارية ضمان، و صاحب العارية و الوديعة مؤتمن» «3».

و ما روي في ضمان عارية النقدين، و العارية المشروط فيها الضمان من قوله عليه السّلام: «لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان» «4» الحديث. و قوله عليه السّلام في ضمان المستعير: «إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن» «5».

و غيرها من الأخبار الواردة في ضمان الصّنّاع، و المستأجر المفرّط في العين المستأجرة، فإنّ الضمان فيها ينصرف إلى التدارك بالبدل الواقعي، لا غير.

(5) يعني: غير مقيّد بالبدل الواقعي و لا المسمّى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 309، الباب 1 من أبواب الغصب، الحديث 3

(2) المصدر، ج 13، ص 229، الباب 5 من أبواب الوديعة، الحديث 1

(3) المصدر، ج 13، ص 237، الباب 1 من أبواب العارية، الحديث 6

(4) المصدر، ج 13، ص 239، الباب 3، الحديث 1

(5) المصدر، ج 13، ص 240، الباب 4، الحديث 1

ص: 75

و أمّا (1) تداركه بغيره فلا بدّ من ثبوته من طريق آخر، مثل تواطئهما عليه بعقد صحيح يمضيه الشارع. فاحتمال (2) «أن يكون المراد بالضمان في قولهم:- يضمن بفاسده- هو وجوب أداء العوض المسمّى، نظير الضمان في العقد الصحيح»

______________________________

(1) أي: و أمّا تدارك المضمون بغير البدل الحقيقي من المثل أو القيمة فلا يستفاد من نفس دليل الضمان، بل لا بدّ من دليل آخر عليه، و هو مؤلّف من أمرين:

أحدهما: توافق المتعاقدين على أن يضمن كلّ منهما مال الآخر بالعوض المعيّن في المعاملة.

ثانيهما: إمضاء الشارع هذا التراضي حتى يترتب عليه الأثر، كإمضاء البيع بآية حلّ البيع، و إمضاء الإجارة و الصلح المعاوضي بأدلّة صحّتهما، و هكذا سائر الموارد.

فإن كان العقد صحيحا كانت صحّته قرينة على إرادة الضمان بالبدل الجعلي، و إن كان فاسدا تعيّن حمل الضمان في قولهم: «يضمن بفاسده» على التدارك بالبدل الواقعي.

(2) يعني: بعد كون الضمان حقيقة في الضمان الواقعي أو منصرفا إليه يظهر ضعف احتمال إرادة العوض المسمّى من «الضمان» في جملة «يضمن بفاسده».

و المحتمل- كما أفاده الفقيه المامقاني قدّس سرّه- هو الشيخ الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه في شرح القواعد، حيث قال بعد ذكر قاعدة «ما يضمن» ما لفظه: «و هي صريحة في أصل الضمان، إلّا أنّها يحتمل فيها وجهان: أحدهما: الضمان بمقدار ما أقدم عليه من المقابل. و ثانيهما: قيمته بلغت ما بلغت، و هو الظاهر، لأنّ التقييد غير مفهوم منها» «1».

و هو قدّس سرّه و إن احتمل الضمان بالمسمّى، إلّا أنّه رجّح الضمان بالبدل الواقعي.

و على هذا فلا بدّ أن يكون غرض المصنف من الاشكال عليه هو: أنّ أصل إبداء احتمال الضمان بالبدل المسمّى في العقد المعاوضي الفاسد ممّا لا ينبغي صدوره من فقيه خصوصا مثل كاشف الغطاء قدّس سرّه.

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 279

ص: 76

ضعيف (1) في الغاية، لا لأنّ (2) ضمانه بالمسمّى يخرجه عن فرض الفساد، إذ (3)

______________________________

(1) خبر قوله: «فاحتمال» و دفع له، و قد ذكر في دفع الاحتمال وجهان:

أحدهما: ما تكرّر في كلام المصنف من أنّ الضمان بقول مطلق يحمل على التدارك بالبدل الحقيقي.

و ثانيهما: ما أفاده بعضهم و هو لزوم الخلف، توضيحه: أنّ الضمان في العقد الفاسد بمقدار ما أقدم عليه- أي المسمّى- يوجب خروج العقد الفاسد عن فرض الفساد و يجعله صحيحا، إذ الضمان بالمسمّى يتوقّف على توافق المتعاوضين و إمضاء الشارع له، و حيث إنّ المفروض فساد العقد لم يكن توافقهما ممضى شرعا و لا موضوعا للأثر، فلا وجه لرفع اليد عن الضمان الواقعي الذي هو مقتضى إطلاق «الضمان» و الالتزام بالضمان الجعلي.

(2) فكأنّ هذا القائل فهم استلزام صحة العقد لتعيّن المسمّى، فإذا فسد كان تعيّن المسمّى بلا معيّن.

(3) تعليل لقوله: «لا» و هذه مناقشة المصنف في جواب الاحتمال، و حاصلها:

منع توقف الضمان بالعوض المسمّى على صحّة البيع من حين العقد، بل يمكن تعيّنه بعد تلف أحد العوضين.

توضيحه: أنّه إذا كان العقد فاسدا لم ينتقل المبيع إلى المشتري، و لا الثمن إلى البائع، و يحرم التصرف في كل منهما. و لو كان لأحدهما نماء كان لمالكه الأصلي، هذا مع بقاء العينين. و أمّا إذا تلف أحدهما- كما إذا تلف المبيع بيد المشتري- فنقول بأنّ الثمن المسمّى في ذلك العقد الفاسد هو الذي يضمنه المشتري، و يجب عليه تسليمه إلى البائع، و لا يتعيّن البدل الواقعي من المثل أو القيمة للعوضيّة.

و لا استيحاش من هذا، لوجود نظيره في الفقه و هو المعاطاة بناء على الإباحة، لما تقدّم في التنبيه السادس المعقود لبيان الملزمات من: أنّ تلف أحد العوضين ملزم للمعاطاة، و يتعيّن العوض الجعليّ للعوضية و يتملّكه مالك التالف،

ص: 77

يكفي في تحقق فرض الفساد بقاء كلّ من العوضين على ملك مالكه (1) و إن كان عند تلف أحدهما يتعيّن الآخر للعوضيّة، نظير المعاطاة على القول بالإباحة (2).

بل (3) لأجل ما عرفت من معنى الضمان، و أنّ التدارك بالمسمّى في الصحيح

______________________________

مع أنّه لم يدخل في ملكه من حين التعاطي المفيد للإباحة.

و على هذا فلا ملازمة بين الصحة و تعيّن المسمّى، حتى يكون ضمان المسمّى في العقد الفاسد مخالفا لفرض الفساد. بل يمكن القول بضمان المسمّى في العقد الفاسد أيضا بعد تلف أحد العوضين.

فالنتيجة: أنّ الاحتمال الذي أبداه كاشف الغطاء قدّس سرّه لا يندفع بما أفيد من اختصاص ضمان المسمّى بالعقد الصحيح، هذا.

(1) بأن كان المالان باقيين على ملك مالكيهما إلى أن يتلف أحدهما، فحينئذ ينتقل التالف منهما عند التلف- آنا ما- إلى ملك من تلف عنده، و بالعكس.

(2) فإنّ العوضين باقيان على ملك مالكيهما- و هما المتعاطيان- و لا يتعيّن أحدهما للعوضيّة إلّا بعد تلف الآخر.

و لا يخفى أنّ تنظير المقام بالمعاطاة- بناء على الإباحة التي لا يقول بها المصنف- إنّما هو لمجرّد دفع الاستبعاد عن تغيير الضمان في العقد الفاسد من الواقعي إلى الجعلي حين تلف أحد المالين، إذ القائل بالإباحة يلتزم بانتقال التالف قبل التلف آنا ما إلى من تلف عنده، و يتعيّن العوض الآخر للعوضيّة.

و إلّا فيرد على المصنف قدّس سرّه أنّ قياس المقام بالمعاطاة في غير محلّه، لكون العقد الفاسد فاسدا إلى الأبد، بخلاف المعاطاة، فإنّها صحيحة، و لأجل صحتها- بالإجماع المدّعى على الإباحة- يتعيّن المالان للعوضية عند التلف، هذا.

(3) معطوف على قوله: «لا لأن» و غرضه بيان وجه ضعف الاحتمال الذي أفاده الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه. و قد عرفته، و محصّله: أنّ الضمان بقول مطلق يراد به التدارك بالعوض الواقعي، و أنّ التدارك بالمسمّى يتوقف على أمرين، أحدهما توافق

ص: 78

لإمضاء الشارع ما تواطئا على عوضيّته، لا لأنّ (1) معنى الضمان في الصحيح مغاير لمعناه في الفاسد حتى يوجب ذلك تفكيكا في العبارة (2)، فافهم (3).

______________________________

المتعاملين، و الآخر إمضاء الشارع لما تواطئا عليه، و هذا الأمر الثاني مفقود في العقد الفاسد، فلا وجه للضمان بالمسمّى فيه.

(1) هذا قد استفيد من قوله قبل أسطر: «و لم يرد في أخبار ضمان المضمونات ..

إلخ» و كأنّه قدّس سرّه يريد دفع توهّم، حاصله: أنّ الضمان في العقد الصحيح إن كان بالمسمّى و في الفاسد بالواقعي لزم التفكيك في مدلول كلمة «ما يضمن بصحيحه» بحمله على ما يضمن بمسمّاه، و كلمة «ما يضمن بفاسده» بحمله على ضمانه الواقعي، و هذا التفكيك مخالف لظهور الكلام في إرادة معنى واحد من كلمة «الضمان» في الجملتين.

و محصّل دفعه: عدم لزوم التفكيك في معنى الضمان، لأنّه بمعنى تدارك مال الغير بحيث لو تلف كانت خسارته في ماله الأصلي. و هذا جار في كلّ من العقد الصحيح و الفاسد، إلّا أنّ مصداق المال الأصلي مختلف، فقد يكون ما عيّن في العقد، و قد يكون هو المثل أو القيمة، و من المعلوم أنّ اختلاف مصاديق التدارك لا يوجب تعدّد المفهوم حتى يتوهم التفكيك بين الضمان في صحيح العقد و فاسده.

(2) أي: التفكيك في الضمان بين جملة «ما يضمن بصحيحه» و جملة «يضمن بفاسده».

(3) لعلّه إشارة إلى أنّ التفكيك في مفهوم الضمان ممّا لا بدّ منه، سواء أ كان من باب استعمال لفظ الضمان في الواقعي تارة، و في المسمّى أخرى، أم من باب استفادة التدارك الواقعي من إطلاق اللفظ و عدم تقييده بشي ء، و التدارك الجعلي من قرينة تواطؤ المتعاقدين و إمضاء الشارع. هذا تمام الكلام في ثاني أبحاث الجهة الاولى، و هو معنى الضمان الوارد في القاعدة.

ص: 79

[المبحث الثالث: عموم «كل عقد» هل يكون بلحاظ الصنف أو غيره؟]

ثمّ (1) العموم في العقود

______________________________

المبحث الثالث: عموم «كل عقد» هل يكون بلحاظ الصنف أو غيره؟

(1) هذا شروع في المبحث الثالث من مباحث الجهة الأولى، و هو بيان المراد من العموم المدلول عليه بكلمة «كلّ» في قولهم: «كل عقد يضمن ..» أو بكلمة «ما» الموصولة في قولهم: «ما يضمن».

و الوجه في عقد هذا المبحث هو: أنّ في العموم احتمالات ثلاثة، بل أقوالا كذلك، و تتفاوت الآثار المترتبة على كلّ منها، فلا بدّ من تحقيق المسألة، و ينبغي الإشارة إلى أمرين مقدمة لتوضيح كلام المصنف قدّس سرّه، فنقول و به نستعين:

الأوّل: أنّ هذا البحث لا يختص بأصل القاعدة- أعني به «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»- بل يجري في العكس أيضا، إذ الموضوع فيه «كل عقد لا يضمن بصحيحه» أو «ما لا يضمن» فيجري فيه احتمال نوع العقد أو صنفه أو أشخاص العقود التي ينشئها المتعاقدان.

الثاني: في بيان المراد بالنوع و الصنف و الفرد، فنقول: إنّ «العقود» عنوان مشير إلى المعاملات القائمة بطرفين، سواء تضمّنت معاوضة أم لا، كالبيع و الصلح و الإجارة و الهبة و الجعالة و السبق و الرماية و المضاربة و العارية و الوديعة و الوكالة و الرّهن و نحوها ممّا هو معهود في الكتب الفقهية. و يعدّ كلّ منها نوعا، فالبيع- بما له من الأقسام- نوع واحد، لصدق تعريفه من «مبادلة مال بمال، أو تمليك عين بعوض» على جميعها. و كذا الإجارة نوع واحد، و الصلح نوع، و هكذا سائر العقود.

ثمّ إنّ لكلّ من هذه الأنواع أقساما هي أصناف ذلك النوع، كبيع الصّرف و السّلم و الحيوان و الثمار و النسيئة و المعاطاة، و بيع الدين و غيرها من الأقسام.

و للإجارة أيضا صنفان، هما إجارة الأعيان و الأعمال. و كذلك للصلح أصناف، فإنّه إمّا يفيد فائدة البيع أو الإجارة أو العارية أو الهبة أو الإبراء. و هكذا العارية، فإنّها إمّا عارية النقدين و إمّا غيرهما، و الثاني إمّا مشروط بالضمان و إمّا غير مشروط به.

ص: 80

..........

______________________________

و المراد بالأفراد هو أشخاص العقود التي تقع خارجا بإنشاء المتعاقدين.

إذا اتضح هذان الأمران، فنقول: إن أريد بلفظ «كل عقد» العموم بلحاظ الأنواع كان معناه: أنّ جميع أفراد نوع- كالبيع- إن كان في صحيحها ضمان، ففي فاسدها الضمان أيضا. و أنّ جميع أفراد نوع كالوديعة إن لم يكن في صحيحها ضمان فلا ضمان في فاسدها أيضا.

و على هذا ينحصر مصداق أصل قاعدة «ما يضمن» في البيع و الإجارة اللذين يضمن بصحيحهما، و لا يندرج في هذه القاعدة عقد آخر، لعدم مضمّنية جميع أفراد العقود- بنحو الإطلاق- غير البيع و الإجارة، فكأنّ القاعدة أسّست لبيان حكم الضمان في خصوص هذين العقدين.

و إن أريد العموم بلحاظ أصناف كل واحد من العقود كان معنى القاعدة: أنّ كل صنف من أصناف العقود إن كان في صحيحه ضمان فكذا في فاسد ذلك الصنف، سواء أ كان في سائر أصنافه ضمان أم لا. و معنى عكس القاعدة: أنّ كل صنف ليس في صحيحه ضمان فكذا في فاسده، سواء أ كان في سائر أصناف ذلك العقد ضمان أم لم يكن.

و على هذا الاحتمال تتكثّر العقود المندرجة في الأصل، و لا تنحصر في البيع و الإجارة المقتضيين للضمان، فيقال: إنّ العارية بنوعها مثلا لا ضمان في صحيحها فكذا في فاسدها. و لكن أقسام العارية مختلفة، ففي بعضها الضمان كعارية النقدين، فيمكن أن تندرج في أصل القاعدة، فإذا كانت عارية النقدين فاسدة- لاختلال بعض شروطها- ثبت فيها الضمان، لأنّ «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مع أنّ نوع عقد العارية غير مضمّن.

و كذا تندرج الهبة المشروطة بالعوض في أصل القاعدة- بناء على تعميم اقتضاء العقد للضمان لما إذا كان بالذات أو بالعرض- مع عدم الضمان في نوع الهبة.

ص: 81

ليس (1) باعتبار خصوص الأنواع، لتكون أفراده مثل البيع (2) و الصلح و الإجارة و نحوها، لجواز (3) كون نوع لا يقتضي بنوعه الضمان، و إنّما المقتضي له بعض أصنافه، فالفرد الفاسد من ذلك الصنف يضمن به، دون الفاسد من غير ذلك

______________________________

و الحاصل: أنّه بناء على كون العموم بلحاظ الأصناف يلزم دخول بعض أقسام عقد في أصل القاعدة، و بعضها في العكس، و لا مانع منه.

و إن كان العموم بلحاظ الأفراد- لا الأنواع و لا الأصناف- كانت مصاديق أصل القاعدة و عكسها في غاية الكثرة، لأنّ كل عقد يقع في الخارج فهو بنفسه- لا بما أنّه فرد للنوع أو الصنف- إن كان مقتضيا للضمان على تقدير صحته كان مقتضيا له على تقدير فساده. و إن لم يكن مقتضيا له على فرض صحته فكذا على فرض فساده.

هذا كلّه في مقام الثبوت و الاحتمالات المتطرقة في المراد بالعموم. و أمّا في مقام الإثبات فقد استظهر المصنف الاحتمال الثاني و هو العموم بلحاظ الأصناف، و سيأتي بيانه.

(1) غرضه استظهار كون العموم بلحاظ الأصناف، لا الأنواع و لا الأفراد.

و المذكور فعلا نفي العموم النوعي، و أمّا العموم الأفرادي فسيأتي- بعد فصل- الخدشة فيه.

(2) هذه الأنواع مثال للعموم في كلّ من أصل القاعدة و عكسها، و ذلك بقرينة ذكر «الصلح» فإنّه بنوعه مما لا يضمن بصحيحه فكذا بفاسده. نعم البيع و الإجارة مثالان للنوع في أصل القاعدة لاطّراد الضمان في جميع أصنافهما و أفرادهما.

(3) تعليل لعدم كون العموم في القاعدة بلحاظ خصوص الأنواع. و محصّله: أنّه لو كان العموم بلحاظها لزم عدم اطّراد عكس القضية، مثلا لا يكون الصلح الجامع بين المعاوضي و المحاباتي مقتضيا للضمان، كما إذا كان مفيدا للهبة أو الإبراء، فيندرج في عكس القضية، في أنّ صحيحه لا يقتضي الضمان فكذا فاسده. و كذا الهبة الجامعة بين المشروطة بالعوض و غيرها، مع أنّ الصلح قد يقتضي الضمان كما إذا كان معاوضيا.

فالمتعيّن كون العموم بلحاظ الأصناف لا الأنواع، فصنف من الصلح- و هو

ص: 82

الصنف. مثلا الصلح بنفسه لا يوجب الضمان، لأنّه (1) قد لا يفيد إلّا فائدة الهبة غير المعوّضة، أو الإبراء. فالموجب للضمان هو المشتمل على المعاوضة. فالفرد الفاسد من هذا القسم موجب للضمان أيضا (2). و لا يلتفت إلى أنّ نوع الصلح الصحيح من حيث هو لا يوجب ضمانا (3)، فلا يضمن (4) بفاسده. و كذا (5) الكلام

______________________________

المعاوضي- يقتضي صحيحه الضمان، و كذا فاسده. و صنف منه و هو المحاباتي لا يقتضي صحيحه الضمان و كذا فاسده.

و هكذا العارية، فصنف منها يندرج في الأصل و هو «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و صنف آخر من ذلك النوع يندرج في العكس و هو «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

(1) هذا تعليل لعدم اقتضاء الصلح- بما هو نوع من أنواع العقود- للضمان، إذ قد يكون أثره تمليك عين مجّانا و هو الهبة غير المعوّضة، أو إبراء المديون عمّا في ذمته، و هو إيقاع، و ربّما يخلو من العوض.

و على هذا فلو كان العموم في القاعدة بلحاظ النوع لزم اندراج الصلح- بجميع أقسامه- في العكس. مع أنّ الصحيح هو التفصيل بين أصنافه، فبعضها المشتمل على المعاوضة مندرج في الأصل، و بعضها في العكس. فلا بدّ من كون العموم بلحاظ الأصناف، و أنّ كل صنف عنوان مستقل، فإن اقتضى الضمان كان من أفراد الأصل، و إلّا فمن العكس.

(2) يعني: كإيجاب الفرد الصحيح من الصلح- المشتمل على المعاوضة- للضمان.

(3) يعني: مطلقا، سواء أفاد فائدة البيع أم الإجارة مما يشتمل على معاوضة بين المصالح و المتصالح، أم لم يشتمل عليها كالمفيد فائدة الهبة غير المعوّضة، و الإبراء.

(4) هذا متفرّع على كون العموم بلحاظ أنواع العقود، و لازمه خروج عنوان الصلح عن قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(5) هذا مثال ثان لظهور الثمرة بين كون العموم نوعيا و صنفيا، فبناء على إرادة الأنواع لا ضمان في الهبة المشروطة بالعوض، لأنّ جميع أفراد الهبة- بما هي مصاديق

ص: 83

في الهبة المعوّضة. و كذا (1) عارية الذهب و الفضة.

نعم (2)

______________________________

لعنوان الهبة- غير مضمونة، فلا تندرج في الأصل. و بناء على إرادة الصنف يتعيّن التفصيل بين الهبة المعوّضة باندراجها في الأصل، و بين الهبة غير المعوّضة باندراجها في العكس.

(1) هذا مثال ثالث للثمرة بين إرادة النوع و الصنف، فبناء على النوع تندرج العارية بجميع أقسامها في العكس. و بناء على الصنف يفصّل بين عارية الذهب و الفضة- و عارية الحيوان بناء على ما حكي عن ابن الجنيد- فتكون مضمونة سواء في صحيحها و فاسدها. و بين عارية سائر الأشياء فلا ضمان فيها.

(2) هذا استدراك على إرادة الصنف، و حاصله: أنّ مقتضى تمسكهم بقاعدة «ما لا يضمن» في استعارة المحرم صيدا هو إرادة النوع، يعني: حيث إنّه لا ضمان في نوع العارية فلازمه عدم ضمان المستعير، لفرض فساد العارية، و به يشكل إرادة الصنف.

و توضيحه: أنّ جمعا ذكروا: أنّ المحرم إذا استعار الصيد من المحلّ وجب عليه إرسال الصيد، و عاريته فاسدة، و لا يضمن للمعير الصيد الذي أتلفه بإرساله.

و الدليل على الضمان هو تبعية العارية الفاسدة لصحيحها في عدم الضمان. قال في المسالك: «و أمّا مع فسادها- أي العارية- فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان و عدمه كما أسلفناه في مواضع- قاعدة كليّة» «1». و من المعلوم ظهور هذا التعليل في أنّ المدار في الضمان و عدمه هو نوع العقد، فيشكل مختار المصنف قدّس سرّه من إرادة الصنف.

و لكنّه قدّس سرّه وجّهه بأنّ مقصودهم بالاستدلال بقاعدة «ما لا يضمن» هو الصنف، بقرينة تصريحهم في كتاب العارية بضمان عارية الذهب و الفضة، و العارية

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 5، ص 139

ص: 84

ذكروا (1) في وجه عدم ضمان الصيد الذي استعاره المحرم: أنّ صحيح العارية لا يوجب الضمان، فينبغي أن لا يضمن بفاسدها. و لعلّ (2) المراد عارية غير الذهب و الفضّة و غير (3) المشروط ضمانها.

______________________________

المشروطة بالضمان، إذ لو كان المدار نوع العارية لزم التنافي بين إدراجها في «ما لا يضمن» و بين حكمهم بالضمان في القسمين المذكورين، و رفع التهافت منوط بالالتزام بالصنف، فيكون صنف من العارية مشمولا للأصل و هو «ما يضمن» و صنف منها للعكس، و هو «ما لا يضمن» هذا.

(1) الأولى أن يقال: «ذكر بعضهم» إذ المسألة خلافية، ففي الشرائع: «و لا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا، لأنّه ليس له إمساكه. و لو أمسكه ضمنه، و إن لم يشترط عليه» «1». نعم رجّح الشهيد الثاني عدم الضمان، لقاعدة «ما لا يضمن» فراجع، و التفصيل في محله.

(2) هذا توجيه استدلال مثل الشهيد الثاني بقاعدة «ما لا يضمن» و قد عرفته آنفا.

(3) الأولى إسقاط «غير المشروط ضمانها» بناء على ما سيأتي منه قريبا في تفسير القاعدة من كون المقتضي للضمان نفس العقد الصحيح، و من المعلوم عدم كون الضمان في العارية المشروطة به من مقتضيات نفس العقد، بل هو اقتضاء عرضي ناش من الشرط.

إلّا أن يكون غرض المصنف قدّس سرّه الاستشهاد بكلام القوم لإثبات العموم الأصنافي لا الأنواعي، فلا بأس حينئذ بذكر العارية المشروطة بالضمان بعد تصريحهم بضمانها صحيحة و فاسدة.

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 2، ص 172

ص: 85

[المبحث الرابع: اعتبار كون الضمان مقتضى العقد لا الشرط]

ثمّ المتبادر (1) من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له

______________________________

المبحث الرابع: اعتبار كون الضمان مقتضى العقد لا الشرط

(1) هذا شروع في المبحث الرابع من مباحث الجهة الأولى، و هو تحقيق أنّه هل يعتبر كون الضمان مقتضى نفس العقد أم يكفي كونه مقتضى الشرط؟ و لا يخفى أنّ المناسب تأخير هذا البحث عن المقام، لعدم تماميّة البحث الثالث بعد، فإنّ المصنف و إن رجّح العموم بلحاظ الصنف على النوع، إلّا أنّ احتمال كونه بلحاظ أشخاص كلّ صنف باق بحاله، و سيأتي بعد أسطر إبطاله. كما أنّ البحث الخامس و هو أن الباء سببية أو ظرفية مقدّم رتبة على البحث عن اختصاص اقتضاء الضمان بنفس العقد، أو تعميمه إلى اقتضاء الشرط أيضا.

و كيف كان فتوضيح ما أفاده: أنّ اقتضاء العقد الصحيح للضمان تارة يكون بذاته كالبيع، و أخرى يكون بالشرط النافذ بأدلة الشروط، كقوله عليه السّلام: «المؤمنون عند شروطهم» كما إذا شرط في عقد الإجارة أن يكون المستأجر ضامنا للعين- مع عدم اقتضاء ذات الإجارة ضمانها، و أنّ يده على العين أمانيّة لا تضمنها لو تلفت بآفة سماوية لا بتعدّ و تفريط- فلو تلفت كان المستأجر ضامنا لها، لوجوب الوفاء بالشرط الجائز في نفسه، كوجوب الوفاء بنفس العقد.

و كذا الكلام في ضمان العين المعارة لو شرط المعير ضمانها على المستعير.

و لا إشكال في هذا. إنّما الكلام في ما إذا شرط الضمان في مثل عقد الإجارة و العارية، ثم تبين بطلان العقد لاختلال بعض شرائط صحته، فهل تقتضي قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تبعية الفاسد للصحيح في هذا الضمان العرضي الناشئ من الشرط، أم لا تقتضيه؟ في المسألة قولان:

أوّلهما: الاقتضاء، و هو ظاهر صاحب الرياض قدّس سرّه في العارية المضمونة تبعا للمسالك.

و ثانيهما: عدم الاقتضاء، و هو مختار المصنّف قدّس سرّه. و استدلّ عليه بأنّ المتبادر من قولهم: «كل عقد يقتضي صحيحه الضمان ففي فاسده كذلك» هو اقتضاء العقد

ص: 86

بنفسه (1) [1]، فلو (2) اقتضاه الشرط المتحقق في ضمن العقد الصحيح، ففي الضمان

______________________________

بطبعه للضمان، لا بالشرط الذي هو أجنبي عن العقد و خارج عنه، و إنّما يرتبط به بعناية الاشتراط. و على هذا فلا ضمان في الإجارة و العارية الفاسدتين المشروط فيهما ضمان العين.

(1) أي: بذاته، لا بالعرض كالشرط في ضمن العقد.

(2) هذا متفرع على اختصاص اقتضاء العقد الصحيح للضمان بنفسه، لا مطلقا و لو بالشرط.

______________________________

[1] كما أن المتبادر أو المتيقن ضمان نفس متعلق العقد، دون توابعه. ففي الإجارة مثلا المتعلق هو المنفعة، و العين تابعة، و في البيع هو العين، و المنافع تابعة.

فالقاعدة ساكتة عن ضمان غير مؤدى العقد من التوابع. و يظهر أثر هذا التفسير في المنافع غير المستوفاة، فإنّها غير مضمونة في العقد الصحيح، مع أنّها مضمونة في العقد الفاسد.

و قد جعله المصنف نقضا على القاعدة، لكنّه يندفع بالتفسير المزبور، لسكوت القاعدة عن ضمان التوابع التي منها المنافع غير المستوفاة، فتأمل جيدا.

ثمّ إنّ السيّد قدّس سرّه عمّم الفساد إلى العرضي بدعوى: أنّ العقد المقرون بالشرط و المجرد عنه صنفان متغايران، و المفروض إرادة الصنف من عموم مدخول (كلّ) و لذا لا يبقى إشكال في التمسك بهذه القاعدة «1».

و فيه: أنّ الضمان لمّا كان مستندا الى العقد و كان الشرط خارجا عنه، لأنّ العقد المشتمل عليه عقد و شرط، و لا يصدق العقد على المركب من العقد و الشرط الذي هو التزام خارج عن الالتزام العقدي، فيكون المراد من صنف العقد في قبال نوعه و شخصه حصص العقد بما هو عقد، فالقيود الخارجة عن العقد أجنبيّة عن نفس العقد، و خارجة عن ماهيّته.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ص 94

ص: 87

بالفاسد من هذا الفرد المشروط فيه الضمان- تمسّكا بهذه القاعدة (1)- إشكال (2).

كما لو استأجر إجارة فاسدة، و اشترط فيها ضمان العين (3)، و قلنا (4) بصحة هذا الشرط، فهل يضمن بهذا الفاسد، لأنّ (5) صحيحة يضمن به و لو لأجل الشرط أم لا؟ و كذا الكلام في الفرد الفاسد من العارية المضمونة.

و يظهر من الرّياض اختيار الضمان بفاسدها (6) مطلقا (7)

______________________________

(1) أي: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

(2) فلا وجه لمضمّنية العقد الفاسد المتضمن لشرط صحيح في نفسه، لعدم كون الضمان مقتضى ذات العقد.

(3) تقدّم آنفا توضيح هذا الفرع بقولنا: «فلا ضمان في الإجارة و العارية الفاسدتين .. إلخ».

(4) غرضه من هذه الجملة الحاليّة: أن التنظير بالإجارة الفاسدة- المتضمّنة لشرط ضمان العين- للاقتضاء العرضي يتوقف على الفراغ من صحة هذا الشرط في نفسه، فلو تأمّلنا في أصل جوازه كان مثال الإجارة أجنبيّا عن اقتضاء الشرط للضمان، لوضوح أنّ اقتضاءه له منوط بمشروعية الشرط في نفسه حتى يجب الوفاء به لاشتراطه في ضمن العقد.

(5) هذا تعليل للضمان بالفاسد فيما إذا كان المقتضي للضمان هو الشرط لا ذات العقد.

(6) أي: بفاسد العارية المضمونة.

(7) يعني: حتى إذا كان الضمان باقتضاء الشرط، الذي هو مورد البحث من حيث الاندراج في قاعدة «ما يضمن» فيظهر من ذلك ذهاب صاحب الرياض قدّس سرّه إلى تعميم الضمان إلى الاقتضاء الشرطي أيضا، إذ لا مدرك للضمان في فاسد العارية المضمونة إلّا هذه القاعدة.

ص: 88

..........

______________________________

قال في الرياض- في ما لو استعار من الغاصب، و تلفت العين بيد المستعير، فرجع المالك على الغاصب- ما لفظه: «لم يرجع- يعني الغاصب- على المستعير، إلّا مع علمه أو كون العين مضمونة، فيرجع عليه فيهما، لاستقرار الضمان عليه في الأوّل، و إقدامه في الثاني على الضمان، مع صحة العارية. فكذا عليه الضمان مع الفساد، للقاعدة الكلية: أنّ كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» «1».

و توضيح المراد من عبارة الرياض بحيث تكون شاهدة لما استظهره المصنف منها- من أنّ الضمان في العقد الصحيح إن كان للشرط الضمني كان كذلك في العقد الفاسد- هو: أنّ السيد قدّس سرّه حكم بأنّ الغاصب لو أعار العين المغصوبة حتى ينتفع المستعير بها و تلفت عنده رجع المالك على الغاصب، و أخذ بدل ماله منه، و لا يجوز للغاصب الرجوع على المستعير، إلّا في صورتين:

إحداهما: علمه بأنّ العين المعارة مغصوبة، و ليست ملكا للمعير، مع عدم إذن المالك في التصرف فيها، فيستقرّ الضمان على المستعير، لأنّه من تعاقب الأيدي.

ثانيتهما: جهله بالغصب، لكن كانت العين مضمونة، إمّا لكونها من الذهب و الفضة، و إمّا لأنّ الغاصب شرط على المستعير ضمان العين.

ففي كلتا الصورتين يضمن المستعير من جهة إقدامه على الضمان. و بهذا تندرج المسألة في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» لأنّ العارية الصحيحة التي أقدم المستعير فيها على الضمان تكون مضمونة، فكذا يثبت الضمان في فاسدتها، كما في عارية الغاصب. و وجه فسادها انتفاء شرط الصحة و هو ملك العين و الانتفاع، أو الاذن.

______________________________

(1) رياض المسائل، ج 1، ص 625

ص: 89

تبعا لظاهر المسالك (1).

و يمكن (2) جعل الهبة المعوّضة من هذا القبيل، بناء على

______________________________

(1) قال الشهيد الثاني قدّس سرّه- في شرح قول المحقق: «و لو استعاره من الغاصب و هو لا يعلم كان الضمان على الغاصب .. و كذا لو تلفت العين في يد المستعير» و أنّ في المسألتين قولين- ما لفظه: «و الحاصل: أنّ المالك مخيّر في الرجوع على كلّ منهما، فإن رجع على المستعير رجع على الغاصب إن لم تكن العارية مضمونة، و إلّا رجع عليه بغير ما قدم على ضمانه. و ربّما احتمل هنا ضعيفا رجوعه- أي رجوع المستعير على الغاصب- مطلقا- يعني سواء كانت العارية مضمونة أم لا- لأنّ استحقاق العين أوجب فساد العارية، فلا تكون مضمونة، و هو مغرور مع الغصب، فيرجع على من غرّه.

و يضعّف بأنّ غروره في الغصب لا مدخل له هنا في الضمان، لأنّا لم نضمّنه من حيث الغصب، بل من حيث كونها عارية مضمونة، و دخوله على ذلك، فإذا تبيّن فسادها لحق حكم الفاسد بالصحيح كما سلف من القاعدة. و إن رجع المالك على الغاصب لم يرجع على المستعير، إن لم تكن مضمونة، و إلّا رجع عليه بما كان يضمنه لو كانت صحيحة» «1».

و دلالتها على تبعية الفاسد للصحيح في الحكم بالضمان- حتّى إذا كان للشرط- أظهر من عبارة الرياض، لتصريحه بأنّ ضمان المستعير لا يستند إلى الغصب، بل إلى كون العارية مضمونة، لأنّه أقدم على ضمانها، و من المعلوم أنّ التعليل بالاقدام- مع جهله بالغصب- إمّا أن يكون لشرط الضمان في هذه العارية الفاسدة، و إمّا لكون العين المعارة ذهبا أو فضّة، هذا.

(2) غرضه قدّس سرّه بيان فرد ثالث لما إذا كان ضمان العوض مستندا إلى الشرط لا باقتضاء ذات العقد، و ذلك كالهبة المشروط فيها العوض، كما إذا وهب زيد كتابه لعمرو على أن يهبه عمرو دينارا. ففي هذه الهبة المشروطة احتمالان:

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 5، ص 141 و 142

ص: 90

أنّها هبة مشروطة، لا معاوضة (1).

و ربّما يحتمل (2) في العبارة أن يكون معناه: أنّ كلّ شخص من العقود

______________________________

الأوّل: أنّ عقد الهبة يفيد تمليك عين مجّانا، و لا يقتضي بنفسه ضمان العوض، فأخذ العوض من المتهب يستند إلى الشرط. فتكون الهبة المشروط فيها العوض نظير العارية المشروط فيها الضمان، في أنّ منشأ الضمان هو الشرط لا ذات العقد. و هذا الاحتمال قوّاه المصنّف قدّس سرّه في أوائل البيع عند تعرّضه للنقوض الواردة على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» فراجع «1».

الاحتمال الثاني: أنّ الهبة المعوّضة معدودة من المعاوضات كالبيع و الإجارة و الصلح المعاوضيّ و نحوها. و على هذا يستند ضمان العوض إلى ذات العقد لا إلى الشرط.

(1) إذ لو كانت معاوضة كان اقتضاؤها للضمان ذاتيّا لا شرطيّا، ضرورة أنّ المقتضي للضمان حينئذ نفس العقد، لا الشرط المجعول فيه. هذا تمام الكلام في البحث الرابع، و هو أنّ اقتضاء الضمان مختصّ بذات العقد، أو يعمّ الشرط.

(2) هذا رجوع إلى البحث الثالث، و هو تحقيق أنّ العموم هل هو نوعيّ أم صنفيّ أم فرديّ، و قد تقدّمت الخدشة في إرادة العموم بلحاظ الأنواع، و بقي التعرض لاحتمال العموم الأفرادي.

و كيف كان فاحتماله مذكور في الجواهر- و إن لم يظهر أنّ المحتمل هو أو غيره- بقوله: «بل قد يقال: بشمول هذه القاعدة للفرض- أي: فساد الإجارة- بناء على إرادة أشخاص العقود منها، لا أصنافها، و لا ريب في عدم الضمان في المقام لو فرض صحة العقد المزبور، فكذا لا يضمن به على الفساد، للقاعدة المزبورة .. إلخ» «2».

______________________________

(1) هدى الطالب، ج 1، ص 241- 245

(2) جواهر الكلام، ج 27، ص 247

ص: 91

يضمن به لو كان صحيحا، يضمن به مع الفساد.

______________________________

و توضيحه: أنّهم حكموا في الإجارة الفاسدة بوجوب أجرة المثل، مع فرض استيفاء المنفعة كلّا أو بعضا، سواء زادت على المسمّى أم نقصت عنه. و استثنى الشهيدان قدّس سرّهما صورة واحدة، فحكما بعدم ضمان اجرة المثل فيها، و هي ما إذا كان منشأ الفساد اشتراط عدم الأجرة، أو عدم ذكرها في العقد بنحو يستفاد منه إرادة عدم بذل الأجرة. و الوجه في عدم وجوب اجرة المثل على من استوفى المنفعة هو:

إقدام العامل على العمل مجّانا و بلا عوض.

هذا ما أفاده الشهيدان قدّس سرّهما. و وجّه صاحب الجواهر قدّس سرّه هذه الفتوى بجعلها من مصاديق قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بتقريب: أنّ «كلّ عقد يضمن .. إلخ» عنوان مشير إلى أشخاص العقود المنشئة في الخارج، و يفرض لكلّ عقد حالتان إحداهما الصحة، و الأخرى البطلان. فالمراد بالعقد في أصل القاعدة- أعني به «ما يضمن بصحيحه»- هو: أنّ كل شخص من العقود مقتض للضمان لو كان صحيحا، فهو مقتض له لو كان فاسدا. مثلا: بيع الكتاب بالدينار موجب لضمان كلا المتبايعين، لكونه عقدا معاوضيّا، فهذا الفرد من البيع إن كان فاسدا- لاختلال بعض شرائطه- كان مضمّنا أيضا.

و المراد بالعكس أعني «ما لا يضمن» هو: أنّ كل ما صدر مجّانا- كالهبة الخالية عن العوض و الصلح المفيد للإبراء- ممّا لا يفيد الضمان إذا كان صحيحا، فكذا لا يفيده إذا وقع فاسدا. و على هذا فالإجارة الفاقدة للأجرة باطلة شرعا، لأنّ حقيقة الإجارة «تمليك منفعة بعوض معلوم» أو «التسليط على العين لاستيفاء منفعتها بعوض» فخلوها عن الأجرة مناف لحقيقتها. إلّا أنّ هذه الإجارة مندرجة في «ما لا يضمن» لأنّها لو وقعت صحيحة شرعا لما كانت مضمّنة لمن يستوفي المنفعة، فكذا لا تكون مضمّنة له على تقدير فسادها.

و الحاصل: أنّ المدار في كون عموم القاعدة بلحاظ أشخاص العقود و أفرادها هو فرض حالتين لكل عقد خارجي، فنفس هذا الفرد إن اقتضى الضمان على تقدير

ص: 92

و رتّب (1) عليه عدم الضمان في ما لو استأجر بشرط أن لا أجرة، كما اختاره الشهيدان (2)، أو باع بلا ثمن (3)

______________________________

الصحة اقتضاه على تقدير الفساد. و إن لم يقتض الضمان على فرض صحته لم يقتضه على فرض فساده.

و بهذا يندرج مثال الإجارة الفاسدة- من جهة خلوّها عن الأجرة- في قاعدة «ما لا يضمن». هذا توضيح ما نسبه المصنف إلى بعضهم من إرادة العموم الأفرادي، و ما يترتب عليه من الثمرة.

(1) يعني: و رتّب هذا المحتمل- و هو صاحب الجواهر- على أنّ معنى العموم هو كل شخص .. إلخ عدم الضمان في ما لو استأجر بشرط عدم الأجرة، فلا يلاحظ أنّ نوع الإجارة أو كلّ صنف منها مضمّن أو غير مضمّن، بل المدار على شخص الإجارة الواقعة بين الطرفين، فإن كان صحيحها مؤثّرا في الضمان فكذا فاسدها، و إن لم يكن صحيحها مؤثّرا في الضمان فكذا فاسدها.

(2) قال الشهيد الثاني قدّس سرّه- في ضمان أجرة المثل لو استوفى المنفعة و كانت الإجارة باطلة- ما لفظه: «و استثنى الشهيد رحمه اللّه من ذلك ما لو كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد، أو متضمّنا له كما لو لم يذكر أجرة، فإنّه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة، لدخول العامل على ذلك. و هو حسن» «1».

و لكن المحقق الثاني اعترض على إطلاق كلام الشهيد، و فصّل بين العمل و بين سكنى الدار، فراجع «2».

(3) هذا المثال غير مذكور في كلام الشهيدين قدّس سرّهما، و إنّما أضافه المحقق الثاني في ما فصّله في كلاميهما، فراجع.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 5، ص 184

(2) جامع المقاصد، ج 7، ص 120 و 121

ص: 93

كما هو أحد وجهي العلّامة في القواعد (1).

و يضعّف (2) بأنّ الموضوع هو العقد الذي وجد له

______________________________

و أما العلّامة قدّس سرّه فاقتصر على احتمال الضمان و عدمه، فقال: «و كذا لو قال:

بعتك بلا ثمن، أو: على أن لا ثمن عليك، فقال: قبلت. ففي انعقاده هبة نظر، ينشأ من الالتفات إلى المعنى، و اختلال اللفظ. و هل يكون مضمونا على القابض؟ فيه إشكال، ينشأ من كون البيع الفاسد مضمونا. و دلالة اللفظ على إسقاطه» «1».

و كيف كان فتقريب انتفاء الضمان في البيع بلا ثمن هو: أنّ شخص هذا البيع لو كان صحيحا لم يكن المشتري ضامنا للثمن، لأنّ البائع أسقطه، و حيث كان بيعا فاسدا لحقه حكم الصحيح في عدم الضمان.

(1) و الوجه الآخر في كلام العلّامة هو الضمان، لأنّ نوع البيع الصحيح يفيده، فكذا فاسده، فيندرج في أصل القاعدة، لا في عكسها.

(2) يعني: يضعّف احتمال إرادة الاستغراق بلحاظ الأشخاص و الأفراد، على ما تقدّم في كلام الجواهر. و حاصل التضعيف: أنّ الموضوع في قاعدة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو العقد، و أنّ له قسمين أحدهما صحيح و الآخر فاسد، و يكون الفاسد تابعا للصحيح في الضمان، و من المعلوم ظهور التقسيم في فعلية أقسامه، فلا بدّ من أن يكون للعقد فردان، أحدهما صحيح فعلا و هو الموجود خارجا جامعا للشرائط، و الآخر فاسد فعلا، لاختلال شرائطه الشرعيّة و إن كان عقدا عرفيّا.

و التحفّظ على ظهور الموضوع الجامع للقسمين في فعليّتهما يتوقف على كون الاستغراق بحسب النوع أو الصنف، و لا وجه لإرادة الشخص، ضرورة عدم تحمّل الفرد الشخصي- الموجود خارجا- للاتصاف فعلا بوصفين متقابلين و هما الصحة و الفساد، بل يوجد إمّا صحيحا و إمّا فاسدا. و يتوقف الاتّصاف على التقدير و الفرض

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 51، الشرط الأول من شرائط بيع السلف (الطبعة الحجرية).

ص: 94

بالفعل (1) صحيح و فاسد، لا ما (2) يفرض تارة صحيحا و أخرى فاسدا.

فالمتعيّن (3) بمقتضى هذه القاعدة (4) الضمان في مسألة البيع (5)، لأنّ البيع الصحيح

______________________________

بأن يقال: لو اقتضى هذا الفرد الخارجي- كالإجارة بلا أجرة و البيع بلا ثمن- الضمان على فرض صحته، لاقتضى الضمان على فرض فساده. و من المعلوم أنّ الفرد الواحد من كل عقد له حكم فعلي واحد، و لا يتعدّد حكمه الشرعي بمجرّد الفرض.

و الحاصل: أنّ ظهور القاعدة في فعلية القسمين يمنع عن الحمل على الأشخاص، و قد سبق أيضا امتناع حمل العموم على الأنواع، فتعيّن مختار المصنف و هو الحمل على الصنف، لصحة أن يقال: إنّ الإجارة إن كانت صحيحة- لاجتماع الشرائط فيها من ذكر الأجرة و غيرها- ففيها و في فاسدها الضمان، فالإجارة بلا أجرة فاسدة، و هي تابعة للإجارة الصحيحة في الضمان. و كذا البيع بلا ثمن، فإنّه بيع فاسد مضمّن، لكون نوع البيع و صنفه مقتضيا لضمان المتبايعين.

هذا بناء على صدق عنواني البيع و الإجارة عرفا على المثالين. و أمّا إذا قيل بالتجوز في الصيغة- و أنّ البيع بلا ثمن إنشاء للهبة، و أنّ الإجارة بلا أجرة إنشاء للعارية- كانا أجنبيّين عن المقام، لصحتهما هبة و عارية، و لا ضمان فيهما، فلاحظ.

(1) يعني: أنّ العقد الصحيح فرد، و العقد الفاسد فرد آخر، و كلّ منهما يمكن وجوده خارجا.

(2) يعني: ليس موضوع القاعدة فردا واحدا من العقد يفرض تارة صحيحا على تقدير اجتماع شرائطه، و أخرى فاسدا على تقدير اختلالها.

(3) هذا نتيجة بطلان كون العموم و الاستغراق بحسب أشخاص العقود، كما احتمله صاحب الجواهر قدّس سرّه.

(4) أي: قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(5) أي: البيع بلا ثمن. و قد عرفت وجه الضمان فيها آنفا، و أنّها مورد لأصل القاعدة لا عكسها.

ص: 95

يضمن به (1).

نعم (2) ما ذكره بعضهم من التعليل لهذه القاعدة «بأنّه أقدم على العين مضمونة عليه» (3) لا يجري في هذا الفرع (4). لكن الكلام في معنى القاعدة، لا في مدركها.

______________________________

(1) فكذا فاسد البيع، لانطباق عنوان «البيع» عليه.

(2) هذا استدراك على قوله: «فالمتعين .. الضمان في مسألة البيع» و حاصله: أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه استدلّ- في كلامه الآتي في المتن- بالاقدام على الضمان على قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و من المعلوم أنّ هذا التعليل لا يجري في «البيع بلا ثمن» ضرورة تحقق الإقدام المجّاني فيه، المضادّ للإقدام الضماني في البيع مع الثمن.

و هكذا سائر العقود المعاوضية.

و عليه فلا ينطبق دليل القاعدة على البيع بلا ثمن، و الإجارة بلا اجرة. فيندرج البيع المزبور في الهبة المجانية التي هي من صغريات العكس، و هو «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و كذا تندرج الإجارة المزبورة في العارية. و بهذا يشكل حكم المصنف بضمان المشتري للثمن الواقعي في مثال البيع بلا ثمن.

لكنّه قدّس سرّه تخلّص عن هذا الإشكال بأنّ الكلام فعلا في معنى القاعدة و تفسير مفرداتها، لا في مدركها، حتى يقال: بأنّ الإقدام على الضمان مخصوص بالعقد المتضمن للعوض، و لا يجري في العقد العاري عنه، و من المعلوم أنّ معنى القاعدة شامل للبيع بلا ثمن، و الإجارة بلا أجرة، هذا.

لكن ينبغي الاهتمام في البحث عن مدرك القاعدة و مقدار دلالته، ثم حملها على ما يساعد عليه دليلها.

(3) سيأتي قريبا استفادة هذا التعليل من كلام شيخ الطائفة، و كذا ورد التصريح به في كلام الشهيد الثاني و غيره.

(4) و هو البيع بلا ثمن، و المناسب ذكر مسألة الإجارة بلا أجرة أيضا، لارتضاعهما من ثدي واحد. هذا تمام الكلام في البحث الثالث، المتكفل لإثبات كون العموم بحسب الأصناف، لا الأنواع و لا الأفراد.

ص: 96

[المبحث الخامس: حرف «الباء» ظرفيّة أو سببيّة]

ثمّ (1) إنّ لفظة «الباء» في «بصحيحه و بفاسده» إمّا بمعنى «في» بأن يراد:

كلّما تحقّق الضمان في صحيحه تحقّق في فاسده (2).

______________________________

المبحث الخامس: حرف «الباء» ظرفيّة أو سببيّة

(1) هذا شروع في البحث الخامس من مباحث الجهة الاولى، و هو أنّ «الباء» في «بصحيحه و بفاسده» ظرفية أو سببيّة، و غرضه قدّس سرّه عدم التفكيك في الضمان بين العقد الصحيح و الفاسد، و أنّ كون الباء للظرفية أو السببيّة لا يوجب التفكيك المزبور.

توضيحه: أنّ الباء يستعمل في الظرفية كقوله تعالى نَجَّيْنٰاهُمْ بِسَحَرٍ و يستعمل في السببيّة كقوله عزّ من قائل إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ الْعِجْلَ و قوله فَكُلًّا أَخَذْنٰا بِذَنْبِهِ. فعلى الظرفية لا يلزم تفكيك في معنى «الباء»، فإنّ المعنى حينئذ: أنّ الضمان يكون في كلّ من العقد الصحيح و الفاسد.

و على السببيّة المطلقة الشاملة لكلّ من العلّة التامّة و الناقصة لا يختلف الضمان فيهما أيضا، لكون العقد في كليهما سببا ناقصا للضمان.

أمّا في الصحيح فلأنّه لو لم يتحقق فيه القبض لم يتحقق الضمان، لقولهم:

«و بالقبض ينتقل الضمان». و أمّا في الفاسد فلكون العقد سببا للقبض الذي هو منشأ للضمان. فللعقد دخل في الضمان في الصحيح و الفاسد، فالسببيّة ملحوظة في كليهما و مصحّحة لاستعمال الباء فيهما في السببيّة.

و بالجملة: فالعقد سبب ناقص للضمان و القبض متمّم له. و لذا لو تلف المبيع قبل القبض كان من مال بائعه، بل و كذا الثمن. هذا في العقد الصحيح. و في الفاسد يكون العقد مع الاقدام على القبض مصداقا لليد، و سيأتي توضيحه.

(2) و بناء على الظرفية لا يستفاد من القاعدة كون الضمان مقتضى العقد أو هو

ص: 97

و إمّا لمطلق السببيّة الشامل للناقصة (1)، لا العلّة التامّة، فإنّ (2) العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان إلّا بعد القبض كما في السّلم و الصّرف [1]، بل مطلق البيع، حيث إنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع

______________________________

مع القبض، و هذا بخلاف كون «الباء» سببيّة، إذ يجري البحث عن السببية التامّة و الناقصة، كما عرفت.

(1) يعني: لا خصوص السببيّة التامّة حتّى لا يكون القبض مؤثّرا في الضمان.

(2) هذا تقريب عدم كون العقد الصحيح علّة تامّة للضمان.

______________________________

[1] لا يخلو هذا التمثيل من المناقشة، لأنّ القبض شرط صحة بيعي الصرف و السّلم، فعدم الضمان فيهما قبله لعدم صحة العقد، بمعنى عدم وجود العقد الصحيح.

و كيف كان فالأولى أن يكون «الباء» لمطلق السببيّة، فيكون العقد سببا ناقصا للضمان، و القبض جزء أخيرا لعلّة الضمان. كما أنّ العقد سبب تام لقلب اليد المالكية إلى غيرها، ضرورة أنّه بنفس العقد يصير المبيع ملكا للمشتري و الثمن ملكا للبائع.

و عليه فالاستيلاء على كلّ من العوضين قبل العقد استيلاء على مال نفسه، و بعده على مال الغير بدون إذن مالكي، أو استيمان شرعي أو مالكي يوجب عدم الضمان، لإطلاق «على اليد» فالعقد جزء السبب للضمان، و تمام السبب لقلب اليد المالكية.

و أمّا جعل «الباء» للظرفية فغير ظاهر، لأنّ الظرفية الحقيقية غير حاصلة، بداهة عدم كون العقد ظرفا حقيقة للضمان، فلا بدّ من التأويل بجعل استعمالها في الظرفية بمناسبة السببية، و هو تعسّف كما هو ظاهر. و كذا الظرفية الاعتبارية، فإنّ الظرف الاعتباري للضمان هو العهدة، كما هو واضح.

نعم العقد سبب لثبوت الضمان في العهدة. فكلّ من الظرفية الحقيقية و الاعتبارية مفقود في العقد، فلا معنى لجعل الباء للظرفية.

ص: 98

بمعنى أنّ دركه عليه (1)، و يتداركه (2) بردّ الثمن، فتأمّل (3).

و كذا (4) الإجارة و النكاح و الخلع، فإنّ المال في ذلك كلّه مضمون على من انتقل عنه إلى أن يتسلّمه من انتقل إليه.

و أمّا (5) العقد الفاسد فلا يكون علّة تامّة

______________________________

(1) خبر «أنّ» و الضمير راجع إلى البائع. و ضمير «دركه» راجع إلى المبيع.

(2) أي: يتدارك البائع المبيع بردّ الثمن إلى المشتري.

(3) لعلّه إشارة إلى: أنّ الضمان- بمعنى تدارك مال الغير- أجنبي عن تلف المبيع قبل القبض، لأنّ البيع ينفسخ حينئذ، فيتلف المبيع في ملك مالكه و هو البائع، و هذا ليس من الضمان في شي ء، لأنّ التالف ملكه، لا أنّ عليه تداركه من ماله.

و على هذا فما أفاده بقوله: «بل مطلق البيع»- من جعل عقد البيع في جميع موارده جزء السبب المضمّن و جزءه الآخر هو القبض- غير ظاهر، و ذلك لأنّ كون العقد سببا تامّا لضمان المشتري- في غير بيع الصرف و السّلم- لا ينافي كون المبيع في ضمان البائع قبل قبضه، لفرض انفساخ هذا السبب التام بتلفه بيد البائع، و معه لا يبقى العقد الموجب لضمان المشتري. و هذا بخلاف القبض في بيع الصرف و السّلم، لدخله في سببيّة العقد للضمان المعاوضي.

(4) في كون الضمان على من انتقل عنه ما لم يتسلّمه المنتقل إليه. فإذا تلفت الأجرة بيد المؤجر- في إجارة الأعمال- تلفت منه لا من مال الأجير. و كذا الحال في تلف المهر بيد الزوج، و تلف عوض الخلع بيد الزوجة، فالقبض في هذه الثلاثة جزء السبب المضمّن للطرف الآخر.

(5) هذا في قبال قوله: «فإنّ العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان» و غرضه توجيه سببيّة العقد الفاسد للضمان، بناء على كون «الباء» سببيّة، فإنّ العقد الفاسد يكون بحكم العدم فكيف يوجب الضمان؟ و لذا تصدّى لتوجيه سببيّته بأحد وجهين:

ص: 99

أبدا [1] بل يفتقر في ثبوت الضمان إلى القبض، فقبله لا ضمان. فجعل الفاسد سببا إمّا (1) لأنّه المنشأ للقبض على (2) وجه الضمان

______________________________

الأوّل: أنّ الضمان في العقد الفاسد و إن كان منوطا بالقبض، إلّا أنّ الموجب للإقدام على القبض هو العقد الفاسد، فهو سبب السبب، و من المعلوم صحة إسناد الضمان إلى سبب السبب كصحة إسناده إلى نفس السبب أي القبض.

الثاني: أنّ العقد الفاسد بنفسه سبب ناقص للضمان، و تتوقف عليّته التامّة على تحقق الشرط، و هو القبض على وجه الضمان لا مجانا. و عليه فالسبب مؤلّف من العقد الفاسد و القبض. و هذا نظير بيع الصرف و السّلم، إذ يتوقف الضمان- في العقد الصحيح- على قبض الثمن في السّلم، و التقابض في الصّرف.

و الحاصل: أنّ مطلق السببيّة الجاري في بعض العقود الصحيحة يجري في العقد الفاسد أيضا، فلا مانع من جعل «الباء» سببيّة، هذا.

(1) هذا هو الوجه الأوّل لتوجيه جعل «الباء» سببيّة في العقد الفاسد كالصحيح.

(2) قيد للقبض، يعني: القبض المبني على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، في قبال القبض المبني على المجّانية، كما في الهبة و العارية الفاسدتين، لعدم إقدام المتهب و المستعير على ضمان ما قبضاه بالعقد الفاسد.

______________________________

[1] هذه العبارة توهم كون العقد الصحيح دائما أو غالبا أو نادرا علّة تامّة للضمان، و هذا ينافي قوله: «فان العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان. الى قوله: بل مطلق البيع» حيث إنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع، إلى آخر ما أفاده، فإنّ ظاهره عدم كون العقد الصحيح علّة تامّة للضمان أبدا، فالمناسب أن يقول: و أمّا العقد الفاسد فكذلك أيضا في عدم عليّته التامّة أبدا.

ص: 100

الذي هو سبب للضمان [1]، و إمّا (1) لأنّه سبب (2) الحكم بالضمان بشرط القبض [2]. و لذا (3) علّل الضمان الشيخ و غيره «بدخوله على أن تكون العين مضمونة عليه» «1». و لا ريب (4) أنّ دخوله على الضمان إنّما هو بإنشاء العقد الفاسد، فهو (5) سبب لضمان ما يقبضه.

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثاني، يعني: و إمّا لأنّ العقد الفاسد مقتض للحكم بالضمان بشرط كون القبض على وجه الضمان لا على وجه المجانية، و بهذا يكون العقد من أفراد مطلق السببيّة.

(2) فالعقد هو المقتضي للضمان، لا أنّه سبب السبب كما كان في الوجه الأوّل.

(3) أي: و لأجل اشتراط الضمان بالقبض علّل شيخ الطائفة و غيره .. إلخ.

و غرضه الاستشهاد بكلامهم على صحة الوجه الثاني، و أنّ العقد الفاسد من أفراد مطلق السببيّة، إذ بالعقد الفاسد يتحقق إقدام المتعاقدين على الضمان.

(4) غرضه تطبيق التعليل- الوارد في كلام الشيخ- على الوجه الثاني، و هو أنّ الاقدام على الضمان يكون بإنشاء العقد الفاسد.

(5) يعني: فإنشاء العقد الفاسد سبب لضمان ما يقبضه، إذ لولاه لما وقع القبض على وجه الضمان المقرّر عند المتعاقدين.

______________________________

[1] لا يختص هذا التوجيه بالعقد الفاسد، بل يجري في الصحيح أيضا، فلا وجه لتخصيصه بالفاسد.

[2] لكن هذا التوجيه ينافي ما ذكره سابقا بقوله: «ثمّ إنّ المتبادر من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له بنفسه». وجه المنافاة: أنّ الضمان يكون باقتضاء الشرط لا نفس العقد.

______________________________

(1) المبسوط، ج 3، ص 58 و 65 و 68 و 85 و 89؛ مسالك الأفهام، ج 3، ص 154

ص: 101

و الغرض من ذلك كلّه (1) دفع توهّم أنّ سبب الضمان في الفاسد هو القبض لا العقد الفاسد، فكيف يقاس الفاسد على الصحيح في سببيّة الضمان، و يقال:

______________________________

(1) أي: من توجيه سببيّة العقد الفاسد للضمان بالوجهين المتقدمين، و هما: كون العقد سبب السبب، أو سببا ناقصا. و غرضه من هذا البيان دفع توهّمين:

الأوّل: أنّ جعل «الباء» للسببيّة في العقد الصحيح أمر معقول. بخلاف العقد الفاسد، لعدم تأثيره في ضمان المتعاقدين، إذ تمام المؤثّر في الضمان هو القبض. و عليه فلا معنى لأن يقال: «إنّ العقد الذي يضمن بسببه إن كان صحيحا يضمن بسببه إن كان فاسدا» لما عرفت من عدم دخل العقد الفاسد في الضمان، و عليه يتعيّن جعل الباء للظرفيّة، هذا.

و قد دفعه المصنف بصحة إطلاق «السبب» على العقد الفاسد، إمّا لأنّه سبب السبب، و من المعلوم أنّ سبب السبب سبب بمقتضى قياس المساواة. و إمّا لأنّه سبب ناقص، و يكون مشروطا بالقبض، لا أنّ تمام السبب هو القبض كما زعمه المتوهّم.

الثاني: أنّ مقتضى سببيّة «الباء» هو كون العقد علّة تامة للضمان، من دون أن يكون للقبض دخل فيها أصلا، سواء أ كان العقد صحيحا أم فاسدا. و من المعلوم أنّ هذا الظهور ينافي ما تقرّر عندهم من عدم تأثير العقد الفاسد في الضمان إلّا بالقبض. و لا يرتفع هذا التنافي إلّا بتخصيص قاعدة «ما يضمن» بأن يقال: «كل عقد يضمن بسبب صحيحه يضمن بسبب فاسدة، إلّا العقد الفاسد قبل القبض» و يبقى للقاعدة موارد ثلاثة و هي العقد الصحيح مطلقا مع القبض و بدونه، و العقد الفاسد بعد القبض.

و قد دفعه المصنّف قدّس سرّه بأنّه لا موجب للتخصيص المزبور أصلا، إذ لا يراد من سببيّة العقد للضمان عليّته التامة حتى يقع التنافي المذكور، بل المراد مطلق السببيّة و لو الناقصة، و لا يستند الضمان في العقد الفاسد إلى خصوص القبض حتى يبقى مجال للتوهم. و عليه فالضمان مستند إلى العقد، إمّا لأنّه علة العلة، و إمّا لأنّه مقتض و سبب ناقص له.

ص: 102

كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده؟ (1).

و قد ظهر من ذلك (2) أيضا فساد توهم أنّ ظاهر القاعدة عدم توقف الضمان في الفاسد على القبض، فلا بدّ من تخصيص القاعدة بإجماع و نحوه (3) [1].

______________________________

(1) يعني: مع أنّه لا يضمن بنفس العقد الفاسد، بل بالقبض المترتب عليه.

(2) أي: من تفسير سببيّة الضمان بقوله: «إمّا .. و إمّا» فإنّ السببية بأحد الوجهين المتقدمين تدفع توهم عدم توقف الضمان في الفاسد على القبض، كما عرفته آنفا.

(3) كحديث «على اليد» الظاهر في إناطة الضمان بالقبض. هذا تمام الكلام في الجهة الاولى، و هي شرح مفردات القاعدة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ المقبوض بالعقد الفاسد جعل من صغريات القاعدة المعروفة و هي: كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده. و البحث فيه يقع في جهات:

الأولى: أنّ المذكور في التذكرة هو العقد، فإنّه قال في إجارتها: «و حكم كل عقد فاسد حكم صحيحه في الضمان في وجوب الضمان و عدمه، فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده، و ما لم يجب في صحيحه لا يجب في فاسده» «1». و نحوه ما عن القواعد.

و في إجارة جامع المقاصد: «فلأنّ كلّ عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده و بالعكس» «2».

و في إجارة مجمع الفائدة: «و لما تقرّر عندهم أنّ كلّ ما لا يضمن و بصحيحه لا يضمن بفاسده» «3».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 138، السطر 17 و 18

(2) جامع المقاصد، ج 7، ص 258

(3) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 69

ص: 103

______________________________

و بالجملة: المذكور في كلمات الأصحاب عدا العلّامة قدّس سرّه عنوانان: أحدهما «ما يضمن» و الآخر «كل ما يضمن .. إلخ». و مقتضى كونهما من ألفاظ العموم ما لم تقم قرينة على العهد هو مطلق السبب عقدا كان أو إيقاعا أو برزخا بينهما كالنكاح على ما قيل. و تعبير العلّامة بالعقد لا يقدح بعد إجرائهم لهذه القاعدة في غير العقد من الإيقاعات كالخلع و الجعالة الفاسدين بناء على عدم كون الجعالة عقدا كما قيل. و من الأحكام كالشفعة و القسمة عندنا من كونها إفراز حقّ، لا معاوضة كما عن العامة. و اللقطة إن وقع قصد تملكها على وجه الفساد، هذا.

و يمكن إرادة العقد بمعناه اللغوي أعني به التعهّد، فيشمل جميع ما ذكرنا.

و كيف كان فاختلاف العبارات في كون الموضوع عنوان العقد كما في التذكرة، أو «ما يضمن» كما في إجارة مجمع الفائدة، أو «كلما يضمن» كما في غصب جامع المقاصد غير مهمّ بعد كون العبرة بدليل القاعدة، لعدم كون هذه القاعدة بنفسها متن رواية معتبرة، و لا معقد إجماع حتى يبحث في أنّ الموضوع هو مطلق الإنشاء عقدا كان أم إيقاعا، أو خصوص العقد، فدائرة موضوع القاعدة سعة و ضيقا تابعة لدليلها، كما لا يخفى.

الجهة الثانية: أنّ الضمان يستعمل في ثلاثة معان:

أحدها: ما اختاره المصنّف قدّس سرّه من كون المال متداركا بعوض بحيث تكون الخسارة واقعة في ماله الأصلي، ففي طرف العقد الصحيح يكون المال متداركا بسبب المعاوضة بماله الأصلي، بحيث إذا تلف كانت خسارته من ماله الأصلي المجعول عوضا، و في طرف العقد الفاسد يكون متداركا بما يؤدّيه عند تلفه بدلا عنه من ماله الأصلي.

و بعبارة أخرى: المراد بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون عليه بمعنى وقوع خسارته في ماله الأصلي، فتلفه يوجب نقصان ماله، لوجوب تداركه منه. و قد جعل الضمان بهذا المعنى جامعا للضمان في العقود الصحيحة و الفاسدة، و في تلف

ص: 104

______________________________

الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض. ثمّ قال: «انّ المراد بالضمان بقول مطلق هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي» و كأنّ مراده أنّ الضمان ظاهر في الضمان الواقعي ما لم تقم قرينة على خلافه، و قد قامت على الضمان بالمسمّى في المقبوض بالبيع الصحيح، دون البيع الفاسد، فيحمل على المعنى الظاهر فيه.

و هذا ليس تفكيكا في الضمان، لوجود الجامع. و اختلاف الخصوصيّات لا ينافي وجود الجامع الذي بلحاظه لم يكن تفكيك، لكونها من قبيل تعدّد الدال و المدلول.

ثانيها: ما نقله المصنف قدّس سرّه و زيّفه، و هو: كون تلفه عليه و أنّه يتلف مملوكا له، فالمأخوذ بالعقد الصحيح يكون تلفه منه، و هو عين كونه خسارة عليه، و المأخوذ بالعقد الفاسد يكون تلفه موجبا لترتب الخسارة عليه، للزوم تداركه بالبدل.

و على هذا فالتالف تارة نفسه خسارة كما في العقد الصحيح، فإنّ الكتاب المبيع بدينار مثلا إذا تلف عند المشتري يكون نفسه خسارة على المشتري، لأنّه ماله. و أخرى بدله خسارة كما في العقد الفاسد، فإنّ الكتاب المزبور ليس نفسه خسارة على المشتري، لفرض بقائه على ملك البائع، بل يكون بدله- مثلا أو قيمة- خسارة على المشتري.

هذا ما ينسب إلى الشيخ الجليل الشيخ علي رحمه اللّه في حاشية الروضة. و قد تقدّمت عبارته في التوضيح، فراجع. و قد ينسب الى الرياض أيضا في النقد و النسيئة في مسألة تقدير الثمن.

ثالثها: مطلق التعهد الجامع بين صورتي التلف و عدمه، فالتعهّد في صورة البقاء يكون بحفظه و ردّه إلى صاحبه، و في صورة التلف بردّ مثله أو قيمته. يعني: أنّ ما يقتضي صحيحه التعهّد- أي عدم المجّانية- ففاسده أيضا كذلك. و أمّا كونه بالمثل أو القيمة أو المسمّى فلم يتعرض القاعدة لها حينئذ.

و تظهر الثمرة بين هذه التفاسير الثلاثة في شمول القاعدة أصلا للهبة غير المعوّضة الفاسدة، كشمول القاعدة لها على التفسير الثاني، لأنّه يصدق على صحيحها

ص: 105

______________________________

عند تلف الموهوب أنّه تلف في ملك المتّهب، ففاسده أيضا كذلك، مع أنّها داخلة في العكس، لحكمهم فيها بعدم الضمان.

و عدم شمولها على الأوّل و الأخير، الموجب لعدم دخول الهبة المعوّضة في أصلها، لعدم صدق التعهّد بدفع المثل أو القيمة عند التلف في ملك المتّهب على تقدير إرادة التعهّد من الضمان، كما هو المعنى الثالث. كعدم صدق دفع البدل و العوض على تقدير إرادة اللزوم و الدرك كما هو المعنى الأوّل، إذ التلف و إن كان في ملك المتّهب، إلّا أنّه ليس من ماله الأصلي، لعدم دفعه شيئا في مقابله بعنوان العوضية، فتدخل على التقديرين في عكسها، هذا.

كما تظهر الثمرة بين الأوّل و الثالث في شمول الثالث لضمان الحيلولة، كمن أقرّ بمال زيد لعمرو، ثمّ أقر لزيد، فإنّ ضمان القيمة للمالك ضمان بمعنى التعهّد الذي هو المعنى الثالث، دون الضمان بالمعنى الأوّل و هو لزوم البدل من المثل أو القيمة، لاختصاصه بصورة التلف. و المفروض في ضمان الحيلولة وجود العين. إلّا أن يعمّم العوض و البدل بالنسبة إلى الموجود و التالف، فيدخل في المعنى الأوّل أيضا، لصدق دفع العوض على بدل الحيلولة، فيدفع البدل المزبور إلى مالك العين.

و كذا تظهر الثمرة في صدق المعنى الثالث- و هو التعهّد- على الموجود و المعدوم و اختصاص المعنى الأوّل بالمعدوم، إلّا أن يعمّم كما عرفت آنفا.

و كيف كان ففي المعنى الأوّل الذي اختاره المصنّف قدّس سرّه: أنّ ردّ مال الغير إلى مالكه لاقتضاء العقد ذلك ليس ضمانا و دركا، فإذا كان المثمن موجودا في يد البائع و ردّ المشتري الثمن لا يصدق أنّه أدّى دركه. بل يقال: إنّه أدّى دينه. و كذا لو كان المبيع في يد المشتري، و ردّ الثمن إلى البائع.

لا يقال: إنّ الثمن درك المبيع، و كان الشيخ قدّس سرّه يعترف بذلك، و لذا فرض مورد التلف، و لا شبهة في أنّ دفع الثمن إلى البائع بعد تلف المبيع في يد المشتري ليس إلّا

ص: 106

______________________________

كدفعه في حال وجود المبيع سواء أ كان في يد البائع أم المشتري.

و عليه فتلف المبيع لا دخيل في الضمان بوجه، لأنّ العقد مع فرض صحته يقتضي الضمان أي رد الثمن إلى البائع مع وجود المبيع عند البائع أو المشتري. كما لا دخيل في كيفية ردّ مال الغير بوجه، فتلف المبيع لا يعقل أن يكون مضمونا على مالكه، لعدم تعقّل ضمان الشخص مال نفسه، كما أنّ ردّ مال الغير كالثمن إلى البائع ليس من قبيل الدرك. فما فرضه جامعا بين العقد الصحيح و الفاسد- حتى لا يلزم التفكيك في معنى الضمان بين الصحيح و الفاسد- لا يخلو من غموض، هذا.

و في المعنى الثاني الذي زيّفه المصنف قدّس سرّه- و هو كون تلفه عليه، و أنّه يتلف مملوكا له- أوّلا: استدراك قيد المملوكية، إذ لا يعتبر في الضمان و التغريم كون التالف مملوكا للضامن، إلّا بناء على قول من يقول بكون أداء البدل من باب التعاوض القهري شرعا بين التالف و بدله. لكنّه ضعيف كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيا: أنّ الإنسان لا يكون ضامنا لأمواله التالفة، فتلف المال من الشخص لا يحقّق عنوان الضمان.

و ثالثا: أنّ مجرّد تلف مال من شخص غير تلفه عليه، إذ معنى كون تلفه عليه ترتب تدارك التالف و جبران خسارته عليه بسبب التلف. و أمّا كون نفس التلف خسارة فهو خسارة منه بلا تدارك عليه. فعنوان «تلفه» الموجب لتداركه عليه هو معنى الضمان، و ذلك منحصر في الفاسد، فلا يكون بين تلفه منه و تلفه عليه جامع حتى يكون أحد مصداقيه في الصحيح و الآخر في الفاسد.

نعم مجرّد شباهة ضمان الصحيح بضمان الفاسد- إمّا من جهة كونه ذا بدل كما في التفسير الأوّل، و إمّا من جهة الخسارة كما في التفسير الثاني- يوجب حسن المقابلة مع الضمان في الفاسد، كما في قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا.

و ربّما يقال: في تصحيح عدم التفكيك المزبور: «بأنّ الضمان في الصحيح

ص: 107

______________________________

و الفاسد كليهما بالمثل أو القيمة، فإنّ الضمان بالمسمّى في الصحيح قبل القبض، و هو خارج عن القاعدة الّتي أسّست لتشريع الضمان في موارد، و هو يتحقق بالقبض، و يقال:

إنّ بالقبض ينتقل الضمان. و معنى انتقاله أنّ المسمّى ينقلب بعد القبض بالمثل أو القيمة.

و معنى ضمان القابض بعد قبضه- مع أنّ المقبوض ملكه- أنّه لو تلف و طرأ عليه فسخ أو انفساخ وجب عليه ردّ المثل أو القيمة، و هو المضمون في الصحيح و الفاسد .. إلخ» «1».

فمحصّل كلامه: أنّ القاعدة أجنبية عن ضمان المسمّى، فالضمان حينئذ هو تدارك المضمون بالمثل أو القيمة مطلقا. أمّا في العقد الفاسد فواضح، لكون الضمان فيه في صورة التلف بالمثل أو القيمة. و أمّا في العقد الصحيح فلأنّ الضمان فيه أيضا بعد التلف و الفسخ أو الانفساخ إنّما هو بالمثل أو القيمة، هذا.

و أنت خبير بما فيه، لأنّ حمل قوله: «كلّ عقد يضمن بصحيحه» على أنّه يضمن بعد فسخه و بعد تلف المبيع في غاية الغرابة، لأنّ المراد بالعقد حينئذ فسخه أو الفسخ بعد العقد و القبض و التلف، و هو يحتاج إلى التقدير من غير قرينة على أصله، و لا على تعيين المقدّر. و طرح الدليل أولى من ارتكاب ذلك بلا دليل، هذا.

مضافا إلى: أنّ قوله: «إنّ الضمان بالمسمّى قبل القبض، و هو خارج عن القاعدة، فإنّها أسّست لموارد ضمان اليد» تخريص منه، لعدم دليل على الخروج، و لا على تأسيسها لموارد ضمان اليد. فلو أريد بتلك القاعدة قاعدة اليد، فلا معنى لتغيير عبارته الصحيحة الجامعة بهذه العبارة المجملة المحتاجة إلى التأويل كما لا يخفى، هذا.

ثمّ إنّ المحقق الأصفهاني قدّس سرّه فسّر الضمان بكون الشي ء في العهدة. و هذا المعنى جامع بين موارد الضمان. قال في جملة ما أفاده: «و بالجملة: الضمان كما يناسبه معناه الأصلي كون الشي ء في ضمن شي ء، فإذا نسب إلى الشخص فمعناه: أنّه في ضمن

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 119

ص: 108

______________________________

عهدته. و هذا المعنى قد يكون بتسبيب من الشخص كما في عقد الضمان بأنحائه حتى ضمان النفس، فإنّ مرجعه إلى تعهّد إحضاره. و كما في مطلق المعاوضات، لتعهّد كلّ منهما و التزامه بأخذ المال ببدله، و لذا عبّر عنه بضمان المعاوضة فليس مجرّد كونه ذا عوض أو مملوكا بعوض مناط الضمان، بل تعهّد أخذه ببدله هو المناسب للضمان.

و قد يكون بجعل من الشارع أو العرف كما في التغريمات الشرعية و العرفية، فإنّهما يعتبران المأخوذ أو المتلف في عهدة الشخص. و العهدة في كل مقام لها آثار تكليفية أو وضعية، و لكنه لا يختلف معنى العهدة باختلافها، فكون الضمان تارة ضمان المعاوضة، و أخرى ضمان التكفل، و ثالثة ضمان الغرامة، و هكذا، لا يوجب اختلافا في معناه.

و بناء على ما ذكرناه في معنى الضمان فمفاد القاعدة: أنّه كل مورد كان عهدة مورد العقد على المتعاقدين في الصحيح فعهدته عليهما في الفاسد» «1» انتهى كلامه علا مقامه.

و أورد عليه: «- مضافا إلى أنّ ما ذكره في معنى الضمان و أصله اللغوي مخالف للعرف و اللغة. و الأوّل ظاهر. و يعلم الثاني بالمراجعة إلى كتب اللغة- بأنّ كلّ عهدة ليست ضمانا، فعهدة أداء الدين غير كونه ضامنا له، و الدّين متعلق بالعهدة، لكن المديون ليس ضامنا، و بناء العقلاء في باب البيع و نحوه على تسليم العوضين معنى غير الضمان في العرف و اللغة، فلا يقال بعد تحقق البيع: إنّ كلّا من المتبايعين ضامن للأداء أو للمال، و هو واضح، فلا جامع بما ذكر بين ضمان اليد و التزام المتبايعين لتسليم العين، إذ الثاني ليس بضمان» «2».

أقول: أمّا ما أفاده في مخالفة معنى الضمان عرفا فلم يظهر له وجه، إذ العرف يساعد على كون الضمان نوع تعهّد بشي ء، و أنّ مناط الضمان عندهم هو التعهد

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 76

(2) كتاب البيع، ج 1، ص 262

ص: 109

______________________________

و الالتزام بأخذ شي ء مع البدل، كالقرض الذي هو تمليك بالضمان.

و أمّا ما أفاده من كونه مخالفا للغة، ففيه: أنّ في المصباح: «ضمنت المال و به ضمانا فأنا ضامن و ضمين التزمته» «1». و في الصحاح: «ضمنت الشي ء ضمانا كفلت به فأنا ضامن و ضمين» «2» فإنّ التعهد بشي ء في ذمته هو الموافق لمعناه اللغوي.

فما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه- من معنى الضمان- ليس مخالفا لمعناه اللغوي، كما ليس مخالفا لمعناه العرفي.

و أمّا ما أفاده بقوله: «بأنّ كل عهدة ليست ضمانا» فإن أريد به عدم صدق الضمان اللغوي عليه، ففيه ما عرفت من صدقه على مطلق التعهد و الالتزام. و إن أريد به عدم صدق معناه العرفي على كلّ تعهّد، ففيه:- مضافا الى رجوعه إلى الإشكال الأوّل، و هو مخالفة الضمان بهذا المعنى للضمان العرفي، و عدم كونه اشكالا على حدة- أنّه و إن كان صحيحا، لكن المقام- أعنى به ضمان المقبوض بالعقد الفاسد- مما يصدق عليه الضمان العرفي.

نعم الإنصاف أنّ الضمان العرفي لا يصدق على العقد الصحيح المعاوضي، إذ لا يصدق الضمان على الثمن و المثمن، و لا الضامن على كلّ من المشتري و البائع بالنسبة إلى ما انتقل عنه. فما أفاده المحقق المتقدّم لا يكون جامعا بين العقد الصحيح و الفاسد حتّى لا يلزم التفكيك في معنى الضمان بين الجملتين.

و لعلّ الأولى أن يقال: إنّ الضمان عبارة عن كون مال الغير في العهدة، فيجب دفع عينه مع وجوده، و بدله مع تلفه حتى يخرج عن عهدته. و هذا ما يساعده العرف و اللغة.

و ليس معناه لزوم التدارك بالعوض الواقعي حتّى يغاير الضمان في العقد الفاسد الضمان

______________________________

(1) المصباح المنير، ص 364

(2) صحاح اللغة، ج 6، ص 2155

ص: 110

______________________________

في العقد الصحيح، و يلزم التفكيك بينهما، بل لزوم التدارك مثلا أو قيمة- كلزوم دفع العين بنفسها إن كانت موجودة- من أحكام الضمان بالمعنى المزبور، و هو كون مال الغير في العهدة، فلا يلزم تفكيك في معنى الضمان بين الجملتين.

و توضيحه: أنّه إذا باع زيد كتاب المكاسب مثلا على عمرو بدينار بيعا صحيحا، فهنا أمور:

الأوّل: الخسارة الواردة على كلّ منهما بخروج الكتاب عن ملك زيد، و خروج الدينار عن ملك عمرو، و هذه الخسارة تجبر بكلّ من العوضين.

الثاني: ضمان زيد الكتاب قبل قبض المشتري له، و ضمان عمرو للدينار قبل قبض البائع له، فلو تلف الكتاب كانت خسارته على زيد. كما أنّه إذا تلف الدينار كانت خسارته على عمرو، و هذا ضمان المعاوضة.

الثالث: أنّه بعد التقابض إذا طرء فسخ بإقالة أو غيرها أو انفساخ، فإن كانت العين باقية دفعها القابض إلى المالك. و إن كانت تالفة دفع بدلها مثلا أو قيمة إليه. و هذا يدلّ على ضمان القابض، و إلّا امتنع الفسخ مع التلف، لانتفاء الموضوع.

و القول بامتناع ضمان القابض، لأنّه ماله، و لا يضمن الإنسان مال نفسه، مندفع بأنّه لا مانع من هذا الضمان إذا كان موضوعا لحقّ الغير، كإتلاف الراهن العين المرهونة، فإنّه ضامن لها مع أنّها ماله.

و كذا إتلاف المالك منذور التصدّق، أو العين الزكويّة بعد تعلّق حق الفقراء بها، بناء على عدم كون الزكاة جزءا من العين، إذ بناء عليه يكون الضمان تداركا لمال الغير لا لمال نفسه.

و كيف كان فإن كان تطبيق الضمان في العقد الصحيح بلحاظ الأمر الأوّل فليس ذلك من الضمان المصطلح، ضرورة أنّ كلّا من العوضين صار ملكا لمن انتقل إليه، فلا يكون ضمانه تداركا لمال الغير.

ص: 111

______________________________

و إن كان بلحاظ الأمر الثاني فكذلك، لأنّ تلف المبيع قبل القبض يوجب انفساخ البيع و رجوع المبيع إلى ملك البائع، فيتلف في ملكه لا في ملك غيره، فيكون الضمان المصطلح أجنبيّا عنه أيضا.

و إن كان بلحاظ الأمر الثالث كان إطلاقه على الصحيح و الفاسد بمعنى واحد، إذ معنى الضمان فيهما هو كون مال الغير في العهدة، فمع وجوده يجب ردّ عينه إلى مالكها، و مع تلفه يجب ردّ بدله من المثل أو القيمة إليه. نعم يكون الضمان بهذا المعنى في الصحيح تبعيّا، لترتّبه على انحلال العقد، و في الفاسد أصليا، لعدم توقفه على شي ء.

و عليه فلا يلزم تفكيك بين معنى الضمان في الفقرتين. بخلاف تفسير المصنّف تبعا للجواهر للضمان في الفقرة الأولى بالمسمّى، فإنّه يستلزم التفكيك بين الفقرتين في معنى الضمان، فلاحظ.

فالمتحصل: أنّه على ما ذكرناه من كون الضمان عبارة عن التعهد و الالتزام بمال الغير- و كون حكم هذا التعهد تارة وجوب دفع عينه مع وجودها، بناء على كون ردّ العين أيضا ضمانا. و أخرى دفع بدلها من المثل أو القيمة مع تلفها، لعموم على اليد و غيره- لا يلزم اختلاف في معنى الضمان و مفهومه. و اختلاف الأحكام ناش عن الأدلة كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المتعلقة بمعاني الضمان.

الجهة الثالثة: أنّ العموم في قاعدة «ما يضمن بصحيحه .. إلخ» هل هو بلحاظ أنواع العقود أم بلحاظ الأصناف أم بلحاظ الأشخاص؟ و قبل الخوض فيه لا بدّ من تقديم أمرين:

الأوّل: أنّ التقسيم ظاهر في فعلية أقسامه كما هو ظاهر.

الثاني: أنّ القضية الحقيقية و إن كان الموضوع فيها مفروض الوجود، إلّا أنّه لا بدّ أن يكون المفروض وجوده ممكن الفعلية، فإن كان ممتنع الفعلية لم يصحّ جعله

ص: 112

______________________________

موضوعا للجعل و التشريع، إذ يلزم حينئذ لغوية إنشاء الحكم له.

إذا عرفت هذين الأمرين تعرف أنّه لا يصح أن يكون عموم القاعدة بلحاظ الأفراد، إذ معنى العبارة حينئذ: كل فرد و شخص من أفراد العقد إذا كان صحيحه مضمونا ففاسده أيضا مضمون. و من المعلوم أنّ الفرد إمّا يقع فعلا صحيحا أو فاسدا، و يمتنع اتصافه بالصحة و الفاسد معا لتناقضهما، إذ المراد بهما التمامية و عدمها. فاتصافه بهما يكون فرضيا، و لا يمكن أن يكون فعليّا، فلا يصح جعله موضوعا لحكم.

فما في بعض كلمات الأعلام- كصاحب الجواهر و بعض أجلّة المعاصرين «1»- من «كون عموم القاعدة بلحاظ الأفراد» في غاية الغموض: و إن فرضنا ظهور مثل هذا الكلام في العموم الأفرادي، كقوله: «أكرم كلّ عالم» لكنّه لا يمكن المصير إلى ذلك فيما نحن فيه كما لا يخفى.

و الاعتذار عن إشكال امتناع اتّصاف فرد واحد بالصحة و الفساد بما في القواعد الفقهية من قوله: «ليست هذه الجملة بهذه الصورة و هذه الألفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتّى نقول يجب الأخذ بظاهرها، و ظاهرها كذا و كذا، بل لا بدّ من الأخذ بها بمقدار ما يدلّ عليه مدركها» اعتراف بورود الاشكال على ظاهر الجملة، و إنكار لاعتبارها، لعدم ورودها في آية و لا رواية معتبرة و لا معقد إجماع.

و ليس هذا جوابا عن الاشكال، بل هو اعتراف به مع إنكار اعتبار أصل القضية، و هذا مطلب آخر.

هذه جملة مما يتعلّق بالقاعدة، و بقي بعض الكلام حولها سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 27، ص 247؛ القواعد الفقهية، ج 2، ص 96

ص: 113

[مستند قاعدة «ما يضمن»]
[الأوّل: إقدام المتعاملين]

ثمّ إنّ المدرك (1) لهذه الكلية على ما ذكره في المسالك- في مسألة الرهن المشروط بكون المرهون مبيعا بعد انقضاء الأجل- هو إقدام الآخذ على الضمان.

______________________________

مستند قاعدة «ما يضمن» الأوّل: إقدام المتعاملين

(1) هذا شروع في تحقيق ما يمكن أن يستدل به على القاعدة، و هو أمور، قاعدة الاقدام، و حديث «على اليد» و قاعدة الاحترام، و قاعدة نفي الضرر. و سيأتي بيانها مرتّبا إن شاء اللّه تعالى.

الأوّل: قاعدة الإقدام على الضمان التي ذكرها في رهن المسالك و توضيحه: أنّه إذا رهن المديون مالا عند المرتهن و اشترط فيه كون العين المرهونة مبيعا بالدين إذا حلّ الأجل و لم يؤدّ المديون دينه، فهل يصحّ ذلك أم لا؟

ذهب الشهيد الثاني قدّس سرّه إلى أنّ الرهن و البيع فاسدان. أمّا الرّهن فلأنّه لا يتوقّت إلّا بوفاء الدين، لا بالأجل كشهر أو سنة مثلا. و أمّا البيع فلأنّه معلّق على عدم وفاء الدين، و التعليق مبطل، ثم قال: «فلو قبضه المرتهن على هذا الوجه ضمنه بعد الأجل، لا قبله، لأنّه في مدّة الأجل رهن فاسد، و بعده مبيع فاسد. و فاسد كل عقد يتبع صحيحه في الضمان و عدمه، فحيث كان صحيح الرهن غير مضمون كان فاسده كذلك. و حيث كان صحيح البيع مضمونا على المشتري، ففاسده كذلك. و السّرّ في ذلك- يعني في الضمان- أنّهما تراضيا على لوازم العقد، فحيث كان مضمونا فقد دخل القابض على الضمان. و دفع المالك عليه. مضافا إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1» [1].

______________________________

[1] لا يخفى دلالة هذا الكلام على استناد قاعدة «ما يضمن» إلى الاقدام و اليد،

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 4، ص 55 و 56

ص: 114

ثم أضاف إلى ذلك (1) قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي».

و الظاهر أنّه (2) تبع في استدلاله بالاقدام الشيخ في المبسوط، حيث علّل الضمان في موارد كثيرة من البيع و الإجارة الفاسدين «بدخوله على أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمّى، فإذا لم يسلم له المسمّى رجع إلى المثل أو القيمة» «1».

______________________________

و غرض المصنّف قدّس سرّه من الاستشهاد بكلام الشهيد الثاني أنّه قدّس سرّه استدلّ على ضمان الرهن بعد الأجل بقاعدة «ما يضمن» ثم استدل عليها بقاعدة الإقدام على الضمان. و عليه فمدرك قاعدة «ما يضمن» هو الإقدام.

(1) يعني: أنّ الشهيد الثاني لم يقتصر- في مستند القاعدة- على الاقدام فحسب، بل جعل الحديث النبوي دليلا عليها أيضا.

(2) يعني: أنّ استدلال الشهيد الثاني بقاعدة الإقدام مسبوق باستدلال شيخ الطائفة بها- في موارد عديدة- على الضمان.

______________________________

كما نقله المصنف عنه. لكنّه في بحث المقبوض بالعقد الفاسد جعل القاعدة دليلا مستقلا على الضمان كاليد و الاقدام، و لا بدّ أن يكون مدرك القاعدة أمرا آخر بنظره، قال في شرح قول المحقق: «و لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه و كان مضمونا عليه» ما لفظه: «لا إشكال في ضمانه إذا كان جاهلا بالفساد، لأنّه أقدم على أن يكون مضمونا عليه، فيحكم عليه به، و إن تلف بغير تفريط. و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على اليد ما أخذت حتى تؤدّي. و من القواعد المقرّرة في هذا الباب: أنّ كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، و أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» «2».

و هذا يقتضي أن يكون للقاعدة مدرك آخر غير الاقدام و اليد، حتى يصح جعلها دليلا ثالثا على الضمان، إذ لو كان مستندها الاقدام و اليد المذكورين في العبارة كانت العبرة بهما، لا بقاعدة ما يضمن، فتأمّل في كلامه.

______________________________

(1) تقدمت جملة من كلمات الشيخ في ص 58، فراجع.

(2) مسالك الافهام، ج 3، ص 154

ص: 115

و هذا الوجه لا يخلو عن تأمّل (1)، لأنّهما إنّما أقدما و تراضيا و تواطئا بالعقد الفاسد على ضمان خاص (2)، لا الضمان بالمثل أو القيمة، و المفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاصّ (3). و مطلق (4) الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصية حتى يتقوّم بخصوصية أخرى. فالضمان بالمثل أو القيمة إن ثبت فحكم شرعي تابع لدليله، و ليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان.

______________________________

(1) ناقش المصنّف قدّس سرّه في الاستدلال بقاعدة الإقدام على قاعدة «ما يضمن» بوجوه ثلاثة، أحدها: منع صغروية العقد الفاسد لقاعدة الإقدام. ثانيها: منع الملازمة بين الاقدام و الضمان. ثالثها: منع قاعدة الإقدام كبرويّا، بمعنى عدم كونها من موجبات الضمان.

توضيح الوجه الأوّل: أنّ الضمان في العقد المعاوضي- الممضى شرعا- يكون بحسب العوض المسمّى. و في العقد الفاسد بحسب البدل الواقعي. و على هذا نقول:

بعدم صلاحية قاعدة الإقدام للاستدلال بها، و ذلك لأنّ الضمان الخاصّ و هو ضمان المسمّى- الذي أقدما عليه و تراضيا به- لم يسلم، لفساد سببه أعني به العقد. و الضمان الآخر- و هو ضمان البدل مثلا أو قيمة- ممّا لم يقدما عليه، فلو ثبت ضمان مع التلف لم يكن ذلك بقاعدة الإقدام، بل بدليل آخر.

فتوجيه الضمان في العقد الفاسد بقاعدة الإقدام في غير محلّه، إذ المقدم عليه- و هو الضمان المعاوضي- غير واقع، و الواقع- أعني به الضمان بالمثل أو القيمة- غير المقدم عليه، كما هو ظاهر.

(2) أي: الضمان الجعلي، كما إذا باع الكتاب بدينار، و كان قيمته السوقية أزيد أو أقلّ من الدينار.

(3) و من المعلوم عدم العبرة بالإقدام على الضمان الجعلي، لعدم إمضاء الشارع له، فهذا الاقدام يكون بحكم العدم.

(4) إشارة إلى توهّم و دفعه. أمّا التوهّم فهو: أنّ الاقدام على الضمان الخاص

ص: 116

هذا كلّه مع أنّ (1) مورد هذا التعليل أعمّ من وجه من المطلب، إذ قد يكون الاقدام موجودا و لا ضمان كما قبل القبض [1]، و قد لا يكون إقدام في العقد الفاسد مع تحقّق الضمان، كما إذا شرط في عقد البيع ضمان المبيع على البائع

______________________________

و إن كان منتفيا من جهة فساد العقد. إلّا أنّ انتفاء الضمان الجعلي لا يوجب انتفاء إقدامهما و تراضيهما على مطلق الضمان، ضرورة عدم تواطئهما على المجّانيّة، و من المعلوم أنّ مطلق الضمان ينصرف إلى البدل الواقعي. و عليه فلا بأس بجعل قاعدة الإقدام على الضمان و الدخول عليه مدركا لقاعدة «ما يضمن».

و أمّا الدفع فهو: أنّ ما أقدم عليه المتعاقدان ضمان خاصّ، و هو المعاوضيّ، و المفروض انتفاؤه بفساد العقد، و ينتفي مطلق الضمان أيضا، و الضمان بالبدل الواقعي يتوقّف على الاقدام و الرّضا به، و هو غير حاصل حسب الفرض.

و عليه فثبوت الضمان بالبدل الواقعيّ في العقد الفاسد منوط بدليل يدلّ عليه، و لا ربط له بإقدام المتعاقدين عليه.

(1) هذا هو الوجه الثاني من المناقشة في استدلال الشيخ و الشهيد الثاني قدّس سرّهما بقاعدة الاقدام، و بيانه: أنّ النسبة بين المدّعى- و هو قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده- و بين الإقدام الذي استدلّا به عليه عموم من وجه، مع أنّه يعتبر كون الدليل مساويا للمدّعى أو أعمّ منه مطلقا. و هذا الضابط مفقود في المقام، ضرورة اجتماع الضمان و الاقدام تارة و افتراقهما اخرى. فقد يكون الاقدام متحققا و لا ضمان كما في تلف المبيع قبل القبض، فإنّه يتلف من مال بائعه، مع أنّ المشتري أقدم على ضمانه بالثمن المسمّى في العقد الصحيح، و ليس بضامن له. و قد لا يكون إقدام على الضمان- في العقد الفاسد- و مع ذلك يتحقق الضمان، كما في الأمثلة المذكورة في المتن:

______________________________

[1] لكن موضوع كلامهم يكون بعد القبض، فمقصودهم من كون الاقدام موجبا للضمان أنّه موجب له في المقبوض، فلا يرد النقض المذكور.

ص: 117

إذا تلف في يد المشتري. و كما إذا قال: «بعتك بلا ثمن» أو: «آجرتك بلا اجرة».

نعم (1) قوّى الشهيدان في الأخير عدم الضمان، و استشكل العلّامة في مثال البيع في باب السّلم (2).

______________________________

أحدها: البيع بلا ثمن، فإنّ المشتري لم يقدم على ضمان المبيع، لفرض توافقهما على انتقال المبيع إليه مجرّدا عن الثمن. مع أنّ جمعا حكموا بضمان المشتري، و كون المبيع على عهدته، فلو تلف وجب عليه دفع بدله إلى البائع.

ثانيها: الإجارة بلا اجرة، كما إذا آجر المالك داره لزيد شهرا بلا أجرة، فإنّ المستأجر ضامن لاجرة المثل، مع عدم إقدامه على الضمان.

ثالثها: شرط ضمان المبيع على البائع إذا تلف عند المشتري: بأن يقول البائع:

«بعتك هذا الكتاب بدينار، بشرط أن يكون تلفه عندك عليّ» فقبل المشتري.

فلو تلف عنده لم يكن الضمان على البائع، بل على المشتري، مع أنّه لم يقدم عليه.

هذا كلّه في موارد افتراق الضمان و الاقدام. و أمّا مورد الاجتماع فكثير، كما إذا باع الكتاب بدينار بعقد صحيح، و تلف بيد المشتري، فإنّ الاقدام و الضمان متحققان.

فالنتيجة: أنّ النسبة بين المدّعى و دليله- و هو الاقدام- عموم من وجه، و في مثله لا يصح الاستدلال.

(1) هذا استدراك على جعل المثالين الأخيرين- و هما البيع بلا ثمن و الإجارة بلا أجرة- من موارد وجود الضمان بدون الاقدام عليه. و محصّله: أنّ ضمان المشتري و المستأجر في هذين المثالين ليس متّفقا عليه، لذهاب الشهيدين قدّس سرّهما إلى عدم الضمان، فالمسألة خلافية.

و عليه فمثال وجود الضمان بدون الاقدام هو ضمان المشتري للمبيع التالف بيده، مع شرط ضمانه على البائع.

(2) تقدم في (ص 93 و 94) توضيح المسألة، و نقل كلام الشهيدين في الإجارة بلا أجرة، و كلام العلّامة في البيع بلا ثمن، فراجع.

ص: 118

و بالجملة (1): فدليل الاقدام- مع أنّه (2) مطلب يحتاج إلى دليل لم نحصّله- منقوض (3) طردا و عكسا [1].

______________________________

(1) ظاهر العبارة أنّها تلخيص ما تقدّم من الاشكال على الاستدلال بقاعدة الإقدام، لكنّها تتضمّن إشكالا ثالثا على القاعدة لم يسبق له ذكر، و كان الأنسب تقديمه على الإشكالين السابقين، و محصّله: أنّا نطالب الشيخ و الشهيد الثاني قدّس سرّهما بالدليل على كون الاقدام من أسباب الضمان، نظير سببية إتلاف مال الغير و استيفاء منفعته و التسبيب و نحوها له. فلو أغمضنا عن الإشكالين السابقين لم يتّجه أيضا جعل الاقدام مدركا لقاعدة «ما يضمن» لعدم إحراز اقتضائه للضمان، هذا.

(2) هذا هو الاشكال الثالث الذي أشرنا إليه من عدم الدليل على كون الاقدام من موجبات الضمان و أسبابه.

(3) النقض بالطرد و العكس هو ما تقدّم في الاشكال الثاني، و المراد بالطّرد منع الأغيار، و هو يقتضي انتفاء الضمان بانتفاء الاقدام، مع أنّ الضمان موجود بدون الاقدام كما في البيع بلا ثمن و نحوه. و المراد بالعكس جمع الأفراد، بمعنى ثبوت الضمان في كلّ مورد تحقّق فيه الاقدام، مع أنّه قد يتحقق الاقدام، و لا ضمان، كما في البيع الصحيح إذا تلف المبيع بيد البائع.

و الحاصل: أنّ قوله: «طردا و عكسا» إشارة إلى أنّ النسبة بين الدعوى و الدليل عموم من وجه. و لعلّ التعبير بالعكس و الطرد في مثله لا يخلو من مسامحة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ شيخ الطائفة كما استدلّ على الضمان بقاعدة الإقدام المعبّر عنها «بالدخول على أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمّى» كما نقلنا مواضع من كلماته، فكذلك استدل- كالشهيد الثاني- بقاعدة اليد، فيمكن أن يكون نظره إلى كلّ منهما مستقلا. و من مواضع استناده إلى الضمان اليدي قوله في تعاقب الأيدي في البيع الفاسد:

«فإذا ثبت أن البيع فاسد، نظر، فإن كان المبيع قائما أخذه مالكه و هو البائع الأوّل، سواء

ص: 119

______________________________

وجده في يد المشتري الأوّل أو المشتري الثاني، لأنّه ملكه لا حقّ لغيره فيه. و إن كان تالفا كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما، لأنّ الأوّل لم يبرأ بتسليمه إلى الثاني، لأنّه سلّمه بغير إذن صاحبه، و المشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع.

فإذا ثبت ذلك فإنّه يجب عليه أكثر ما كانت قيمته. و قيل: إنّه يعتبر قيمته وقت التلف. ثمّ ينظر في قيمة المبيع، فإن كانت قيمته في يدهما واحدة فإنّه يطالب بقيمته إن شاء المشتري الأوّل، و إن شاء المشتري الثاني، لأنّ كل واحد منهما ضامن للقيمة .. إلخ» «1».

و قريب منه كلامه في باب الغصب في بيع العبد المغصوب إذا أعتقه المشتري، فيضمن أعلى القيم من حين القبض إلى حين العتق، قال: «لأنّه دخل على أنّه عليه بعوض، و قد تلف في يده .. إلخ» «2».

و عليه فالاستدلال على الضمان بكلّ من قاعدتي اليد و الاقدام موجود في كلام شيخ الطائفة قدّس سرّه. فلا وجه للإيراد على المصنّف قدّس سرّه بما حاصله: «أنّه لا موضوع للإشكال على استدلال الشيخ بقاعدة الإقدام، لأنّ المتكرر في كلماته في باب البيع الفاسد و الغصب و غيرهما هو استناد الضمان إلى اليد، كقوله: و إنّما وجب الضمان عليه- أي على المشتري- لأنّه أخذ الشي ء بعوض، فإذا لم يسلم العوض المسمّى وجب عوض المثل لما تلف في يده .. إلخ» «3» «4».

و ذلك لما عرفت من استناد الشيخ إلى كلتا القاعدتين، كما صنعه الشهيد الثاني أيضا. و لعلّه اقتبسه منه، و حينئذ ينبغي النظر في كل من اليد و الاقدام.

______________________________

(1) المبسوط، ج 2، ص 150

(2) المبسوط، ج 3، ص 98

(3) المبسوط، ج 2، ص 149

(4) كتاب البيع، ج 1، ص 270

ص: 120

______________________________

أمّا اليد فتقتضي الضمان، لأنّ الاستيلاء على مال الغير- ما لم يطرأ عليه ما يرفع الضمان من قصد المجّانية- مضمّن، و الضمان الاقدامي على مبادلة المالين كالعدم في نظر الشارع، فيؤثر الاستيلاء المقتضي للضمان أثره.

و أمّا الاقدام فقد أنكر المصنف إقدامهما على ضمان المثل أو القيمة، و إنّما أقدما على ضمان خاصّ و هو عوض جعلي لم يسلم لهما، فلا وجه لاستناد البدل الواقعي إلى الاقدام.

و أورد المحقق الخراساني عليه بوجهين، قال قدّس سرّه: «يمكن أن يقال: بأنّهما أقدما على أصل الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاص، و الشارع إنّما لم يمض الضمان الخاصّ، لا أصله. مع أنّ دليل فساد العقد ليس بدليل على عدم إمضائه، فافهم» «1».

أمّا الإشكال الأوّل فيمكن أن يقال: إنّ ما أقدم عليه المتعاقدان حصّة من الضمان أي المسمّى، و دليل فساد العقد يدلّ بالملازمة على انتفاء هذه الحصّة، و معه لا يعقل بقاء طبيعة الضمان الموجودة بوجود هذه الحصّة.

و بعبارة أخرى: المضمون المقدم عليه مقيّد من أوّل الأمر بالمسمّى، و لا تركيب و لا اشتراط في البين حتى يتصوّر بقاء المشروط بعد انتفاء الشرط، أو بقاء الجزء بعد انتفاء المركّب.

هذا مضافا إلى غموض «تحقق الاقدام على أصل الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاصّ» فإنّ الإقدام على الحصّة و إن كان متضمنا للإقدام على طبيعي الضمان، إلّا أنّ المفروض إلغاء هذه الحصّة شرعا. و جعل حصة أخرى و هي البدل الواقعي- من المثل أو القيمة- مقامها، و من المعلوم انتفاء الطبيعة بانعدام حصّتها، هذا.

و أمّا الإشكال الثاني، فلا يخلو من إجمال في نفسه، لأنّ مرجع ضمير «عدم إمضائه» إن كان هو الضمان الخاصّ بمعنى عدم دلالة دليل فساد العقد على عدم

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ص 31

ص: 121

______________________________

الضمان الخاصّ، ففيه: أنّ دليل الفساد يستلزم انتفاء الضمان بالمسمّى، لانحصار الدالّ عليه في دليل إمضاء العقد، و مع فرض الفساد كيف لا ينتفي الضمان الخاص؟

و إن كان مرجع الضمير مطلق الضمان، بأن يراد عدم اقتضاء دليل فساد العقد انتفاء مطلق الضمان- كما لعلّه المراد- ففيه: أنّه و إن كان محتملا ثبوتا، إلّا أنّ الضمان حكم شرعي يتوقف على دليل في مقام الإثبات، و المفروض عدم الدليل عليه بعد حكم الشارع بإلغاء ضمان المسمّى. و كيف يكون إقدام المتعاملين على أصل الضمان مع أنّه أمر قصدي؟ و المقصود هو الضمان بالعوض الجعلي «1».

و بهذا يسلم أوّل إشكالي الماتن- على شيخ الطائفة- عن مناقشة المحقق الخراساني قدّس سرّهما.

إلّا أنّه لا يبعد- كما أفاده المصنّف أيضا- أن يكون مراد شيخ الطائفة احترام المال، و عدم ذهابه هدرا، إلّا إذا سلب المالك احترامه، بأن بذله للغير مجّانا. فإذا لم يقدم المتعاقدان على المجّانية كان الضمان في محلّه، لكونه حينئذ على طبق السيرة العقلائية الممضاة شرعا. فمراد شيخ الطائفة من الاقدام على الضمان بيان عدم الاقدام على المجّانية، و سلب احترام ماله.

و على هذا لا يرد الإشكال الأوّل المذكور في المتن على شيخ الطائفة قدّس سرّه.

و أمّا الإشكال الثاني- و هو قوله: إذ قد يكون الاقدام موجودا و لا ضمان كما قبل القبض .. إلخ- فيمكن أن يقال: إنّ الكلام في المقبوض بالعقد الفاسد، فالإقدام مع القبض دليل القاعدة، لا مجرّد الاقدام. فلا يرد عليه هذا النقض.

و أمّا قضية شرط الضمان على البائع فلا ترد على قاعدة الإقدام، لأنّ الضمان المعاوضي موضوع عند الشيخ للحكم بضمان المثل أو القيمة مع عدم صحة المعاوضة و عدم سلامة المسمّى. و شرط الضمان على البائع لا ينافي إقدام المشتري على ضمان

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني، ج 1، ص 77

ص: 122

[الدليل الثاني: قاعدة الاحترام]

________________________________________

اللهم إلّا أن يستدلّ على الضمان فيها (1) بما دلّ على احترام مال المسلم،

______________________________

الدليل الثاني: قاعدة الاحترام

(1) أي: في المنافع و الأعمال المضمونة في الإجارة الفاسدة، و هذا إشارة إلى دليل ثالث على قاعدة «ما يضمن». و ظاهر العبارة و ان اقتضى الاستدلال على ضمان المنافع خاصة، إلّا أنّ الدليل- و هو احترام مال المسلم- عامّ، لصدق الموضوع- أي المال- على الأعيان و المنافع معا، و إن كان صدقه على الأعيان أوضح.

و على هذا فقاعدة الاحترام دليل على قاعدة «ما يضمن» مطلقا سواء أ كان العقد على تمليك الأعيان أم المنافع.

و كيف كان، فقاعدة الاحترام مصطادة من طوائف ثلاث من الأخبار:

الأولى: ما دلّ على عدم حلّيّة مال المسلم لغيره إلّا عن طيب نفسه، كمعتبرة سماعة و زيد الشّحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرء مسلم

______________________________

المسمّى. نعم لم يقدم المشتري على ضمان المثل أو القيمة، و هو ليس موضوعا للضمان.

و أمّا البيع بلا ثمن و الإجارة بلا اجرة فلا يندرجان في القاعدة موضوعا، لعدم كونهما عقدا، إذ البيع و الإجارة متقوّمان بالعوضين، فانتفاء أحدهما يوجب انتفاء ماهيّتهما، و لعلّهما يندرجان في الهبة و العارية. غاية الأمر أنّهما قد أنشئتا بلفظي البيع و الإجارة، فهما من صغريات «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بناء على صحة إنشائهما بهذين اللفظين. لكن الحقّ عدم صحّته.

و لا بدّ أن يكون النقض بمورد مسلّم، و الشهيدان اختارا عدم الضمان في الإجارة بلا اجرة، و استشكل العلّامة في الضمان في البيع بلا ثمن.

و بالجملة: فلا يرد شي ء من النقوض المزبورة على شيخ الطائفة قدّس سرّه.

ص: 123

..........

______________________________

و لا ماله إلّا بطيبة نفس منه [نفسه]» «1».

و كرواية تحف العقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه قال في خطبة حجّة الوداع:

أيّها الناس إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، و لا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه» «2».

و نحوهما ممّا ذكرناه في أدلّة لزوم المعاطاة، فراجع «3».

و تقريب دلالتها على الضمان: أنّ الحرمة المسندة إلى مال المسلم أو المؤمن يراد بها حرمة التصرف، و من المعلوم أنّ التصرف في المال أعمّ من الخارجي كما في الأعيان المتموّلة التي ينتفع بها بوجه من وجوه الانتفاع كالأكل و الشرب و اللبس و نحوها. و من الاعتباري كالبيع و الصلح و الهبة و الوقف و نحوها. و لا ريب في أنّ الحرمة تكليفية في التصرّف الخارجي، و وضعية في الاعتباري. و حرمة المال تقتضي ضمان المتصرّف فيه، هذا.

الثانية: ما دلّ على أنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه، كمعتبرة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه» «4».

و تقريب دلالتها على الضمان: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزّل حرمة مال المؤمن منزلة حرمة دمه، و عموم التنزيل يقتضي ثبوت كل حكم ثبت للدم- من التكليف و الوضع- للمنزّل و هو المال، و من المعلوم أنّ الدم لا يذهب هدرا، و هذا هو المناسب لمقام المسلم و عظم شأنه، لا مجرّد حرمة إراقة دمه تكليفا. فمقتضى عموم التنزيل

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 3، ص 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلي الحديث 1؛ و الرواية بتمامها مذكورة في ج 19، ص 13، الباب 1 من أبواب قصاص النفس، الحديث 3

(2) المصدر، ص 425، الحديث: 3

(3) هدى الطالب، ج 1، ص 516

(4) وسائل الشيعة، ج 8، ص 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3

ص: 124

..........

______________________________

- بعد عدم قرينة على خصوص الحكم التكليفي- احترام ماله بكلّ احترام لدمه، و من الواضح أنّ احترام دمه بعدم إراقته و بدفع الدية- لو أهرق- حتى لا يذهب هدرا، فكذا المال، فينبغي ضمانه لو تلف بيد المتصرّف، هذا.

الثالثة: ما ورد فيها من التعليل بعدم صلاحية ذهاب حق أحد، كمعتبرة الحلبي و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» «1».

و تقريب دلالة التعليل هو: أنّ المراد بالحقّ أعمّ من الحقّ المالي و غيره، لإطلاقه تارة على المال كالخمس و الزكاة و نحوهما، كقوله تعالى الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ، و كقوله عليه السّلام: «هلك الناس في بطونهم و فروجهم، لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا». و أخرى على الحق المصطلح المقابل للحكم و الملك، كحقّ الوصيّة، كما ورد في موثقة سماعة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن شهادة أهل الذمة؟ فقال لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» «2» إذ المراد بالحق- في التعليل- هو حقّ الوصية الثابت للمسلم.

و على هذا فيدلّ التعليل على أنّه إذا ثبت حقّ شخص على غيره لم يصحّ ذهابه و فواته بغير عوض، و هذا معنى الضمان.

و قد تحصّل من هذه الطوائف الثلاث حرمة مال المسلم و ضمانه. و لمّا كان صدق «المال» على المنافع و الأعمال المحترمة حقيقيا كصدقه على الأعيان، دلّت قاعدة الاحترام على قاعدة «ما يضمن» مطلقا سواء أ كان متعلق العقد عينا أم منفعة، هذا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 390، الباب 20 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث: 3

(2) المصدر، ص 391، الحديث 5

ص: 125

و أنّه (1) لا يحلّ إلّا عن طيب نفسه، و أنّ حرمة ماله كحرمة دمه، و أنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد.

[الدليل الثالث: قاعدة نفي الضرر]

مضافا إلى أدلّة نفي الضّرر (2) [1].

______________________________

(1) هذا و قوله: «و أنّ حرمة ماله» و «و أنّه لا يصلح» معطوفة على قوله:

«احترام» عطف تفسير، فالمراد بالكلّ قاعدة واحدة و هي قاعدة الاحترام المستفادة من النصوص المتفرقة. و يشهد لهذا قوله بعد أسطر، «لقاعدتي الاحترام و نفي الضرر» فليس مقصود المصنف جعل كلّ طائفة من الطوائف الثلاث دليلا مستقلّا على ضمان المنافع و الأعمال.

الدليل الثالث: قاعدة نفي الضرر

(2) هذا إشارة إلى دليل آخر على القاعدة، و هو الأخبار المتضمّنة لنفي الضرر و الضرار في الإسلام، حيث إنّ تلف مال شخص- بلا عوض- عند غيره بدون إذن مالكه يوجب نقص ماله و تضرّره، و كذا الحال في استيفاء منفعة الغير بدون أجرة.

و لا يخفى أنّ الاستدلال بقاعدة نفي الضرر على المقام مبنيّ على كون مفاد عموم نفي الضرر نفيه مطلقا و إن كان ناشئا عن عدم جعل الحكم كالمقام، حيث إنّ المالك يتضرر من عدم حكم الشارع بضمان المنفعة، و مقتضى حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة نفيها، سواء أ كانت وجوديّة كوجوب الوضوء الضرري، أم عدميّة كعدم ضمان المستوفي لمنفعة مملوكة للغير، فيحكم بالضمان لئلّا يتضرر المالك أو العامل.

______________________________

[1] قد يستشكل في دلالة قاعدة الاحترام على الضمان بالتلف: بأنّ تنزيل حرمة مال المؤمن أو المسلم منزلة حرمة دمه يقتضي وجوب حفظه و عدم إتلافه حتى

ص: 126

______________________________

لا يذهب هدرا. و أمّا مجرّد تلفه عنده بآفة سماويّة فلا ظهور لها في ضمانه و وجوب تداركه بالبدل.

و كذا الحال في روايات الشهادة على الوصية، فإنّ عدم صلاحية ذهاب حق أحد ظاهر في حرمة تضييعه، و إشغال ذمته بالإتلاف. و الكلام يكون في التلف.

لكن يمكن أن يقال: بأنّه- بعد عدم اختصاص الحرمة بالتكليف و استفادة الحكم الوضعي منها كما هو الظاهر- لا وجه للاختصاص بالإتلاف، إذ المقبوض بالعقد الفاسد ليس أمانة مالكية بيد المشتري حسب الفرض، و مقتضى إطلاق دليل الحرمة على الضمان هو الحكم به مطلقا سواء أ كان بالتلف أم بالإتلاف، و لا قرينة على إرادة الإتلاف خاصّة من حرمة مال الغير.

و عليه فالقاعدة سليمة من هذه المناقشة. و للكلام تتمة تأتي في ضمان المنافع إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا قاعدة نفي الضرر فقد تشكل أوّلا: بأنّها أخصّ من المدّعى، فإن التالف في العقد الفاسد مضمون بالبدل الواقعي، و ربّما كان أكثر ماليّة من البدل المسمّى، فلو قيل بالضمان الواقعي كان مخالفا لامتنانيّة القاعدة، لتضرّر المشتري الذي تلف المبيع عنده مع عدم تقصيره في الحفظ. نعم لا بأس بإثبات الضمان لو كان البدل الواقعي مساويا للمسمّى أو أقلّ منه.

و ثانيا: باختصاص القاعدة بالإتلاف الذي هو موردها، و ذلك أجنبي عن التلف الذي هو محطّ البحث، لإصرار سمرة بالإضرار بالأنصاري و تعمّده فيه.

إلّا أن يقال: إن العبرة: بعموم الوارد- و هو لا ضرر- لا بخصوصية المورد و هو الإضرار، بل الغرض نفي الضرر في أحكام الإسلام عن المؤمنين سواء كان الضرر من قبيل التلف أم الإتلاف، فليتأمّل.

ص: 127

[الدليل الرابع: حديث «على اليد ..»]

و أمّا (1) خبر اليد فدلالته و إن كانت ظاهرة (2)، و سنده منجبرا، إلّا أنّ مورده مختصّ بالأعيان (3) [1]،

______________________________

الدليل الرابع: حديث «على اليد ..»

(1) هذا إشارة إلى الدليل الرابع على قاعدة «ما يضمن» و قد ورد ذلك في كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه و محصّله: أنّ النبوي «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» لا بأس به سندا، لانجبار ضعفه بعمل المشهور، إلا أنّه أخصّ من القاعدة، لاختصاص المأخوذ باليد بالأعيان، لأنّها هي القابلة للأخذ. فتختصّ القاعدة بالعقود المعاوضية الواقعة على الأعيان كالبيع و الصلح المعاوضيّ و الهبة المشروطة بالعوض- بناء على تعميم الاقتضاء للشرط- و لا تشمل العقود الواقعة على المنافع كالإجارة الفاسدة، لأنّها تمليك المنفعة، و هي لا تؤخذ باليد، و كذا الجعالة الفاسدة، مع أنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تشمل تمليك المنافع أيضا.

و عليه يكون النبويّ أخصّ من المدّعى، فلا وجه لاستدلال الشهيد الثاني قدّس سرّه به على المقام.

(2) يعني: أنّ دلالة الحديث على الضمان ظاهرة، لما تقدم من أنّ إسناد الظرف إلى مال ظاهر في الضمان و التعهّد، لا الحكم التكليفي.

(3) لم يرد لهذا الحديث مورد، لعدم قرينة فيه على اختصاصه بالأعيان من سبق سؤال و نحوه. و الظاهر أنّ غرض المصنف قدّس سرّه اختصاص الموصول بالأعيان بقرينة الأخذ باليد. و المنفعة حيثيّة قائمة بالعين كمسكونيّة الدار، و لا يمكن وضع اليد عليها حتى تصير مضمونة على الآخذ.

______________________________

[1] سيأتي إن شاء اللّه تعالى- في ثالث الأمور المتفرعة على عدم تملك المقبوض بالعقد الفاسد- أنّه لا يمنع ذلك من الاستدلال بالنبوي على ضمان المنافع في صورة قبض العين ذات المنفعة.

و وجه الاختصاص أمران:

أحدهما: ما سيأتي من المصنّف من عدم صدق «الأخذ باليد» بالإضافة إلى المنافع.

ص: 128

فلا يشمل المنافع و الأعمال (1) المضمونة في الإجارة الفاسدة. فكلّ (2) عمل وقع من عامل لأحد- بحيث يقع بأمره و تحصيلا لغرضه (3)- فلا بدّ من أداء عوضه لقاعدتي الاحترام و نفي الضرر.

______________________________

(1) لا يخفى صدق المنافع و الأعمال على مثل خدمة العبد و الأمة، فإنّها منفعة و عمل، إلّا أنّ المراد هنا بالمنافع ما يقابل الأعمال، فالمنافع نظير سكنى الدار و ركوب الدابة، و الأعمال المضمونة نظير الخياطة و النجارة و الطبابة التي هي أفعال الآدمي.

و عليه فإذا استأجر دارا بإجارة فاسدة، أو استأجر خيّاطا لخياطة ثوبه كذلك كان على المستأجر أجرة المثل، مع أنّ المنفعة غير قابلة للقبض باليد و الاستيلاء عليها.

(2) هذه نتيجة دلالة قاعدتي الاحترام و نفي الضرر على ضمان منافع الأعيان و أعمال الأشخاص. لكن الضمان مشروط بأن يكون العمل- كالخياطة و الطبابة و الكنس و نحوها- صادرا من العامل مستندا إلى أمر المستأجر و تحصيلا لغرضه، بأن يقول مالك القماش للخيّاط: «خطه ثوبا أو قباء» فخاطه و لم يقصد التبرّع، فإنّ له أجرة مثل عمله.

(3) فلو كان العمل مقابلا بالأجرة عرفا، لكنّ العامل تبرّع بالعمل- و لم يأمره شخص آخر- لم يكن عمله مضمونا بالأجرة. و كذا لا ضمان لو استند العمل إلى أمر الآمر، لكنّه لم يحصّل غرضه من الأمر، كما لو أمره بصنع سرير فجعله منضدة مثلا.

هذا كلّه في الوجوه المستدلّ بها على قاعدة «ما يضمن». و قد تحصّل وفاء ثلاثة منها بإثبات الضمان، و هي اليد- بالنسبة إلى العقود على الأعيان- و الاحترام و نفي الضرر.

______________________________

ثانيهما: ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من عدم صدق التأدية في المنافع مطلقا، فإنّ ظاهر قوله: «حتى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاة بأداء نفس المأخوذ. و المنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حدّ ذاتها، لا كالعين التي لها أداء في حدّ ذاتها و إن عرضها الامتناع ابتداء أو بقاء «1».

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 78

ص: 129

ثم (1) إنّه لا يبعد أن يكون مراد الشيخ و من تبعه (2)- من الاستدلال على الضمان بالاقدام و الدخول عليه- بيان (3) أنّ العين (4)

______________________________

و سيأتي استدارك بعض الأعمال المضمونة عند عدم استيفاء الآمر منفعة العامل كالسبق في المسابقة الفاسدة.

(1) غرضه توجيه استدلال شيخ الطائفة و الشهيد الثاني قدّس سرّهما بقاعدة الإقدام بنحو يسلم من مناقشة المصنّف قدّس سرّه. و توضيحه: أنّ المقتضي للضمان و الموجب له عند تلف مال الغير- من العين و المنفعة- هو قاعدة الاحترام، و قاعدة اليد- بالنسبة إلى الأعيان، لكنهما ليستا تمام السبب للضمان، ضرورة توقف وجود المقتضى على علّته التامّة من المقتضي و الشرط و عدم المانع، و المانع هو تسليط المالك غيره على العين مجّانا أو دفعها إليه أمانة، أو تبرّع العامل بعمله، فالتسليط بهذا النحو مانع عن تأثير الاحترام و اليد في الضمان.

و أمّا إذا دفع المالك ماله إلى غيره بقصد أخذ عوضه، و أقدم الآخذ على ضمانه بالعوض فقد تمّ سبب الضمان و هو اليد و الاحترام، بضميمة انتفاء المانع.

و عليه فغرض شيخ الطائفة من الاستناد إلى قاعدة الإقدام ليس إثبات سببيّتها التامّة للضمان، بل المقصود بيان عدم المانع عن تأثير مقتضي الضمان، و هو وضع اليد على مال الغير و قاعدة الاحترام. و لمّا لم تكن القاعدة دليلا مستقلّا لم يرد عليها ما تقدّم من المناقشة فيها صغرى و كبرى.

(2) كابن إدريس، حيث قال في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد: «لأنّ البائع دخل على أن يسلم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه، فإذا لم يسلم له المسمّى اقتضى الرجوع إلى عين ماله .. إلخ» «1». و كذا المحقق الثاني «2».

(3) خبر «يكون».

(4) كتسلّم المشتري للمبيع، فإنّه مبنيّ على دفع الثمن إلى البائع.

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 488

(2) جامع المقاصد، ج 6، ص 216

ص: 130

و المنفعة (1) اللذين تسلّمهما الشخص لم يتسلّمهما مجّانا و تبرّعا حتّى (2) لا يقضي (3) احترامهما بتداركهما بالعوض، كما في العمل المتبرّع به، و العين المدفوعة مجّانا (4) أو أمانة (5). فليس (6) دليل الاقدام دليلا مستقلّا، بل هو بيان لعدم المانع (7) عن مقتضي اليد في الأموال (8) و احترام الأعمال.

______________________________

(1) كتسلّم منفعة الدار و هي السكنى فيها، فإنّ المستأجر أقدم على تسلّمها في قبال الأجرة. هذا في إجارة الأعيان، و كذا الحال في إجارة الأعمال المحترمة.

(2) هذا مترتب على المنفيّ و هو التسلّم مجّانا و تبرّعا، إذ لو كان تسليمهما من قبل مالك العين و المنفعة تبرّعيّا لم يكن لهما احترام حتّى يلزم تداركهما بالعوض.

(3) أي: لا يحكم احترامهما بتداركهما بالعوض، و كلمة «العين» مجرور عطفا على «العمل».

(4) كما في الهبة، فإنّ تسليم العين مبنيّ على المجّانيّة، فلا يضمن المتسلّم- و هو المتّهب- العوض.

(5) كما في الوديعة و العارية.

(6) هذه نتيجة توجيه ما أفاده شيخ الطائفة قدّس سرّه من جعل الاقدام دليلا على الضمان.

(7) و هو الاقدام على المجّانيّة، حيث إنّه يمنع عن تأثير اليد- المستولية على الأعيان- في الضمان.

(8) المراد بالأموال هنا هو خصوص الأعيان المتموّلة، لتصريحه قدّس سرّه باختصاص القاعدة بالأعيان. مضافا إلى قوله: «و احترام الأعمال» لظهوره في مغايرة المعطوف للمعطوف عليه. و هذا لا ينافي إطلاق المال على المنافع و الأعمال في سائر الموارد.

ص: 131

نعم (1) ذكر في المسالك كلّا من الاقدام و اليد دليلا مستقلّا، فيبقى عليه (2) ما ذكر سابقا من النقض (3) و الاعتراض (4).

و يبقى الكلام (5) حينئذ في بعض الأعمال المضمونة التي لا يرجع نفعها إلى

______________________________

(1) هذا استدراك على قوله: «فليس دليل الاقدام دليلا مستقلا» و هو يتضمن أمرين:

أحدهما: أنّ توجيهنا لكلام شيخ الطائفة قدّس سرّه من جعل الاقدام بيانا لعدم المانع- لا دليلا مستقلا على الضمان- لا يجري في كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه، لظهور استدلاله على قاعدة «ما يضمن» بدليلين- و هما الاقدام و اليد- في كون كلّ منهما دليلا مستقلا على الضمان، و هذا آب عن الحمل على عدم المانع.

و عليه فالإشكال على قاعدة الإقدام وارد على الشهيد، و مندفع عن الشيخ.

ثانيهما: أنّ إسقاط قاعدة الإقدام عن كونها دليلا مستقلا على الضمان قد يوجب الإشكال في ضمان بعض الأعمال عند جمع، مع أنّه لا يتّجه إثبات ضمانه بقاعدة الاحترام، و سيأتي بيانه.

(2) يعني: فيبقى على الشهيد الثاني قدّس سرّه ما أورده المصنّف قدّس سرّه عليه.

(3) المراد به النقض من حيث الطرد و العكس، الناشئ من كون النسبة بين الاقدام و الضمان عموما من وجه.

(4) المراد بالاعتراض هو الإشكال الأوّل و الثالث، أي: منع صغرويّة الضمان في العقد الفاسد لكبرى الاقدام، و منع كبرويّة سببيّة الإقدام للضمان.

(5) يعني: و يبقى الكلام في دليل الضمان- حين عدم كون الاقدام دليلا مستقلّا على الضمان- في بعض الأعمال المضمونة. و توضيحه: أنّ إثبات ضمان الأعمال المحترمة بقاعدة الاحترام منوط بأمرين:

الأوّل: أن يعود نفع عمل الغير إلى الضامن، كتسليم القماش الى الخيّاط ليخيط ثوبا، فيضمن أجرته، لانتفاعه بعمله.

ص: 132

الضامن، و لم يقع بأمره، كالسبق في المسابقة، حيث حكم الشيخ (1)

______________________________

الثاني: أن يستند العمل- كالخياطة- إلى أمر من يضمنه، بأن يقول للخيّاط:

«خط هذا القماش ثوبا» أو للنجار: «اصنع هذا الخشب سريرا» فالآمر ضامن للأجرة المسماة، أو لأجرة المثل. فلو أوجد العامل عملا تبرّعا منه لا بأمر من شخص و لم يعد نفعه إليه لم يكن ضامنا.

و على هذا فإذا تسابق شخصان على الخيل و عيّنا السبق كمائة دينار للسابق منهما، و تبيّن بعد المسابقة فساد العقد، ففي المسألة قولان:

أحدهما: عدم استحقاق السابق أجرة مثل عمله، لعدم ما يوجب ضمان المسبوق، إذ لم يعد نفع العمل إلى المسبوق، و إنّما المنتفع هو السابق، لتدرّبه على فنون الحرب، و لم يقع العمل بأمر من المسبوق. و على هذا فلا مورد للنقض و الاشكال، إذ لا ضمان حتى يتفحّص عن دليله.

ثانيهما: استحقاق السابق اجرة المثل، لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و حيث إنّ عقد السبق و الرماية ممّا يضمن بصحيحه فكذا بفاسده. و بناء على هذا القول يشكل إثبات الضمان، لعدم جريان قاعدة احترام الأعمال، لانتفاء الأمر بالعمل، و لعدم عود النفع إلى غير السابق. و أمّا قاعدة الإقدام فالمفروض عدم كونها من موجبات الضمان كما عرفت في توجيه كلام الشيخ قدّس سرّه. فما الدليل حينئذ على وجوب بذل اجرة المثل إلى السابق في المسابقة الفاسدة؟

(1) حيث قال- بعد حكمه بعدم استحقاق المسمّى إذا فسد عقد المناضلة- ما لفظه: «و قال قوم: يستحق اجرة المثل كالبيع و الصلح و الإجارة. و قال آخرون:

لا يستحقّ شيئا، لأنّه إنّما يجب اجرة المثل في الموضع الذي يفوّت على العامل عمله، و عاد به نفعه إلى الناضل. كالقراض الفاسد يجب عليه مثل اجرة العامل، لأنّه فوّت عليه عمله فيما عاد نفعه إليه» «1». و المستفاد من سكوته و عدم الاعتراض على القول

______________________________

(1) المبسوط، ج 6، ص 302

ص: 133

و المحقق (1) و غيرهما (2) بعدم استحقاق السابق اجرة المثل (3). خلافا لآخرين (4).

______________________________

بعدم استحقاق اجرة المثل ارتضاؤه له.

(1) قال قدّس سرّه: «إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل اجرة المثل، و يسقط المسمّى لا إلى بدل. و لو كان السبق مستحقا وجب على الباذل مثله أو قيمته» «1».

و في كلامه تفصيل بين كون منشأ الفساد اختلال الشرط، و بين كونه عدم مملوكية العوض لمن يجب عليه بذله.

(2) كالشهيد الثاني و المحقق الأردبيلي قدّس سرّه «2».

(3) و أمّا عدم استحقاق «السبق» المسمّى فواضح، إذ المفروض فساد العقد.

(4) كالعلّامة «3» و نجله فخر المحققين و المحقق الكركي قدّس سرّهم. قال في جامع المقاصد: «إذا فسدت المعاملة بعد المسابقة من جهة العوض فللفساد طريقان، أحدهما:

أن يظهر كون العوض المعقود عليه مما لا يملك في شرع الإسلام، كما لو ظهر خمرا، ففي استحقاق السابق على الباذل شيئا قولان: أحدهما: لا يستحق شيئا، اختاره نجم الدين بن سعيد .. الى أن قال: و أصحّهما و اختاره المصنّف هنا- أي في القواعد- و في التذكرة وجوب اجرة المثل، لأنّ كل عقد استحق المسمّى في صحيحه، فإذا وجد المعقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. و العمل في القراض قد لا ينتفع به المالك، و مع ذلك يكون مضمونا، فيرجع إلى أجرة المثل، الى أن قال: الثاني: أن يكون سبب الفساد استحقاق العوض. و مقتضى عبارة المصنف أنّ القول بسقوط المسمّى لا إلى بدل غير آت هنا. و هو ظاهر عبارة الشرائع. و يلوح من عبارة التذكرة عدم الفرق.

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 2، ص 240

(2) مسالك الأفهام، ج 6، ص 109 و 110، مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 187، لاحظ قوله:

«و يمكن أن يقال .. إلخ».

(3) راجع: تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 356 و 357؛ قواعد الأحكام، ص 106، السطر 6 (الطبعة الحجرية)؛ تحرير الاحكام، ج 1، ص 262

ص: 134

..........

______________________________

و هو الصواب، فإنّ الدليل في الموضعين واحد، و كذا الفتوى.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه مع ظهور العوض مستحقّا هل يجب مثله إن كان مثليّا، و إلّا فقيمته .. أم تجب اجرة المثل، لأنّ العوض المسمّى إذا فات وجب قيمة العوض الآخر، و هي أجرة مثله كما في سائر المعاوضات؟ وجهان أصحّهما الثاني» «1».

و الغرض من نقل كلامه- المتضمّن لكلام العلّامة أيضا- هو وجوب اجرة المثل في المسابقة الفاسدة سواء أ كان فسادها لاختلال شرط الصحة كعدم كون العوض قابلا للتملّك شرعا، فيبطل به أصل العقد. أم كان فسادها لمغصوبيّة العوض، لصحة العقد الفضولي و توقفه على إجازة المالك، و لو لم يجز انتقل الى مثله أو إلى أجرة المثل على الخلاف [1].

______________________________

[1] لكن تنظّر فيه الشهيد الثاني قدّس سرّه بأنّ الفرق بين عقد المسابقة و غيره من العقود التي يضمن بفاسدها ليس من جهة رجوع النفع و عدمه، بل لأنّ تلك العقود اقتضت الأمر بالعمل، بخلاف هذا العقد، فإنّه لم يقتض ذلك، فإنّ قوله: «سابقتك» على معنى: أنّ من سبق منّا فله كذا. و قاعدة ما يضمن لا دليل عليها كليّة، بل النزاع واقع في موارد .. إلخ «2».

و التحقيق عدم الضمان، لانتفاء موجباته من الاستيلاء على مال الغير، و من الاستيفاء، و من الأمر بعمل محترم يصدر من المأمور حتى إذا لم يعد نفعه إلى الآمر في المسابقة الفاسدة، و إن كان صحيحها مضمّنا لإمضاء الشارع لها، للاهتمام بأمر الجهاد مع الكفّار. و لو لا هذه الجهة كانت المسابقة من أنواع القمار المنهيّ عنه وضعا و تكليفا.

و عليه فالمسابقة الفاسدة مصداق للقمار المحرّم، فيكون أكل المال بها أكلا له بالباطل، إذ المفروض عدم تحقق ما يوجب الضمان، لأنّه لم يوجد فيها إلّا سبق السابق.

______________________________

(1) إيضاح الفوائد، ج 2، ص 368؛ جامع المقاصد، ج 8، ص 337 و 338

(2) مسالك الأفهام، ج 6، ص 110

ص: 135

و وجهه (1) أنّ عمل العامل لم يعد نفعه الى الآخر (2) و لم يقع بأمره (3) أيضا، فاحترام (4) الأموال- التي منها الأعمال- لا يقضي بضمان الشخص له، و وجوب

______________________________

(1) يعني: و وجه حكم الشيخ و المحقق بعدم استحقاق أجرة المثل في المسابقة الفاسدة هو عدم انطباق قاعدة الاستيفاء عليها.

(2) و هو من يجب عليه بذل السّبق.

(3) إذ لو وقع عمل العامل بأمر من غيره اقتضى احترامه الضمان حتى إذا لم ينتفع الضامن بذلك العمل، كما إذا أمره بكنس مسجد، فإنّ الآمر و إن لم تعد منفعة العمل إليه، لكنه يغترم بمجرّد صدور العمل عن أمره.

(4) غرضه أنّ قاعدة الاحترام لا تجري في المسابقة الفاسدة، كما لا يجري فيها قاعدة اليد و الاستيفاء، فلو قيل بوجوب اجرة المثل فيها كان دليله قاعدة الاقدام لا غير، مع أنّ المصنّف أسقطها عن الدليلية و أرجعها إلى عدم المانع.

______________________________

و ليس هذا السّبق بأمر المسبوق، و لا ممّا يعود نفعه إليه، و لا أنّه أتلف شيئا من أموال السابق. و مع انتفاء هذه الأمور الموجبة للضمان كيف يحكم في المسابقة الفاسدة بالضمان؟

و الحاصل: أنّ المسابقة الفاسدة من القمار المحرّم الذي لا يوجب الضمان.

إلّا أن يقال: إن المراد بعود النفع إلى باذل العوض كون العمل صادرا لغرض عقلائي مخرج له عن المعاملة السفهية، كما إذا استأجر شخصا لكنس مسجد أو بيت عالم أو نقل متاع مؤمن إلى بيته، فإنّ النفع إن أريد به المال فلا يعود مال في هذه الموارد الى باذل الأجرة، مع أنّ المعاملة صحيحة، فإذا فرض فساد هذه المعاملة كانت مضمونة، كما إذا صدرت صحيحة. فالمسابقة الفاسدة كالصحيحة تصدر عن غرض عقلائيّ، و هو التهيّؤ للحرب و الوقوف على رموزها، فتكون كالإجارة لكنس مسجد في كون المسابقة من المعاملات العقلائيّة، فتندرج في «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

و عليه فلا ينتقض قاعدة «ما يضمن» بالمسابقة الفاسدة، فالمسابقة كالإجارة في كون فاسدها كصحيحها موجبة للضمان. فما أفاده العلامة و ثاني المحققين قدّس سرّهما من الضمان في المسابقة الفاسدة هو الجدير بالقبول، و اللّه العالم.

ص: 136

عوضه (1) عليه، لأنّه (2) ليس كالمستوفي له، و لذا (3) كانت شرعيّته على خلاف القاعدة، حيث إنّه بذل مال في مقابل عمل لا ينفع الباذل. و تمام الكلام في بابه (4).

[عدم اختصاص الضمان بالجهل بفساد المعاملة]

ثمّ إنّه (5) لا فرق فيما ذكرنا من الضمان في الفاسد بين جهل الدافع بالفساد، و بين علمه مع جهل القابض (6).

______________________________

(1) أي: عوض العمل على الآخر الذي لم يأمر بالعمل و لم ينتفع به.

(2) أي: لأنّ الآخر لم ينتفع و لم يستوف عمل الغير حتى يكون ضامنا بمقتضى قاعدة الاحترام.

(3) أي: و لأجل عدم المقتضي للضمان في مثل المسابقة الفاسدة كانت مشروعيّتها على خلاف القاعدة، لعدم بذل مال في مقابل عمل ينتفع به الباذل.

(4) و هو كتاب المسابقة إذا تبيّن فسادها بعد العمل.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المعقودة لبيان مدرك قاعدة «ما يضمن».

عدم اختصاص الضمان بالجهل بفساد المعاملة

(5) هذا إشارة إلى الجهة الثالثة، ممّا تعرّض له في شرح قاعدة «ما يضمن» و هي اختصاص الضمان بجهل الدافع بفساد المعاملة، و تعميمه لكلتا حالتي العلم و الجهل به.

و لا يخفى أنّ هذا البحث و إن كان له تعلّق بالقاعدة، و لكنّه لا يختص بها، بل يجري في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد سواء أ كان الدليل على الضمان حديث «على اليد» أم حديث ضمان قيمة ولد الأمة المسروقة، أم قاعدة «ما يضمن» أم الإجماع المدّعى في بعض الكلمات.

و كيف كان فينبغي الإشارة إلى أمر قبل توضيح المتن، و هو: أنّ للمسألة صورا أربع، و هي: علمهما بالفساد، و جهلهما به، و علم الدافع و جهل القابض، و بالعكس. إلّا أنّ المذكور في المتن هي الصور الثلاث الأول، و لم يتعرّض لحكم صورة جهل الدافع بالفساد مع علم القابض به، و لعلّه اتّكالا على وضوحه.

(6) الدليل على عموم الضمان ما سيأتي في كلامه من إطلاق النص و الفتوى،

ص: 137

و توهّم (1) «أنّ (2) الدافع في هذه الصورة هو الذي سلّطه عليه، و المفروض

______________________________

و عدم مقيّد له في البين.

(1) هذا تفصيل في الضمان بين علم الدافع بالفساد و جهل القابض به، و بين غيره. و هذا التفصيل احتمله الشهيد الثاني قدّس سرّه أوّلا، لكنّه عدل عنه و قال:

«و الأقوى ثبوته- أي الضمان- في جميع الصور» «1».

و اختاره المحقق الأردبيلي قدّس سرّه بناء على مرجعيّة أصالة البراءة عن الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد، لعدم حجيّة حديث «على اليد» و لا قاعدة «ما يضمن» فقال قدّس سرّه: «و هو- أي عدم الضمان- مع الجهل بالفساد قويّ، و مع علم الآخر أقوى.

و مع علمه بالفساد- و بعدم جواز تصرفه و وجوب حفظه و وجوب ردّه إلى مالكه معجّلا- كالمغصوب، و ذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد، و عدم رضاه بكونه عنده .. و أمّا مع الجهل بالفساد- سيّما في أمر غير ظاهر الفساد، و كذا بعد العلم به، و لكن مع عدم العلم بوجوب الرّد- فالضمان غير ظاهر ..

الى أن قال: نعم إذا علم عدم الرضا إلّا بوجه البيع أو اشتبه ذلك، يتوجّه جواز التصرّف، و الضمان على تقدير فهم عدم الرّضا بالمكث عنده، و كونه أمانة على تقدير غيره» «2».

و حاصله: أنّه قدّس سرّه فصّل بين صورتي العلم بالفساد و الجهل به، فإن كانا جاهلين فعدم الضمان قويّ. و إن كان الآخر- أي: الدافع- عالما و القابض جاهلا فعدم الضمان أقوى. و إن كان القابض عالما بالفساد و بحرمة التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد، و بوجوب ردّه إلى مالكه معجّلا فهو ضامن كالغاصب.

(2) هذا الوجه مذكور في المسالك و إن لم يعتمد عليه. و حاصله: أنّ الدافع- مع علمه بالفساد و جهل القابض به- سلّط القابض على المقبوض، و أذن له في

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 3، ص 154

(2) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 192 و 193

ص: 138

أنّ القابض جاهل» (1) مدفوع (2) بإطلاق النص و الفتوى. و ليس (3) الجاهل مغرورا، لأنّه (4) أقدم على الضمان قاصدا.

______________________________

إتلافه و التصرف فيه مع علمه ببقائه على ملكه، و لا موجب لضمان القابض حينئذ.

(1) إذ لو كان عالما بالفساد كان ضامنا بلا إشكال.

(2) هذا خبر «توهّم» و دفع للتوهّم المزبور و ملخّص الدفع: أنّ إطلاق النص و هو «على اليد» و كذا إطلاق الفتوى يثبت الضمان و يدفع الشك فيه.

(3) إشارة إلى وجه آخر لنفي الضمان، و هو قاعدة الغرور، بتقريب: أنّ الدافع مع علمه بالفساد و جهل القابض به قد غرّه، إذ لم يكن موظّفا بدفع المال إلى القابض، و مع ذلك دفعه إليه.

و ببيان آخر: قد تقرّر عندهم في باب الضمان «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» كما إذا قدّم شخص طعاما لضيفه بعنوان أنّه ملكه أو مأذون في تقديمه للضيف، فتبيّن عدم كون المضيف مالكا و مأذونا في التصرّف فيه، فإنّ الآكل ضامن له. و لكنّه يرجع بقيمته على الغارّ و هو المضيف. و الوجه في الرجوع إلى الغارّ هو قاعدة الغرور.

و المدّعى انطباق هذه القاعدة على المقام، لأنّ الدافع العالم بفساد العقد أقبض ماله للطرف الآخر- الجاهل بالفساد- بعنوان أنّ المال انتقل إلى القابض، و أخذ عوضه من القابض. و هذا الإقباض خدعة من البائع العالم بالفساد، لأنّ المشتري يتخيّل صحة المعاملة و وجوب الوفاء بها. و من المعلوم أنّ إبقاء جهله و إعطاءه ما ليس بنظر البائع مالا للمشتري نحو غرور و خدعة، و لا وجه حينئذ لضمان المشتري لما تسلّمه من البائع العالم بالفساد، بل يرجع عليه بماله، هذا.

(4) أي: لأنّ الجاهل. و هذا إشارة إلى دفع الوجه المزبور- و هو قاعدة الغرور- و محصّله: عدم كون المقام من صغريات هذه القاعدة، و ذلك لأنّ القابض الجاهل- كالمشتري- قد قبض المال مع ضمانه بالمسمّى الذي يدفعه إلى البائع، و العالم بالفساد

ص: 139

و تسليط (1) الدافع العالم لا يجعلها أمانة مالكيّة (2)، لأنّه (3) دفعه على أنّه (4) ملك المدفوع إليه، لا أنّه (5) أمانة عنده أو عارية، و لذا (6) لا يجوز له التصرّف فيه

______________________________

إنّما سلّط القابض على المال بعنوان أنّه ملكه، و لم يقصد عنوانا آخر من الأمانة أو العارية، فلا غرور في البين.

(1) هذا من إضافة المصدر إلى الفاعل، و غرض المفصّل الاستناد إلى: أنّ العالم بفساد العقد إذا سلّط الآخر على ماله فقد أسقط حرمة ماله، فلا وجه لضمان القابض.

و أجاب عنه المصنّف قدّس سرّه بما عرفت من أنّ مجرّد التسليط لا يساوق المجّانيّة و الاذن في التصرّف، بل هو أعمّ فإن كان مقرونا بقصد الأمانة أو المجّانيّة لم يضمن الآخذ، و إن كان مبنيا على كون المال ملكا للآخذ- و لو تشريعا- كما هو المفروض في البيع الفاسد كان ضامنا، هذا.

(2) حتى لا يثبت الضمان، إذ الأمانة المالكيّة كالشرعيّة رافعة للضمان.

(3) تعليل لعدم الأمانة المالكيّة، و حاصله: أنّ المالك لم يدفع المال بعنوان الأمانة، بل دفعه إليه بعنوان كونه ملكا له.

(4) هذا الضمير و ضميرا «دفعه، أنّه» راجعة إلى «المقبوض» المستفاد من السياق.

(5) معطوف على «على» أي: لم يكن دفع المال إلى المدفوع إليه مبنيّا على الأمانة و العارية حتّى يسقط الضمان.

(6) أي: و لأجل كون دفع المال مبنيّا على كونه ملكا للمدفوع اليه- لا بعنوان الأمانة- لا يجوز للمدفوع إليه التصرف في المال، و لا الانتفاع به. و لو كان عارية لجاز الانتفاع به كما هو واضح.

هذا تمام الكلام في المقام الأول و هو البحث عن دليلية قاعدة «ما يضمن» على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

ص: 140

و الانتفاع به [1] و سيأتي تتمّة ذلك في مسألة بيع الغاصب مع علم المشتري (1).

______________________________

(1) سيأتي في الأمر الثالث ممّا ذكره في العقد المجاز، حيث قال: «ثم إنّ هنا إشكالا في شمول الحكم بجواز تتبع العقود لصورة علم المشتري بالغصب .. إلخ».

______________________________

[1] قد ذكر لهذا التفصيل وجوه:

الأوّل: الأصل، بتقريب: أنّ أصالة البراءة تنفي الضمان.

و فيه ما لا يخفى، لحكومة «على اليد» عليه، سواء أريد به الأصل الحكمي و هو الضمان، أم أريد به الأصل الموضوعي و هو أصالة عدم تحقق سبب الضمان.

أمّا الأوّل فواضح. و امّا الثاني فلأنّ اليد تقتضي الضمان. إلّا أن يكون هناك مانع و هو الأمانة، و لا بدّ من العمل على طبق المقتضي حتّى يعلم المانع و هو الأمانة المعلوم عدمها في المقام.

الثاني: التسليط المجّاني المانع عن تأثير اليد في الضمان. توضيحه: أنّ العلم بالفساد موجب للعلم بعدم استحقاق العوض، و هو مستلزم للإقدام على دفع المال مجّانا.

و فيه:- مضافا إلى عدم اختصاص هذا الوجه بجهل القابض، لجريانه في صورة علمه أيضا- أنّه إن أريد عدم تمشي قصد البيع مع العلم بعدم استحقاق العوض، و لازمه قصد المجّانية، و هو ينفي الضمان، ففيه أوّلا: منع الملازمة بين العلم بعدم الاستحقاق و بين امتناع قصد البيع. و يتضح وجه عدم الملازمة بملاحظة التشريع، فإنّ الغاصب يشرّع مالكيته للمغصوب ثم يبيعه، فمع علمه بفساد البيع يقصد المعاوضة لا المجّانيّة.

و ثانيا: منع الملازمة بين عدم قصد حقيقة البيع و بين مجّانيّة التسليط الخارجي، لجواز كونه بعوض كما هو كذلك في مقامنا، ضرورة أنّ تسليط المشتري على المبيع إنّما يكون في مقابل تسليطه البائع على الثمن، فلا مجّانيّة حتى تمنع عن تأثير اليد في الضمان.

مضافا إلى: أنّ القبض الخارجيّ يكون متفرّعا على البيع الفاسد، لأنّ الكلام في المقبوض به، لا على عدم البيع، فلا مجال لإنكار قصد البيع حتى يكون القبض عنوانا

ص: 141

______________________________

مستقلّا قصد به المجّانيّة.

فالمتحصل: عدم الفرق في الضمان بين علم القابض و جهله.

نعم الفرق بينهما في ثبوت الحرمة التكليفيّة المنجّزة في صورة علم القابض و عدمها مع جهله، فلاحظ.

الثالث: قاعدة الغرور، بتقريب: أنّ الدافع العالم بالفساد قد غرّ القابض الجاهل به، حيث إنّ المقبض العالم إنّما أقبضه ما هو ماله بنظر القابض خدعة لإتمام المعاملة، و أخذ عوضه من القابض، فإبقاء جهله بحاله و إعطاؤه ما ليس بنظره ماله نحو غرور و خدعة، و من المعلوم أنّ المغرور يرجع على من غرّه. نعم مع علم القابض لا غرور و لا خديعة.

فهذا الوجه الثالث مختص بصورة جهل القابض.

و فيه أوّلا: أنّه أخصّ من المدّعى، لاختصاص الغرور بما إذا كان الجاهل القابض مباليا بماله دخل في صحّة المعاملة من الشرائط الشرعيّة، إذ بدون المبالاة و الاقتصار على الصحة العقلائيّة- بحيث لو علم بفساد المعاملة شرعا لأقدم عليها أيضا كبيع الخمر و الخنزير و غيرهما من البيوع العقلائيّة المنهيّ عنها شرعا- لا يصدق الغرور و الخدعة، لأنّ إقدام القابض حينئذ ليس ناشئا من الخدعة أصلا، بل من عدم مبالاته بالدين. فقاعدة الغرور لا تجري في كلتا صورتي جهل القابض و علمه، مع أنّ المدّعى ضمان القابض في كلتيهما، كما لا يخفى.

و ثانيا: أنّ الغرور بمعنى الخديعة متقوّم بأمرين:

أحدهما: علم الغارّ، و الآخر جهل المغرور. و انتفاء أحدهما يوجب انتفاء الغرور. و في المقام و إن كان القابض جاهلا بفساد العقد. إلّا أنّه عالم بالضمان و مقدم عليه، غايته أنّه أقدم على ضمان المسمّى لا أكثر، فلا تجري قاعدة الغرور في أصل الضمان. نعم تجري في الزائد على العوض المسمّى، بداهة أنّ الدافع غارّ بالنسبة إلى هذا الزائد، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

فالمتحصّل: أنّ ما عن المشهور من الضمان في جميع الصور- كما في حاشية

ص: 142

[قاعدة: ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده]

و أمّا عكسها (1) و هو «أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فمعناه (2): أنّ كلّ عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورده (3) [1] ففاسده لا يفيد ضمانا،

______________________________

قاعدة: ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده

(1) أي: عكس قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و قد تقدم (في ص 57) المسامحة في التعبير بالعكس كما لا يخفى، فراجع.

و كيف كان فهذا شروع في المقام الثاني، و هو البحث عن الجهات المتعلقة بقاعدة «ما لا يضمن» و اقتصر المصنّف قدّس سرّه هنا على جهات ثلاث، الأولى: مدلول القاعدة، الثانية: موارد النقض عليها. الثالثة: مدرك القاعدة و مستندها.

و أمّا المباحث المتقدمة في قاعدة «ما يضمن»- من معنى الضمان، و كون عموم العقود أفراديا أو أنواعيا أو أصنافيا، و اقتضاء ذات العقد للضمان أو كفاية اقتضاء الشرط له- فلا حاجة إلى إعادتها، لاشتراكها بين الأصل و العكس.

(2) هذا شروع في الجهة الأولى.

(3) مورد العقد ظاهر في نفس ما تعلّق به العقد، و ما هو مصبّه، كالعين في عقد البيع، و الانتفاع في العارية، و المنفعة في الإجارة. لكن المراد به هنا بقرينة ما يأتي في

______________________________

الفقيه المامقاني قدّس سرّه «1»- هو الأقوى، فلا يقيّد الضمان في قاعدة ما يضمن بشي ء من العلم و الجهل.

كما أنّ المتحصّل ممّا ذكرنا تمامية كلية القاعدة من ناحية إيجابها أعني به «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و وفاء الأدلة من اليد و قاعدة الاحترام بإثبات إيجابها الكليّ، فلاحظ و تأمّل.

[1] ظاهره نفي سببيّة العقد للضمان، لا إثبات سببيّته لعدم الضمان، فعدم الضمان إنّما هو لعدم المقتضي له، لا لوجود المقتضي لعدم الضمان.

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 281

ص: 143

كما في عقد الرهن و الوكالة و المضاربة و العارية غير المضمونة، بل المضمونة- بناء على أنّ المراد بإفادة الصحيح للضمان إفادته بنفسه (1) لا بأمر خارج عنه كالشرط الواقع في متنه- و غير (2) ذلك من العقود اللازمة و الجائزة.

______________________________

كلامه: «ثم إنّ مقتضى ذلك عدم ضمان العين ..» أعم منه و ممّا يكون متعلّق متعلّق العقد، إذ لو لا هذا التعميم لا يستقيم عدم ضمان العين المستأجرة، حيث إنّ اليد تقتضي ضمانها، فعدم ضمانها مبنيّ على تعميم متعلق العقد لمتعلق متعلقة. فمورد نفس متعلق الإجارة هو المنفعة، و العين تكون متعلق متعلق الإجارة. ففي الإجارة الصحيحة ليست العين مضمونة، و كذا في فاسدها.

(1) هذا متعلّق بقوله: «بل المضمونة» و هو إشارة إلى ما مرّ من اقتضاء العقد بنفسه للضمان، لا من جهة الشرط الذي هو خارج عن ماهيّة العقد، و يكون الضمان لأمر خارج عن حقيقته و هو الشرط. فبناء على التعميم تندرج العارية المشروطة بالضمان في أصل القاعدة، و بناء على الاختصاص تندرج في العكس.

(2) معطوف على «عقد الرهن ..» و المراد بالغير هو العقود التي لا تتضمّن معاوضة كالهبة و الوديعة.

______________________________

و على هذا فلو ثبت الضمان في فاسد العقد الذي لا يضمن بصحيحه لم يكن معارضا لهذه القاعدة، لتوقّف عدم الضمان على استقصاء سائر أسباب الضمان و إحراز عدمها. و إلّا فمجرّد عدم اقتضاء فاسد العقد للضمان لا يجدي في الحكم بعدم الضمان فعلا.

هذا لو كانت «الباء» للسببيّة، بخلاف ما لو كانت ظرفيّة، لظهورها في تبعيّة العقد الفاسد لصحيحة في عدم الضمان، فلو قام دليل آخر على الضمان كان معارضا لهذه القاعدة لو تمّت في نفسها، للتنافي بين ما يثبت الضمان في الفاسد و ما ينفيه، فلاحظ.

ص: 144

ثمّ إنّ مقتضى ذلك (1) عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا، لأنّ صحيح

______________________________

(1) المشار إليه هو قوله في تفسير القاعدة: «أنّ كلّ عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورد ففاسده لا يفيد ضمانا» فمقتضى هذه القاعدة عدم ضمان العين المستأجرة في الإجارة الفاسدة، لأنّ الإجارة الصحيحة لا تفيد ضمان العين فكذا الفاسدة.

و غرضه قدّس سرّه بيان أحد النقوض الواردة على قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و لكنّه خصّ هذه المسألة بالذّكر هنا و لم يجعلها في عداد النقوض الآتية بقوله: «ثم إنّه يشكل اطراد القاعدة في موارد» و لعلّه لخصوصيّة في هذه، و هي ابتناؤها على الخلاف في أنّ المراد بالعقد في أصل القاعدة و عكسها هل هو خصوص مصبّ العقد كالعين في باب البيع، و المنفعة في باب الإجارة، أم ما يعمّ متعلق المتعلق؟

فإن قلنا بالاختصاص لزم التفكيك بين العين و المنفعة في عقدي البيع و الإجارة، لكون العين في البيع موضوعا لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و المنفعة موضوعا لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

و ينعكس الأمر في باب الإجارة، إذ المعوّض فيها هو المنفعة، فتندرج في أصل القاعدة، و تندرج العين في العكس، يعني «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

و إن قلنا بالتعميم أي: دخول العين في مصبّ الإجارة، فلا ضمان في صحيحها و فاسدها. أمّا في الصحيح فلأنّ مالك العين يلزمه تسليم العين للمستأجر ليستوفي منفعتها، فهو مأذون من قبل المالك، و يده يد استحقاق. و أمّا في الفاسد فلإقدام المالك على تسليم العين بدون ضمان.

و كيف كان فإذا استأجر زيد من عمرو دارا عاما بمائة دينار، فإن كانت صحيحة كان المستأجر ضامنا للأجرة المسماة، و لا يضمن نفس الدار، فلو تلفت بيده- من دون تعدّ و تفريط في الحفظ- لم يضمنها، لكونها أمانة. و إن كانت الإجارة فاسدة ففي ضمانه قيمة الدار قولان:

ص: 145

الإجارة غير مفيد لضمانها، كما صرّح به (1) في القواعد و التحرير، و حكي عن التذكرة (2) و إطلاق (3) الباقي.

______________________________

أحدهما: الضمان، و هو المصرّح به في كلام العلّامة السيّد الطباطبائيّ قدّس سرّه «1».

و الآخر: عدمه، و لعلّه المشهور، كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: بعدم ضمان العين. قال العلّامة في القواعد: «العين أمانة في يد المستأجر لا يضمنها إلّا بتعدّ أو تفريط، في المدّة و بعدها إذا لم يمنعها مع الطلب، سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة» «2». و الجملة الأخيرة صريحة في عدم ضمان العين المستأجرة بالإجارة الباطلة شرعا. و نحوه عبارة التحرير «3».

(2) الحاكي هو السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه «4»، حكاه بتصرف في اللفظ، قال في التذكرة: «إذا كانت الإجارة فاسدة لم يضمن المستأجر العين أيضا إذا تلفت بغير تفريط و لا على عدوان، لأنّه عقد لا يقتضي صحيحه الضمان فلا يقتضيه فاسدة، كالوكالة و المضاربة. و حكم كل عقد فاسد حكم صحيحه في وجوب الضمان و عدمه، فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده، و ما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده. و لأنّ الأصل براءة الذمّة من الضمان، لأنّه قبض العين بإذن مالكها، فلم يجب عليه ضمانها، لعدم موجب له مع هذا القبض» «5».

(3) الأولى أن يقال: «و أطلق الباقي» ليكون مقابلا لقوله: «كما صرّح به في القواعد». و جعله معطوفا على نائب فاعل «حكي»- ليكون مفاده حكي التصريح عن التذكرة كما حكي إطلاق الباقي- لا بأس به و إن كان خلاف الظاهر. و قد حكى

______________________________

(1) رياض المسائل، ج 2، ص 8

(2) قواعد الأحكام، ص 93، السطر 15 (الطبعة الحجرية).

(3) تحرير الأحكام، ج 1، ص 252

(4) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 132

(5) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 318

ص: 146

إلّا أنّ صريح الرياض (1) الحكم بالضمان، و حكى (2) فيها عن بعض «نسبته إلى المفهوم من كلمات الأصحاب» و الظاهر أنّ المحكي عنه هو المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة (3).

______________________________

السيّد العاملي إطلاق الباقين، فراجع «1».

و كيف كان فالمقصود أنّ عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا يستفاد من تصريح العلامة و من ظاهر غيره ممّن أطلق عدم الضمان، و لم يقيّده بالعقد الصحيح، كالمحقق، حيث قال: «و العين المستأجرة أمانة لا يضمنها المستأجر إلّا بتعدّ أو تفريط» «2».

(1) قال في ذيل ما ذكره في شرح قول المحقق قدّس سرّه: «و يثبت أجرة المثل في كل موضع تبطل فيه الإجارة» «3» ما لفظه: «و العين مضمونة في يد المستأجر مطلقا كما نسب إلى المفهوم من كلمات الأصحاب. و لعلّه لعموم الخبر بضمان ما أخذته اليد» «4».

(2) يعني: و حكى السيّد الطباطبائي في الرياض نسبة الضمان إلى ما فهمه بعض من كلمات الأصحاب، و الناسب هو المحقق الأردبيلي قدّس سرّه.

(3) قال المحقق المذكور ما نصّه: «ثمّ إنّ الظاهر أنّ العالم كالغاصب لا يجوز له التصرف، و لا يستحق شيئا، لما مرّ من أن الاذن إنّما علم بالعقد، لاعتقاد أنّه صحيح، و يلزم الطرف الآخر ما يلزمه، و قد بطل و هو عالم بالفرض، فيبقى أصل المنع على حاله كما قيل في البيع الباطل، بل يفهم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا» «5».

و هذه الجملة الأخيرة محلّ الاستشهاد بكلام المحقق الأردبيلي قدّس سرّه، حيث فهم من كلام الأصحاب ضمان العين المستأجرة.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 252

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 179

(3) المختصر النافع، ص 153

(4) رياض المسائل، ج 2، ص 8، أواخر الصفحة.

(5) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 50

ص: 147

و ما أبعد (1) ما بينه و بين ما عن جامع المقاصد، حيث قال في باب

______________________________

(1) يعني: و ما أبعد ما بين ما أفاده المحقق الأردبيلي قدّس سرّه- من أنّ المفهوم من كلمات الأصحاب ضمان العين في الإجارة الفاسدة- و بين ما أفاده المحقق الكركي قدّس سرّه من أنّه يلوح من كلامهم عدم الضمان. و غرض المصنّف قدّس سرّه التعجّب من استظهار هذين العلمين، حيث ادّعى المحقق الأردبيلي أنّ الضمان يفهم من كلامهم، و ادّعى المحقق الكركي ظهور كلامهم في عدم الضمان.

و كيف كان فيحتمل أن يكون اختلافهما في النسبة إلى الأصحاب ناشئا من الاختلاف في فهم معنى قولهم: «كلّ ما يضمن بصحيحه .. إلخ» بأن يقال: إنّ المحقق الأردبيلي قدّس سرّه فهم من هذه العبارة: أنّ مورد إثبات الضمان و نفيه عند الأصحاب خصوص متعلّق العقد كالمنفعة في الإجارة، فلا يعمّ العين المستأجرة، فلا بدّ حينئذ من الحكم بضمان العين لقاعدة اليد، لعدم كون العين موردا للعقد.

و المحقّق الثاني قدّس سرّه فهم منها أنّ مورد النفي و الإثبات عندهم ما يشمل مورد العقد و متعلّق المتعلّق، فيعمّ العين المستأجرة، فيتعارض اليد و القاعدة، فيرجع إلى البراءة.

و الحاصل: أنّ هنا قاعدتين إحداهما- و هي اليد- توجب الضمان، و الأخرى و هي قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه» تنفي الضمان. و الاختلاف إنّما يكون في مفاد الثانية.

فإن كان مفادها عند الأصحاب نفي الضمان عن خصوص مورد العقد، فلا تشمل العين المستأجرة فاسدا كما زعمه المحقق الأردبيلي. و عليه فمقتضى قاعدة اليد ضمانها.

و إن كان مفادها عندهم نفي الضمان عن الأعمّ من مورد العقد كما استظهره المحقق الثاني من كلام الأصحاب فلازمه نفي الضمان عن العين المستأجرة فاسدا، إذا المفروض عدم اختصاص قاعدة «ما لا يضمن» بنفس مورد العقد، و شمولها لمتعلق متعلقة أيضا كالعين المستأجرة، فإنّ مورد العقد هو المنفعة دون العين.

ص: 148

الغصب: «إنّ الّذي (1) يلوح من كلامهم هو (2) عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا باستيفاء (3) المنفعة. و الّذي ينساق إليه النظر (4) هو الضمان، لأنّ (5) التصرّف

______________________________

لكنّه بناء على تعميم مورد العقد لمتعلّق متعلقة تندرج الإجارة الفاسدة في قاعدة «ما لا يضمن» فإنّ صحيح الإجارة لا يوجب ضمان العين، و كذا فاسدها.

(1) العبارة منقولة بتصرّف غير قادح في المقصود، قال قدّس سرّه: «و هل العين مضمونة بالاستيفاء؟ يلوح من كلامهم العدم. و الذي ينساق إليه النظر كونها مضمونة، لأنّ التصرف في العين غير جائز، فهو بغير حق، فيكون في حال التصرف استيلاؤه عليها بغير حق، و ذلك معنى الغصب، إلّا أنّ كون الإجارة الفاسدة ..» «1»

إلى آخر ما في المتن. و كلامه مشتمل على أنظار ثلاثة سيأتي بيانها.

(2) هذا هو النظر الأوّل المذكور في جامع المقاصد، و هو نسبة عدم ضمان العين- في الإجارة الفاسدة- إلى الأصحاب. و كان مبنى هذه النسبة تصريح العلّامة في القواعد و التحرير و التذكرة بعدم الضمان.

(3) متعلق ب «عدم ضمان» يعني: أنّ استيفاء المنفعة و إن أوجبت ضمانها بأجرة المثل، لكنّها لا تقتضي ضمان العين.

(4) أي: نظر المحقق الثاني، خلافا لما استظهره من كلام الأصحاب من عدم الضمان. و هذا ثاني الأنظار في المسألة، و هو إثبات ضمان العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة، لكونه من موارد الغصب، و هو محرّم شرعا، و يترتّب عليه الضمان.

و الوجه في حرمة التصرّف هو فساد العقد حسب الفرض، و لا إذن من المالك غير الإذن العقديّ، فكما يضمن المستأجر منفعتها المستوفاة فكذا يضمن العين لو تلفت بيده.

(5) تعليل للضمان، و قد عرفته آنفا، كما عرفت أن هذه الجملة ليست نصّ عبارة جامع المقاصد.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 216

ص: 149

فيه (1) حرام، لأنّه غصب فيضمنه» ثمّ قال: «إلّا أنّ (2) كون الإجارة الفاسدة لا يضمن بها كما لا يضمن بصحيحها مناف لذلك (3)، فيقال: (4) إنّه (5) دخل على عدم الضمان بهذا الاستيلاء و إن لم يكن (6) مستحقا، و الأصل براءة الذمة من

______________________________

(1) كان المناسب تأنيث هذا الضمير و ضمير «فيضمنه» لرجوعهما إلى العين في الإجارة الفاسدة، و كذا تأنيث ضمير «لأنه» لو لم يرجع إلى التصرّف.

(2) هذا شروع في بيان النظر الثالث، و هو الخدشة في الضمان، و بيانها: أنّ قاعدة اليد و إن اقتضت ضمان العين، إلّا أنّها معارضة بقاعدة أخرى تقتضي عدم الضمان، فيتم نظر المشهور الّذين يلوح من كلامهم ذلك، و تلك القاعدة هي «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بتقريب: أنّ الموجر أقدم على عدم الضمان، حيث إنّه سلّط المستأجر على العين بلا عوض عنها، و إن لم يكن المستأجر مستحقا لها من جهة فساد العقد. فإن كان الترجيح مع قاعدة «ما لا يضمن» فلا ضمان.

و إن كانتا متكافئتين تساقطتا، و المرجع أصالة براءة ذمة المستأجر عن بدل العين التي استوفى منفعتها، هذا.

(3) أي: للضمان الذي تقتضيه قاعدة اليد.

(4) هذا تقريب تطبيق قاعدة «ما لا يضمن» على الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين، و محصّله: الاقدام على تسليط المستأجر عليها بلا عوض عنها.

و يستفاد من هذا الكلام أنّ الاقدام على التسليط بعوض يكون من موجبات الضمان، فيكون المحقّق الثاني موافقا لشيخ الطائفة و ابن إدريس قدّس سرّهم في عدّ الاقدام من أسباب الضمان.

(5) أي: أنّ مالك العين أقدم على عدم ضمانها.

(6) أي: و إن لم يكن المستولي- و هو المستأجر- مستحقّا للعين مقدّمة للانتفاع بها، و وجه عدم استحقاقه لها فساد عقد الإجارة.

ص: 150

الضمان (1)، فلا يكون العين بذلك مضمونة. و لو لا ذلك (2) لكان المرتهن ضامنا مع فساد الرهن، لأنّ استيلاءه بغير حق، و هو (3) باطل» «1» انتهى.

______________________________

(1) إن كان الأصل العملي في رتبة الدليل الاجتهادي أعني به قاعدة «ما لا يضمن» فيكون معاضدا لها في تقدمها على قاعدة اليد. و إن كان متأخّرا عنها رتبة- كما هو الحق- فتكون مؤيّدا، أو مرجعا على تقدير تساقط القاعدتين بالتعارض.

(2) أي: و لو لا انطباق قاعدة «ما لا يضمن» على الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين لكان المرتهن .. إلخ.

و غرض المحقق الكركي قدّس سرّه من الاستشهاد بمسألة عدم ضمان العين المرهونة- في الرهن الفاسد- هو تأييد مقالته من عدم ضمان العين في الإجارة الفاسدة، لكونه من موارد قاعدة «ما لا يضمن» و بيانه: أنّ مجرّد وضع اليد على مال الغير لا يقتضي ضمانه، بل يتوقّف على عدم إذن مالكيّ و لا شرعيّ و لا استيمان و لا معاوضة، فلو كان التسليط المالكيّ مبنيّا على عدم ضمان الآخذ لم تقتض يده ضمانا، و هذا أمر مطّرد في موارد:

منها: الرهن الفاسد، فإنّ استيلاء المرتهن على العين المرهونة يكون بغير حقّ حسب الفرض، إلّا أنّها لو تلفت بيده لم يكن عليه بدلها، لأنّ الراهن سلّط المرتهن على ماله مبنيّا على كونه وثيقة عنده، لا بعنوان المعاوضة. و بهذا يندرج الرّهن في قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و تجري أصالة البراءة عن الضمان.

و لو لا هذا لزم الحكم بضمان الرّهن عملا بقاعدة اليد، مع أنّهم حكموا بعدم الضمان، أخذا بالقاعدة و بالأصل.

(3) يعني: و الحال أنّ ضمان المرتهن للعين المرهونة- في الرّهن الفاسد- باطل، فكذا لا وجه لضمان العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة، هذا تمام كلام المحقق الكركي قدّس سرّه.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 216

ص: 151

و لعلّ الحكم بالضمان في المسألة (1) إمّا لخروجها (2) عن قاعدة «ما لا يضمن» لأنّ المراد بالمضمون مورد العقد، و مورد العقد في الإجارة

______________________________

(1) يعني: و لعلّ حكم الأصحاب بالضمان في مسألة الإجارة الفاسدة- على ما نسبه المحقق الأردبيلي إليهم، و عدم عملهم فيها بقاعدة «ما لا يضمن» المقتضية لعدم الضمان- مستند إلى أحد وجهين .. إلخ. و غرضه قدّس سرّه من هذه الجملة إلى قوله: «و إمّا لأنّ قاعدة ما لا يضمن معارضة بقاعدة اليد» توجيه الحكم بضمان العين بوجهين ذكرهما صاحب الجواهر قدّس سرّه و إن تنظّر فيهما في آخر كلامه، و سيأتي نقل بعض ما أفاده.

و على كلّ منهما يشكل ما تقدّم عن المحقق الكركي من ترجيح القول بعدم ضمان العين عملا بقاعدة «ما لا يضمن» و بأصالة البراءة عن الضمان.

(2) هذا هو الوجه الأوّل للقول بضمان العين، و هو مؤخّر- ذكرا- في الجواهر، قال قدّس سرّه: «على أنّه قد يقال: بعدم اندراج العين في قاعدة ما لا يضمن، فلا تعارض قاعدة اليد حينئذ، و ذلك لأنّ المراد من الإيجاب و السّلب فيها ما كان مضمونا بسبب العقد، و ما لم يكن مضمونا كذلك. على معنى أنّ الضمان و عدمه مورد العقد كالمنفعة في الإجارة، و العين في الهبة. و لا ريب أنّ عدم الضمان في العين المستأجرة لا مدخليّة للعقد فيه، و إنّما هو لكونها أمانة، فيدور الضمان في الفاسد عليها، لا من القاعدة المزبورة. و كذلك العين في العارية. فمع فرض عدم الأمانة- لما سمعته من تقييد الإذن بالصحة، و المفروض انتفاؤها- يتّجه ما نسباه- يعني المحقق الأردبيلي و صاحب الرياض- إلى الأصحاب من الضمان .. إلخ» «1».

و محصّل هذا الوجه: عدم شمول قاعدة «ما لا يضمن» للعين تخصّصا، بتقريب:

أنّ المراد ب «ما يضمن و ما لا يضمن» ما وقع عليه العقد، لا ما هو خارج عنه و يعدّ من حواشيه، كمتعلّق متعلّقه. فاستفادة حكمه منوطة بملاحظة سائر القواعد و الأدلّة، فإن اقتضت الضمان قيل به، و إن لم تقتضه قيل بعدم الضمان. هذا بحسب الكبرى.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 27، ص 252

ص: 152

المنفعة، فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد (1). و حيث كانت (2) في صحيح الإجارة أمانة مأذونا فيها شرعا، و من طرف المالك (3) لم يكن فيه ضمان. و أمّا في فاسدها فدفع الموجر للعين إنّما هو للبناء على استحقاق المستأجر لها، لحقّ الانتفاع فيها، و المفروض عدم الاستحقاق (4)، فيده عليه (5) يد عدوان موجبة للضمان.

و إمّا (6) لأنّ قاعدة

______________________________

و أمّا تطبيقها على المقام فهو: أنّ مورد الإجارة و متعلّقها هو المنفعة لا العين.

فإن كانت الإجارة صحيحة لم يضمنها المستأجر، لكونها أمانة شرعيّة و مالكيّة، أمّا الاذن الشرعيّ فلوجوب تسليم العين للمستأجر من باب وجوب الوفاء بالعقد ليستوفي منفعتها. و أمّا الاذن المالكيّ فلأنّ الموجر يأذن للمستأجر في الانتفاع بها، و هو منوط بتسليمها إليه. و من المعلوم فقدان هذا الاذن في الإجارة الفاسدة. فيتحقق حينئذ موضوع قاعدة اليد المقتضية للضمان، و بهذا يتجه حكم صاحب الرياض قدّس سرّه بالضمان، هذا.

(1) من قاعدة اليد و احترام مال المسلم و نفي الضرر و غيرها، المقتضية للضمان، أو قاعدة الاستيمان المقتضية لعدمه.

(2) أي العين. و جواب الشرط قوله: «لم يكن فيه ضمان».

(3) أمّا الاذن الشرعيّ فلصحّة الإجارة شرعا المقتضية لكون العين أمانة لاستيفاء منافعها مدّة الإجارة. و أمّا الاذن المالكيّ فلتسليمه إيّاها بطيب نفسه للانتفاع بها إذا توقّف الانتفاع بها على التسليم.

(4) لفساد العقد.

(5) الضمير راجع إلى العين، فالأولى تأنيثه.

(6) معطوف على قوله: «إمّا لخروجها» و هذا إشارة إلى ثاني الوجهين للحكم بضمان العين المستأجرة. قال في الجواهر: «و إن كان قد يوجّه- يعني الضمان- على تقدير صحّة النسبة إلى الأصحاب بما سمعت من عموم- على اليد- المعارض للقاعدة المزبورة من وجه، و يرجّح عليها بالنسبة المزبورة. و دعوى العكس باعتضادها

ص: 153

..........

______________________________

بقاعدة الأمانة يدفعها ما سمعته من الرياض أخيرا من أنّه إذا كان الدفع بعنوان الصحّة، لكون الاذن كالمقيّدة بذلك- أي بالصحّة- فمع الفساد ينكشف أن لا إذن، فلا تكون أمانة» «1».

و لا يخفى ابتناء هذا الوجه على شمول قاعدة «ما لا يضمن» للعين المستأجرة و عدم اختصاصها بمورد العقد و مصبّه، إذ لو اختصّت القاعدة بمورد العقد و متعلقة لم تكن العين المستأجرة مندرجة فيها، لعدم كونها أحد العوضين، فهي خارجة موضوعا عن القاعدة.

و بناء على هذا فتوضيح كون النسبة بين قاعدتي «اليد و ما لا يضمن» عموما من وجه هو: أنّ قاعدة «اليد» تجري في المغصوب و المقبوض بالبيع الفاسد و نحوهما ممّا يكون المضمون عينا، و تقتضي الضمان. و قاعدة «ما لا يضمن» تجري في العارية و نحوها من موارد الاستيمان، فتقتضي نفي الضمان. و تجتمع القاعدتان في العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة، فتنطبق قاعدة اليد عليها، لعدم كونها أمانة بيد المستأجر، فتكون مضمونة. و كذلك تنطبق قاعدة «ما لا يضمن» عليها، و تحكم بعدم ضمانها، لتبعية الإجارة الفاسدة لصحيحها، فكما لا تضمن العين في صحيحها فكذا في فاسدها.

و حيث كانت النسبة عموما من وجه، فإن كان لأحد العامّين مرجّح قدّم على الآخر، و إن كانا متكافئين تساقطا و يرجع إلى دليل ثالث. هذا بحسب الكبرى.

و المدّعى في كلام صاحب الجواهر قدّس سرّه تقديم قاعدة «اليد» في المجمع- المقتضية للضمان- على قاعدة «ما لا يضمن» النافية له. و الوجه في التقديم معاضدتها بفتوى الأصحاب بالضمان، على ما نسبه المحقق الأردبيلي و صاحب الرياض قدّس سرّهما إليهم.

و لا معاضد لقاعدة «ما لا يضمن» لأنّ قاعدة الاستيمان النافية للضمان مخصوصة

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 27، ص 252

ص: 154

«ما لا يضمن» معارضة بقاعدة اليد (1).

و الأقوى (2) عدم الضمان، فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة (3) بالعين

______________________________

بما إذا كان دفع العين إلى المستأجر مبنيّا على صحة الإجارة لا مطلقا. هذا توضيح كلام الجواهر.

و يحتمل أن يكون غرض المصنّف قدّس سرّه من هذا الوجه الثاني تقديم قاعدة اليد لكونها أخصّ مطلقا من قاعدة «ما لا يضمن» و من المعلوم أنّ التعارض بين العامّ و الخاصّ المطلقين بدويّ، و يتعيّن التخصيص. فيقال: إنّ قاعدة «ما لا يضمن» تنفي الضمان عن العين في الإجارة الصحيحة و الفاسدة، و قاعدة اليد تقتضي الضمان في الفاسدة، فتكون «اليد» مخصّصة لقاعدة «ما لا يضمن» و تبقى العين في الإجارة الصحيحة موضوعا لها، كموضوعيّة سائر العقود الأمانيّة لها.

(1) لا يخفى قصور العبارة عن تأدية المراد، فإنّ المقصود توجيه ضمان العين في الإجارة الفاسدة، و من المعلوم أنّ مجرّد تعارض القاعدتين ليس من أسباب الضمان، إذ لو كانتا متكافئتين تساقطتا، و المرجع حينئذ هو أصالة البراءة عن الضمان كما تقدّم في كلام المحقق الكركي قدّس سرّه.

و عليه كان الأولى أن يقال: «معارضة بقاعدة اليد، لكنّها لأخصّيّتها تخصّص قاعدة ما لا يضمن» كما يستفاد هذا التخصيص من قوله: «غير مخصّصة».

(2) بعد أن بيّن المصنف كلا دليلي الضمان و عدمه قوّى عدم الضمان، للخدشة في الوجهين المتقدمين عن الجواهر. و مقصوده قدّس سرّه إثبات عدم الضمان بدليل اجتهادي و هو قاعدة «ما لا يضمن» لا بالأصل العملي الذي ركن إليه المحقّق الكركي قدّس سرّه.

(3) هذا دفع الوجه الثاني للضمان، و هو تخصيص قاعدة «ما لا يضمن» بقاعدة اليد.

و محصّل الدفع: إباء قاعدة «ما لا يضمن» عن التخصيص بقاعدة اليد، لما تقرّر في بحث تعارض الدليلين من اشتراط التخصيص ببقاء العام على حيثيّة كونه قانونا، و عدم لزوم الاستهجان العرفي من كثرة التخصيص، بحيث تبقى تحت العامّ أفراد

ص: 155

المستأجرة،

______________________________

نادرة، فيمتنع التخصيص لو ترتّب محذور الاستهجان عليه. و لا فرق في هذا الامتناع بين كون نسبة المتعارضين عموما مطلقا و من وجه، لاتّحاد الملاك في كليهما.

و هذه الكبرى منطبقة على المقام. أمّا بناء على كون النسبة عموما من وجه كما صرّح به صاحب الجواهر قدّس سرّه فلأنّ غالب العقود المندرجة تحت عموم «ما لا يضمن» مشمولة لقاعدة اليد أيضا، كالمضاربة و الرهن و الهبة و نحوها ممّا تقع على الأعيان، فلو بنينا على تقديم قاعدة اليد لزم اختصاص «ما لا يضمن» بالعارية غير المضمونة، و هذا في الحقيقة إلغاء لتشريعها بنحو ضرب القانون. و أمّا لو قدّمنا هذه القاعدة على اليد لم يلزم هذا المحذور، لبقاء موارد عديدة مندرجة تحت اليد المقتضية للضمان كالمغصوب و المقبوض بالسوم و بالبيع الفاسد و غيرها.

و على هذا نقول: إنّ العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة باقية تحت قاعدة «ما لا يضمن» بعد البناء على شمول القاعدة لمصبّ العقد و لمتعلّق متعلّقه.

و أمّا بناء على كون النسبة عموما مطلقا فكذا يتعيّن تقديم القاعدة على اليد، فإنّ الظاهر أخصّيّتها من اليد، دون العكس، و ذلك لورود هذه القاعدة مورد اليد، نظير ورود قاعدة التجاوز في مورد استصحاب العدم، إذ البناء على فعل المشكوك فيه- كالرّكوع و السجود- مخالف لاستصحاب عدم الإتيان به المقتضي لتداركه، مع أنّهم بنوا على تقديم القاعدة على الاستصحاب سواء كانا أمارتين أم أصلين محرزين، أم مختلفين. و الوجه في تخصيص دليل الاستصحاب هو ورود القاعدة مورده بحيث يلزم لغويّة تشريعها لو لا التخصيص.

و هكذا الحال في المقام، لأنّ غالب العقود التي تجري فيها قاعدة «ما لا يضمن» تجري فيها قاعدة اليد، و لا عكس. فتقديم قاعدة اليد المقتضية للضمان إلغاء لتشريع قاعدة «ما لا يضمن».

هذا كلّه توضيح عدم تخصيص قاعدة «ما لا يضمن» بقاعدة اليد. و عليه فالعين في الإجارة الفاسدة غير مضمونة، عملا بقاعدة «ما لا يضمن».

ص: 156

و لا متخصّصة (1).

______________________________

(1) هذا إشارة إلى ردّ أوّل الوجهين المتقدمين عن صاحب الجواهر قدّس سرّه الذي كان حاصله خروج العين المستأجرة موضوعا عن قاعدة «ما لا يضمن» فتشملها القواعد الأخر كقاعدة اليد الموجبة للضمان.

و محصّل مناقشة المصنّف قدّس سرّه فيه هو: اندراج العين المستأجرة في قاعدة «ما لا يضمن» و عدم خروجها عنها تخصّصا كعدم خروجها عنها تخصيصا.

و الوجه في بطلان التخصّص المزبور: أنّ المعوّض في إجارة الأعيان- كالدار- و إن كان هو المنفعة، إلّا أنّ الوفاء بالعقد يقتضي تسليم العين للمستأجر كي ينتفع بها، فالعقد يتضمّن شرطا ارتكازيّا متعارفا، و هو جعل العين أمانة بيد المستأجر. و حيث كان التسليط مالكيّا و مبتنيا على الأمانة كان خارجا عن قاعدة اليد و مندرجا في «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» لما تقرّر عندهم من انتفاء الضمان في موارد الاستيمان.

فإن قلت: يختص كون العين أمانة مالكيّة و شرعيّة- بيد المستأجر- بصحّة عقد الإجارة، و أمّا مع فسادها فلا، إذ لا يستحقّها المستأجر حتى تكون أمانة عنده.

قلت: لا فرق في قصد الاستيمان بين صحة الإجارة و فسادها، فإنّ المالك يرى نفسه ملزما بالوفاء بالشرط الضمني الارتكازي، فيجعل العين أمانة بيد المستأجر، و يكون اعتقاد صحة العقد داعيا له إلى تسليم العين. فلو كانت الإجارة فاسدة لم تقدح في قصد المالك، و إنّما يلزم تخلّف داعيه إلى التسليم. و قد تقرر عندهم عدم العبرة بتخلّف الدواعي، كما إذا قدّم المضيف طعاما لضيفه معتقدا بأنّه عالم، فتبيّن كونه جاهلا، فلا ريب في جواز الأكل، لأنّه من قبيل تخلّف الداعي.

و قد تحصّل: أنّ العين المستأجرة- فاسدة- غير مضمونة على المستأجر لو تلفت بيده، لشمول قاعدة «ما لا يضمن» لها، و لا مخصّص لها في البين، كما عرفت.

فالأقوى وفاقا للمحقق الكركي عدم الضمان، لكن للقاعدة، لا للأصل العملي.

هذا كله في التخلّص عن النقض الأوّل من النقوض الواردة على القاعدة.

ص: 157

[الجهة الثانية: موارد النقض على قاعدة «ما لا يضمن»]
اشارة

ثمّ إنّه يشكل اطّراد القاعدة في موارد:

[أ: النقض بعارية الصيد]

منها (1): الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ

______________________________

الجهة الثانية: موارد النقض على قاعدة «ما لا يضمن» أ: النقض بعارية الصيد

(1) هذا ثاني النقوض التي أوردوها على قاعدة «ما لا يضمن» و النقض الأوّل ما تقدّم من الإجارة الفاسدة على التفصيل المزبور.

و محصّل هذا النقض الثاني: أنّ العارية الصحيحة لا توجب الضمان، مع أنّ فاسدها في الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ يوجب الضمان. و فرض هذا النقض هو ما إذا لم يكن في الحرم، لأنّ الصيد في الحرم غير جائز لغير المحرم أيضا. فالمسألة مفروضة فيما إذا كان هناك شخصان، أحدهما محرم خارج الحرم، و الآخر محلّ، فصاد الثاني حيوانا و استعاره المحرم منه، فإنّه لا إشكال في وجوب إرساله عليه، فإن أرسله فلا خلاف في ضمانه لمالكه. و هذا خارج عن مورد البحث، لكونه إتلافا و لو بإذن الشارع، فلا ينتقض به القاعدة، لأنّ عدم الضمان في قاعدة «ما لا يضمن» مختص بالتلف، فالاتلاف خارج موضوعا عن حيّزها.

و إن أمسكه فإن مات بآفة سماويّة أو كان طائرا فطار- و هذا هو مورد نقض قاعدة «ما لا يضمن» على القول بفساد عارية الصيد للمحرم- ففيه خلاف بينهم، فمنهم من ذهب إلى الضمان، مع أنّ صحيح العارية لا ضمان فيه، و منهم من قال بعدمه.

بل يظهر من الجواهر «1» عدم وجود مصرّح بالضمان في مفروض البحث أعني التلف السماويّ، و أنّ حكمهم بالضمان إنّما هو في صورة الإتلاف المترتب على الموت بعد الإرسال.

قال في الشرائع: «و لا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا، لأنّه ليس له

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 27، ص 165

ص: 158

بناء (1) على فساد العارية، فإنّهم (2) حكموا بضمان المحرم له بالقيمة، مع أنّ صحيح العارية لا يضمن به. و لذا (3) ناقش الشهيد الثاني في الضمان على تقديري الصحّة و الفساد.

______________________________

إمساكه، فلو أمسكه ثمّ أرسله ضمنه، و إن لم يشترط عليه ذلك في العارية» «1». فإنّ ظاهره ترتّب الضمان على الإرسال الذي هو إتلاف الصيد، فلا يشمل ما نحن فيه و هو التلف.

(1) هذا ظاهر في أنّ فساد استعارة المحرم مسألة خلافيّة كما ستأتي في عبارة المسالك. و على كلّ فمنشأ الفساد هو النصوص الناهية عن إمساك الصيد و الآمرة بتخلية سبيله. و من المعلوم اشتراط صحة العارية بحلّيّة الانتفاع بالعين المعارة.

(2) هذا وجه ورود النقض على قاعدة «ما لا يضمن» و قد عرفته آنفا.

(3) يعني: و لكون صحيح العارية لا يضمن به ناقش الشهيد في ضمان المحرم قيمة الصيد للمالك على كلّ من تقديري صحة عقد عارية الصيد للمحرم و فساده، لأنّها إن كانت صحيحة فلا ضمان، و كذا إذا كانت فاسدة، لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

قال في المسالك: «و مقتضى عبارة المصنّف رحمه اللّه و جماعة أنّه يضمنه مع التلف للمالك أيضا بالقيمة، لأنّهم جعلوها من العواري المضمونة، و إن لم يشترط فيها الضمان. و دليله غير واضح، إذ مجرّد تحريم استعارته لا يدلّ على الضمان، سواء قلنا بفساد العقد أم بصحّته.

أمّا مع صحّته فالأصل في العارية عندنا أن تكون غير مضمونة، إلّا أن يدلّ دليل عليه، و لم يذكروا هنا دليلا يعتمد عليه. و أمّا مع فسادها فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان و عدمه كما أسلفناه في مواضع قاعدة كليّة.

و يمكن الاستدلال على ضمانه هنا بإطلاق النصوص بأنّ المحرم لو أتلف صيدا مملوكا فعليه فداؤه لمالكه، فيدخل فيه صورة النزاع. و فيه نظر، لمعارضته بالنص

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 2، ص 172

ص: 159

إلّا أن يقال (1): إنّ وجه ضمانه

______________________________

الصحيح الدالّ على أنّ العارية غير مضمونة، فكما يمكن تخصيص الأوّل بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك، يمكن تخصيص الثاني بغير الصيد، فالترجيح غير واضح» «1» [1].

توضيح وجه نظره: أنّه كما يمكن أن يقال بالضمان، للنصوص الدالّة على «أنّ من أتلف صيدا مملوكا فعليه فداؤه» الشاملة لمورد النزاع، كذلك يمكن أن يقال بعدم الضمان، لما دلّ على أنّ العارية غير مضمونة. و كما يمكن تخصيص نصوص الفداء بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك، فتخرج العارية عنها، فلا ضمان في الصيد المعار؛ فكذلك يمكن تخصيص ما دلّ على عدم الضمان في العارية بغير الصيد، ففي عارية الصيد ضمان، و لم يظهر ترجيح لأحدهما.

(1) هذا توجيه لضمان قيمة الصيد المعار، مع اقتضاء قاعدة «ما لا يضمن» عدمه. و حاصل التوجيه: خروج عارية الصيد موضوعا عن حيّز قاعدة «ما لا يضمن» المختصة بالتلف. و وجه الخروج كون الضمان للإرسال الذي هو بمنزلة الإتلاف، فلا نقض على القاعدة.

و لتوضيح التوجيه ينبغي تقديم أمرين:

الأوّل: الالتزام بوجوب إرسال الصيد المعار، كما هو المشهور، بل في

______________________________

[1] لا يخفى أنّه على ما أفاده في المسالك تكون النسبة بين ما دلّ على ضمان الصيد المتلف بغير إذن المالك، و بين ما دلّ على عدم الضمان في العارية عموما من وجه، و مع عدم المرجّح لتخصيص أحد الدليلين في المجمع- و هو الصيد المستعار- يرجع إلى الأصل، و هو هنا البراءة عن الضمان.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 5، ص 139 و 140

ص: 160

..........

______________________________

جامع المقاصد: «لم أظفر إلى الآن بمخالف» «1» و إن تأمّل هو فيه. قال العلّامة قدّس سرّه:

«لا يحل للمحرم استعارة الصيد من المحرم و لا من المحلّ، لأنّه يحرم عليه إمساكه، فلو استعاره وجب عليه إرساله، و ضمن للمالك قيمته. و لو تلف في يده ضمنه أيضا بالقيمة لصاحبه المحلّ، و بالجزاء للّه تعالى، بل يضمنه بمجرّد الإمساك» «2».

فلو قلنا بعدم وجوب تخلية سبيله و جواز ردّه إلى المالك المعير لم يتّجه ضمان القيمة حتى يكون مبنى النقض على قاعدة «ما لا يضمن». و يلوح من الشهيد الثاني قدّس سرّه عدم تعيّن وجوب الإرسال، قال قدّس سرّه بعد التأمل في فساد عارية الصيد ما لفظه: «فعلى تقدير قبضه له- أي قبض المستعير للصيد- إن ردّه على المالك لزمه الفداء للّه تعالى، و بري ء من حق المالك. و إن تلف في يده فلا شبهة في ضمانه للّه تعالى، لأنّه ثابت عليه بمجرّد الإمساك، كما في الصيد الذي ليس بمملوك» «3». فإنّ قوله: «و بري ء من حقّ المالك» ظاهر بل صريح في عدم ضمان القيمة بمجرّد الاستعارة، فلا ضمان على تقدير ردّ الصيد إلى مالكه، و إنما يجب عليه الفداء و الكفّارة.

و الحاصل: أنّ مبنى التوجيه المذكور في المتن هو استقرار القيمة على عهدة المحرم المستعير بمجرّد قبض الصيد من المحلّ.

الثاني: أنّ كون المستعير ضامنا لقيمة الصيد لمالكه مع فرض بقاء عينه- و عدم إرساله بعد- لا بدّ أن يكون للجمع بين دليلين، أحدهما: حرمة مال المسلم المقتضية لضمان ماله بماله من الخصوصيّات الشخصيّة و الصنفيّة و النوعيّة. و ثانيهما: وجوب إرسال الصيد و تخلية سبيله و حرمة تسليمه إلى المعير، فإنّه أمر بإعدام خصوصيّته و شخصيّته.

فمقتضى الجمع بينهما القول بإلغاء احترام الصيد- بعينه- رعاية لحقّ

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 60

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 209

(3) مسالك الأفهام، ج 5، ص 149

ص: 161

- بعد البناء (1) على أنّه يجب على المحرم إرساله و أداء قيمته- أنّ المستقر عليه (2) قهرا (3) بعد العارية هي القيمة، لا العين [1]. فوجوب دفع القيمة ثابت

______________________________

الخالق جلّت آلاؤه، و بقاء ماليّته على عهدة المستعير رعاية لحق المخلوق.

إذا اتّضح ما مهّدناه قلنا في تقريب توجيه المصنّف قدّس سرّه: انّ ضمان الصيد ثابت بمجرّد استيلاء المحرم على العين، حيث إنّه مأمور بالإرسال الذي هو إتلاف- و لو تنزيلا- و مورد قاعدة «ما لا يضمن» هو التلف لا الإتلاف. فلا ينتقض القاعدة بضمان الصيد المستعار، لخروجه عن القاعدة موضوعا، لما عرفت من أنّ موردها التلف، لا الإتلاف الذي هو المفروض في عارية الصيد.

(1) كما هو المشهور. و أمّا بناء على تخيير المستعير بين الرّد إلى المالك، و بين الإرسال و ضمان قيمة الصيد لم يتم هذا التوجيه. و هذا إشارة الى الأمر الأوّل الذي مهّدناه لتوضيح المتن.

(2) أي: على المحرم.

(3) يعني: بحكم الشارع، و هذا كأنّه خرق لقانون ضمان مال الغير، إذ لم يعهد اشتغال الذمّة بالبدل من المثل أو القيمة مع بقاء العين، و التمكّن من إيصالها إلى المالك.

و لا بدّ أن يوجّه بأنّ الشارع أبقى ماليّة العين و ألغى حرمة خصوصيّتها، بالأمر بإرساله، كما أوضحناه في الأمر الثاني.

______________________________

[1] هذا غير ظاهر، إذ لازمه عدم براءة ذمّة المستعير بدفع العين، لفرض كون ذمته مشغولة بالقيمة. و لا يظنّ من أحد أن يلتزم بذلك. و لعلّه لهذا حمل صاحب الجواهر حكمهم بالضمان على الإرسال، لا على مجرّد العارية. قال قدّس سرّه شارحا لكلام المحقق: «لا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا، لأنّه ليس له إمساكه، بل يجب عليه إرساله. و حينئذ فلو أثم و أمسكه ثم أرسله ضمنه ..» «1».

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 27، ص 164

ص: 162

قبل التلف (1) بسبب وجوب الإتلاف الذي (2) هو سبب لضمان ملك الغير في كلّ عقد (3)،

______________________________

(1) يعني: فلا تنقض قاعدة «ما لا يضمن» بعارية الصيد، لأنّ ضمان قيمته ثابت قبل التلف و مستند إلى الأمر بإرساله، الذي هو بمنزلة إتلافه، و من المعلوم أنّ الضمان المنفيّ في قاعدة «ما لا يضمن» إنّما هو بعد التلف، و لا منافاة بين ثبوت الضمان بالإتلاف و ما هو بحكمه، و بين نفيه بالتلف.

(2) صفة للإتلاف، لا للوجوب، لأنّ المضمّن هو الإتلاف لا الأمر به، لقولهم:

«من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

(3) المراد بالعقد هو الذي يكون موضوعا لقاعدة «ما لا يضمن» فإنّ الإتلاف مضمّن فيه. و أمّا العقد الموضوع لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فالضمان بالقيمة الواقعيّة ثابت بمجرّد التلف. و لمّا كانت العارية مندرجة في «ما لا يضمن» توقّف الضمان فيها على الإتلاف. هذا توضيح ما أفاده المصنّف قدّس سرّه.

و لا يخفى أنّ توجيه الضمان بالإتلاف قد أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه و إن خصّ الضمان بما إذا خلّى سبيل الصيد، قال قدّس سرّه: «و وجوب ذلك- أي إرسال الصيد- عليه لا ينافي ضمانه لمالكه و إن أقدم- أي المالك- على إعارته لمن يكون تكليفه إتلافه بالإرسال، فإنّ ذلك لا يقتضي ذهاب حرمة ماله، كما لا يقتضي إبطال

______________________________

و يظهر منه عدم وجود مصرّح بالضمان لو تلف الصيد بآفة سماويّة بيد المستعير قبل إرساله. و من العجب أنّ السيد قدّس سرّه حكى عبارة الشرائع هكذا قوله: «فلو أمسكه ثم أرسله ضمنه و إن لم يشترط عليه» «1». و لعلّه اعتمد على ما في الجواهر من مزج الشرح بالمتن، و إلّا فعبارة الشرائع خالية عن ترتّب الضمان على الإرسال، و إنّما يترتب على الإمساك، فراجع «2».

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 94

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 172

ص: 163

لا بسبب التلف [1].

______________________________

سببيّته- أي الإتلاف- للضمان، الحاصلة من عموم قوله: من أتلف مال غيره فهو له ضامن ..» «1».

______________________________

[1] فيه: أنّ الثابت على المستعير المحرم وجوب الإرسال تكليفا، و هو بنفسه لا يستلزم الوضع أعني به الضمان و استقرار القيمة في الذمّة، بحيث يكون نفس وجوب الإرسال- كالإتلاف- موجبا لاشتغال الذمة بالقيمة، فإنّ سببيّة وجوب الإرسال للضمان محتاجة إلى دليل. و وجوب إيجاد سبب الضمان ليس من أسباب الضمان، بشهادة عدم ضمان من يجب عليه أكل طعام الغير حفظا لنفسه عن التلف لو لم يؤكل منه حتّى مات، فإنّه لا يضمن قيمة ذلك الطعام الذي أمر بإتلافه و أكله، و لذا لو لم يرسلها بل ردّها إلى المالك لم يضمن له شيئا و إن كان آثما لتركه الإرسال الواجب.

و عليه فالضمان لا يتحقق إلّا بعد التلف، و يكون مستندا إليه، فينتقض به القاعدة.

و كيف كان فالنقض بعارية الصيد موقوف على أمور:

الأوّل: فساد العارية، إذ على فرض صحتها لا يكون الضمان فيها نقضا لقاعدة «ما لا يضمن» بل يكون تقييدا لأدلة عدم ضمان العارية الصحيحة، كما لا يخفى.

الثاني: التلف، إذ الإتلاف خارج موضوعا عن مفروض البحث، فلا بدّ من إثبات كون المقام من التلف.

الثالث: الضمان لو تلف الصيد عند المستعير، إذ بدونه لا يكون نقضا على القاعدة.

الرابع: عدم زوال ملكيّة المعير المحلّ بتسليم العين إلى المحرم المستعير، إذ مع زوالها كان الضمان- بناء على ثبوته- غير مرتبط بالعارية الفاسدة، لأنّ نفس التسليم إلى المحرم و تسلّم المحرم له بأيّ نحو كان موجب لسقوط ملكه. و هذا أجنبيّ عن الإعارة و عقدها.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 27، ص 165

ص: 164

______________________________

أمّا الأوّل: فيمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً «1» بعد ظهور الصيد في المصيد أي الحيوان الوحشي، لا في معناه المصدري، و ذلك بقرينة إضافته في الآية الشريفة المتقدمة عليها إلى البرّ و البحر. و بقرينة قوله تعالى مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ «2» و قوله تعالى في الآيتين المتقدمتين، و هما:

لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّٰهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنٰالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمٰاحُكُمْ «3» و لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ «4». و قد أطلق على الحيوان الصيد باعتبار كونه في معرض الاصطياد، و لا بأس به، لأنّه إطلاق شائع.

و تحريم ذات الصيد كغيره من التحريمات المضافة إلى الذوات- بقرينة حذف المتعلّق- ظاهر في حرمة جميع تقلّباته اصطيادا و حيازة و تملّكا و بيعا و شراء و إعارة و استعارة و استئمانا و إمساكا و غيرها، بتقريب: أنّ الحرمة بمعنى المنع الشامل للتكليفي و الوضعي. و على هذا فلا يصح كل تصرف اعتباري و خارجي يتعلّق بالعين التي أضيفت إليها الحرمة، فلا تصح إعارتها، إذ لا يصح الانتفاع بها بعد حرمة كل تصرف يتعلق بها. و من المعلوم اعتبار حليّة الانتفاع بها في صحة العارية.

و بالجملة: فيمكن الاستدلال على فساد عارية الصيد للمحرم بحرمته على المحرم، بتقريب: أنّ قوله تعالى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ظاهر في حرمة جميع التصرفات المتعلقة به من الاصطياد و الإمساك و الانتفاع به، كشرب لبنه و أكل بيضه و نحوهما، و بطلان بيعه و شرائه و عاريته و وديعته و إجارته و نحوها، فإنّ حرمة الانتفاع بالصيد تهدم قوام العارية و هو جواز الانتفاع بالعين المستعارة.

إلّا أن يقال: إنّ التحريم المضاف إلى العين ناظر إلى الفعل المناسب لها، كالتحريم

______________________________

(1) سورة المائدة (5) الآية 96

(2) سورة المائدة (5) الآية 96

(3) سورة المائدة (5) الآية 94

(4) سورة المائدة (5) الآية 95

ص: 165

______________________________

المضاف إلى الأمّهات. و عليه فالمراد بحرمة الصيد حرمة أكله، لأنّ الفعل المناسب هنا هو الأكل. نعم يراد بحرمة الصيد بقرينة النصوص حرمة جميع التقلبات.

و كيف كان فالظاهر فساد عارية الصيد لفقدان شرط صحتها و هو حلّيّة الانتفاع به.

و أمّا الثاني:- أعني به صدق التلف- فالظاهر ذلك و عدم صدق الإتلاف على الحكم بالإرسال، فلا موضوع عرفا لقاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن». و لا شرعا، إذ لم يظهر دليل على تنزيل الإرسال الواجب منزلة الإتلاف حتى يخرج إعارة الصيد عن موضوع قاعدة «ما لا يضمن» و يندرج في قاعدة «من أتلف» الحاكمة على قاعدة «ما لا يضمن» بعد توسعة موضوع قاعدة «من أتلف» ليشمل الإتلاف الحقيقي و التنزيلي.

هذا مضافا إلى: أنّ الإتلاف التنزيلي منوط بوجوب الإرسال، و هو غير مسلّم، لذهاب صاحب الحدائق إلى وجوب ردّ الصيد الى مالكه. و على هذا فالنقض وارد.

و أمّا الثالث:- و هو الضمان- فقد عرفت الخلاف فيه، و مناقشة الشهيد الثاني في ذلك، و كلام الجواهر، و هو عدم وجود مصرّح بالضمان في صورة التلف السماوي الذي هو مورد البحث، فراجع. و مع الخلاف في الضمان لا وجه لجعله من موارد النقض.

و أمّا الرابع:- و هو عدم زوال ملكية المعير- فقد يستدل له بالآية الشريفة:

وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً بالتقريب المشار إليه من أنّ حرمة ذات الصيد بنحو الحقيقة الادّعائيّة إنما هي بلحاظ حرمة جميع التقلبات تكليفا و وضعا، و منه حرمة الاصطياد مباشرة و تسبيبا، بل و دلالة و إشارة، و منه حرمة إرجاع الصيد إلى بيت مغلق و إلى الصيّاد، و ذلك يستلزم وجوب إرساله الذي لازمه الخروج عن ملك صاحبه.

لكن فيه أوّلا: أنّ استفادة وجوب إرسال مال الغير- و حرمة إرجاعه إلى صاحبه- من الآية المباركة مشكلة جدّا، لعدم إطلاق لها يشمل كون الصيد مال الغير.

و ثانيا:- بعد تسليم الوجوب- أنّ كونه ملازما لخروجه عن ملكه ممنوع، نظير

ص: 166

______________________________

وجوب أكل مال الغير في المخمصة، في عدم استلزامه للخروج عن ملك مالكه.

و مثل الاستدلال المزبور في الضعف ما قيل: من كون إيجاب الإرسال مساوقا لسلب جميع الانتفاعات، و هو ملازم لسلب الملكية التي تعتبر بلحاظ الآثار، فما لا أثر له لا يعتبر ملكيّته، كأمر الشارع بإهراق الخمر الكاشف عن عدم مملوكيّتها. و أمره بإرسال المحرم صيده الكاشف عن سلب ملكيّته.

وجه الضعف بعد التسليم في المثالين- و هما الأمر بإهراق الخمر و إرسال الصيد- أنّه لا وجه له في المقام، إذ الحكم بالإتلاف مع الضمان مؤكّد للملكية لا مزيل لها. نعم لو نهض دليل على عدم ضمانه بالإرسال كان لما ذكر من سلب الملكيّة وجه.

و ما قيل من: «أنّ الأمر في المقام دائر بين التخصيص و التخصص، و أصالة العموم تقتضي عدم التخصيص، لأنّ جواز التصرف و الإرسال مع بقاء الملكية تخصيص لدليل حرمة التصرّف في مال الغير، فأصالة الإطلاق تكشف عن خروجه عن ملكه، و أنّ جواز الإرسال إنّما هو لخروج الصيد عن ملك مالكه» ضعيف.

وجه الضعف أوّلا: أنّ الخروج عن الملك قهرا تقييد لدليل الملكية.

و ثانيا: أنّ أصالتي العموم و الإطلاق لا تجريان مع العلم بمراد المتكلم كالمقام، و الشك في التخصيص و التقييد كما قرّر في محله.

فالمتحصّل: أنّ عدّ عارية الصيد للمحرم من نقوض قاعدة «ما لا يضمن» غير ظاهر. و على تقدير تماميّة النقوض لا يرد طعن على القاعدة عكسا أو أصلا على فرض تماميّتها في نفسها، لكونها من العمومات القابلة للتخصيص.

بقي التعرّض لإشكال أورده السيد قدّس سرّه على المتن، و محصّله: أنّ سببيّة الإتلاف لضمان قيمة الصيد مبنيّة على وجوب إرساله على المحرم حتى يكون إتلافا لمال الغير.

و ليس الأمر كذلك، إذ المستفاد من النصوص حرمة إمساكه، و هي لا تستلزم وجوب الإرسال، لإمكان التخلص من حرمته بردّه إلى المعير، و معه لا موجب لضمانه بمجرد

ص: 167

______________________________

تسلّم الصيد من المعير، «1» هذا.

أقول: لا ريب في اختلاف مضامين نصوص الباب، ففي بضعها الأمر بالتخلية.

كقوله عليه السّلام في رواية: «فإذا استوى جناحاه خلّى عنه» «2» و نحوه قوله عليه السّلام في رواية «فخلّ سبيلها» «3» و نحوهما ممّا هو ظاهر جدّا في وجوب الإرسال.

و في بعضها النهي عن إمساك الصيد، كرواية شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«حرّم عليك ذبحه و إمساكه» «4» و إليه نظر السيد قدّس سرّه، لإمكان امتثال هذا النهي بكلّ من الإرسال و الرّد إلى المعير إن كان عارية.

و لا ريب في أنّ المجعول شرعا في حقّ المحرم أمر واحد، و هو إمّا مطلوبية الإرسال، فتكون مبغوضية الإمساك و الحبس بالعرض، و إمّا بالعكس. و لا يبعد استظهار الاحتمال الأوّل من مجموع النصوص الواردة في الصيد المملوك و غيره، و أنّه بمجرّد الإحرام يرسله، و أنّه لا يغلق الباب عليه و لا يؤذيه، لأنّ من دخله كان آمنا.

مضافا إلى فهم الأصحاب و تعبيرهم بوجوب الإرسال أو التخلية كما يظهر بمراجعة المتون الفقهية كالنهاية و فقه القرآن و الشرائع و السرائر و القواعد و المختصر النافع و غيرها، و نحوها الوسائل أيضا، فإنّه عنون الباب الثاني عشر من أبواب الصيد بقوله: «انّ الحمام و نحوه حتى الأهليّ إذا دخل الحرم وجب على من هو معه إطلاقه» «5» ثم ذكر بعض النصوص الناهية عن إمساك الصيد في هذا الباب.

و عليه فتعبير المصنّف قدّس سرّه بوجوب الإرسال أقرب إلى مضامين النصوص الآمرة بتخلية سبيل الصيد و إرساله، خصوصا مع تأييدها بفهم الفقهاء، و حيث إنّ الأمر بالإرسال أمر بإتلافه كان ضمان قيمته ضمان الإتلاف لا التلف.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 94

(2) وسائل الشيعة، ج 9، ص 199، الباب 2 من أبواب كفارات الصيد و توابعها، الحديث 1

(3) وسائل الشيعة، ج 9، ص 199، الباب 2 من أبواب كفارات الصيد و توابعها، الحديث 1

(4) المصدر، ص 200، الحديث 2

(5) المصدر، ص 200

ص: 168

[ب: النقض على القاعدة بمنفعة المبيع فاسدا]

و يشكل (1) اطّراد القاعدة أيضا في البيع فاسدا بالنسبة إلى المنافع التي لم يستوفها (2)، فإنّ هذه المنافع (3) غير مضمونة في العقد الصحيح، مع أنّها

______________________________

ب: النقض على القاعدة بمنفعة المبيع فاسدا

(1) معطوف على «يشكل» و هذا نقض ثالث على قاعدة «ما لا يضمن» و محصّله: منع الملازمة بين البيع الصحيح و الفاسد في ضمان المنافع الفائتة، مع أنّ مقتضى القاعدة تبعية العقد الفاسد للصحيح في عدم الضمان.

و توضيحه: أنّ المشتري للمبيع- بالعقد الفاسد- إمّا أن يستوفي منافعه و ينتفع به، كما إذا اشترى دارا فسكن فيها أو سيّارة فركبها، و لا ريب في ضمانها، لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في الأمر الثالث مما يترتّب على المقبوض بالبيع الفاسد.

و إمّا أن لا يستوفي منافعها، بل فاتت كما إذا لم يسكن في الدار مع قابليتها للسكنى.

و هذه المنافع الفائتة غير مضمونة في العقد الصحيح، و مضمونة في الفاسد، فإذا فسخ العقد الصحيح بإقالة أو غيرها لم تكن منفعتها الفائتة مضمونة على المشتري، و إنّما عليه تسليم الدار للبائع و له استرداد تمام الثمن منه.

و أمّا إذا كان البيع فاسدا فقد حكموا بأنّ المشتري كما يضمن العين- لو تلفت بيده- كذلك يضمن بدل منفعتها الفائتة في المدّة التي كانت الدار تحت يده و سلطنته.

و هذا الحكم بالضمان مناف لقاعدة «ما لا يضمن» لأنّ عدم ضمان منافع المبيع بالبيع الصحيح يقتضي عدمه في البيع الفاسد أيضا. مع أنّهم فرّقوا بين البيع الصحيح و الفاسد، و حكموا بضمان المنفعة الفائتة في المقبوض بالبيع الباطل. و هذه التفرقة تكشف عن عدم كون «ما لا يضمن» قاعدة كلّية حتى يرجع إليها في كلّ عقد لم يضمن بصحيحه، هذا.

(2) قد تقدّم آنفا وجه تقييد المنافع بعدم استيفائها، لوضوح أنّ المنافع المستوفاة مضمونة بقاعدة الاستيفاء لا باليد، فلا مورد للنقض بها على قاعدة «ما لا يضمن».

(3) أي: المنافع الفائتة.

ص: 169

مضمونة في العقد الفاسد.

إلّا أن يقال (1): إنّ ضمان العين يستتبع ضمان المنافع في العقد الصحيح و الفاسد (2). و فيه نظر (3)، لأنّ نفس المنفعة غير مضمونة بشي ء في العقد

______________________________

(1) هذا جواب النقض، و محصّله: أنّه لا موضوع للنقض بالمنافع الفائتة، و ذلك لأنّها مضمونة في عقد البيع سواء أ كان صحيحا أم باطلا، فهي داخلة في أصل القاعدة أعني به «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». و الوجه في ضمان المنافع مطلقا سواء استوفيت أم فاتت هو: أنّ البيع و إن كان «تمليك عين بعوض» و ظاهره خروج منافع العين عن مورد المعاملة، إلّا أنّ الصحيح ضمان منافعها أيضا. و ذلك لكونها ملحوظة في مقام المعاوضة و مؤثّرة في رغبة المشتري عند شراء العين، بل لزيادة المنفعة و قلّتها دخل في قيمة العين، كما هو المشاهد من طريقة العقلاء في شراء الأعيان ذوات المنافع.

و على هذا فنماءات المبيع مضمونة على المشتري، و يجب عليه ردّ عوضها إلى البائع إذا تبيّن فساد البيع.

و هذا الجواب و إن لم أظفر به بهذا النحو- من استتباع ضمان العين لضمان المنفعة- في الجواهر و غيره، لكن في بيان المحقق الكركي قدّس سرّه ما يستفاد منه ضمان منافع المغصوب و المقبوض بالبيع الفاسد، حيث قال قدّس سرّه في جواب إشكال عدم ضمان المنفعة ما لفظه: «لمّا كان المجموع في مقابلة المجموع، و فاتت المقابلة بفساد العقد كان كل منهما مضمونا بجميع أجزائه، نظرا إلى مقتضى المقابلة» «1». و ظاهره تقسيط الثمن على العين و المنفعة، و هذا مغاير لما في المتن من الاستتباع الظاهر في كون الثمن بإزاء نفس المبيع و هو العين، و إنّما تضمن المنافع بالاستلزام و الاستتباع، فلاحظ.

(2) يعني: فلا يرد النقض، إذ المفروض ضمان المنافع في العقد الصحيح و الفاسد معا، فهي من مصاديق أصل القاعدة لا عكسها.

(3) هذا ردّ على استتباع ضمان العين لضمان المنافع في العقد الصحيح و الفاسد.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 324، و اقتبسه منه السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 304

ص: 170

الصحيح (1)، لأنّ (2) الثمن إنّما هو بإزاء العين، دون المنافع.

______________________________

و حاصل وجه النظر: أنّ الثمن يبذل بإزاء العين في العقد الصحيح من دون أن يقع شي ء منه بإزاء المنافع حتّى تكون مضمونة في العقد الصحيح. و على هذا فالمنافع خارجة عن مورد العقد، فالقاعدة غير متعرّضة لها، بل يرجع في ضمانها إلى اليد أو قاعدة الاحترام أو غيرهما، فالنقض غير متوجّه، لخروج المنافع عن مورد العقد، و القاعدة ناظرة إلى مورد العقد.

و بعبارة أخرى: انّ منفعة المبيع و إن كانت ملحوظة للمشتري و متعلقة لغرضه، إلّا أنّها داعية له على شراء العين، و من المعلوم الفرق بين الحيثية التقييدية كما إذا شرط في بيع الكتاب خياطة ثوبه، و بين الحيثية التعليلية الخارجة عن مصبّ العقد، كداعويّة برودة الهواء لاشتراء الألبسة الخشنة الحارّة لدفع برودة الشتاء.

و المناط في الضمان هو الحيثيّة التقييدية دون التعليلية، و لذا قالوا بأنّ تخلّف الداعي عن المعاملة لا يوجب الخيار فيها و لا يبطلها. و على هذا فالمضمون في البيع الصحيح هو نفس العين، كما أنّ المضمون في الإجارة هو نفس المنفعة. فالجواب المذكور غير واف بدفع النقض.

و الصحيح في التخلّص عنه أن يقال: إنّ المدار على الضمان و عدمه هو مصبّ العقد، لا ما يتعلّق به. و لمّا كان الثمن مقابلا بالمبيع لا بمنافعه لم تندرج المنافع في أصل قاعدة «ما يضمن» كما زعمه المجيب عن النقض، و لا في عكسها كما زعمه الناقض.

فإن قلنا بضمانها فبدليل آخر كقاعدة الاحترام. و إن قلنا بعدمه فللاقدام على تسليط المشتري على المبيع لينتفع به، هذا.

(1) يعني: لا يقتضي نفس البيع الصحيح ضمان منفعة المبيع حتى يقتضيه فاسده، فلو ضمنها المشتري في البيع الفاسد كان لدليل آخر.

(2) تعليل لقوله «غير مضمونة» و المستفاد منه أمران، أحدهما: المناقشة في جواب النقض، و الآخر: ردّ أصل النقض. و قد تقدم توضيحهما آنفا بقولنا: «و حاصل وجه النظر: أنّ الثمن يبذل بإزاء العين» و قولنا: «و الصحيح في التخلّف عنه أن يقال ..».

ص: 171

[ج- النقض على القاعدة بحمل المبيع فاسدا]

و يمكن نقض (1) القاعدة أيضا (2) بحمل المبيع فاسدا (3)، على ما صرّح به (4)

______________________________

ج- النقض على القاعدة بحمل المبيع فاسدا

(1) هذا نقض رابع على قاعدة «ما لا يضمن» و توضيحه: أنّه إذا تبايع زيد و عمرو حيوانا حاملا- كشاة مثلا- بعشرة دنانير، فإمّا أن يكون المبيع مؤلّفا من الحمل و الحامل بأن يقسّط الثمن على كليهما، و إمّا أن يكون المبيع خصوص الأمّ، و يبقى الحمل أمانة عند المشتري إلى أن يولد، فيسلّمه إلى البائع.

فإن كان البيع صحيحا فلا كلام على كلا التقديرين. و إن كان فاسدا توجّه التفصيل بين الفرضين، فبناء على الأوّل- و هو كون المبيع كليهما- يكون المشتري ضامنا لكلّ من الحمل و الأمّ لو تلفا أو تلف أحدهما.

و بناء على الثاني- أي كون المبيع خصوص الأمّ- فمقتضى القاعدة عدم ضمان الحمل لو تلف عند المشتري، لأنّه ممّا لم يضمن في البيع الصحيح، فيلزم أن لا يضمن في البيع الفاسد أيضا، مع أنّ جماعة حكموا بضمان هذا الحمل التالف. و هذا نقض على قاعدة «ما لا يضمن».

نعم بناء على عدم ضمان الحمل- كما ذهب إليه جمع- لم يرد نقض على القاعدة، هذا.

(2) يعني: كما أمكن نقض القاعدة بما تقدّم من الموارد الثلاثة.

(3) متعلّق بالمبيع، يعني: المبيع بالبيع الباطل.

(4) اي: بضمان الحمل. قال شيخ الطائفة قدّس سرّه: «من غصب جارية حاملا ضمنها و حملها معا. و ولد المشتراة شراء فاسدا مثل ذلك» «1». و الشاهد في قوله: «و ولد المشتراة» حيث إنّه قدّس سرّه حكم على الجارية المشتراة بالشراء الفاسد بالضمان، سواء بالنسبة إليها و إلى حملها. و بهذا يتّجه النقض على قاعدة «ما لا يضمن».

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 65

ص: 172

في المبسوط و الشرائع (1) و التذكرة (2) و التحرير «من كونه مضمونا على المشتري» خلافا للشهيدين (3)

______________________________

(1) قال المحقق قدّس سرّه: «و غصب الأمة الحامل غصب لولدها، لثبوت يده عليها و كذا يضمن حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد» «1».

(2) قال العلّامة قدّس سرّه فيها: «إذا اشترى شراء فاسدا وجب عليه ردّه على مالكه، لعدم خروجه عنه بالبيع. و عليه مئونة الرّدّ كالمغصوب .. و لو زادت العين في يد المشتري زيادة منفصلة كالولد و الثمرة، أو متصلة كالسمن و تعلّم الصنعة وجب عليه ردّ الزيادة أيضا، لأنّها نماء ملك البائع، فيتّبع» «2».

و الشاهد في جعل الولد نماء مضمونا للمبيع بالبيع الفاسد. و كذلك جزم العلّامة بضمان الأمّ و الحمل في التحرير و الإرشاد «3».

(3) قال الشهيد قدّس سرّه: «و غصب الحامل غصب الحمل. أمّا حمل المبيع فاسدا أو المستام فلا ضمان فيه. و قال الفاضل: يضمن الحمل في البيع الفاسد. و لعلّه أراد مع اشتراط دخوله» «4».

أقول: و بهذا الاشتراط صرّح العلّامة في الإرشاد، حيث قال: «و لو باع الحامل فالولد له، إلّا أن يشترطه المشتري» «5». فلعلّ الشهيد أراد إطلاق حكم العلّامة في التذكرة و التحرير بضمان الحمل في المبيع بالبيع الفاسد، لا إطلاق كلامه في سائر كتبه. و كذا المحقق في الشرائع «6».

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 3، ص 236

(2) تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 495

(3) تحرير الاحكام، ج 2، ص 137؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 362

(4) الدروس الشرعية، ج 3، ص 108

(5) إرشاد الأذهان، ج 1، ص 366

(6) شرائع الإسلام، ج 2، ص 57

ص: 173

و المحقق الثاني (1) و بعض آخر (2)

______________________________

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك- بعد حكمه بضمان حمل الأمة المغصوبة- ما لفظه: «و أمّا ضمان حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد فإنّما يتم مع دخوله معها في البيع، إمّا تبعا كما يقوله الشيخ، أو مع الشرط. أمّا لو لم يكن داخلا لم يتّجه ضمانه، لأنّه مقبوض بإذن المالك، و ليس مبيعا فاسدا حتى يضمن بفاسده كما يضمن بصحيحه ..

و قد اختلف كلام العلّامة في المسألة. ففي التحرير جزم بضمان الأمة و الحمل معا كما ذكره المصنّف- يعني المحقّق- و في القواعد جزم بعدم ضمان الحمل. و هو الأصحّ.

و لا إشكال مع دخوله في البيع» «1».

و قال في الروضة: «و غصب الحامل غصب للحمل، لأنّه مغصوب كالحامل، فالاستقلال باليد عليه حاصل بالتبعيّة لامّه. و كذلك حمل المبيع فاسدا حيث لا يدخل في المبيع، لأنّه ليس مبيعا، فيكون أمانة في يد المشتري، لأصالة عدم الضمان، و لأنّ تسلّمه بإذن البائع. مع احتماله، لعموم على اليد» «2».

و احتماله الضمان غير مذكور في عبارة المسالك المتقدمة.

(1) قال قدّس سرّه في شرح قول العلّامة في القواعد: «و يضمن حمل الغصب لا حمل المبيع فاسدا» ما لفظه: «أمّا حمل الغصب فإنّه مغصوب كالأصل. و أمّا حمل المبيع فإنّه ليس مبيعا، إذ لا يندرج الحمل في بيع الامّ، فيكون أمانة في يد المشتري، لأصالة عدم الضمان، و لأنّ تسلّمه بإذن المالك الذي هو البائع» «3».

(2) كالمحقق الأردبيلي قدّس سرّه «4». و قال السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه بعد سرد أسماء المذكورين في المتن: «و لعلّه- أي عدم الضمان- قضية كلام الباقين إلّا

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 155

(2) الروضة البهية، ج 7، ص 24 و 25

(3) جامع المقاصد، ج 6، ص 220

(4) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 511

ص: 174

تبعا للعلّامة قدّس سرّه في القواعد (1). مع أنّ (2) الحمل غير مضمون في البيع الصحيح بناء على أنّه للبائع (3). و عن الدروس (4) توجيه كلام العلّامة بما إذا اشترط الدخول في البيع. و حينئذ لا نقض على القاعدة (5).

______________________________

من ستعرفه» «1».

(1) تقدّمت عبارة القواعد آنفا. و بالجملة فبناء على القول بعدم ضمان الحمل في بيع الحامل ببيع فاسد لا يتّجه النقض على قاعدة «ما لا يضمن».

(2) هذا هو النقض على القاعدة بناء على قول شيخ الطائفة و المحقّق و غيرهما من ضمان حمل المبيع فاسدا كضمانه بالغصب، مع عدم ضمانه في البيع الصحيح، لكون تمام الثمن بإزاء الحامل، و عدم تقسيطه عليها و على الحمل.

(3) إذ لو كان الحمل للمشتري- في البيع الصحيح- كان مضمونا عليه ببعض الثمن، لكونه جزءا للمبيع.

(4) غرضه قدّس سرّه من نقل توجيه الشهيد قدّس سرّه هو سلامة قاعدة «ما لا يضمن» عن النقض بحمل المبيع فاسدا، و محصّل التوجيه: أنّ مورد حكم العلّامة- في ما عدا القواعد من كتبه- بضمان الحمل في بيع الحامل فاسدا هو ما إذا اشترط المشتري على مالك الامّ بجزئيّة الحمل لها، كما إذا قال: «أشتري هذه الشاة الحامل على أن تكون سخلتها لي» و قبل البائع، فإنّ المشتري يضمن كلّا منهما بالضمان المعاوضي، بمعنى وقوع بعض الثمن بإزاء الأم و بعضه بإزاء الحمل. و إذا تبيّن فساد العقد كان الضمان لأجل تخلف الشرط، لا لاقتضاء ذات العقد.

________________________________________

(5) لأنّ الحكم بالضمان مع الشرط إنّما يكون لأجل الشرط، لا لاقتضاء ذات العقد. و من المعلوم أنّ مورد القاعدة هو اقتضاء نفس العقد للضمان و عدمه، لا لأمر خارج عن حقيقته كالشرط، فيخرج عن موضوع القاعدة أصلا و عكسا. فلا نقض.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 223

ص: 175

[د- النقض على القاعدة بالشركة الفاسدة]

و يمكن النقض أيضا بالشركة الفاسدة (1) [1]،

______________________________

د- النقض على القاعدة بالشركة الفاسدة

(1) هذا نقض خامس على قاعدة «ما لا يضمن» و هو الفرق بين الشركة الصحيحة و الفاسدة. و تقريبه: أنّ الشركة الفاسدة توجب الضمان و حرمة التصرف في المال المشترك، مع أنّ الشركة الصحيحة لا توجب الضمان، فينتقض قاعدة «كلّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بالشركة الفاسدة.

لكن هذا النقض إنّما يتوجّه بناء على عدم جواز التصرّف بسبب الشركة الفاسدة في المال المشترك، لانتفاء الاذن في التصرّف مع فساد الشركة. كما أنّ الوجه في جواز التصرف بقاء الاذن فيه.

و منشأ الوجهين أنّ تقييد الإذن بالشركة هل هو بنحو وحدة المطلوب أم تعدده؟ فعلى الأوّل لا يجوز، و على الثاني يجوز، فلا نقض، لوجود الاذن الرافع للضمان، كعدم الضمان في الشركة الصحيحة.

______________________________

[1] الظاهر عدم ورود هذا النقض، لأنّ الشركة إن كانت مقتضية لجواز التصرّف لم يكن فرق بين الشركة الصحيحة و الفاسدة في عدم الضمان، لكون الشريك أمينا، و لا ضمان على الأمين. و إن لم تكن مقتضية له لم يجز التصرّف مطلقا، سواء صحّ عقد الشركة أم فسد، و يثبت الضمان مطلقا، لعموم «على اليد» من دون مخصّص. فهذا النقض غير وارد.

و قد يقال: بانتقاض أصل القاعدة- أعني به: كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده- بالنكاح الفاسد، مع علم المرأة بالفساد، لأنّها حينئذ زانية، و لا مهر لبغيّ، فإنّ النكاح الصحيح يوجب ضمان الصداق للمرأة، دون فاسده.

لكن فيه ما لا يخفى، لأنّ النكاح خارج عن القاعدة موضوعا، إذ ليس المهر بإزاء الاستمتاع بالزوجة حتّى يضمن على كلا تقديري صحة العقد و فساده، بل المهر بإزاء

ص: 176

بناء (1) على أنّه لا يجوز التصرّف بها، فأخذ المال المشترك حينئذ (2) عدوانا [1] موجب للضمان (3).

______________________________

(1) إذ بناء على إذن كلّ واحد من الشركاء لغيره في التصرّف في المال المشترك مطلقا- حتّى مع العلم بفساد الشركة- لم يرد نقض على القاعدة، فالنقض مبني على وحدة المطلوب و تقيّد الاذن في التصرّف بخصوص الشركة الصحيحة شرعا.

(2) أي: حين فساد الشركة و انتفاء الاذن.

(3) فتنقض قاعدة «ما لا يضمن» إذ لا ضمان في الشركة الصحيحة، مع أنّ في فاسدها الضمان.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية ممّا يتعلق بقاعدة «ما لا يضمن» و سيأتي الكلام في الجهة الأخيرة، و هي دليل الاعتبار.

______________________________

الزوجية الاعتبارية- سواء أ كانت دائميّة أم انقطاعيّة- الثابتة بنفس العقد، لأنّ استحقاق المرأة للمهر إنّما هو بنفس العقد المحقّق للزوجية و إن لم يكن هناك استمتاع، كما إذا ماتت قبل مباشرة الزوج لها و التمتّع بها.

و الحاصل: أنّه ليس هنا شي ء يضمنه الزوج بالتلف أو الإتلاف. و مورد القاعدة كون الضمان مسبّبا عن أمر آخر غير العقد كالقبض في العقد، فإنّ التلف بعده يوجب الضمان، و قبله لا يوجبه، بل هو من مال بائعه.

و بالجملة: البضع و سائر الاستمتاعات لا ماليّة لها شرعا، فلا تقابل بالمال. نعم قد ثبت مهر المثل في بعض الموارد كالوطي بالشبهة، لاحترام الأعراض.

فالمتحصّل: أنّ ثبوت المهر في النكاح الصحيح، و عدمه في الزنا أجنبي عن مورد القاعدة.

[1] هذا متّجه في صورة العلم بفساد الشركة دون الجهل به، فالدليل أخصّ من المدّعى، فالأولى التمسّك بقاعدة اليد.

ص: 177

[الجهة الثالثة: مستند قاعدة «ما لا يضمن]
[أ: الأولويّة]

ثم إنّ مبنى هذه القضية السالبة (1)- على ما تقدّم من كلام الشيخ في المبسوط- هي الأولويّة (2).

______________________________

الجهة الثالثة: مستند قاعدة «ما لا يضمن» أ: الأولويّة

(1) أي: قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و قد أحسن المصنّف قدّس سرّه في التعبير بالقضيّة السالبة الموافق للصناعة، دون العكس لما مر من كون التعبير بالعكس مبنيّا على المسامحة. و كيف كان فهذا شروع في الجهة الثالثة- و الأخيرة- مما يتعلّق بالقاعدة، و هي مدركها و الدليل عليها. و المذكور في المتن أمران: أحدهما الأولويّة التي استظهرها من عبارة المبسوط، و ثانيهما الأخبار المتفرّقة الواردة في عدم ضمان الأمين، و سيأتي الكلام فيهما إن شاء اللّه تعالى.

(2) هذا هو الدليل الأوّل، و قد نقل المصنّف كلام شيخ الطائفة قدّس سرّهما إجمالا في صدر المسألة و حكيناه هناك بألفاظه، فراجع (ص 60) و المقصود منه هو استدلاله على عدم ضمان العين المرهونة في الرّهن المتضمن لشرط فاسد- مثل كونها مبيعة من المرتهن لو لم يؤدّ الراهن دينه، قال في المبسوط: «لأنّ صحيح الرهن غير مضمون عليه- أي على المرتهن- فكيف فاسده» «1».

و هذه العبارة الموجزة يحتمل أن يراد بها التعجّب من الضمان في العقد الفاسد الذي لا يؤثّر صحيحه في الضمان. و يحتمل أن يراد بها أولويّة عدم الضمان في العقد الفاسد من عدمه في العقد الصحيح منه، كالرهن الصحيح و الفاسد. و استظهر المصنّف قدّس سرّه هذا الاحتمال.

كما أنّه يحتمل أن يريد شيخ الطائفة- بناء على الأولويّة- أولويّة عدم ضمان العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه كالرهن- من عدم ضمان نفس هذا العقد الذي لا يضمن بصحيحه. و لعلّ هذا ظاهر العبارة. و يحتمل أن يريد قدّس سرّه ما استظهره

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 204

ص: 178

و حاصلها: أنّ الرّهن لا يضمن بصحيحه فكيف بفاسده؟ و توضيحه (1):

______________________________

المصنّف من أولويّة العقد الفاسد مما لا يضمن بصحيحه من فاسد العقد الذي يضمن بصحيحه كالبيع.

و الانصاف عدم خلوّ المتن من اندماج، فلا بدّ أوّلا من بيان ما أفاده الماتن في توضيح عبارة المبسوط، و ثانيا من التعرّض لما أفاده في تقريب الأولويّة.

(1) أي: توضيح انتفاء الضمان في الرهن الفاسد و نحوه من العقود التي لا تضمن بصحيحها، و أمّا كون عدم الضمان في الفاسد للمساواة مع الصحيح أو للأولويّة فسيأتي في المتن بقوله: «وجه الأولويّة».

و محصّل ما أفاده بقوله: «و توضيحه» هو: أنّ سبب الضمان الجعليّ في العقود الصحيحة المضمّنة كالبيع و الصلح المعاوضيّ و الإجارة إمّا أن يكون إقدام المتعاقدين على صيرورة مال كلّ منهما مضمونا بمال الآخر. و إمّا أن يكون السبب إمضاء الشارع لما أقدما عليه، و حكمه بوجوب الوفاء بما التزما به.

و كلا السببين منتف في مثل الرّهن. أمّا انتفاء الاقدام على الضمان بالمسمّى فواضح، لأنّ تسليم العين إلى المرتهن ليس بقصد تمليكها له بعوض، بل بقصد كونها وثيقة عنده، فتكون أمانة كالعين في الوديعة و العارية و الوكالة. و أمّا انتفاء الضمان الناشئ من حكم الشارع بصحّة العقد فلأنّ المراد بالصحة في باب المعاملات إمضاء ما التزم به المتعاقدان و وجوب الوفاء به، فالإمضاء يكون على طبق الممضى و مماثلا له. و لمّا كان الممضى هو البناء على تسليم العين إلى المرتهن و تسلّمها بلا عوض كان معنى صحة الرّهن شرعا إمضاء ما أقدما عليه من عدم ضمان العين لو تلفت بيد المرتهن.

هذا إذا كان عقد الرّهن صحيحا. و كذا الحال لو كان فاسدا، فلا ضمان فيه، لا من جهة الإقدام على الضمان و لا من جهة حكم الشارع و إمضائه. أمّا انتفاء الاقدام فلأنّ الرهن الفاسد فرد من طبيعيّ الرّهن المبنيّ على كون العين المرهونة وثيقة

ص: 179

أنّ الصحيح من العقد (1) إذا لم يقتض (2) الضمان- مع إمضاء الشارع له- فالفاسد الذي هو بمنزلة العدم لا يؤثّر (3) في الضمان. لأنّ أثر الضمان (4) إمّا من الاقدام على الضمان (5)،

______________________________

و أمانة بيد المرتهن. و أمّا انتفاء الضمان من ناحية الإمضاء فلأنّ المفروض فساد العقد و كونه بمنزلة العدم، فكيف يؤثّر في الضمان؟ بل عدم الضمان في الرّهن الفاسد يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

و المتحصّل: أنّ علّة عدم الضمان مشتركة بين الرّهن الصحيح و الفاسد، فلا بدّ أن يكون المعلول- و هو عدم الضمان- كذلك. هذا تقريب عدم اقتضاء العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه للضمان. و أمّا أنّه للمساواة أو لأولويّة الفاسد بعدم الضمان فسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: عقد الرّهن و نحوه مما لا يضمن بصحيحه.

(2) قد تقدّم آنفا وجه عدم اقتضاء الصحة و الإمضاء الشرعي للضمان، و محصّله: أنّ الإمضاء لا بدّ أن يكون على طبق الممضى، و لمّا كان الممضى هو الاقدام على الاستيمان لا المعاوضة، كان حكم الشارع بالصحة تثبيتا لهذا الاقدام، فيمتنع استناد الضمان إلى الإمضاء.

(3) هذه العبارة تدلّ على أنّ العقد الفاسد من الرّهن لا يكون مضمّنا، و أمّا أنّه لمساواته للعقد الصحيح أو لأولويّته منه في عدم الضمان فلا يستفاد منها.

(4) الإضافة بيانيّة، و غرضه أنّ الضمان- الذي هو أثر الصحة أو الإقدام- منتف في العقد الفاسد. و قد عرفت توضيحه آنفا. و لو قال: «لأنّ الضمان ..» كان أسهل تناولا.

(5) مقصوده قدّس سرّه انتفاء المقتضي للضمان. و لا يخفى أنّ استناد عدم الضمان إلى عدم الاقدام على المعاوضة لم يذكر في كلام شيخ الطائفة هنا، إذ المذكور فيه هو انتفاء الصحّة شرعا، و لكنّ المصنّف قدّس سرّه أضاف إليه انتفاء الاقدام هنا، لأنّه استفاده من

ص: 180

و المفروض عدمه، و إلّا يضمن (1) بصحيحه. و إمّا (2) من حكم الشارع بالضمان بواسطة هذه المعاملة الفاسدة، و المفروض أنّها لا تؤثّر شيئا [1].

و وجه الأولويّة (3): أنّ الصحيح

______________________________

تعليل الضمان في «ما يضمن بصحيحه» في موارد متعددة من المبسوط- بالاقدام و الدخول على أن تكون العين مضمونة، فإذا كان الضمان للإقدام في مثل عقد البيع كان عدم الضمان في الرّهن لأجل عدم الاقدام على المعاوضة و المبادلة. و لا بأس بما صنعه المصنّف قدّس سرّه استقصاء لجهات البحث.

(1) أي: لو كان الراهن و المرتهن أقدما على الضمان لكان الرّهن الصحيح مؤثّرا في الضمان، مع أنّ المفروض عدم مضمّنيّته.

(2) يعني: أنّ الموجب الثاني للضمان هو حكم الشارع بالضمان في هذا الرهن الفاسد، و لكن لا يجتمع الفساد الشرعيّ مع الضمان، لأنّ معنى الفساد لغويّة العقد و كونه كالعدم، و الضمان الشرعيّ يدور مدار الجعل و لو إمضاء، و المفروض عدمه.

(3) ظاهر العبارة أولويّة الرهن الفاسد- بعدم الضمان- من البيع الفاسد الذي يضمن بصحيحه، لا أولويّة الرهن الفاسد بعدم الضمان من الصحيح منه. و توضيحه:

أنّه قد سبق في (ص 58 و 115) استدلال شيخ الطائفة على الضمان في الفاسد- ممّا يضمن بصحيحه- بقاعدة الاقدام و الدخول على المعاوضة. و ناقش المصنّف فيه بأنّه

______________________________

[1] هذا الوجه إنّما يتّجه بناء على كون الضمان ناشئا عن العقد بحيث يكون نفس العقد سببا له، إذ يصح حينئذ أن يقال: إذا لم يكن الصحيح مقتضيا للضمان فالفاسد- الذي يكون كالمعدوم في عدم ترتّب أثر عليه- أولى بعدم تأثيره في الضمان. و أمّا بناء على كون سبب الضمان و مقتضية غير العقد من اليد و التصرّف فلا بدّ أن يكون عدم الضمان في الصحيح لاقتضاء العقد له، و لا يلزم من اقتضاء الصحيح للعدم أن يكون الفاسد كذلك، و من الواضح أنّ الأمر كذلك أي يكون سبب الضمان غير العقد.

ص: 181

..........

______________________________

لا سبيل لإثبات الضمان في مثل البيع الفاسد بقاعدة الإقدام، لأنّهما أقدما في العقد الصحيح على ضمان خاصّ و هو الضمان الجعلي المسمّى في العقد، و لم يقدما على طبيعيّ الضمان، حتّى يثبت الضمان بالبدل الواقعي في العقد الفاسد، فثبوت المثل أو القيمة في عهدة المتبايعين منوط بالدليل عليه.

فمقتضى قاعدة الإقدام انتفاء الضمان بالمسمّى في البيع الفاسد، لفرض أنّ الشارع لم يصحّح العقد و لم يمض ما أقدما عليه. مع وضوح أنّ البيع الفاسد يقتضي الضمان من جهة كونه مصداقا لطبيعيّ البيع المتقوّم بالمبادلة و المعاوضة بين المالين.

و عليه نقول: إنّ انتفاء الضمان بالعوض المسمّى في البيع الفاسد- لعدم الاقدام على طبيعيّ العوض و عدم إمضاء الضمان الخاص- يدلّ بالأولويّة القطعيّة على انتفاء الضمان في مثل الرّهن الفاسد الذي لا يضمن بصحيحه.

و وجه الأولويّة: أنّ الرهن الفاسد لا يتوقّع ترتب الضمان عليه، و ذلك لانتفاء كلّ من الاقدام على الضمان و الإمضاء، بخلاف البيع الفاسد، فإنّه من جهة كونه مصداقا لمفهوم البيع المتقوّم بالمبادلة و المعاوضة يترقّب منه الضمان، و مع ذلك لم يترتب عليه.

و هذا البيان كما ترى ظاهر في أولويّة فاسد العقد- الذي لا يضمن بصحيحه- بعدم الضمان من فاسد العقد الذي يضمن بصحيحه كالبيع. و هو لا يلتئم مع كلام المبسوط- بناء على إرادة الأولويّة دون التعجّب و المساواة- لدلالته على أولويّة فاسد العقد- الذي لا يضمن بصحيحه- من صحيحه كالرهن الصحيح و الفاسد.

و لذا تكلّف المحقّق الأصفهاني قدّس سرّه في توجيه الأولويّة التي ادّعاها المصنّف قدّس سرّه، بأن يقال: إنّ الملحوظ طبيعيّ العقد الصحيح، فالصّحّة في كلّ عقد تقتضي الضمان، سواء أ كان بيعا أم رهنا، فإذا لم يثبت الضمان فيه فعلا- مع اقتضاء الصحة ثبوته- فالفاسد الذي ليس فيه اقتضاء الضمان- إمّا لعدم إقدام مضمّن كما في الرهن، و إمّا لعدم إمضاء مضمّن كالبيع الفاسد- أولى بأن لا يوجب الضمان.

و على هذا فالرّهن الفاسد أولى بعدم الضمان من الرّهن الصحيح، لأنّ الصحة بنفسها

ص: 182

إذا كان مفيدا للضمان (1) أمكن أن يقال: إنّ الضمان من مقتضيات الصحيح (2)، فلا يجري في الفاسد، لكونه لغوا غير مؤثّر، على ما سبق تقريبه (3) من أنّه أقدم على ضمان خاصّ (4)، و الشارع لم يمضه، فيرتفع أصل الضمان (5) [1].

______________________________

مقتضية للضمان، و إن لم يبلغ مرتبة الفعلية، و هذا الاقتضاء الناقص مفقود في الفاسد «1».

(1) هذه الجملة قرينة على أن المصنّف قدّس سرّه قاس الأولوية بين نوعين من العقود، يعني العقد الصحيح المفيد للضمان الذي لا يؤثّر فاسده في الضمان، و بين العقد الصحيح الذي لا يفيد ضمانا كالرّهن، فجعل العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه أولى بعدم الضمان من العقد الفاسد الذي يضمن بصحيحه.

(2) يعني: أنّ الصحة الشرعيّة تقتضي الضمان، سواء أ كان مضمّنا بالفعل أم لا، فإذا انتفت الصحّة لم يبق المقتضي له.

(3) حيث قال في الاعتراض على استدلال شيخ الطائفة بالاقدام ما لفظه:

«و هذا الوجه لا يخلو من تأمّل، لأنّهما إنّما أقدما و تراضيا بالعقد الفاسد على ضمان خاصّ، لا الضمان بالمثل أو القيمة، و المفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاصّ، و مطلق الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصيّة».

(4) و هو الضمان بالبدل المسمّى في العقد المعاوضيّ، كضمان الكتاب بدينار في بيعه به.

(5) يعني: فيرتفع أصل الضمان في العقد الفاسد الذي يضمن بصحيحه، فكيف حال العقد الفاسد الذي لا يضمن بصحيحه، فإنّه أحرى بعدم الضمان؟

هذا كله في تقرير الأولوية، و سيأتي مناقشة المصنّف قدّس سرّه فيها.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ المحقق الايرواني قدّس سرّه استظهر من المتن: أنّ مقصود المصنّف قدّس سرّه ملاحظة الأولويّة بين عقدين يقتضي صحيح أحدهما الضمان، و لا يقتضيه الآخر، لكنه قدّس سرّه لغموض كلام الماتن قال: «ينبغي تقرير الأولويّة هكذا: إنّ

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 85

ص: 183

لكن يخدشها (1):

______________________________

(1) أي: يخدش الأولويّة، و محصّل الخدشة: أنّ مبنى الأولويّة- و هو إمكان كون علّة الضمان صحة العقد و إمضاء الشارع لما أقدم عليه المتعاقدان- معارض بإمكان دعوى كون الصحة في العقد الصحيح غير المفيد للضمان كالرهن و الإجارة- بالنسبة إلى العين المستأجرة- و إمضاء الشارع لما أقدما عليه من التسليط المجّانيّ هو السبب الرافع للضمان، و المانع عن تأثير القبض فيه. و لا يجري في العقد الفاسد، لعدم إمضاء الشارع للتسليط المجّانيّ على ما هو معنى الفساد، فلا أولويّة.

و الحاصل: أنّ لكلّ من الصحيح و الفاسد مزيّة ترفع أولويّة الفاسد من الصحيح في عدم الضمان. أمّا مزيّة الفاسد فقد عرفتها من عدم إقدام مضمّن و إمضاء مضمّن. و أمّا مزيّة الصحيح فهي أنّ إمضاءه المقتضي للسلطنة الشرعيّة الرافعة للضمان عند وجود سببه مختصّ به، فبلحاظ الإمضاء- الذي هو أمر وجوديّ رافع للضمان- يمتاز الصحيح عن الفاسد، فلا أولويّة.

و اعلم أنّ المذكور في المتن من المناقشة في استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه أمران:

أحدهما: ما أفاده المصنّف بقوله: «لكن يخدشها» و غرضه منع أولويّة العقد

______________________________

صحيح العقد الذي كان فيه إقدام على الضمان ليس في فاسده إقدام، لما عرفت أنّ الاقدام حاصل على المسمّى، و لا ضمان به. و ما به الضمان و هو المثل أو القيمة لا إقدام عليه. فإذا كان هذا حال ما كان الإقدام في صحيحه على الضمان موجودا، فكيف ما لا إقدام في صحيحه على الضمان، فإنّه بالأحرى أن لا يكون في فاسده إقدام على الضمان» «1».

و هذا كما ترى ملاحظة للأولويّة بين عقدين لا بين صحيح عقد و فاسده، مع أنّ ظاهر عبارة المبسوط كما تقدّم في التوضيح جعل عدم ضمان فاسد الرهن أولى من عدمه في صحيحه. إلّا أن يتكلّف في توجيه المتن بما أفاده المحقق الأصفهاني، و أدرجناه في التوضيح، فتأمّل فيه حقّه.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 95

ص: 184

أنّه (1) يجوز أن يكون صحّة الرّهن و الإجارة (2) المستلزمة لتسلّط المرتهن و المستأجر على العين شرعا (3) مؤثّرة في رفع الضمان، بخلاف الفاسد الذي لا يوجب تسلّطا لهما على العين، فلا أولويّة (4).

فإن قلت (5): إنّ الفاسد و إن لم يكن له دخل

______________________________

الفاسد من العقد الصحيح بعدم الضمان، و قد عرفته.

ثانيهما: ما أفاده بقوله: «فان قلت» و أجاب عنه، و محصّله منع مساواة العقد الفاسد للصحيح في عدم الضمان، لوجود المقتضي للضمان في الفاسد، و عدمه في الصحيح، فكيف يكون الفاسد أولى بعدم الضمان؟

(1) هذا مرفوع محلّا على أنّه فاعل «يخدشها» و الضمير للشأن.

(2) عطف الإجارة على الرّهن- في كون العين غير مضمونة بيد المرتهن و المستأجر للتسليط المالكي- مبنيّ على دخول العين المستأجرة في قاعدة «ما لا يضمن» كما استظهره قدّس سرّه بقوله: «فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة بالعين المستأجرة و لا متخصّصة» و إلّا فبناء على ما ذهب إليه صاحب الرياض و غيره من ضمانها لا تكون الإجارة كالرّهن.

(3) قيد لقوله: «تسلّط» يعني: فتكون العين أمانة شرعيّة و مالكيّة، فلا وجه للضمان في العقد الصحيح.

(4) أي: فلا أولويّة للفاسد من الصحيح في عدم الضمان.

(5) هذا الاشكال ناظر إلى أصل استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه مع الغضّ عن الخدشة التي ذكرها بقوله: «لكن يخدشها» و هو مبنيّ على أمرين:

الأوّل: أنّ حديث «على اليد» يقتضي ضمان المستولي على مال الغير مطلقا، سواء أ كانت يده عدوانيّة أم أمانيّه، و سواء أ كان بعقد صحيح أم لا، لصدق «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» على جميع موارد الوضع.

ص: 185

في الضمان (1)، إلّا أنّ مقتضى عموم «على اليد» هو الضمان (2)، خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي يكون مواردها غير مضمونة على القابض، و بقي الباقي (3).

______________________________

الثاني: أنّ هذا العموم خصّص في جملة من العقود الصحيحة، حيث لا ضمان فيها كالوديعة و العارية و الرهن و الوكالة و نحوها ممّا يكون التسليط بإذن الشارع و المالك. و أمّا إذا كانت هذه العقود باطلة غير ممضاة شرعا كان وضع اليد فيها مندرجا في عموم «على اليد» كاليد العدوانيّة في موارد الغصب المقتضية للضمان.

و بناء على هذين الأمرين يتّضح منع مساواة العقد الفاسد- ممّا لا يضمن بصحيحه- للصحيح في عدم الضمان، فضلا عن أولويّة الفاسد من الصحيح فيه.

و الوجه في المنع: أنّ سبب الضمان غير منحصر في ما أفاده شيخ الطائفة قدّس سرّه من إقدام المالك على الضمان و إمضاء الشارع له، حتى يقال بتساوي الصحيح و الفاسد في علّة عدم الضمان و هي عدم الاقدام المضمّن و عدم الإمضاء المضمّن. بل للضمان سبب آخر، و هو قاعدة اليد الشاملة لكلّ من العقد الصحيح و الفاسد. إلّا أنّها خصّصت في العقود الصحيحة التي لا ضمان فيها، كالرهن و الوديعة و المضاربة، و لم تخصّص في فاسد هذه العقود. و مقتضى عموم قاعدة اليد- التي هي أمر خارج عن مرحلة العقد- هو الضمان في العقد الفاسد. و معه كيف حكم شيخ الطائفة قدّس سرّه بعدم الضمان في الرّهن الفاسد، استنادا إلى مساواته للصحيح في السببيّة لعدم التضمين؟

(1) لما عرفت من انتفاء علّة الضمان، و هي الإقدام على الضمان، و إمضاء هذا الاقدام، و هذه مشتركة بين الرهن الصحيح و الفاسد.

(2) فالعقد الفاسد من جهة وجود هذا العموم فيه أولى بالضمان من الصحيح.

(3) و العقد الفاسد ممّا بقي تحته، لعدم صلاحيّته لتخصيص عموم قاعدة اليد.

ص: 186

[ب: عموم دليل الهبة و الأمانات]

قلت (1): ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به (2) المقبوض

______________________________

ب: عموم دليل الهبة و الأمانات

(1) هذا جواب الاشكال على المساواة بين العقد الصحيح و الفاسد في عدم الضمان، و غرض المصنّف قدّس سرّه إثبات الملازمة في عدم الضمان بين العقد الصحيح غير المضمّن و بين فاسده.

و هذا الجواب دليل ثان على قاعدة «ما لا يضمن». و محصّله: أنّ الدليل المخرج للمقبوض بصحاح تلك العقود عن عموم على اليد- على ما اعترف به المستشكل- هو المخرج بعينه لفاسد تلك العقود عن العموم المزبور. و ذلك الدليل عموم ما دلّ على عدم ضمان من تسلّم مال الغير من دون أن يضمّنه المالك، من غير فرق في عدم الضمان بين التمليك المجّانيّ كالهبة، و بين التسليط على الانتفاع بعين مجّانا كالعارية، أو بعوض كالإجارة، إلى غير ذلك من موارد الاستيمان المالكيّ، بعد تساوي صحيح هذه العقود و فاسدها في الجهات الداخليّة و الخارجيّة. أمّا الداخليّة فهي عدم الاقدام المضمّن، و عدم الإمضاء المضمّن. و أمّا الجهات الخارجيّة فهي اليد الموجبة بذاتها للضمان و الاذن المالكيّ الرافع له.

و المراد بالاستئمان المالكي هو التسليط عن الرضا و عدم كونه بلا إذن منه حتى تكون يده عادية، و التسليطات المجانيّة كلّها كذلك. و ليس المراد بالاستئمان المالكي الاستنابة في الحفظ، ضرورة أنّه لا شي ء من العقود كذلك إلّا الوديعة.

و بعد فرض تساوي العقود الصحيحة و الفاسدة في الجهات الداخليّة و الخارجيّة تكونان متساويتين أيضا في الحكم بالضمان و عدمه. فإذا دلّ دليل على عدم الضمان في الصحيحة دلّ على عدمه في الفاسدة أيضا.

(2) هذا الضمير و ضمير «به» المتقدم راجعان إلى «ما» الموصول المراد به عموم ما دلّ على عدم الضمان في موارد الاستيمان.

ص: 187

بفاسدها (1)، و هي عموم (2) ما دلّ على: أنّ من لم يضمّنه (3) المالك سواء ملّكه إيّاه بغير عوض (4)، أو سلّطه على الانتفاع به (5)، أو استأمنه عليه لحفظه (6) أو دفعه إليه لاستيفاء حقّه (7)، أو العمل فيه بلا اجرة (8) أو معها، أو غير ذلك (9)، فهو (10) غير ضامن.

أمّا (11) في غير التمليك بلا عوض- أعني الهبة- فالدليل المخصّص لقاعدة

______________________________

(1) لمساواة فاسد تلك العقود مع صحاحها في الجهة المخرجة لها عن إطلاق «على اليد».

(2) هذا العموم يستفاد من النصوص المتفرّقة كما سيأتي ذكر جملة منها إن شاء اللّه تعالى.

(3) بصيغة التفعيل، أي: لم يقصد المالك ضمان القابض لماله.

(4) كما في الهبة بغير عوض، لكونها تمليكا للعين مجّانا.

(5) كما في العارية، فإنّ المالك المعير يسلّط المستعير على العين للانتفاع بها.

(6) كما في الوديعة، فإنّها استيمان لحفظ المال عن الضّياع.

(7) كما في إجارة الأعيان، فالمؤجر يسلّط المستأجر على العين ليستوفي حقّه منها، كالسكنى في الدار.

(8) كما إذا دفع القماش إلى الخيّاط ليخيطه ثوبا تبرّعا منه بالخياطة، أو دفع القماش إليه ليخيطه ثوبا بأجرة معيّنة. و هذه إجارة على الأعمال المحترمة. فسواء أ كان العمل مع أجرة أم بدونها تكون يده على الثوب أمانية لا يضمن تألفها.

(9) كما في دفع مال المضاربة إلى العامل للتجارة به. و كدفع المال الموكّل في بيعه إلى الوكيل، فهما غير ضامنين لما بيدهما.

(10) جزاء الشرط في قوله: «من لم يضمّنه».

(11) غرضه قدّس سرّه إبداء الفرق بين الهبة غير المعوّضة، و بين العقود الأمانيّة التي لا تضمن بصحيحها و فاسدها، و الفارق هو عدم صدق الأمانة في باب الهبة،

ص: 188

الضمان (1) عموم ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل «ليس لك أن تتّهمه» (2).

______________________________

لكونها رافعة للملك و لا تكون العين أمانة بيد المتّهب، بل هي ملكه، بخلاف العارية و الوكالة و المضاربة و الوديعة و الرهن و نحوها، فإنّها مصاديق لعموم ما دلّ على «عدم ضمان الأمين». و لا بدّ حينئذ من دليل آخر لإثبات عدم الضمان في الهبة الفاسدة، و ذلك الدليل هو الأولويّة القطعيّة، و سيأتي بيانها.

(1) يعني: قاعدة اليد المقتضية للضمان في كلّ استيلاء على مال الغير، سواء أ كان بالعقد أم بغيره، و سواء أ كان العقد صحيحا أم فاسدا.

(2) كما في رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته، و لا تأتمن الخائن و قد جرّبته» «1». و رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ليس لك أن تأتمن من خانك، و لا تتّهم من ائتمنت» «2».

و هناك نصوص أخرى دالة على عدم ضمان الأمين في موارد الوديعة و العارية و الإجارة على الأعمال، فمنها: مرسلة أبان بن عثمان عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث، قال: «و سألته عن الذي يستبضع المال، فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال:

ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا» «3» رواها الكافي و التهذيب بسند كالصحيح عنه عليه السّلام.

و منها: صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «صاحب الوديعة و البضاعة مؤتمنان، و قال: ليس على مستعير عارية ضمان، و صاحب العارية و الوديعة مؤتمن» «4».

و منها: معتبرة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّ أمير المؤمنين عليه السّلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 229، الباب 4 من أبواب الوديعة، الحديث 10

(2) المصدر، الحديث 9

(3) المصدر، ص 228، الحديث 5

(4) وسائل الشيعة، ج 13، ص 237، الباب 1 من كتاب العارية، الحديث 6

ص: 189

..........

______________________________

أتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب، فضاعت، فلم يضمّنه، و قال: إنّما هو أمين» «1». و التعليل ظاهر في كبرى عدم ضمان الأمين، و أنّ عدم تضمين الحمّامي إنّما هو لأمانته.

و منها: معتبرة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يضمن الصّائغ و لا القصّار و لا الحائك، إلّا أن يكونوا متهمين، فيخوف (فيجيئون) بالبيّنة، و يستحلف لعلّه يستخرج منه شيئا. و في رجل استأجر جمّالا فيكسر الذي يحمل أو يهريقه. فقال: على نحو من العامل، إن كان مأمونا فليس عليه شي ء، و إن كان غير مأمون فهو ضامن» «2». و ظهورها في إناطة الضمان بالتهمة، و عدمه بالأمانة مما لا ينكر.

و منها: قول الفقيه عليه السّلام في مكاتبة الصفّار في ضمان القصّار: «هو ضامن له إلّا أن يكون ثقة مأمونا إن شاء اللّه» «3».

إلى غير ذلك من النصوص المتفرقة الواردة في المستعير و المرتهن و الودعيّ و المستبضع، و الأجير على العمل كالقصّار و الحمّال و الجمّال، و المستأجر للعين، و غير ذلك المتضمّنة لعدم ضمانهم، بدعوى: أنّ اشتمال بعضها على تعليل عدم الضمان «بكون الرجل أمينا» يدلّ على قاعدة كلّية، و هي عدم ضمان المؤتمن و عدم الغرم على كلّ أمين. و مقتضي ترك الاستفصال عدم الفرق بين كون الاستيمان في العقد الصحيح أو الفاسد.

و بدعوى: أنّ التسليم في باب الإجارة و المضاربة و الشركة و نحوها يكون من قبيل جعل العين أمانة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 270، الباب 28 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 1

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 274، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 11

(3) المصدر، ص 275، الحديث 18

ص: 190

أمّا في الهبة الفاسدة فيمكن الاستدلال على خروجها من عموم اليد بفحوى (1) ما دلّ على خروج مورد الاستيمان، فإنّ (2) استيمان المالك لغيره على ملكه إذا اقتضى عدم ضمانه له (3) اقتضى (4) التسليط المطلق (5) عليه مجّانا عدم

______________________________

و الحاصل: أنّ المدّعى عدم ضمان كلّ من استأمنه الرجل على ماله. و هذا بمنزلة الكبرى، فكأنّه قيل: «كلّ أمين ليس بضامن». و كون العقود الفاسدة من صغرياته، لصدق الأمين على المستعير في العارية الفاسدة، و على المستأجر في الإجارة الفاسدة، إلى غير ذلك. و صغرويّة العقود الفاسدة تثبت بترك الاستفصال.

هذا كلّه في العقود الفاسدة الأمانيّة التي لا تضمن بصحيحها. و أمّا الهبة فسيأتي وجه عدم الضمان بفاسدها.

(1) متعلّق ب «خروج» و هذا وجه عدم الضمان في الهبة الفاسدة حتى تكون قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» شاملة لها كشمولها للعقود الأمانية، فهي خارجة عن عموم «على اليد» المقتضي للضمان.

و تقريب الأولويّة: أنّ عدم الضمان في صورة قطع العلقة عن المال بالمرّة أولى من عدم ضمانه في موارد الاستيمان التي تبقى إضافة الملكيّة على حالها.

(2) تقريب للفحوى، و قد عرفته آنفا.

(3) أي: للمالك.

(4) جزاء الشرط، و جملة الشرط و الجزاء خبر قوله: «فإنّ استيمان».

(5) المراد بالتسليط المطلق هو سلطنة المتّهب على التصرفات الخارجيّة و الاعتباريّة المشروعة في العين الموهوبة، و هذا في قبال تسليط المالك في باب العارية، لكون متعلّقه الانتفاع بالعين بنفسه. و كذا في باب الإجارة، فإنّ المستأجر مسلّط على العين في جهة الانتفاع بها و استيفاء حقّه منها، لا مطلقا، و لذا لا يجوز له التصرّف الأجنبيّ عن حيثيّة الانتفاع. و كذا في باب البيع، فإنّ تسليط المالك.

ص: 191

ضمانه بطريق أولى (1). و التقييد (2) بالمجّانيّة لخروج التسليط المطلق بالعوض كما في المعاوضات، فإنّه عين التضمين.

فحاصل (3) أدلّة عدم ضمان المستأمن (4) أنّ من دفع المالك إليه ملكه على وجه لا يضمنه بعوض واقعيّ- أعني المثل و القيمة- و لا جعلي فليس

______________________________

و إن كان مطلقا غير مقيّد بتصرّف دون آخر، إلّا أنّه مقابل بالعوض، و ليس مجّانيّا.

(1) تقدم تقريب الأولويّة آنفا.

(2) غرضه من هذه الجملة أنّ الموجب لتقييد التسليط المطلق في قوله: «اقتضى التسليط المطلق عليه مجّانا» بالمجّانيّة هو: أنّ للتسليط المطلق على المال فردين، أحدهما: بلا عوض و هو الهبة، و الآخر معه و هو البيع و الصلح المفيد فائدة البيع.

و ما ذكر- من أولويّة التسليط المطلق بعدم الضمان من موارد الاستيمان المالكيّ- فمورده الهبة التي لا يضمن المتّهب عوض ما أخذه من الواهب. و أمّا التسليط المطلق في باب البيع و نحوه فحقيقته التضمين، فلا معنى لتوهّم كونه كالهبة ممّا لا ضمان فيه.

(3) هذا الحاصل راجع إلى ما أفاده بقوله: «قلت» الذي محصّله خروج العقود الأمانيّة صحيحها و فاسدها عن الحديث النبويّ «على اليد» المقتضي للضمان في مطلق موارد الاستيمان. و عليه فإذا دفع المالك ماله إلى آخر من دون الاقدام على تضمين الآخذ ببدله الواقعي و لا ببدل جعليّ مسمّى لم يكن ماله مضمونا، فلو تلف لم يلزم تداركه ببدل على الآخذ. و بذلك تمّ الدليل على أنّ «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

(4) بصيغة المفعول أي: من جعله المالك أمينا على ماله لا يكون ضامنا. هذا تمام الكلام في ضمان نفس المقبوض بالبيع الفاسد، و سيأتي الكلام في وجوب ردّه و سائر آثاره إن شاء اللّه تعالى.

ص: 192

عليه ضمان [1].

______________________________

[1] لا يخفى أنّه قد استدلّ على قاعدة «ما لا يضمن» بوجوه:

الوجه الأوّل: الأولويّة. و يكفي في ردّها ما أفاده المصنّف قدّس سرّه من الخدشة.

الوجه الثاني: الأصل، إذ الضمان حكم وضعيّ، فإن شكّ في ثبوته و لم يكن عليه دليل ينفى بأصالة البراءة.

و فيه: أنّ هذا مبنيّ على عدم إمكان التمسّك بالنبوي «على اليد ما أخذت» لضعف السند أو غيره. و قد تقدّم البحث فيه، و أنّه حجة و يصحّ الاستدلال به، فراجع.

الوجه الثالث: إقدام المتعاقدين على المجّانيّة الرافع للضمان في كل من الصحيح و الفاسد.

و فيه: أنّ ما أقدما عليه عنوان خاصّ صحيح، و قد انتفى، و ارتفاع العنوان يوجب انتفاء السبب الرافع للضمان، فمقتضى عموم «على اليد» هو الضمان.

الوجه الرابع: الأدلّة الدالّة على عدم الضمان في الأمانات كالوكالة و الوديعة و نحوهما، و ذلك كعموم ما دلّ على «أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل ليس لك أن تتّهمه» و ضمّ المصنّف رحمه اللّه إلى ذلك: الفحوى بالنسبة إلى مثل الهبة، فإنّه إذا لم يضمن فيما لم يكن فيه بذل المال بل كان مجرّد استيمان، ففيما كان فيه بذل المال يكون عدم الضمان أولى بالقبول.

و أورد عليه: بأنّ الكلام إنّما هو في مثل الشركة الفاسدة، و كذا الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين، و في مثل حمل المبيع بالبيع الفاسد على القول بكونه مضمونا على المشتري مع عدم الضمان في صحيحه، و في مثل استعارة المحلّ من المحرم على تقدير فساد العارية.

و حينئذ نقول: إنّ العموم المزبور و نحوه من أدلة الاستيمان لا يستفاد منها إلّا حكم ما هو استيمان محض قصد منه مصلحة المالك كالوكالة و الوديعة، أو ما كان مثل العارية بالنسبة إلى الصحيح منها الذي هو مورد الاذن، دون غيره، إذ ليس في المورد

ص: 193

______________________________

إلّا الإذن المقيّد بكونه في ضمن العارية الصحيحة أو الإجارة الصحيحة مثلا، و قد انتفى القيد فينتفى المقيّد بانتفائه.

و دعوى كون مطلق الاذن رافعا للضمان، خالية عن البرهان، فإنّ المقبوض بالسوم مع اقترانه بالاذن مضمون على القابض كما عن المشهور. فالحق أنّ هذه القاعدة لم يقم عليها دليل واضح.

فحينئذ نقول: إنّ كلّ مورد قام الدليل على عدم ضمان المقبوض باليد كان ذلك مخرجا له عن عموم «على اليد» و كلّ مورد لم يقم فيه دليل على عدم الضمان فالمرجع فيه قاعدة اليد. و عليه فلا دليل على عدم الضمان في العقود الفاسدة.

فالنتيجة: أنّ قاعدة «ما لا يضمن» خالية عن الدليل. بل مقتضى عموم «اليد» الضمان.

أقول: بناء على تسليم الكبرى- و هي: أنّ كل أمين ليس بغارم- و تسليم صغرويّة المستأجر و المستعير و المرتهن و الودعي و المستبضع بالعقود الفاسدة لكبرى الأمين لا وجه للضمان.

و دعوى «تقيّد الاذن بصحّة العقد بأن يقال: إنّ العقود الفاسدة ليست من موارد الأمانات حتى لا يكون فيها ضمان، إذ الأمانة فرع الاذن، و هو مقيّد في العقود بصحتها، فينتفي الإذن بانتفاء الصحة كانتفاء كل مقيد بانتفاء قيده» خالية عن الشاهد، بعد صدق عناوين العقود على صحيحها و فاسدها بوزان واحد، و اشتراكها فيما عرفت في التوضيح من الجهات الداخلية و الخارجية.

لا يقال: إنّ الاستيمان المالكي هو الاستنابة في الحفظ، و ليس شي ء من العقود كذلك إلّا الوديعة، فاستناد عدم الضمان في قاعدة «ما لا يضمن» إلى الاستيمان المالكي في غير محله. بل لا بدّ من الالتزام بالضمان في تلك العقود.

فإنّه يقال: إنّ المراد بالاستئمان المالكيّ هو التسليط عن الرضا و عدم كونه بلا إذن

ص: 194

______________________________

حتى تكون يده عادية، و من المعلوم أنّ ما ذكره من التسليطات المجّانيّة كلّها كذلك، فلا تكون اليد عادية حتى يضمن القابض، بل اليد مأذونة و ليس مضمّنة.

و أمّا ما ورد من «أنّ المستعير و المستأجر، مؤتمنان» فهو تنزيل لهما منزلة من استأمنه المالك حقيقة في عدم الضمان بمجرّد التلف، لا أنّهما مؤتمنان حقيقة من قبل المالك.

و أمّا ما ورد في النصوص من «أنّه إذا كان مأمونا لا يضمن» فإنّه في قبال المتّهم، فالفرق بين الأمين و المتّهم هو: أنّ الأمين في صورة دوران الأمر بين التلف و الإتلاف لا يحكم عليه بالضمان، إمّا واقعا كما إذا لم يتلف بالتعدّي أو التفريط، و إمّا ظاهرا و في مقام الدعوى، فليس لصاحب المال مطالبته بالبينة و اليمين، بخلاف المتّهم، فإنّه يطالب بهما.

فهذه الأخبار في مقام التفكيك بين الأمين و المتّهم في الحكم الظاهريّ، لا في مقام بيان حكم التلف المحض الذي نتكلّم فيه. و لا يتفاوت فيه بين الأمين و المتّهم.

كما أنّه لا تفاوت بينهما في الضمان بالتلف مع التعدي أو التفريط.

ثمّ إنّ لبعض الأعلام كلاما، و هو: «أنّ ما ورد في مرسلة أبان بن عثمان المتقدّمة- من عدم الضمان بعد كون الرجل أمينا- يحتمل فيه وجوه، بعد الخدشة في كون ما ذكر بمنزلة التعليل، و احتمال أن يكون بيانا لمورد القضيّة، أي بعد ما جعلته في المورد أمينا لا غرم عليه، و هذا نحو أن يسأل الطبيب عن الرّمان، فيقول بعد أن كان حلوا لا مانع منه، الذي يفهم منه أنّ كلّ حلو لا مانع منه» هذا.

و فيه: أنّ قوله: «بعد أن يكون الرجل أمينا» مساوق لقوله في خبر غياث المتقدّم:

«إنّما هو أمين» و ظهور مثل هذه التعبيرات في بيان الكبرى الكلّية و هي عدم ضمان كل أمين- خصوصا بعد ملاحظة كون وظيفة الشارع بيان الأحكام الكلّية- مما لا ينكر، إذ من

ص: 195

______________________________

المعلوم أنّ التعليل بكون الرّجل أمينا ظاهر عرفا في حكم كلّي و هو عدم ضمان كلّ أمين، و لا ظهور له في كونه بيانا للمورد، فإنّ المورد من قبيل ما إذا أمر الإمام عليه السّلام بأخذ معالم الدين من أحد الأصحاب، و قال: «إنّه ثقة» فإنّه لا ريب في كونه تنبيها على وثاقته الموجبة لاندراجه في «الثقة» الذي يكون قوله حجة.

ثمّ قال: «إنّ في الرواية احتمالات: أحدها: أنّ المقصود الاخبار عن قضيّة واقعيّة، و هي: أنّ الأمين لا تصدر منه الخيانة حتى يضمن، فلا ضمان عليه واقعا. و عليه فلا يكون تعليلا ليستفاد منه حكم غير المورد».

و فيه: أنّ الاخبار- الذي هو حكاية أمر خارجي- خلاف الأصل في كلام الشارع، فإنّ الأصل في كلامه هو الحمل على إنشاء الأحكام. فقوله عليه السّلام: «ليس عليه غرم» حكم قد علّل بكونه أمينا، فكأنّه قال عليه السّلام: «علّة عدم الغرم شرعا هي أمانة الرجل» فموضوع عدم الضمان هو الأمين. كتعليل حرمة الخمر «بأنّه مسكر» الظاهر في كون موضوع الحرمة حقيقة هو المسكر، و أنّ حرمة الخمر إنّما هي لأجل انطباق موضوع الحرمة أعني طبيعيّ المسكر عليه، فيكون المقام من قبيل العلّة المنصوصة، لا من قبيل علّة التشريع.

و إن شئت فقل: إنّ ما نحن فيه من قبيل علّة المجعول، لا علّة الجعل على ما هو مصطلح بعض المحققين.

ثانيها: «أن يراد بقوله:- بعد أن يكون الرجل أمينا- أنّه بعد ما اتّخذته أمينا و جعلت المال أمانة عنده لم يحكم عليه بالغرم، إلّا مع قيام البيّنة. و على هذا يمكن أن يقال: إنّ الاتّخاذ أمينا في عقد الوديعة إنّما يصدق مع صحّته. و أمّا مع فساده فلا، إذ ليس المراد كونه أمينا واقعا أو كونه مورد وثوق المودع، بل المراد أنّه مع اتّخاذه في العقد أمينا و جعلت بضاعتك أمانة لديه لم يحكم عليه بالغرم، فلا يكون صادقا في فاسد العقد، لأنّه لم يتّخذه أمينا مطلقا، بل في العقد مع البناء على صحته».

ص: 196

______________________________

و فيه: أنّ كون الرجل أمينا معناه: أنّ كونه أمينا واقعا دعا الناس إلى أن يجعلوا أموالهم أمانة عنده. و هذا الداعي موجود في كلتا صورتي صحة العقد و فساده، لأنّ إمضاء الشارع لا دخل له في الرضا بكون المال أمانة عند الأمين. بل بعد البناء على أمانته يرضى بجعل المال عنده وديعة سواء أمضاها الشارع أم لا. بل الرضا مقيّد بالأمانة المحرزة بالفرض.

نعم إن كان الموجب لفساد الوديعة اختلال ما هو مقوّم لمفهومها عرفا- لا اختلال ما هو شرط لصحّتها شرعا- كانت دعوى تقيّد الوديعة بالرضا في محلّها، حيث إنّ الرضا تعلّق عرفا بالوديعة، و المفروض عدم تحققها، فلا موضوع للاستيمان، فتأمّل.

ثالثها: «أن يراد به أنّه بعد اتّخاذه أمينا لا يكون ضامنا بالتلف السماويّ، من غير إفراط و تفريط، فيأتي فيه الاشكال المتقدم».

و الفرق بينه و بين سابقه: إنّ هذا الوجه راجع الى الحكم الواقعي، و هو أنّ التلف من غير إفراط و تفريط- لا يوجب الضمان. و الوجه السابق راجع الى الحكم الظاهري، و هو عدم الضمان مع قيام البيّنة. و غرضه من الاشكال المتقدم هو أنّ الاتّخاذ أمينا لا يصدق مع فساد عقد الوديعة.

و فيه ما تقدّم من: أنّ الاتخاذ أمينا لا يتوقّف على صحّة العقد، بل يتوقّف على أمانته واقعا، و أن لا يكون العلم بأمانته جهلا مركّبا. و أمّا حكم الشارع بصحّة العقد فليس مقوّما لاتّخاذه أمينا.

رابعها: «أن يكون المراد أنّه بعد ما كان أمينا واقعا لا يضمن. و مقتضى التعليل: أن لا يضمن الأمين بالتلف السماوي مطلقا، و يضمن غير الأمين. ففي المقبوض بالعقد الفاسد مثلا إذا كان القابض أمينا ثقة لا يضمن، بخلاف غير الأمين».

و الظاهر أنّ غرضه أخصيّة هذه الرواية من المدّعى، لأنّها تدلّ على عدم ضمان الأمين، فالمقبوض بالعقد الفاسد غير مضمون على القابض إن كان أمينا، و مضمون عليه

ص: 197

______________________________

إن لم يكن أمينا. و المدّعى أعمّ من ذلك، إذ المقصود من قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» هو عدم الضمان مطلقا و إن لم يكن القابض أمينا.

و فيه: أنّ عدم الضمان في العقود الصحيحة منوط أيضا بالوثوق و الأمانة، لأنّ رضى المالك منوط بالأمانة، فإن لم يكن أمينا لا يرضى المالك بأن يكون المال أمانة عنده اتّجه من الحكم بالضمان مع الأمانة و إن كان العقد صحيحا، و بعدم الضمان و إن كان العقد فاسدا، لأنّ المدار حينئذ الأمانة. فإن كان أمينا فلا ضمان عليه، و إلّا فعليه الضمان.

خامسها: «أن يراد: كل من استأمنته لا يضمن، بمعنى أن كل من جعلت الشي ء عنده بعنوان الأمانة ليس بضامن، فيشمل الصحيح و الفاسد. و هذان الاحتمالان بعيدان» «1».

و فيه: أنّ الظاهر إرادة هذا المعنى من الرواية، لأنّ استبضاع المال لا يحصل عادة إلّا عند الأمين، فالاستيمان متحقق من صاحب المال، فالمستفاد من الرواية: أنّ كل من استأمنه المالك على ماله و كان القابض أمينا لا يضمن، فالاستيمان من المالك و أمانة القابض دخيلان في ارتفاع الضمان.

فتحصّل: من جميع ما تقدم أنّ ما أفاده الشيخ قدّس سرّه من ارتفاع الضمان باستيمان المالك يستفاد من النصوص، فلاحظ و تدبّر.

تكملة: هل المستفاد من الروايات المتفرّقة في هذه الأبواب هو كون الضمان في مورده و عدمه في مورده بنحو الاقتضاء كوجوب الصلاة و حرمة شرب الخمر، حتى يكون شرطه وجودا أو عدما مخالفا لمقتضى العقد، فشرط الضمان في العارية مثلا مخالف للكتاب، و شرط عدمه في عارية الذهب و الفضة- التي فيها الضمان- مخالف لمقتضى العقد المستفاد من الأدلّة الخاصّة الدالّة على الضمان في عاريتهما؟ أم التفصيل بين شرط عدم الضمان في مورد ثبوته، و بين شرط الضمان في مورد عدمه، كشرط

______________________________

(1) كتاب البيع، ج 1، ص 291 و 292

ص: 198

______________________________

الضمان في عارية غير الذهب و الفضة، بدعوى: أنّ الظاهر من جعل الضمان كونه حكما اقتضائيّا، لأنّ ثبوت الحكم لموضوع لا يكون إلّا عن الاقتضاء، فشرط عدمه مخالف للشرع، بخلاف شرط الضمان في مورد عدمه، و ذلك لأنّ أدلّة نفي الضمان لا تدلّ على أزيد من عدمه، و لا تدلّ على أنّه عن اقتضاء، فإنّ دلالة تلك الأدلّة على ذلك محتاجة إلى قرينة مفقودة. كما أنّ دلالة دليل إباحة شي ء على أنّ الإباحة تكون لوجود المقتضي أو لوجود المانع عن جعل الحرمة منوط بدلالة دليل.

أم يقال: إنّ شرط عدم الضمان في مورد ثبوته أيضا ليس مخالفا للشرع، لإمكان دعوى أنّ تشريع الضمان إنّما هو إرفاق بالمالك و مراعاة لمصلحته، فأدلّة الضمان منصرفة عن مورد الاشتراط برضا المالك بعدمه.

و الحاصل: أنّه يحتمل وجوه:

أحدها: صحّة اشتراط الضمان في مورد عدمه، و اشتراط عدمه في مورد ثبوته، فالشرط مطلقا- أي وجود الضمان و عدمه- في مطلق الموارد ليس مخالفا للشرع.

ثانيها: عدم صحة الشرط مطلقا، أي شرط الضمان في مورد عدمه، و بالعكس.

ثالثها: التفصيل بين شرط عدم الضمان في مورد ثبوته، و بين شرط الضمان في مورد عدمه، بكون الأوّل مخالفا للشرع دون الثاني.

لا يبعد أن يقال: إنّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل، فشرط الضمان في مورد عدمه و شرط عدمه في مورد ثبوته ليس مخالفا للشرع. و ذلك لإمكان استفادة هذه الكليّة من جملة من الروايات، كصحيحة زرارة: «قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: العارية مضمونة؟

فقال: جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه إلّا الذهب و الفضة، فإنّهما يلزمان، إلّا أن تشترط عليه أنّه متى توى لم يلزمك تواه. و كذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك

ص: 199

______________________________

لزمك. و الذهب و الفضة لازم عليك و إن لم يشرط عليك» «1». فإنّ المستفاد منه نفوذ شرط الضمان في مورد عدمه، و شرط عدمه في مورد ثبوته، إذ عارية غير الذهب و الفضة لا ضمان فيها، لقوله عليه السّلام: «جميع ما استعرته فتوى ..» و عارية الذهب و الفضة فيها الضمان، و شرط تعدمه ينفيه، لقوله عليه السّلام: «فإنهما يلزمان إلّا أن تشترط ..».

و صحيحته الأخرى: «قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن وديعة الذهب و الفضة؟

قال: فقال: كلّ ما كان من وديعة و لم تكن مضمونة لا تلزم» «2» و من المعلوم أنّ المراد به اشتراط عدم الضمان، و إلّا فهو من توضيح الواضح كما لا يخفى.

و تدلّ أيضا على صحة الشرط مطلقا- الكاشفة عن عدم كون الضمان و عدمه اقتضائيا- بعض روايات الإجارة، فلاحظ.

و لعلّ المستفاد من هذه الروايات نفوذ شرط الضمان و عدمه في جميع الموارد.

ففي الأمانات التي نفى الشارع فيها الضمان يجوز شرط الضمان فيها، كالعين المستعارة و المستأجرة، و لا يكون الشرط مخالفا للكتاب و السنة. و كذا يجوز شرط عدم الضمان فيما جعل فيها الضمان كعارية الذهب و الفضة.

و الحاصل: أنّ هذه الروايات ترجّح الاحتمال الأوّل و هو نفوذ شرط الضمان و عدمه في الأمانات، فيتعيّن في مقام الإثبات، دون الاحتمالين الآخرين. فجعل الضمان شرعا في بعض موارد الأمانات و عدمه في بعضها الآخر ليس من باب المقتضي و العلّة التامّة، فيتغير بالشرط الذي هو من العناوين الثانوية المغيّرة للأحكام الأوّليّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 239، الباب 3 من كتاب العارية الحديث 2، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن جميل عن زرارة، و الرواية صحيحة كما لا يخفى على من راجع تراجم هؤلاء.

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 228، الباب 4 من أبواب الوديعة، الحديث 4، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن زرارة، و الرواية صحيحة.

ص: 200

[الأمر الثاني المتفرع على المقبوض بالعقد الفاسد: وجوب ردّ المبيع فاسدا إلى مالكه فورا]

الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد: وجوب ردّه فورا إلى المالك (1). و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه على تقدير عدم جواز التصرّف فيه، كما يلوح (2) من مجمع الفائدة.

______________________________

وجوب ردّ المبيع فاسدا إلى مالكه فورا

(1) قد تقدّم في أوّل مسألة المقبوض بالعقد الفاسد (ص 6) أنّه موضوع لأحكام تكليفيّة و وضعيّة، و قد كان الكلام إلى هنا في عدم التملّك، و ضمان العين لو تلفت بيد الآخذ. و كان المناسب اتباعه ببحث ضمان المنافع المستوفاة و الفائتة، لكنّ المصنّف قدّس سرّه قدّم البحث عن حكم تكليفيّ متعلّق بنفس المقبوض بالبيع الفاسد، و هو وجوب ردّه فورا إلى المالك.

و استدلّ عليه بوجوه ثلاثة، و هي الإجماع المنقول في مجمع الفائدة، و التوقيع الشريف، و النبويّ، و سيأتي بيانها.

و لا يخفى أنّ محلّ الكلام و موضوع البحث عن وجوب ردّ المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه فورا هو القول بعدم جواز التصرّف فيه، و كون القبض وفاء بالعقد الفاسد. فلو قيل بحصول إذن جديد- بعد العلم بالفساد على ما سبق تفصيله في أوّل المسألة و في ثامن تنبيهات المعاطاة- أو قلنا ببقاء الاذن المقارن للعقد و عدم ارتفاعه بفساد العقد لم يبق موضوع لوجوب ردّ المقبوض بالمعاملة الباطلة إلى مالكه فورا كما لا يخفى.

(2) يعني: يلوح من مجمع الفائدة عدم الخلاف في حرمة التصرّف في المقبوض بالبيع الفاسد و وجوب ردّه فورا إلى مالكه، قال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه: «و مع علمه بالفساد- و بعدم جواز تصرّفه و حفظه و وجوب ردّه إلى مالكه معجّلا- كالمغصوب، و ذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد، و عدم رضاه

ص: 201

بل (1) صرّح في التذكرة- كما عن جامع المقاصد (2)- «أنّ مئونة الرّدّ على المشتري». و إطلاقه (3) يشمل ما لو كان في ردّه مئونة كثيرة،

______________________________

بكونه عنده، و فتوى العلماء له بذلك ..» «1».

و المراد بعدم الخلاف في المسألة قوله: «و فتوى العلماء». و لكن مورد كلامه قدّس سرّه علم المشتري بفساد العقد و بحرمة التصرّف بل بحرمة إمساكه، و أنّ المالك لو اطّلع على فساد العقد لطالب المشتري بالمبيع و لم يرض بكونه عنده. و هذا أخصّ من محلّ البحث و هو عدم اختصاص حرمة التصرّف- و ما يترتّب عليها من وجوب الرّدّ فورا- بصورة علم المشتري بالفساد، كما أنّ ضمان المقبوض بالبيع الفاسد لا يختصّ بصورة الجهل بالبطلان على ما سبق تصريح المصنّف به في الأمر الأوّل.

(1) غرضه الترقّي و الإضراب عن بناء وجوب الرّدّ فورا على حرمة التصرّف إلى أنّ وجوب الرّدّ كأنّه من المسلّمات، بشهادة جزم العلّامة به، و بنى عليه وجوب مئونته لو توقّف الرّدّ عليها. قال قدّس سرّه: «إذا اشترى شراء فاسدا وجب عليه ردّه على مالكه، لعدم خروجه عنه بالبيع، و عليه مئونة الرّدّ كالمغصوب» «2».

(2) الأولى إضافة «أيضا» إليه، لأنّ غرضه قدّس سرّه أنّ المصرّح بكون مئونة الرّدّ على المشتري ليس هو العلّامة خاصّة، بل المحقّق الكركي صرّح به أيضا. و الأمر سهل. قال المحقق الثاني قدّس سرّه: «فرع: على المشتري مئونة ردّ المبيع فاسدا إن كان له مئونة كالمغصوب، و لا يرجع بالنفقة إلّا إذا كان جاهلا بالفساد، إذ لا يعدّ متبرّعا بنفقته، إذ لم ينفق إلّا بناء على أنّه ماله، فإذا فات ذلك رجع كلّ إلى حقّه، و جعل في التذكرة البائع غارّا» «3».

(3) يعني: و إطلاق وجوب الرّدّ- المنقول عن التذكرة- يقتضي إيجاب مقدّماته التي منها بذل المال سواء أ كان قليلا أم كثيرا، إلّا أن تكون كثرة مئونة الرّدّ ضررا

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 192

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 495

(3) جامع المقاصد، ج 4، ص 435

ص: 202

إلّا أن يقيّد (1) بغيرها (2) بأدلّة نفي الضرر [1].

______________________________

على المشتري، فينفى وجوب بذل المال الكثير عنه. بل مقتضى حكومة قاعدة الضرر نفي وجوب بذل المال و إن كان يسيرا، إلّا إذا كان بمثابة لا يصدق عليه الضرر.

(1) التعبير بالتقييد دون الحكومة- مع أنّ مبناه حكومة دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوليّة- مسامحة، و لعلّه لأجل أنّ الحكومة قد تخصّص العامّ و تقيّد المطلق، و قد تعمّم، فالتعبير بالتقييد مبنيّ على ملاحظة نتيجة الجمع بين الدليلين.

(2) أي: بغير المئونة الكثيرة، و هذا الغير هو المئونة المتعارفة أو ما دونها.

______________________________

[1] لم يظهر وجه لكون المئونة على القابض، لأنّ الرّدّ لا يتوقف غالبا على بذل مال حتى يقال: إنّ الزائد على ما يقتضيه طبع الرّدّ من بذل المال على المالك، بل تمامه يكون على المالك، لقاعدة نفي الضرر. و لو كان الرّدّ بذاته و طبعه متوقّفا على مئونة لم تكن منفكّة عن مصاديقه، هذا.

مضافا إلى: أنّ حرمة الإمساك لا تستلزم وجوب الرّدّ، لعدم الملازمة بين حرمة الضدّ و وجوب ضدّه. و كذا وجوب نقيض الإمساك لا يدلّ على وجوب الرّدّ، لما قرّر في الأصول.

مع أنّه على القول به- لرفع اليد عن المبنى الأصولي- يمكن القول بعدم وجوب الرّدّ أيضا، لأنّه متقوّم برفع يد الدافع و إثبات يد القابض، و الرّفع مقدّم على الإثبات دائما، فيتصف هو بالوجوب، دون ما تأخّر عنه.

لكن فيه ما لا يخفى، لأنّ الرّدّ ليس مركّبا من الرّفع و الإثبات، بل هو عبارة عن الإيصال إلى المالك، و الإثبات منتزع عنه. و أمّا مراد الشيخ الأعظم قدّس سرّه من الاستدلال على وجوب الرّدّ بحرمة الإمساك فليس مبنيّا على اقتضاء حرمة الضّدّ لوجوب ضدّه، بل على فهم العرف من مثل قوله: «يحرم عليك إمساك مال الناس» لزوم الرّدّ إلى المالك، سيّما بملاحظة تعليل لزوم ردّ الأمانات إلى أهلها بأنّه «لا يحل دم امرء مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه».

ص: 203

______________________________

إلّا أن يدّعى: عدم ملازمة وجوب ردّ الأمانات إلى أصحابها للإيصال إليهم، و أنّ المراد رفع اليد و التخلية بينها و بين صاحبها. لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة.

و كيف كان لا يكون وجوب الرّدّ مبنيّا على اقتضاء حرمة الضّد لوجوب ضدّه، فتدبّر.

و يمكن أن يستدلّ على وجوب الرّدّ بروايات متفرّقة في أبواب اللقطة و التجارة و الجهاد و الوديعة و غيرها، فلاحظ.

ثمّ إنّ للسيد قدّس سرّه تفصيلا، و هو ما لفظه: «ثمّ على فرض كون الرّدّ واجبا و كون مئونته على القابض إنّما يتمّ فيما إذا كان هو الناقل له عن مكانه. و أمّا إذا كان في مكان القبض و قد انتقل البائع إلى بلد آخر فلا دليل على وجوب نقله إلى ذلك البلد و كون مئونته على القابض، فتدبر» «1».

و اختار المحقّق النائيني قدّس سرّه هذا التفصيل بما حاصله: «أنّه يجب الرّدّ إذا نقل القابض المقبوض بالعقد الفاسد إلى بلد آخر مع كون المالك في بلد القبض. و أمّا إذا كان المقبوض في بلد القبض و انتقل المالك إلى مكان آخر لم يجب نقله إليه، بل يردّه إلى وكيله أو الحاكم، إذ لا دليل على لزوم الدفع إلى شخص المالك في هذه الصورة» «2».

و هذا موافق لما فصّله السيّد، إلّا أنّه لم يتعرض لوجوب ردّ المال في بلد القبض إلى وكيل المالك أو الحاكم، و صرّح به الميرزا قدّس سرّه.

و فيه: أنّ إطلاق دليل وجوب الرّدّ كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد .. إلخ» بعد البناء على اعتباره- كما هو التحقيق على ما تقدّم- كاف في المطلوب، لأنّ قضيّة إطلاق وجوب الرّدّ إلى المالك عدم الفرق بين كون المقبوض و المالك معا في بلد القبض و بين تفرّقهما، بأن كان المقبوض في مكان القبض و المالك في بلد آخر، أو كان المالك في مكان القبض و المال منقولا إلى محلّ آخر. ففي جميع الصور يجب ردّه الى المالك.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 95

(2) منية الطالب، ج 1، ص 132

ص: 204

و يدلّ عليه (1): أنّ الإمساك آنا ما تصرّف في مال الغير بغير إذنه، فلا يجوز، لقوله عجّل اللّه تعالى فرجه: «لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره

______________________________

(1) أي: على وجوب الرّدّ فورا، و هذا إشارة إلى دليل ثان على المدّعى.

و حاصل الاستدلال بهذا التوقيع المبارك على فوريّة وجوب الرّدّ- بناء على كون الإمساك تصرّفا- أنّ الإمساك آنا ما مصداق للتصرّف المحرّم، لقوله عليه السّلام: «لا يجوز لأحد ..» فيجب التخلّص عن هذا الحرام بردّه فورا إلى مالكه.

______________________________

نعم إذا استلزم الرّدّ الى المالك ضررا أو حرجا سقط أصل وجوب الرّدّ على فرض وجوده، و يبقى وجوب تمكين المالك من ماله و رفع اليد عنه.

و الحاصل: أنّ الواجب هو الرّدّ إلى المالك إن لم يكن فيه ضرر أو حرج. و أمّا الرّدّ في خصوص مكان القبض لخصوصيّة فيه من كثرة الرغبات و نحوها فلا وجه له، إذ لا دليل عليه، و إنّما الدليل دلّ على وجوب الرّدّ إلى المالك سواء أ كان في بلد القبض أم لا.

و بالجملة: فالرّدّ واجب مطلقا و في جميع الصور. إلّا إذا لزم منه الضرر أو الحرج، فيرفع بقاعدتهما، و إن كان المال في مكان القبض و المالك فيه أيضا. و إن لم يلزم منه أحد هذين المحذورين وجب الرّدّ إلى المالك و إن كان المالك في مكان ثالث، أي: لا في محلّ القبض و لا في المكان الذي نقل إليه المال، كما إذا كان محلّ القبض النجف الأشرف، و المال نقل إلى كربلاء المقدّسة، و المالك سافر إلى بغداد.

و لو كان وجه التفصيل لزوم الضرر من الرّدّ في غير مكان القبض فلا بدّ من التفصيل بنحو آخر، و هو: أنّ الرّدّ إن استلزم الضرر ارتفع وجوبه سواء أ كان الرّدّ في محلّ القبض أم غيره، و سواء أ كان المالك في ذلك المحلّ أم غيره. و إن لم يستلزم الضرر وجب الرّدّ من غير فرق فيه بين محلّ الرّدّ و غيره، و كون المالك في مكان ثالث و غيره، كما لا يخفى.

ص: 205

إلّا بإذنه» «1».

و لو نوقش (1) في كون الإمساك تصرّفا كفى عموم (2) قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحلّ مال امرء مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه» «2» حيث يدلّ على تحريم جميع الأفعال المتعلّقة به، التي منها كونه في يده.

______________________________

(1) بأن يقال: إنّ «التصرّف» مأخوذ من الصّرف، فيراد به التقليب و التقلّب، و هما مفقودان في الإمساك، فلا يصدق التصرّف على مجرّد الإمساك حتى يكون منهيّا عنه، و يجب التخلص عنه بالرّد إلى المالك.

(2) هذا إشارة إلى دليل ثالث على وجوب الرّدّ فورا إلى المالك، و هو النبويّ الذي رواه زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حكاية خطبته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجة الوداع، و فيه: «قال: اللّهم اشهد، ألا من كان عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه ..» الحديث.

و رواه صاحب الوسائل «3» في مكان المصلّي بما يقرب منه، و لكنّه ليس فيه لفظ «دم».

و كيف كان فتقريب دلالة الحديث على وجوب الرّدّ فورا: أنّ الحرمة المستفادة من «لا يحلّ» منسوبة إلى الذات- و هو المال- و لا بدّ من تقدير الفعل المناسب، كما في إسناد الحرمة إلى سائر الأعيان من الخمر و الدم و الميتة و نحوها. و حيث إنّه لا قرينة تقتضي تقدير فعل خاصّ لزم تحريم جميع الأفعال و الشؤون المتعلّقة بالمال، التي منها إمساكه و جعله في يده، فإنّ حذف المتعلق يدلّ على العموم.

و عليه فلا وجه لدعوى: «أن حرمة المال تكليفا تقتضي تقدير فعل مناسب

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 6، ص 377، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 6، و فيه «فلا يحل» بدل «فلا يجوز».

(2) وسائل الشيعة، ج 19، ص 3، الباب 1 من أبواب قصاص النفس، الحديث 3

(3) وسائل الشيعة، ج 3، ص 425، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3

ص: 206

و أمّا توهّم أنّ هذا (1) بإذنه، حيث إنّه دفعه باختياره (2) فمندفع (3) بأنّه إنّما ملّكه إيّاه عوضا [1]

______________________________

له و هو التصرّف أو الانتفاع، و أمّا مجرّد الإمساك فيشكّ في صدق التصرّف عليه، فيكون التمسّك بهذا النبويّ من التشبّث بالدليل في الشبهة الموضوعيّة». إذ في هذه الدعوى: أنّ حذف المتعلّق يقتضي حرمة كلّ ما يتعلّق بالمال، و لا وجه لاختصاص المتعلّق بالانتفاع و التصرّف حتى يشك في صدقهما على الإمساك.

خصوصا بملاحظة ورود هذه الجملة تعليلا لوجوب ردّ الأمانات، فإنّ التعليل يصير نصّا في المورد، فكيف يدّعى تقدير التصرّف أو الانتفاع؟ إذ لازمه أجنبيّة هذه الكبرى الكليّة عن المورد و هو ردّ الأمانة، و من المعلوم أنّ التخلّف عن ردّها إمّا بالتصرّف فيها و إمّا بمجرّد الإمساك، و كلاهما منهيّ عنه. و مجرّد كون غالب فائدة الأموال التصرّف فيها و الانتفاع بها لا يوجب اختصاص العموم- المدلول عليه بحذف المتعلّق- بهما.

و عليه فقرينيّة حذف المتعلّق على العموم باقية بحالها.

(1) أي: الإمساك، حاصله: أنّه قد يتوهّم عدم حرمة الإمساك و إن كان تصرّفا، حيث إنّ المالك قد أذن له بالإمساك حين دفع المبيع إليه، فيكون الإمساك مأذونا فيه و جائزا.

لكن هذا التوهّم مندفع بأنّ المالك قد دفع المبيع إلى المشتري باعتقاد أنّه ملّكه بإزاء الثمن الذي دفعه المشتري إليه، و المفروض عدم سلامة العوض له شرعا، لفساد المعاوضة و بقاء العوضين على ملك مالكيهما.

(2) الضمائر البارزة في «إذنه، إنّه باختياره، بأنه» و المستتر في «دفعه، ملّكه» راجعة إلى المالك المفهوم من السياق و من قوله: «امرء مسلم» و الضميران البارزان فيهما راجعان إلى المال.

(3) جواب «و أمّا توهّم» و دفع له، و قد تقدّم توضيحه آنفا.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ هذا يختصّ بالمقبوض في العقود المعاوضيّة، و محلّ الكلام

ص: 207

فإذا انتفت (1) صفة العوضيّة باعتبار (2) عدم سلامة العوض له شرعا، و المفروض (3) أنّ كونه على وجه الملكيّة المجّانيّة ممّا لم ينشئها المالك (4).

______________________________

(1) لم يظهر جواب لهذا الشرط في العبارة، و التقدير «انتفى الاذن» و نحوه.

(2) متعلّق ب «انتفت» و هذا وجه انتفاء صفة العوضيّة، إذ بفساد العقد لا يسلم العوض للبائع، فينتفي إذنه للمشتري بالتصرّف في المبيع.

(3) غرضه قدّس سرّه نفي الأسباب التي يجوز لقابض المال- كالمشتري- التصرّف فيه. فما أنشأه البائع- و هو التمليك بالعوض- لم يقع، لفرض فساد البيع. و الملكيّة المجّانية بعنوان الهبة لم ينشئها، فلا معنى لأن يتصرّف هذا المشتري في المبيع بزعم كونه هبة بلا عوض. و كذلك لم ينشئ البائع عنوان الوديعة حتى يكون المال بيد المشتري أمانة مالكية.

و لو فرض إنشاء أحد هذين بعد العلم بفساد البيع كان خارجا عن محلّ البحث أعني به ترتّب قبض المبيع و إقباض الثمن على ذلك العقد الفاسد وفاء به، و اندرج في مورد التراضي الجديد.

(4) حتى يكون الاذن في الإمساك باقيا مع فساد البيع.

______________________________

أعمّ، فالصواب في الجواب أن يقال: إنّ الإقباض في العقود التمليكيّة المعاوضيّة و المجّانيّة لمّا كان بعنوان الوفاء بالعقد، و كون المقبوض ملكا للقابض لم يكن معنى لإذن الدافع، لأنّه باعتقاده مملوك للقابض، و لا محصّل لإذن الغير في تصرّف المالك في ماله، لعدم تسلطه على ذلك.

و أمّا العقود الاستيمانية فالإذن فيها بالتسليط إنّما كان وفاء بمضمون العقد، و مع فسادها ينتفي الاذن.

نعم قد يحرز طيب النفس بالتصرّف في العقود التمليكيّة المجّانيّة كالهبة الفاسدة، فعلى فرض حصوله يجوز التصرّف، لكن لا بدّ من إحرازه، و لا يكفي احتماله. و على تقدير عدمه لا يجوز التصرّف فيه.

ص: 208

و كونه (1) مالا للمالك و أمانة في يده (2) أيضا ممّا لم يؤذن فيه، و لو أذن له فهو استيداع جديد (3). كما أنّه لو ملّكه مجّانا كانت هبة جديدة. و لكنّ (4) الذي يظهر من المبسوط «1» عدم الإثم في إمساكه (5)، و كذا السرائر ناسبا له إلى الأصحاب (6).

______________________________

(1) معطوف على «كونه» و غرضه سدّ باب احتمال أن يكون المبيع أمانة مالكيّة بيد المشتري.

(2) حتى يندرج هذا البيع الفاسد في الأمانات المالكية، و يجوز الإمساك من هذه الجهة، كما يجوز إمساك ملك الغير في باب الوديعة و العارية و نحوهما.

و الوجه في عدم اندراجه في الأمانات واضح، لأنّ البائع أقدم على تمليك ماله بعوض، لا على جعله أمانة عند غيره.

(3) في قبال البيع الفاسد القديم، و المفروض أنّ هذا الاستيداع المالكيّ لم يتحقّق، و احتماله لا يكفي في صيرورته أمانة، بل إذا شكّ فيه اقتضى الأصل عدمه.

(4) هذا تصريح بما فهم من التقييد في أوّل هذا الأمر الثاني بقوله: «على تقدير عدم جواز التصرّف فيه» لظهوره في وجود قائل بجواز الإمساك أو بجواز التصرّف لو كان الإمساك تصرّفا.

(5) قال شيخ الطائفة قدّس سرّه في المقبوض بالبيع الفاسد: «و يجب عليه ردّه و ردّ ما كان من نمائه المنفصل منه، لأنّ ملك الأوّل لم يزل عنه، فالتصرّف فيه لا يصحّ، و يلزمه ردّه على البائع لأنّه ملكه. و لا إثم عليه، لأنّه قبضه بإذن مالكه» و هذه الجملة الأخيرة ظاهرة في عدم فورية وجوب الرّدّ، فيجوز للمشتري إمساك المبيع.

(6) قال ابن إدريس قدّس سرّه في المقبوض بالبيع الفاسد: «فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي ء المغصوب، إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه» «2» بناء على أن يكون عدم الإثم في

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 149

(2) السرائر الحاوي، ج 2، ص 326

ص: 209

و هو (1) ضعيف. و النسبة (2) غير ثابتة. و لا يبعد إرادة صورة الجهل (3)، لأنّه لا يعاقب (4) [1].

______________________________

الإمساك معقدا لإجماع الأصحاب كإجماعهم على لحوق حكم المغصوب بالمبيع بالبيع الفاسد.

(1) أي: و هذا القول الثاني- و هو عدم الإثم الكاشف عن عدم الحرمة- ضعيف، لما تقدّم من دلالة النبويّ على حرمة كلّ فعل يتعلّق بمال الغير بدون إذنه، و لو لم يصدق التصرّف عليه.

(2) يعني: ما نسبه ابن إدريس إلى الأصحاب من عدم الإثم في الإمساك غير ثابت، لاحتمال رجوع الاتّفاق المدلول عليه بقوله: «عند أصحابنا» إلى المستثنى منه خاصّة، بأن يراد: أنّ كون البيع الفاسد بمنزلة الغصب مجمع عليه من جميع الجهات إلّا جهة الإثم في إمساكه، فإنّها مختلف فيها. و عليه لا يكون جواز الإمساك مجمعا عليه، فلا مانع من القول بالحرمة عند مساعدة الدليل.

(3) أي: صورة جهل القابض بفساد المعاملة.

(4) و من المعلوم أنّ عدم العقاب يكشف عن عدم الإثم، و ذلك يلائم حال جهل القابض بفساد المعاملة. و يمكن أن يكون عدم الإثم لتوهّم الإذن المالكيّ كما عليه جماعة. و لعلّ هذا الاحتمال أقرب من الحمل على صورة الجهل، إذ غايته عدم تنجّز التكليف عليه لا عدم حرمته واقعا، و المدّعى هو حرمة الإمساك واقعا سواء تنجّز على المشتري بإحراز الفساد أم لم يتنجّز عليه.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني. و سيأتي الكلام في ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد.

______________________________

[1] قد ذكر السيد قدّس سرّه في حاشيته في الرّدّ على المصنّف قدّس سرّه- القائل بأنّ الإذن مقيّد بالملكية، و هي غير حاصلة- بما حاصله: أنّ الاذن إنّما تكون بالملكيّة الإنشائيّة،

ص: 210

______________________________

و المفروض تحقّقها، و أنّ البائع بنى- و لو تشريعا- على كون المشتري مالكا، لا بالملكيّة الشرعيّة التي لم تحصل لفرض فسادها شرعا.

ثمّ أشكل على ذلك بقوله: «فإن قلت: لم يصدر من البائع إلّا التمليك، و قد صار لغوا في حكم الشرع بالفرض، فأين الاذن».

و أجاب عنه بما لفظه: «قلت: هذا التمليك له حيثيّتان، فهو إذن من حيثية و تمليك من أخرى. و لمّا كان التمليك محتاجا شرعا إلى صيغة صحيحة و المفروض عدمها، فهو غير مؤثّر من هذه الجهة، لعدم حصول شرطه. و أمّا من الحيثيّة الأخرى فهي غير مشروطة شرعا، فيجوز العمل به، فإنّ الإذن مؤثّر في جواز التصرّف، من غير اشتراط بصيغة خاصّة، فيشمله عموم ما دلّ على جواز التصرّف مع الاذن و طيب النفس. و إذا جاز التصرّف فلا يجب الرّدّ إلى المالك فضلا عن كونه فوريّا. نعم لو رجع عن إذنه و طيبه وجب الرّدّ إليه فورا، فتدبّر» «1».

و حاصله: أنّه لا مانع من تأثير التمليك من حيثيّة الاذن في جواز التصرّف، و عدم تأثيره من حيثيّة أخرى، فتأثير الاذن في جواز التصرّف لمّا لم يكن مشروطا بشرط حاصل، لشمول ما دلّ على جواز التصرّف مع الاذن و طيب النفس له.

و فيه: أنّ جواز التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد منوط بأحد أمرين على سبيل منع الخلوّ: إمّا كون ذلك ملكا للقابض، و إمّا إذن المالك في التصرّف فيه.

أمّا الأوّل فانتفاؤه معلوم بالفرض.

و أمّا الثاني فكذلك، إذ لم يأذن فيه المالك أصلا. توضيحه: أنّ الأفعال تارة تتعلّق بالعناوين الكليّة كالأفعال الاعتبارية من بيع الكلّي من الحنطة و الشعير و غيرهما، و كالاذن و طيب النفس. و أخرى تتعلّق بالجزئيّات الخارجيّة كالأكل و الشرب و النوم و الضرب و القيام و القعود و أشباهها.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 95

ص: 211

______________________________

فإن كان الفعل متعلّقا بالشخص كان اعتقاد الفاعل بانطباق الكلّيّ عليه داعيا، فإذا ضرب شخصا باعتقاد أنّه كافر، فتبيّن أنّه مؤمن كان هذا من التخلّف في الداعي، فإنّ الضرب وقع على المؤمن حقيقة، و التخلّف إنّما هو في اعتقاد كفره.

و إن كان متعلّقا بالكلّي فلا يسري إلى غير مصداقه و إن اعتقد الفاعل بمصداقيّته له. مثلا إذا أذن المالك بدخول العلماء في داره لم يجز لغير العالم الدخول فيها و إن اعتقد المالك بعالميّته. و من المعلوم أنّ متعلّق الاذن في قوله (عج): «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» هو العنوان الكلّيّ، و هو التصرّف في مال الغير بغير إذنه و بعنوان أنّه مال الآذن.

و بعبارة أخرى: إذا أحرز عنوان الاذن في التصرّف في ماله جاز التصرّف. و أمّا الاذن في التصرّف في مال غيره فلا معنى له. و من الواضح أنّ إذن المالك لغيره في التصرّف في ماله بعنوان أنّه ماله مفقود في المقبوض بالعقد الفاسد، ضرورة أنّ الدافع سلّم المال إلى القابض بعنوان أنّه ماله لا مال الدافع، و لم يسلّمه إليه بعنوان العارية و نحوها. و حيث إنّ القابض لم يصر مالكا للمقبوض و لا مأذونا من قبل مالكه في التصرّف فيه لم يجز له التصرّف فيه، لبقائه في المستثنى منه. و هو: «لا يجوز لأحد أن يتصرّف .. إلخ».

و الحاصل: أنّ جواز التصرّف للقابض منوط بإحراز إذن المالك للقابض بالتصرّف في المقبوض بما أنّه ملك للدافع، لا بما أنّه ملك للقابض، إذ لا معنى لإذن غير المالك بتصرف المالك في ماله، فما أفاده الشيخ قدّس سرّه من عدم جواز تصرف القابض هو الأقوى.

ص: 212

[الأمر الثالث ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد]

[أ: المنفعة المستوفاة]

الثالث (1): لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرّدّ (2) كان

______________________________

ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد أ: المنفعة المستوفاة

(1) البحث في هذا الأمر عن حكم آخر من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد لو كان له منفعة، و هو ضمانها، و الكلام في مقامين أحدهما في المنافع المستوفاة، و الآخر في المنافع الفائتة. فإذا اشترى دارا صالحة للسكنى فيها ببيع فاسد، و تسلّمها من البائع فهل يضمن اجرة مثل السكنى فيها كما يضمن قيمة الدار أم لا؟ و هكذا الكلام في سائر الأعيان ذوات النماء و المنفعة لو بيعت بعقد باطل شرعا.

و قدّم قدّس سرّه الكلام في المنافع المستوفاة، و حكم بضمانها وفاقا للمشهور و خلافا لابن حمزة الطوسي كما سيأتي.

(2) هذا من القيود المحقّقة لموضوع ضمان المنافع نظير قولهم: «ان رزقت ولدا فاختنه» في سوقه لبيان موضوع الحكم، و لذا يكون مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع.

و كذا في المقام لوضوح أنّ منافع المبيع بعد ردّه إلى المالك غير مضمونة على المشتري

ص: 213

عليه عوضها (1) على المشهور (2). بل ظاهر ما تقدّم من السرائر (3)- من كونه بمنزلة المغصوب- الاتّفاق على الحكم (4).

و يدلّ عليه (5) عموم قوله: «لا يحلّ مال امرء مسلم لأخيه إلّا عن طيب

______________________________

إلّا بالاستيلاء على العين مرة ثانية عدوانا، فيصير أجنبيا عن حكم المقبوض بالعقد الفاسد و مندرجا في الغصب.

(1) كما إذا اشترى شاة فانتفع بلبنها و صوفها و سائر نماءاتها، فيجب عليه ردّ عوضها. و لا يخفى أنّ التعبير بالعوض- كما في المتن- أولى من التعبير بالأجرة الظاهرة في بدل عمل محترم أو منفعة عين كركوب الدابة.

و أمّا المنافع الأخرى التي هي أعيان أيضا كثمرة الشجرة المبيعة بالبيع الفاسد و لبن الشاة كذلك و نحوهما فالأولى التعبير عن بدلها بالعوض دون الأجرة.

(2) كما في مفتاح الكرامة «1».

(3) تقدّم كلام السرائر في الأمر الثاني، فراجع (ص 209) «2» و غرض المصنّف الإضراب و العدول عن مجرّد شهرة ضمان عوض المنفعة المستوفاة إلى كون الحكم إجماعيّا، لاتّحاد المقبوض بالبيع الفاسد مع الغصب في الأحكام ما عدا الإثم في الإمساك.

(4) و سيجي ء في عبارة التذكرة تصريحه باتفاق علمائنا على ضمان المنافع المستوفاة و غيرها «3».

(5) أي: يدلّ على ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحلّ»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 748

(2) السرائر الحاوي، ج 2، ص 326

(3) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 381

ص: 214

نفسه» بناء (1) على صدق «المال» على المنفعة،

______________________________

و تقريب الاستدلال يتمّ ببيان أمرين:

الأوّل: أنّ المنافع أموال حقيقة، سواء أ كانت أعيانا تابعة لأعيان اخرى كالثمرة للشجرة، أم أعراضا و حيثيّات قائمة بالأعيان كالسكنى في الدار و الأعمال المحترمة كالخياطة، لما تقدّم في أوّل كتاب البيع من أنّ مناط ماليّة الأشياء هي رغبة العقلاء فيها و تنافسهم عليها، و لا ريب في عدم اختصاص رغبتهم بالأعيان المتموّلة، بل تعمّ المنافع أيضا. و يشهد لماليّة المنافع حكمهم في مسألتين:

إحداهما: جواز جعلها ثمنا في باب البيع، مع أنّ حقيقته المبادلة بين مالين، و لو لم تكن المنفعة مالا لما صحّ جعلها عوضا عن المبيع، بل يتعيّن كون كلا العوضين من الأعيان على ما ذهب إليه الوحيد البهبهاني قدّس سرّه و بعض آخر.

ثانيتهما: جواز جعلها صداقا في باب النكاح، مع وضوح اعتبار ماليّته.

الثاني: أن الحلّ المضاف إلى المال ظاهر في التكليف كما في نظائره. و هذا أجنبيّ عن المدّعى، و هو ضمان المنافع المستوفاة في المبيع بالعقد الفاسد، و لذا ينبغي تقريب الاستدلال بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحل مال ..» بأن يقال: إنّ حلّ المال المتلف عبارة عن عدم تعلّقه بذمّة المتلف و عدم كونه مطالبا بالأداء، و مقتضى عدم حلّه استقراره على عهدة المتلف له. و هذا هو ضمان ما استوفاه المشتري من المنافع، فإنّ وزان الاستيفاء في المنافع وزان الإتلاف في الأعيان في كونه مضمّنا.

و بهذا التقريب جاز التمسّك بالنبويّ المذكور لضمان توابع المغصوب من ولد الشاة و اللبن و الصوف و نحوها من التوابع التي هي من الأعيان التي يصدق عليها المال إذا تلفت، فإنّ مناط الضمان في الجميع صدق التصرّف في مال الغير بدون إذنه، و المفروض ماليّة المنافع بأقسامها، هذا.

(1) مبنى هذا البناء هو ظاهر كلام الفيروزآبادي في القاموس من تعريف المال

ص: 215

و لذا (1) يجعل ثمنا في البيع و صداقا في النكاح [1].

______________________________

بما يختص بالأعيان، و كذا العلّامة الطريحي في المجمع «1». لكنّه مزيّف و لم يعتمد عليه المصنّف في أوّل البيع، حيث قال: «و أمّا العوض فلا إشكال في جواز كونها منفعة».

و قال أيضا: «إنّ الصلح قد يتعلق بالمال عينا أو منفعة ..» «2». و كذلك رجّح ماليّة المنفعة بالاستشهاد بجواز وقوعه ثمنا في البيع و صداقا في النكاح، و لو لم تكن مالا تعيّن كون الثمن و الصداق من الأعيان.

(1) أي: و لأجل كون المنفعة مالا يجعل ثمنا و صداقا.

______________________________

[1] في كلا الشاهدين منع. أمّا في الأوّل فلعدم اعتبار كون الثمن مالا بعد صدق البيع العرفي على تبديل العين بمنفعة أو حقّ، كصدقه على تبديلها بعين. و كذا الحال في الصداق.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على ضمان المنافع بوجوه أخر:

منها: قاعدة اليد، بالتقريب الذي تقدّم في ما يتعلق بمباحث اليد (ص 40).

إلّا أن يستشكل فيه بأنّ الأخذ و إن لم يكن مختصّا بالأعيان الخارجية، لصحة إضافة الأخذ إلى العلم و البيعة و العهود و المواثيق، فيراد باليد هنا الاستيلاء الصادق على أخذ المنافع، إلّا أنّ ذيله يمنع عن الأخذ بظهور الصدر، حيث إنّه لا يعقل ردّ المأخوذ بعينه في المنافع المتصرّمة الوجود، إذ لا تضمن قبل وجودها في الخارج، و بعد وجودها تنعدم، فيمتنع أداؤها إلى المالك.

و المستفاد من النبويّ اعتبار إمكان أداء المأخوذ ذاتا و إن صار ممتنعا بالعرض حتى ينتقل إلى البدل، خصوصا على النسخة المشتملة على قوله: «حتى تؤديه» لكونه كالصريح في ردّ نفس المأخوذ.

______________________________

(1) القاموس المحيط، ج 4، ص 52؛ مجمع البحرين، ج 5، ص 475

(2) راجع هدى الطالب، ج 1، ص 59 و 237

ص: 216

______________________________

و منها: قاعدة الإتلاف، و هي من القواعد العقلائيّة التي لم يردع عنها الشارع، بل أمضاها في موارد كثيرة. مثل ما ورد في شهادة الزور، كصحيحة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن كان الشي ء قائما بعينه ردّ على صاحبه، و إن لم يكن قائما بعينه ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «1» و نحوه غير من روايات الباب.

و مثل ما ورد في تلف الرّهن بتفريط المرتهن، كموثّقة إسحاق بن عمّار، قال:

«سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الرجل يرهن الرّهن بمائة درهم، و هو يساوي ثلاثمائة درهم، فيهلك، أعلى الرّجل أن يردّ على صاحبه مأتي درهم؟ قال: نعم، لأنّه أخذ رهنا فيه فضل و ضيّعه ..» «2» الحديث.

و نحوها سائر روايات الباب، فإنّ التعليل يدلّ على ضمان كلّ من ضيّع مال الغير، إذ لا خصوصيّة عرفا للرّهن، بل موضوع الضمان هو تضييع مال الغير و إن لم يكن رهنا. و هذا هو قاعدة الإتلاف.

ثمّ إنّ المراد بالإتلاف على ما يستفاد من النصوص التي تستند إليها قاعدته ما يعمّ الأكل و الشرب و التضييع و الإفساد، فلو لم يصدق مادّة الإتلاف- و هي التلف- في مورد و لكن صدق التضييع و الإفساد كفى في جريان قاعدة الإتلاف.

فما في حاشية المحقق الايرواني قدّس سرّه: من «أنّ المتبادر من إتلاف المال إخراجه عن المالية بتضييعه، لا إتلافه في سبيل الانتفاع به كأكل المأكول و شرب المشروب» «3».

لا يخلو من غموض، لما عرفت من أنّ المستفاد من الروايات ما يعمّ ذلك. و لا دليل على ما أفاده.

مضافا إلى: أنّ الأكل و الشرب مصلحة للآكل و الشارب، و إتلاف حقيقة لمال

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص 239، الباب 11 من كتاب الشهادات، الحديث 2

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 129، الباب 7 من كتاب الرّهن، الحديث 2

(3) حاشية المكاسب، ج 1، ص 96

ص: 217

______________________________

المالك، فلم لا تشمله القاعدة.

فالمتحصّل: أنّ الاستدلال بقاعدة الإتلاف لضمان المنافع المستوفاة- بعد صدق المال على المنافع عرفا كما هو كذلك و عدم العبرة بما يظهر من بعض اللغويّين من اختصاص المال بالعين ذات المنفعة، لتقدّم العرف العامّ عليه- في محلّه. فالاعدام و الإفساد و التضييع كلّها موضوع لقاعدة الإتلاف. ففي معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «سئل عن القصّار يفسد؟ فقال: كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» «1».

و في رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام رفع إليه رجل استأجر رجلا ليصلح بابه، فضرب المسمار فانصدع الباب، فضمّنه أمير المؤمنين عليه السّلام» «2».

و أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل كان له غلام، فاستأجره منه صائغ أو غيره. قال: إن كان ضيّع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون» «3».

و منها: قاعدة الاحترام المستفادة من موثّقة أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه» «4» بتقريب: أنّ إتلاف ماله يوجب الضمان، و لا يذهب هدرا، كما أنّ دمه لا يذهب هدرا. و من الواضح شموله للمنافع المستوفاة كشموله للأعيان، لكون المنافع ممّا يصدق عليه المال.

و المناقشة فيه «بأنّ الظاهر من حرمة المال بقرينة سائر الجمل المذكورة في الرواية هو الحكم التكليفي، فإنّ سبّ المؤمن و أكل لحمه بمعنى اغتيابه حرام تكليفي

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 271، الباب 29 من أبواب الإجارة، الحديث 1

(2) المصدر، ص 274، الحديث 10

(3) المصدر، ص 251، الباب 11 من أبواب الإجارة، الحديث 2

(4) وسائل الشيعة، ج 8، ص 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3

ص: 218

______________________________

فقط. و وحدة السياق تقتضي كون حرمة المال أيضا تكليفيّة محضة، فلا يستفاد الحكم الوضعي و هو الضمان من هذه الرواية» «1».

مندفعة أوّلا: بأنّه لا موجب للحكم الوضعيّ في سائر الجمل، لأنّ الفسوق و الكفر و المعصية كالصريح في الحرمة التكليفيّة، و لذا عبّر بغير هذه التعبيرات في المال، فلا مانع من حرمة المال تكليفا و وضعا. و هذا بخلاف النهي عن السباب و الغيبة و القتل الظاهر في التكليف خاصة.

و ثانيا: بأنّ تشبيه حرمة المال بحرمة الدم ظاهر في الضمان، و أنّ ماله كدمه لا يذهب هدرا. فحمل هذه الجملة- كسائر الجمل- على الحكم التكليفي فقط أو جعلها مجملة كما في بعض الكلمات «2» ليس كما ينبغي.

نعم يمكن المناقشة في قاعدة الاحترام بأخصّيّتها من المدّعي الذي هو ضمان المنافع سواء أ كان المقبوض مالا لمسلم أم غيره. و روايات القاعدة تتضمّن حرمة مال المسلم، و هذه الإضافة ظاهرة في كونها حيثيّة تقييديّة، فمال المسلم من حيث إضافته إلى المسلم محترم، فالاحترام إنّما هو لهذه الحيثيّة، لا لحيثيّة المال ليكون الاحترام مترتبا على المال من حيث كونه مالا حتى يكون دليلا على ضمان منافع المبيع فاسدا المستوفاة.

اللّهم إلّا أن يتشبث بعدم الفصل في حرمة المال بين المسلم و من بحكمه كالذّميّ.

و منها: الروايات الدالّة على عدم حلّيّة مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه، و على حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه «3». بعد ما عرفت من صدق المال على المنافع، و لذا تقع ثمنا في البيع و صداقا في النكاح. و قد تقدّم ذلك.

و منها: ما ورد في جملة من الروايات من: «أنّه لا يصلح ذهاب حق أحد» كحسن الحلبي و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 8، ص 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3

(2) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 91

(3) ذكرنا مصادرها في ص 124 فراجع.

ص: 219

______________________________

على غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم يجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، انّه لا يصلح ذهاب حق أحد» «1».

و الاستدلال بها منوط بصدق الحقّ على المال، و بكون عدم صلوح ذهابه كناية عن ضمانه، و إلّا فلا وجه للاستدلال بها على الضمان كما قيل. و مورد بعض هذه الروايات الوصية، و مقتضاها أنّ للمسلم أن يوصي بماله، و هذا حقّ له، و لا يصلح ذهاب حقّه. و هذا المعنى أجنبيّ عمّا نحن فيه.

مضافا إلى ما قيل من: أنها لا تشمل صورة التلف، فالدليل أخصّ من المدّعى.

إلّا أن يقال: إنّه إذا كان الحق لازم الرعاية، مع أنّه ليس مالا، و إضافته إلى من له الحق أضعف من إضافة المال إلى مالكه، فرعاية المال أولى.

أو يقال: إنّ حقّ أحد إذا ثبت على ذمّة غيره فلا يصح ذهابه بغير عوض، و هذا يدلّ على الضمان.

و أمّا ورود الروايات في باب الوصيّة فلا يمنع عن الاستدلال بها على الضمان، لإباء التعليل بعدم صلوح ذهاب حق أحد عن الاختصاص بباب الوصيّة، و بملّة دون أخرى. إلّا إذا قام دليل على التخصيص و عدم حرمة المال، كما ورد في الحربي.

و منها: قاعدة نفي الضرر في الشريعة المقدسة المستفادة من عدّة روايات.

تقريب الاستدلال بها: أنّ الحكم بعدم ضمان القابض لمنافع المال بالعقد الفاسد ضرر على المالك، فينفى بالقاعدة.

و نوقش فيه بأنّها لا تدلّ على الضمان سواء أريد بها نفي الحكم الضرري أوّلا كما هو مقتضى النفي البسيط و عليه المصنّف. أم أريد بها النفي المركّب أعني نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما عليه صاحب الكفاية و بعض المحققين.

وجه عدم الدلالة: اختصاص أدلّة نفي الضرر برفع الأحكام الوجوديّة الضرريّة كوجوب الوضوء و لزوم البيع. و أمّا إذا كان الضرر ناشئا من عدم جعل حكم كالضمان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 390، الباب 20 من كتاب الوصايا، الحديث 3

ص: 220

______________________________

في المقام، فقاعدة نفي الضرر لا تنفيه ليثبت الجعل الشرعي كالضمان.

و لكن يمكن دفع هذه المناقشة بأنّ العدم تارة يراد به العدم الواقعي كعدم الوجوب و عدم الحرمة. و أخرى يراد به إنشاء عدمهما، كأن يقول الشارع «لا يجب أو لا يحرم».

فإن أريد بالعدم المعنى الأوّل لم يرتفع بقاعدة الضرر، لعدم كونه حكما حتى يرفعه دليل نفي الضرر.

و إن أريد به المعنى الثاني كان مجعولا مشمولا لقاعدة نفي الضرر، و الأعدام بعد تشريع الأحكام تكون مجعولة و لو بالإمضاء، لأنّ إبقاء الشارع لها مع تشريع الأحكام جعل لها بقاء، لا إخبار ببقاء الأعدام الواقعية على حالها كما تخيّله بعض. و هذا المقدار من الجعل كاف في نفيها بقاعدة الضرر، لأنّ إمضاء تلك الأعدام- و لو بمثل أصالة عدم الضمان- من الإسلام أيضا، فيشمله قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» أو «في الدين». فعدم ضمان المنافع المستوفاة حكم ضرريّ ينفى بقاعدة الضرر.

و الحاصل: أنّ إبقاء عدم ضمانها حكم ضرريّ ينفى بقاعدته.

هذا بناء على كون مفاد قاعدة نفي الضرر نفي نفس الحكم الضرري كما عليه المصنّف قدّس سرّه.

و أمّا بناء على كون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فالأمر أوضح، لأنّه يقال: إنّ استيفاء المنافع مجّانا ضرريّ، أو تفويت منافع العين المملوكة للغير بإمساك العين ضرريّ، فيرتفع حكمه أعني عدم الضمان و يثبت الضمان.

لا يقال: إنّ المقام يكون من تعارض الضررين، لأنّ اشتغال ذمّة القابض ضرر أيضا كتضرّر الدافع.

فإنّه يقال: إنّ الضرر- و هو النقص- لا يرد على الدافع، لأنّه يدفع بدل المنفعة التي استوفاها، لا أنّه يتضرّر حتى يندرج في تعارض الضررين، فإنّ دفع عوض المال الذي دخل في كيسه ليس نقصا في المال، بل دفع لمال الغير، كأداء الثمن.

و منها: قاعدة الاستيفاء، فإنّ استيفاء مال الغير من دون إذن المالك في استيفائه مجّانا موجب للضمان إجماعا، و عليه السيرة العقلائيّة التي لم يردع عنها الشارع.

و هذه الوجوه لو نوقش في بعضها ففي البعض الآخر منها كفاية.

ص: 221

خلافا للوسيلة (1)، فنفى الضمان، محتجّا بأنّ «الخراج بالضمان» كما في النبويّ المرسل (2). و تفسيره (3): أنّ من ضمن شيئا و تقبّله لنفسه فخراجه له. فالباء

______________________________

(1) قال ابن حمزة قدّس سرّه: «فإذا باع أحد بيعا فاسدا و انتفع به المبتاع، و لم يعلما بفساده، ثم عرفا، و استردّ البائع المبيع، لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به، أو استرداد الولد إن حملت الأمّ عنده و ولدت، لأنّه لو تلف لكان من ماله، و الخراج بالضمان» «1».

و صريح كلامه قدّس سرّه اختصاص عدم ضمان المنافع المستوفاة في المبيع بالعقد الفاسد بصورة جهلهما بالفساد، مع أنّ عنوان البحث في المتن شامل لصورة علمهما أو علم أحدهما بالفساد.

و كيف كان فيكفي للتعرّض لكلام ابن حمزة قوله بعدم الضمان موجبة جزئيّة و هي صورة الجهل بالبطلان. و محصّل استظهاره من الحديث النبويّ هو: أنّ من أقدم على ضمان شي ء و تقبّله لنفسه بتضمين المالك فالخراج- أي: ما يخرج من ذلك الشي ء من الفوائد و المنافع- له مطلقا، سواء أمضى الشارع هذا الضمان أم لا. و من المعلوم أنّ المشتري في المقام أقدم على ضمان المبيع بتضمين البائع إيّاه على أن يكون خراجه له مجّانا، فضمان المبيع عليه و منافعه له، حتى على تقدير فساد المعاملة.

(2) قال ابن أبي جمهور الأحسائيّ «و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّه قضى بأنّ الخراج بالضمان» ثم قال: «و معناه: أنّ العبد مثلا يشتريه المشتري، فيغتله حينا، ثم يظهر على عيب به، فيردّ بالعيب أنّه لا يردّ ما صار إليه من غلّة و هو الخراج، لأنّه كان ضامنا له و لو مات» «2».

(3) هذا التفسير إلى قوله: «و الفائدة بإزاء الغرامة» استظهار المصنّف من كلام ابن حمزة قدّس سرّهما، و توجيه استدلاله بالحديث.

______________________________

(1) الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص 744، السطر 33

(2) عوالي اللئالي، ج 1، ص 219، الحديث 89

ص: 222

للسببيّة (1) أو المقابلة (2) [1]. فالمشتري (3) لمّا أقدم على ضمان المبيع و تقبّله (4) على نفسه بتقبيل البائع و تضمينه إيّاه على (5) أن يكون الخراج له مجّانا كان (6) اللازم

______________________________

(1) لأنّ ضمان المبيع سبب لملكيّة المنافع. وجه تسمية «الباء» بالسببيّة أنّها تدخل على الأسباب، كقوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

(2) «باء» المقابلة هي التي تدخل على الأعواض، مثل «اشتريته بألف، و كافيت إحسانه بضعف» ففي المقام إذا ثبت الخراج كان ضمان العين عوضا عنه، فتدبّر.

(3) قد عرفت في توضيح ما استدلّ به شيخ الطائفة على قاعدة «ما لا يضمن» من قاعدة الإقدام: أنّ كل واحد من البائع و المشتري أقدم على الضمان المعاوضيّ، فالبائع يضمّن المشتري المبيع، و يجعله على عهدته و يتقبّله المشتري، و يضمّن البائع الثمن و يتقبّله هو. و بعد هذا الاقدام لو كان نماء للمبيع كان ملكا للمشتري في قبال ضمانه للمبيع.

(4) أي: تقبّل المشتري المبيع على نفسه و ضمنه- بعد تمليك البائع و تضمينه- مبنيّا على أن تكون منفعته للمشتري مجّانا، فلو استوفاها لم يلزمه عوضها.

(5) يعني: أنّ الشرط الارتكازيّ المبنيّ عليه البيع هو كون النماء للمشتري سواء صحّ البيع أم فسد.

(6) جواب الشرط في قوله: «لمّا أقدم».

______________________________

[1] قد يقال: إنّ «الباء» كما يحتمل أن تكون للسببيّة، يحتمل أن تكون للمقابلة، فيكون الكلام مجملا، و الاستدلال بالحديث على عدم الضمان مبنيّ على السببيّة، فلا يصحّ.

لكنّه مندفع بأنّ الأصل في الباء السببية، بل يمكن إرجاع المقابلة- بنحو من العناية- إلى السببيّة أيضا.

ص: 223

من ذلك (1) أنّ خراجه له على تقدير الفساد (2). كما أنّ الضمان عليه (3) على هذا التقدير أيضا.

و الحاصل (4): أنّ ضمان العين لا يجتمع (5) مع ضمان الخراج. و مرجعه (6) إلى أنّ الغنيمة و الفائدة بإزاء الغرامة.

و هذا المعنى (7) مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة، مثل قوله- في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري-: «ألا ترى أنّها

______________________________

(1) أي: من الاقدام على ضمان المبيع على أن يكون خراج المبيع له مجّانا.

(2) كما أنّ الخراج للمشتري مجّانا على تقدير الصحة، لوحدة الدليل و هو الاقدام على تضمين العين بشرط مجّانيّة المنفعة.

(3) أي: كما أنّ ضمان العين يكون على المشتري على تقدير فساد العقد- و لو ببدله الواقعيّ لا الجعليّ- إذ ليس مدار ضمان العين على صحّة البيع شرعا، بل على جعل المتعاملين و إقدامهما، و هو موجود في كلتا صورتي إمضاء الشارع و عدمه.

(4) يعني: حاصل تفسير ابن حمزة للحديث النبويّ هو عدم اجتماع ضمان العين و المنفعة في باب البيع.

(5) إذ المفروض كون ضمان العين سببا لملكيّة المنافع للضامن، فلا يجتمع الضمانان- أي: ضمان العين و المنافع- على ضامن العين، كالمشتري، فلا بدّ أن يكون ضامنا للعين فقط، لأنّ ضمان العين عوض المنافع.

(6) أي: و مرجع عدم اجتماع ضمان العين مع ضمان الخراج هو: أنّ الغنيمة تكون بإزاء غرامة العين و بدلا لها.

(7) أي: كون ضمان العين سببا لملك الخراج، بحيث يكون ضامن العين مالكا لمنافعها- المعبّر عنها بالخراج- ليترتّب عليه عدم ضمان المنافع التي استوفاها من المقبوض بالعقد الفاسد.

ص: 224

..........

______________________________

و غرض المصنّف قدّس سرّه من هذا بعد نقل تفسير الحديث على رأي ابن حمزة قدّس سرّه هو تأييد هذه المقالة بما ورد في غير واحد من الأخبار، مثل ما دلّ على أنّ منفعة الدار المبيعة ببيع خياريّ تكون ملكا للمشتري في الزمان المتخلّل بين البيع و الأخذ بالخيار.

ففي موثّقة إسحاق بن عمار، قال: «حدّثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام و سأله رجل و أنا عنده، فقال: رجل مسلم احتاج الى بيع داره، فجاء إلى أخيه، فقال له:

أبيعك داري هذه، و تكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ؟ فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه، قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة، لمن تكون الغلة؟ فقال: الغلّة للمشتري، ألا ترى أنّها لو احترقت لكانت من ماله» «1».

و في رواية معاوية بن ميسرة: «قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل باع دارا له من رجل، و كان بينه و بين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط أنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله، قال:

له شرطه. قال له أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين، قال: هو ماله. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ رأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري» «2».

و تقريب دلالتهما على مدّعى ابن حمزة قدّس سرّه هو: أنّ الامام عليه السّلام حكم بدخول منافع الدار- في مدّة الخيار- في ملك المشتري المستوفي لها، و لا يكون ضامنا لعوضها للبائع بعد فسخ العقد. و الوجه في عدم ضمانها هو ضمانه لنفس المبيع و بذل الثمن بإزائه، و هذا المطلب هو مفاد حديث «الخراج بالضمان».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص 355، الباب 8 من أبواب الخيار، الحديث 1، و المراد بالحاصر هو الجدار.

(2) المصدر، الحديث 3

ص: 225

لو أحرقت كانت من مال المشتري» [1].

و نحوه في الرهن (1) و غيره (2).

______________________________

(1) كموثق إسحاق بن عمّار، قال: «قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام: الرّجل يرهن الغلام و الدار فتصيبه الآفة، على من يكون؟ قال عليه السّلام: على مولاه، ثم قال: أ رأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟ قلت: هو في عنق العبد. قال عليه السّلام: ألا ترى فلم يذهب مال هذا، ثم قال: أ رأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد و بلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟

قلت: لمولاه، قال عليه السّلام: كذلك يكون عليه ما يكون له» «1».

(2) لعلّ مراده قدّس سرّه ما ورد في باب الإجارة من أنّه يجوز لمن استأجر أرضا أن يؤجرها بأكثر ممّا استأجرها بشرط أن تكون الأجرة الثانية مغايرة للأجرة الاولى في الجنس، أو أن يحدث في الأرض ما يقابل التفاوت بأن يحفر فيها نهرا و نحو ذلك.

فيقال في تقريب دلالتها على مدّعى ابن حمزة: إنّ المستأجر الأوّل لمّا ضمن الأجرة للمالك أو للسلطان أو لمن بيده أمر الأرض كانت الفائدة الحاصلة بالإجارة الثانية عائدة له، لا لمالك الأرض.

______________________________

[1] الظاهر عدم ارتباطهما بهذا المعنى أي كون ضامن العين مالكا لخراجها لأجل ضمان العين. بل هي في مقام بيان كون العين في مدة الخيار ملكا للمشتري، و أنّ ملكيّة المنفعة لقاعدة تبعيّتها في الملكيّة للعين.

و بعبارة أخرى: قاعدة تبعية المنافع للعين في الملكيّة سارية في جميع موارد ملكيّة العين مطلقا و إن لم يكن ضمان للعين بإزاء مال كالمجّانيّات من الهبة و نحوها، فإنّ ملكيّة العين مطلقا تقتضي ملكيّة المنفعة.

فليس المقصود سببيّة ضمان العين لملك المنفعة و خراجها. و لا قاعدة «من له الغنم فعليه الغرم» فالأخبار المشار إليها أجنبيّة عن مدّعى ابن حمزة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 126، الباب 5 من أبواب الرهن، الحديث 6

ص: 226

و فيه (1): أنّ هذا الضمان ليس هو ما أقدم عليه المتبايعان حتى يكون

______________________________

ففي معتبرة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرّجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى، ثم آجرها، و شرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر، و له في الأرض بعد ذلك فضل، أ يصلح له ذلك؟ قال: نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك» الحديث «1».

هذا ما يتعلّق بالجهة الثانية و هي تأييد مقالة ابن حمزة الطوسي أعلى اللّه مقامه.

(1) هذا شروع في الجهة الثالثة مما يتعلّق بكلام ابن حمزة، و هو المناقشة فيه، و المذكور في المتن وجوه ثلاثة من الإيراد، أفاد أوّلها المصنف، ثم تعرّض للوجهين الآخرين و ردّهما.

أمّا مناقشة المصنف في كلام ابن حمزة فتوضيحها: أنّه قد تقدم (في ص 116) الإيراد على استدلال شيخ الطائفة بالإقدام على الضمان في البيع الفاسد بما محصّله: أنّ ما أقدما عليه من العوض المسمّى لم يسلم لهما، و لم يقدما على البدل الواقعي حتى يضمناه. و كذلك يقال في المقام، حيث إنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ضمان قهريّ شرعيّ، و ليس ضمانا اختياريّا للمتبايعين حتى يستلزم ملكيّة المنافع لضامن العين.

و المفروض أنّ الضمان الموجب لملكيّة المنافع هو الضمان المعاوضيّ الذي أقدم عليه المتعاقدان و أمضاه الشارع.

و بالجملة: الضمان المستلزم لملكيّة الخراج هو الضمان المقيّد بقيد الاقدام و الإمضاء، دون الضمان القهريّ الذي يكون من باب الغرامة المعبّر عنها بالضمان الواقعيّ، و المفروض أنّ الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ليس من الضمان المعاوضيّ الاختياريّ الذي أقدم عليه المتعاقدان و أمضاه الشارع، بل من الضمان القهريّ الذي لا يوجب ملكيّة المنافع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 13، ص 261، الباب 21 من أحكام الإجارة، الحديث 3

ص: 227

الخراج بإزائه (1)، و إنّما هو أمر قهريّ حكم به الشارع كما حكم (2) بضمان المقبوض بالسّوم و المغصوب. فالمراد بالضمان (3) الذي بإزائه الخراج التزام (4) الشي ء على نفسه و تقبّله له مع إمضاء الشارع له [1].

و ربّما ينتقض ما ذكرنا (5) في معنى الرواية بالعارية المضمونة،

______________________________

(1) بمقتضى «الخراج بالضمان» وجه عدم الاقدام على ضمان المبيع فاسدا هو: أنّه مضمون بالبدل الواقعيّ مع أنّ المقدم عليه ضمان جعليّ.

(2) بإطلاق «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

(3) يعني: في حديث: «الخراج بالضمان» و غرضه قدّس سرّه- بعد أن نفى كون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد من الضمان المعاوضيّ الاختياريّ الممضى شرعا- أنّ المراد بالضمان الموجب لملكية المنافع هو معناه المصدريّ أي التزام الشي ء على نفسه و تقبّله له، مع إمضاء الشارع له. و الضمان بهذا المعنى مفقود في المقبوض بالعقد الفاسد، فلا يكون ضمان العين فيه موجبا لملكيّة المنافع حتى لا يضمنها.

(4) خبر قوله: «فالمراد».

(5) من كون الضمان في الحديث هو الضمان الاختياريّ الممضى شرعا الذي نبّه عليه بقوله: «فالمراد بالضمان الذي بإزائه الخراج ..» دون الضمان القهري الجاري في المقبوض بالبيع الفاسد.

و توضيح النقض الوارد على إرادة الضمان الاقداميّ الاختياريّ هو: أنّ المستعير إذا أقدم على ضمان العارية- بأن شرطه المعير عليه- و أمضاه الشارع لم يوجب هذا الإقدام مالكيّة المستعير لمنافعها، لما تقرّر عندهم من أنّه لا يملك منافع العارية، و إنّما يملك الانتفاع الذي عيّنه المالك له. و بهذا يشكل جعل مدلول الحديث

______________________________

[1] لكنه لا قرينة عليه، فيحتمل أن يراد به اسم المصدر، يعني كونه في العهدة، كما يحتمل إرادة معان أخر منه سيأتي بيانها.

ص: 228

حيث إنّه (1) أقدم على ضمانها، مع أنّ خراجها ليس له [1] لعدم تملّكه للمنفعة، و إنّما تملّك الانتفاع الذي عيّنه المالك (2)، فتأمّل (3).

______________________________

مخصوصا بالضمان الاقداميّ الممضى شرعا، فإنّ الشارع الممضى للعارية المضمونة لم يحكم بمالكيّة المستعير لخراجها.

(1) أي: أنّ المستعير أقدم على ضمان العين و لم يتملّك الخراج.

(2) كما في الشرائع، حيث قال: «و يقع بكل لفظ يشتمل على الاذن في الانتفاع» و قال أيضا: «و لا يجوز إعارة العين المستعارة إلّا بإذن المالك، و لا إجارتها، لأنّ المنافع ليست مملوكة للمستعير و إن كان استيفاؤها» «1».

(3) لعلّه إشارة إلى كفاية جواز استيفاء الخراج- بلا ضمان له مع ضمان العين- في صدق «الخراج بالضمان» إذ حاصل المعنى حينئذ: أنّ ضمان العين رافع لضمان المنافع، سواء صارت ملكا لضامن العين أم لا.

أو إلى: فقدان تملّك الانتفاع في العارية أيضا، بل تباح المنافع له بإذن مالك العين، فكأنّ معناه: أنّ ضمان العين يمنع عن ضمان المنافع و إن لم تصر مملوكة لضمان العين، فلا ينتقض- إرادة الضمان الاختياريّ- بالعارية.

أو إلى: أنّ معنى «الخراج بالضمان» هو كون الخراج في مقابل ضمان العين بعنوان كونها ملكه في حال الانتفاع بالعين، و من المعلوم أنّ العارية المضمونة ليست كذلك، لأنّها لم تضمن بعنوان كون العين ملكا للمستعير، فلا نقض.

______________________________

[1] المعروف في العارية أنّها إباحة الانتفاع بمنافع ملك الغير مجّانا مع بقاء المنفعة على ملك مالك العين، نظير إباحة الطعام للضيف و نثار الأعراس. قال في التذكرة: «ليس للمستعير أن يعير». و قال في وجهه: «إنّه غير مالك للمنفعة، و لهذا

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 2، ص 171 و 173

ص: 229

و الحاصل (1): أنّ دلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن، فلا يترك

______________________________

(1) هذا ملخّص ما أورد به المصنف على ابن حمزة قدّس سرّهما النافي لضمان المنافع المستوفاة مستدلّا بالحديث النبويّ. و محصّل الكلام: أنّ الحديث موهون سندا و دلالة. أمّا سندا فلأنّه مرويّ بطرقنا مرسلا، و لا عبرة بالمراسيل ما لم تنجبر بعمل المشهور، و قد عرفت إعراض المشهور عن المدلول الذي استظهره ابن حمزة، بل ادّعى الإجماع على ضمان المنافع المستوفاة. و هذا الحديث و إن روي مسندا بطرق العامّة لكنّه مرميّ بضعف بعض رجاله كما سيأتي في التعليقة.

و أمّا دلالة فلأنّ محتملات الحديث كثيرة، و لا معيّن لما استظهره ابن حمزة منه، و يكفي في ردّه ما أفاده المصنف من اختصاصه بموارد الاقدام المضمّن الممضى شرعا.

و عليه فلا معارض لما يدلّ من القواعد الجارية في ضمان مطلق الأموال

______________________________

لا يجوز أن يؤجر» «1».

و يحتمل- كما قيل:- أن تكون العارية تمليك المنفعة مجّانا، كالهبة التي هي تمليك العين مجّانا، كما أنّ الإجارة تمليك المنفعة بعوض، في مقابل البيع الذي هو تمليك العين بعوض. ففي التذكرة في مقام الاستدلال على مشروعيّة العارية ما لفظه:

«أما الإجماع فلا خلاف بين علماء الأمصار في جميع الأعصار في جوازها و الترغيب فيها. و لأنّه لمّا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع، و لذلك صحّت الوصيّة بالأعيان و المنافع جميعا» «2» و هو صريح في كون العارية من هبة المنافع.

لا يقال: إنّه على هذا يجوز للمستعير إجارة العين المستعارة، مع أنّ من المسلّم عدم جوازها.

فإنّه يقال: إنّ عدم جواز إجارتها إنّما هو لأجل شرط انتفاع المستعير بنفسه، و لو شرطا ضمنيّا مبنيّا عليه عقد العارية.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 209، السطر 14

(2) المصدر، السطر 27

ص: 230

لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم و احترامه و عدم حلّه (1) إلّا عن طيب النفس.

و ربّما يردّ هذا القول (2)

______________________________

- سواء أ كانت أعيانا أم منافع- كقاعدة الاحترام.

(1) هذا عطف تفسير للاحترام، و ليس دليلا آخر على ضمان مال المسلم.

(2) أي: قول ابن حمزة قدّس سرّه بعدم ضمان المنافع المستوفاة، و يستفاد هذا الرّدّ من العلّامة و غيره حيث استدلّوا على ضمان منافع المبيع فاسدا بالروايات المتقدّمة في الأمر الأوّل- و هو ضمان المقبوض بالبيع الفاسد- المتضمنة لحكم الامام عليه السّلام بضمان منافع الأمة المسروقة. قال السيد العاملي قدّس سرّه في بيع الفضولي: «إذا لم يجز المالك رجع في عين ماله و نمائه متصلا أو منفصلا، و عوض منافعه المستوفاة و غيرها .. و في رواياتهم ما يدل عليه ..» «1». و قال في موضع آخر: «و يرجع به- بالمبيع فاسدا- و بزوائده متّصلة كالسمن و منفصلة كالولد، و بمنافعه المستوفاة و غيرها كما في المبسوط و غيره، و المخالف ابن حمزة» «2».

و حاصل الرّدّ: أنّ الجارية المسروقة كما تكون بنفسها مضمونة على المشتري الجاهل بالحال. كذلك تكون منافعها من الولد و الخدمة و اللبن مضمونة عليه.

و لو كان ضمان العين- في البيع الفاسد- موجبا لحلّيّة المنافع للمشتري لم يكن وجه لحكم الشارع بضمان نماءاتها.

و عليه فضمان المنافع مناف لما استظهره ابن حمزة من حديث «الخراج بالضمان» فلا بدّ من حمله- بعد فرض اعتباره سندا- على البيع الصحيح كما صنعه العلّامة «3» قدّس سرّه، هذا تقريب الرّدّ على ابن حمزة، و ستأتي خدشة المصنف فيه.

________________________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 198

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 169

(3) مختلف الشيعة، ج 5، ص 319

ص: 231

بما ورد (1) في شراء الجارية المسروقة: من ضمان قيمة الولد (2) و عوض اللبن، بل عوض كلّ ما انتفع.

و فيه (3): أنّ الكلام في البيع الفاسد الحاصل بين مالكي العوضين (4) من

______________________________

(1) كخبر زرارة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل اشترى جارية من سوق المسلمين، فخرج بها إلى أرضه، فولدت منه أولادا، ثم أتاها من يزعم أنّها له، و أقام على ذلك البيّنة. قال: يقبض ولده، و يدفع إليه الجارية، و يعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «1».

(2) لا يخفى أنّ ضمان قيمة الولد و اللبن و سائر المنافع لم يرد في رواية واحدة، بل تضمّنتها نصوص متفرقة، ففي صحيحة جميل «و يدفع إليه المبتاع- و هو المشتري- قيمة الولد» و في رواية زرارة المتقدّمة ضمان عوض اللبن و الخدمة، و في خبر آخر ضمان كل ما انتفع، فمقصود الرّادّ على ابن حمزة ورود ضمان هذه في الأخبار المتفرّقة.

(3) هذه مناقشة المصنّف قدّس سرّه في التمسك بهذه الروايات لردّ ابن حمزة. و حاصل المناقشة: أنّ مورد الأخبار المتقدّمة أجنبيّ عن مسألة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و عدمه، لأنّ الكلام بين ابن حمزة و بين المشهور إنّما هو في المقبوض بالعقد الفاسد، من غير جهة الغصب، كما يدلّ عليه قوله في ذيل عبارته في الوسيلة: «فإن غصب إنسان أو سرق مال غيره .. الى قوله: و إن لم يكن عارفا كان له الرجوع عليه بالثمن و بما غرم للمالك» حيث إنّه يدلّ على غرامته للمالك غير الثمن من عوض المنافع، و لا وجه له إلّا ضمانها للمالك.

(4) و هذا أجنبيّ عن أخبار ضمان منافع الجارية المسروقة، إذ ليس بائعها مالكها، بل هو غاصب، و لا ملازمة في الضمان بين منافع المغصوب المبيع، و بين منافع

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 592، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 4 و نحوه الحديث 2

ص: 232

جهة (1) أنّ مالك العين جعل خراجها له (2) بإزاء ضمانها بالثمن، لا (3) ما كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير [1].

______________________________

المبيع فاسدا لاختلال شرط صحّته.

(1) متعلّق ب «الكلام» يعني: أنّ وجه البحث في مسألة ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد هو: أنّ البائع أقدم على جعل منافع المبيع ملكا للمشتري في قبال الثمن، فإمضاء هذا الاقدام و عدم إمضائه غير مرتبط بضمان نماء الجارية المسروقة التي يكون ضمانها من جهة الغصب.

(2) أي: للمشتري، في قبال الثمن الذي يدفعه إلى البائع.

(3) معطوف على «جهة» يعني: ليس كلامنا في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد شاملا لمطلق موارد الفساد حتى من ناحية مغصوبيّة العوضين أو أحدهما، حتى نستدلّ على ضمان المنافع بنصوص الجارية المسروقة، بل محلّ الكلام فساد العقد من غير ناحية الغصب، بأن كان العوضان مملوكين.

______________________________

[1] قد يشكل هذا الجواب بمنافاته لما تقدّم منه من الاستدلال بفحوى أخبار ضمان منفعة الجارية المسروقة على ضمان نفس الجارية لو تلفت بيد المشتري.

وجه المنافاة: أنّ الاستدلال بالفحوى منوط باتّحاد المقبوض بالعقد الفاسد و المغصوب حكما، سواء أ كان منشأ فساد العقد اختلال شرط الصيغة أو العوضين أو المتعاملين، كما أنّ إطلاق عنوان المسألة شامل لجميع مناشئ الفساد. و من المعلوم أنّ ما أفاده هنا من قوله: «لا ما كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير» يقتضي اختصاص مدلول هذه الأخبار بما كان منشأ بطلان العقد عدم تملّك العوضين خاصّة، و معه كيف يتّجه الاستدلال بفحواها على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد مطلقا؟ و جعلها في عداد حديث اليد و غيره ممّا يدل على ضمان المبيع بالبيع الفاسد؟

ص: 233

و أضعف من ذلك (1) ردّه بصحيحة أبي ولّاد المتضمنة لضمان منفعة

______________________________

(1) المشار إليه هو ردّ قول ابن حمزة بنصوص ضمان منافع الجارية المسروقة.

و هذا إشارة إلى وجه آخر لردّ مقالة ابن حمزة قدّس سرّه. و توضيحه: أنّه ورد في صحيحة أبي ولّاد الحناط السؤال عن اكتراء بغل من الكوفة إلى مسافة معيّنة- و هي قصر بني هبيرة- لاستيفاء دين من غريم، فلمّا خرج من الكوفة و وصل إلى قنطرتها أخبر بخروج الغريم إلى مكان آخر، و هو النيل، فتابعه أبو ولّاد إلى أن ظفر به ببغداد، و فرغ ممّا بينه و بينه، و رجع إلى الكوفة، و قد طال سفره من مبدئه إلى منتهاه خمسة عشر يوما، و هي أزيد بكثير من المدّة المتعارفة للسير من الكوفة إلى قصر بني هبيرة و الرجوع منه إلى الكوفة. فأراد أبو ولّاد التحلّل من المكاري ببذل اجرة أخرى زائدة على الأجرة المعيّنة أوّلا، فلم يرض بها صاحب البغل، فتراضيا بالترافع إلى قاضي الجور، فحكم ببراءة ذمّة أبي ولّاد من الأجرة الزائدة، مستدلّا بحديث الخراج بالضمان، فاسترجع صاحب البغل من هذا القضاء الجائر.

إلى أن تشرّف أبو ولّاد للحجّ و زار الامام الهمام أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، و قصّ عليه قصّته، فقال عليه السّلام: «في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها و تمنع الأرض بركاتها» و حكم على أبي ولّاد بضمانه لاجرة البغل في جميع المدّة التي خرج به من الكوفة حتى عوده إليها، لأنّه استوفى منفعته بإجارة فاسدة، لإخلاله بالشرط، فصار البغل مغصوبا، فيضمنه كما يضمن ما استوفى من منافعه.

و عليه تكون هذه الصحيحة ردّا على ابن حمزة القائل بأنّ ضمان العين لا يجتمع مع ضمان منافعها، هذا.

و ناقش المصنّف قدّس سرّه في هذا الرّدّ مقتصرا على قوله: «و أضعف منه ذلك» وجه الأضعفيّة: أنّه ليس في الغصب- الذي هو مورد صحيحة أبي ولّاد- عقد فاسد، بخلاف ما قبلها، فإنّ فيه عقدا بين المشتري و غير المالك، و من المعلوم أنّ الغصب

ص: 234

المغصوب المستوفاة (1)، ردّا على أبي حنيفة القائل بأنّه إذا تحقّق ضمان العين- و لو بالغصب- سقط كراها، كما يظهر (2) من تلك الصحيحة.

نعم (3) لو كان القول المذكور موافقا لقول أبي حنيفة في إطلاق (4) القول بأنّ الخراج بالضمان انتهضت الصحيحة و ما قبلها (5) ردّا عليه.

هذا كله في المنفعة المستوفاة.

______________________________

أجنبيّ عن العقد الفاسد الذي هو مورد كلام ابن حمزة، إذ الغصب خال عن العقد.

(1) صفة للمنفعة، و المراد بالمنفعة المستوفاة في هذه الصحيحة هو الركوب على الدابّة و السّير بها.

(2) يعني: كما يظهر قول أبي حنيفة- بسقوط ضمان الأجرة بسبب ضمان العين- من تلك الصحيحة، و سيأتي متن صحيحة أبي ولّاد إن شاء اللّه تعالى في (ص 482 إلى 488).

(3) استدراك على عدم كون الصحيحة ردّا على ابن حمزة، و حاصله: أنّ الصحيحة تنهض للردّ على ابن حمزة إذا كان قائلا بإطلاق «الخراج بالضمان» بحيث يشمل الغصب كما يقول به أبو حنيفة. و أمّا إذا لم يقل بذلك، و كان قائلا باختصاص «الخراج بالضمان» بالعقود المعاوضيّة و عدم شموله للغصب لم تنهض الصحيحة للرّدّ عليه.

(4) المقصود من إطلاق «الخراج بالضمان» أنّ كلّ مورد تحقّق فيه ضمان العين كان منفعته مجّانا و بلا عوض، سواء أ كان بالعقد الصحيح كما يقول به أصحابنا- عدا ابن حمزة- أم أعمّ منه و من العقد الفاسد كما هو رأي ابن حمزة، أم أعمّ منهما و من الأعيان المغصوبة كما يقول به أبو حنيفة، لعدم تضمينه أبا ولّاد عوض انتفاعه بالبغل الذي صار مغصوبا بيده من قنطرة الكوفة إلى النيل، ثمّ إلى بغداد، ثمّ إلى الكوفة.

(5) و هو نصوص الجارية المسروقة، فإنّها أيضا صالحة لردّ مقالة أبي حنيفة، لما تقدم من صراحتها في ضمان اللبن و الخدمة و سائر منافعها. فكما تكون نفس الجارية مضمونة فكذا نماؤها، و هذا معارض بالتباين لما استفاده أبو حنيفة من

ص: 235

..........

______________________________

حديث «الخراج بالضمان» [1].

هذا ما يتعلّق بتوضيح المتن في ردّ استدلال ابن حمزة بالحديث النبويّ، و بقيت مباحث أخرى تأتي في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] و ربّما ينتقض قاعدة «الخراج بالضمان» بالمنافع التي تملك بالإرث تبعا للأعيان، أو بالأصالة، حيث إنّها ليست بسبب ضمان العين و تعهّدها ببذل مال بإزائها.

و فيه: أنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخراج بالضمان» ليس في مقام حصر سببيّة ضمان الأعيان لملكيّة المنافع، بل في مقام نفي الضمان عن المنافع فيما إذا حصل تعهّد ببذل عوض بإزاء العين. فكأنّه قيل: كلّ من ضمن عينا ملك منافعها، و هو لا يدلّ على تسبّب ملكيّة المنافع عن ملكيّة العين على وجه الحصر، فيمكن أن تكون ملكية المنافع بسبب آخر.

و هذا نظير أن يقال: «البيع سبب للنقل و الانتقال» و هو لا ينافي سببيّة الصلح و الهبة مثلا لهما، و لا ينفي سببيّة غير الضمان لملكيّة المنافع، لأنّ «الخراج بالضمان» قضية لقبيّة لا مفهوم لها، فلا تدلّ على الحصر أصلا.

ثمّ إنّه لا بأس بعطف عنان البحث إلى النبويّ «الخراج بالضمان» سندا و دلالة، فنقول و به نستعين و بوليّه صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه الطاهرين و عجّل فرجه الشريف نتوسّل و نستجير: ينبغي البحث في مقامين، أحدهما: في السند، و الآخر في الدلالة.

أمّا المقام الأوّل فمحصّله: أنّه لم يرو هذا الحديث في جوامعنا الروائيّة، و إنّما روي مرسلا في بعض الكتب الفقهية كالخلاف و المبسوط و الوسيلة و السرائر و غيرها، فالاعتماد عليه منوط بإحراز عمل المشهور به.

ص: 236

______________________________

نعم روي بسندين في كتب العامّة، و اختلفوا في صحّة كلا الطريقين، و روايتهم له تارة بعنوان قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخراج بالضمان» أو «قضى بالخراج الضمان» و أخرى مع ذكر السبب. فعن السيوطي: «القاعدة الحادية عشر، قال: الخراج بالضمان حديث صحيح أخرجه الشافعي و أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن حيّان من حديث عائشة. و في بعض طرقه ذكر السبب، و هو: أنّ رجلا ابتاع عبدا فأقام عنده ما شاء اللّه أن يقيم، ثمّ وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فردّه عليه، فقال الرجل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد استعمل غلامي، فقال: الخراج بالضمان» «1».

و السند الأوّل هو ما عن سنن ابن ماجة «بالإسناد عن مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: إن رجلا اشترى عبدا .. إلخ». و السند الثاني: «مخلّد بن خفاف عن هشام بن عروة عن أبيه .. إلخ».

و اختلفوا في صحّة الطريقين، فعن تاج العروس نقل تصحيح جماعة. و عن ابن حزم: «لا يصح حديث الخراج بالضمان، لانفراد مخلّد بن خفاف و مسلم بن خالد الزنجي به» و عن الزبيدي: «ضعّف البخاري حديث مخلّد بن خفاف».

و أمّا السند الآخر فعن الحاكم تصحيحه، إلّا أنه حكي عن الذهبي: «اختلاف كلام ابن معين فيه، فتارة يقول: لا بأس به. و أخرى: إنّه ثقة. و ثالثة: إنّه ضعيف. و عند السّاجي:

كثير الغلط، و يرمى بالقدر».

فالمتحصّل من كلماتهم بعد التتبّع فيها: أنّ هذا الحديث ليس ممّا اتفق الكلّ على صحّته، بل اعتباره عند العامّة مورد الخلاف. هذا ما يرجع إلى سنده الذي لا يحصل

______________________________

(1) الأشباه و النظائر، ص 121، نقلا عن هامش تقريرات السيد المحقق الخويي، محاضرات في الفقه الجعفري، ج 2، ص 171 و 172

ص: 237

______________________________

الوثوق بصدوره عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا من ناحية عملهم به فالعاملون به كثيرون من المذاهب الأربعة، إلّا أنّه لمّا لم يكن جدوى في وثوقهم به عندنا، فالأولى الاقتصار على ذكر من عمل به من فقهائنا الأبرار رضوان اللّه تعالى عليهم. و إن شئت الوقوف على أقول العامة و عملهم بالحديث فراجع ما تتبّعه العلّامة السيد المقرم في تعليقه على تقريرات السيد الخويي قدّس سرّهما «1».

و أمّا الإمامية أعلى اللّه كلمتهم فقد أسنده شيخ الطائفة قدّس سرّه إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخلاف و المبسوط.

فقال في الخلاف: «إذا اشترى جارية حاملا، فولدت في ملك المشتري عبدا مملوكا، ثم وجد بالأمّ عيبا، فإنّه يردّ الامّ دون الولد، و للشافعي فيه قولان: أحدهما: مثل ما قلناه، و الثاني: له أن يردّهما معا، لأنّه لا يجوز أن يفرّق بين الأمّ و الولد فيما دون سبع سنين. و الأوّل أصحّ عندهم. دليلنا: عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الخراج بالضمان» «2».

و قال في المبسوط: «فصل في أنّ الخراج بالضمان: إذا كان لرجل مال فيه عيب فأراد بيعه وجب عليه أن يبيّن للمشتري عيبه، و لا يكتمه، أو يتبرّء إليه من العيوب.

و الأوّل أحوط. فإن لم يبيّنه و اشتراه إنسان فوجد به عيبا كان المشتري بالخيار إن شاء رضي، و إن شاء ردّه بالعيب و استرجع الثمن. فإن اختار فسخ البيع و ردّ المبيع نظر، فإن لم يكن حصل من جهة المبيع نماء ردّه و استرجع ثمنه، و إن كان قد حصل نماء و فائدة فلا يخلو من أن يكون كسبا من جهته أو نتاجا و ثمرة. فإن كان كسبا مثل أن يكتسب بعمله

______________________________

(1) محاضرات في الفقه الجعفري، ج 2، ص 169 الى 174

(2) الخلاف، ج 3، ص 108، المسألة: 176 من كتاب البيع.

ص: 238

______________________________

أو تجارته أو يوهب له أو يصطاد شيئا أو يحتطب أو يحتش، فإنّه يردّ المعيب و لا يردّ الكسب بلا خلاف، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخراج بالضمان. فالخراج اسم للغلّة و الفائدة التي تحصل من جهة المبيع» إلى أن قال: «و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الخراج بالضمان معناه: أنّ الخراج أن يكون المال يتلف من ملكه، و لمّا كان المبيع يتلف من ملك المشتري، لأنّ الضمان انتقل إليه بالقبض كان الخراج له» «1».

و استند قدّس سرّه الى هذا الحديث في بيع المصرّاة، فقال: «و لا يردّ اللبن الحادث، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قضى أنّ الخراج بالضمان» «2».

و قال في السرائر في عدم ضمان العين المرهونة: «و يحتجّ على المخالف بقوله عليه السّلام: الخراج بالضمان، و خراجه إذا كان للراهن بلا خلاف، وجب أن يكون من ضمانه» «3».

و قال العلّامة في المختلف- بعد نقل كلام ابن حمزة في الوسيلة- ما لفظه:

«و المعتمد أنّ النماء للبائع، لأنّ الملك باق عليه، و النماء يتبع الملك. و قوله عليه السّلام:

الخراج بالضمان محمول على الصحيح، و إلّا لكان الغاصب مالكا للمنافع، لدخول الأصل تحت ضمانه» «4».

و ظاهر العبارتين اعتمادها على الحديث. و لو كان في سنده غمز لكان المناسب التخلّف منه بطرحه كلّيّة، لا بحمله على العقد الصحيح.

نعم يحتمل في كلام ابن إدريس إيراده احتجاجا على المخالفين لا استنادا، و إن

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 126

(2) المصدر، ص 125

(3) السرائر الحاوي، ج 2، ص 420

(4) مختلف الشيعة، ج 5، ص 319

ص: 239

______________________________

أمكن التخلّص عن هذا الاحتمال بمخالفته للظاهر، و لو كان الغرض الاحتجاج عليه بما هو مسلّم عندهم كان الأولى أن يقول: «و يحتج على المخالف بما يرويه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» مع أنّه قدّس سرّه أسنده إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قد تقدم نظيره في حديث «على اليد».

نعم يشكل تعليل العلّامة: «و إلّا لكان الغاصب مالكا للمنافع ..» بعدم صلاحيّة هذا الوجه لأن يكون منشأ لحمل «الخراج بالضمان» على خصوص الصحيح، ضرورة قابليّة عمومه للتخصيص بأدلّة الغصب كصحيحة أبي ولّاد.

و قال في الجواهر: «المشهور نقلا و تحصيلا- بل في ظاهر التذكرة الإجماع- على أنّ المبيع يملكه المشتري في زمن الخيار بالعقد» إلى أن قال: «و قيل به و بانقضاء مدة الخيار» و استدلّ عليه بأمور، إلى أن قال: «و النبويّ الخراج بالضمان الذي معناه أنّ الربح في مقابلة الخسران، فإنّ الخراج اسم للفائدة الحاصلة في المبيع، و المراد أنّها للمشتري، كما أنّ الضرر الحاصل بالتلف عليه، فهو دالّ على المطلوب، و إن كان مورد الحديث خيار العيب» «1».

أقول: الغرض ممّا ذكرناه من سند الحديث و عمل الفقهاء به من العامّة- كما حكي- و بعض الخاصّة هو: أنّه هل يوجب ذلك السند و العمل وثوقا بصدور الحديث حتى يصحّ الركون إليه و الاعتماد عليه أم لا؟ فإن حصل ذلك وصلت النوبة إلى البحث عن معنى الحديث.

و قد حكي عن شيخ الشريعة الأصفهاني قدّس سرّه: «انّا تتبعنا غاية التتبّع فلم نجدها في كتب الإمامية رضوان اللّه تعالى عليهم صحاحها و غير صحاحها، بل وجدناه في كتب العامّة بطرق متعدّدة في موارد عديدة». و لعلّ غرضه قدّس سرّه عدم الظفر به مسندا في جوامعنا

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 23، ص 78

ص: 240

______________________________

الروائيّة، و إلّا فقد عرفت روايته مرسلا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل نسبه شيخ الطائفة إلى النبيّ جازما، و لم يقل: «و روي عنه». هذا بعض الكلام في المقام الأوّل.

و أمّا المقام الثاني و هو الدلالة فلنذكر كلام بعض اللغويّين في معنى الخراج و الضمان، ثمّ ما يحتمل في مفاد الحديث.

أمّا الخراج ففي مفردات الراغب: «و الخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض، و قيل: العبد يؤدّي خرجه أي غلّته، و الرّعيّة تؤدّي إلى الأمير الخراج» «1».

و قال ابن منظور: «و قال الزجّاج: و الخراج اسم لما يخرج، و الخراج غلّة العبد و الأمة، و الخرج و الخراج الاتاوة، تؤخذ من أموال الناس» ثم قال: «و أما الخراج الذي وظّفه عمر على السواد و أرض الفي ء، فإنّ معناه الغلّة أيضا .. و لذلك يسمّى خراجا يؤدونها كل سنة .. و قيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة: خراج، لأنّه كالغلّة الواجبة عليهم. ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس، و الخراج على الأرضين» «2».

و قال العلّامة الطريحي قدّس سرّه: «الخرج و الخراج- بفتح المعجمة فيهما- ما يحصل من غلّة الأرض. و قيل: يقع اسم الخراج على الضريبة و الفي ء و الجزية و الغلّة، و منه خراج العراقين» «3».

و قال ابن الأثير: «الخراج بالضمان يريد ما يحصل من غلّة العين المبتاعة عبدا كان أو أمة أو ملكا. و ذلك أن يشتريه فيستغلّه زمانا» إلى أن قال: «و يكون للمشتري ما استغلّه، لأنّ المبيع لو تلف في يده لكان من ضمانه، و لم يكن على البائع شي ء. و الباء في (بالضمان) متعلّقة بمحذوف، تقديره: الخراج مستحقّ بسبب الضمان» «4».

______________________________

(1) مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 145

(2) لسان العرب، ج 2، ص 251 و 252

(3) مجمع البحرين، ج 2، ص 294

(4) النهاية، ج 1، ص 321

ص: 241

______________________________

هذا ما يتعلّق بمعنى كلمة الخراج.

و أمّا الضمان فهو التكفّل بالشي ء. قال في المجمع: «و ضمنت الشي ء ضمانا كفلت به، فأنا ضامن و ضمين، و ضمنت المال التزمته» «1» و نحوه ما في الصحاح و المصباح «2».

و هذا المعنى ما يساعده العرف العام، فإنّ الضمان العرفي هو كون مال الغير في العهدة، سواء أ كان سببه اختياريّا كقبول شرط ضمان العين المستأجرة أو عارية غير الذهب و الفضة، أم قهريّا كإتلاف مال الغير غفلة أو في حال النوم.

و أمّا ضمان الشخص لمال نفسه فلا معنى له، و ليس ذلك معنى لغويّا و لا عرفيّا للضّمان، فإنّ البيع ليس إلّا المبادلة بين المالين، و لا يخطر الضمان فيه أصلا، فلا يصح أن يقال: إنّ المنافع غير مضمونة على المشتري، لأنّه ضمن العين، و ضمانها يوجب أن تكون منافعها للضامن.

بل يقال: إنّ المنافع- تبعا للعين- مملوكة للمشتري، فلا يضمنها، إذ لا معنى لضمان الشخص مال نفسه، و جعل ماله في عهدته.

بل يقال: إنّ المنافع غير مضمونة عليه، لعدم ضمانه لها من جهة كونها ماله، فاستوفى مال نفسه، و لا معنى لضمان مال نفسه.

ففي مورد الحديث يقال: منفعة العبد المستوفاة غير مضمونة على المشتري في الزمان المتخلّل بين عقد البيع و بين ردّ العبد لأجل العيب على البائع. وجه عدم الضمان:

أنّ الخراج كمنفعة العبد غير مضمون على المشتري، لأنّ المشتري لم يجعلها في عهدته.

______________________________

(1) مجمع البحرين، ج 6، ص 275

(2) صحاح اللغة، ج 6، ص 2155؛ المصباح المنير، ص 364

ص: 242

______________________________

و كذا لم يجعلها الشارع في عهدته. و المفروض أنّ ثبوت الخراج على العهدة منوط بصيرورة الخراج في العهدة، و بدون صيرورته في العهدة لا ضمان على من استوفى الخراج.

ففي مورد الحديث يقال: إنّ المشتري لا يضمن منافع المبيع المعيب ما لم يردّ المبيع على البائع أخذا بخيار العيب. وجه عدم ضمانها: أنّ المشتري لم يجعلها في عهدته، لأنّه استوفاها بعنوان كونها مملوكة له بتبعية مملوكية أصل المبيع له. و قاعدة التبعيّة تقتضي كون المنافع كنفس العين ملكا لمالك العين، و لا معنى لضمان شخص لمال نفسه كما هو الظاهر.

فكأنّه قيل: الخراج كائن على عهدة من استخرجه بسبب ثبوت عهدته عليه. و في مورد الحديث ليس الخراج- أي المنفعة- على المشتري، لأنّه لا بدّ أن تكون عهدة المنفعة على المشتري إذا ضمن و تعهّد، و المفروض عدم تعهّده لبدل المنفعة، فلا ضمان عليه. هذا ما خطر ببالي في معنى هذا الحديث، و ليكن هذا أحد المعاني المحتملة فيه، و سيأتي بيانه.

و كيف كان فيحتمل في مفاد جملة: «الخراج بالضمان» وجوه:

الاحتمال الأوّل: ما استفاده ابن حمزة، حيث استدلّ به على عدم ضمان المنافع المستوفاة، و قد خرج منه منافع المغصوب، حيث إنّها مضمونة على الغاصب بصحيح أبي ولّاد الآتي إن شاء اللّه تعالى، فإنّه يخصّص النبويّ المزبور.

و حاصل هذا الاحتمال: أنّ المراد بالخراج مطلق المنافع الشامل للخراج المصطلح و غيره. و يراد من الضمان المعنى اللغوي أعني به مطلق التعهّد، سواء أ كان أمرا اختياريّا مترتّبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة، أم كان أمرا غير اختياريّ مترتّبا على الغصب. فالمراد: أنّ المنافع الحاصلة من الأموال المأخوذة بالعقود الصحيحة

ص: 243

______________________________

أو الفاسدة، أو المأخوذة غصبا مملوكة للضامن، و أن ضمان العين سبب لملكيّة المنافع، فتدلّ الرواية على عدم ضمان المنافع المستوفاة كما عليه ابن حمزة وفاقا لشيخ الطائفة.

و خلافا للحنفيّة، إذ المحكيّ عنهم: «و لا يضمن الغاصب منافع ما غصبه، لأنّها حصلت على ملك الغاصب، إلّا أن ينتقص باستعماله، فيغرم النقصان.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من كلمة «الخراج» فيه ما هو المعروف المتبادر منه من الخراج و المقاسمة. و المراد من كلمة «الضمان» فيه ضمان الأراضي الخراجيّة بسبب التقبّل و الإجارة. و لعلّ هذا أقرب الاحتمالات- كما في تقرير سيدنا الخويي قدّس سرّه «1»- و إن لم يذكر في كلمات الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم.

و ملخّص هذا الاحتمال: أنّ المتقبّل للأرض الخراجية يملك ما يخرج منها من الغلّة بسبب الضمان و التقبّل، و لا ربط لهذا المعنى بمورد البحث.

الاحتمال الثالث: أن يراد بالخراج مطلق المنافع الخارجة عن الشي ء، لا خصوص الخراج المصطلح، و يراد بالضمان مطلق العهدة، سواء أ كانت اختياريّة كالمترتّبة على العقود الصحيحة و الفاسدة، أم غير اختياريّة كالعهدة المترتّبة شرعا على الغصب.

و حاصل هذا المعنى: أنّ منافع الأموال المأخوذة بالعقود الصحيحة أو الفاسدة أو بالغصب مملوكة للضامن بسبب ضمانه للعين أو بإزاء ضمانه لها، و لازم هذا الضمان عدم ضمان المنافع التي يستوفيها ضامن العين، سواء أ كان استيفاء المنفعة في حال التملك كالعبد الذي اشتراه، فاستغلّه، ثمّ ردّه بالعيب السابق، فإنّ مقتضاه كون الغلّة للمشتري. أم في غير حال التملك كانتفاع البائع بالمبيع الذي تلف قبل قبض المشتري له، فإنّ المنافع التي استوفاها البائع من المبيع تكون له، لأنّ ضمانه عليه بمعنى: أنّه ينتقل

______________________________

(1) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 133

ص: 244

______________________________

إليه المبيع آنا ما قبل التلف، فيتلف من ماله.

و على هذا المعنى يتمّ ما أفتى به أبو حنيفة من عدم ضمان الغاصب لما يستوفيه من منافع العين المغصوبة، و لا يلتزم به ابن حمزة و لا غيره، فلا يكون النبويّ بهذا المعنى سندا للقول بعدم ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد.

نعم يكون دليلا لأبي حنيفة على عدم ضمان الغاصب لمنافع العين المغصوبة.

الاحتمال الرابع: أن يراد بالضمان خصوص الضمان الاختياري المترتّب على العقود الصحيحة الممضاة شرعا كالبيع و الإجارة و نحوهما، و بالخراج المنافع المستوفاة. فيكون المعنى: من تقبّل العين بعقد صحيح يملك منافعها بالتبع.

و هذا الاحتمال أجنبيّ عن المدّعى، و هو استيفاء منافع المقبوض بالعقد الفاسد، فلا يصحّ استدلال ابن حمزة قدّس سرّه بالنبويّ على هذا الاحتمال.

الاحتمال الخامس: أن يراد بالخراج- كما في الاحتمال الثالث- معناه المصدريّ أي الانتفاع بالشي ء، فيختصّ بالمنافع المستوفاة، و بالضمان الضمان المعاملي الاختياريّ مطلقا و لو لم يمضه الشارع، فيشمل العقود الصحيحة و الفاسدة. و على هذا المعنى يصحّ استدلال ابن حمزة قدّس سرّه بالنبويّ.

لكن لا بدّ في صحة الاستدلال من كون النبويّ ظاهرا في هذا المعنى بحيث يتبادر في أذهان العرف عند إلقاء الكلام إليهم، و هو كما ترى. بل قد عرفت أنّ الظاهر من لفظ الخراج ما هو المعروف في باب الخراج و المقاسمة، كما في حاشية العلّامة الشهيدي قدّس سرّه «1». و أنّ المراد بالضمان ضمان الأراضي الخراجيّة بسبب التقبّل و الإجارة من السلطان العادل أو الجائر. و من المعلوم أنّ هذا المعنى أجنبيّ عمّا نحن فيه من ضمان المنافع المستوفاة من العين المقبوضة بالعقد الفاسد، هذا.

مضافا إلى: ما في هذا الاحتمال الخامس من الإشكال، إذ لازمه ضمان البائع

______________________________

(1) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب، ص 221

ص: 245

______________________________

للمشتري منافع المبيع بالبيع الفاسد إذا استوفاها قبل تسليمه إلى المشتري.

و أيضا: لازمه ضمان غاصب المبيع للمشتري إذا استوفى المنافع، إذ المفروض ضمان المشتري للمبيع، فمنافعه له، فإذا غصبه غاصب و استوفى منافعه كان ضامنا للمشتري لا البائع. و هذا من الفساد بمكان من الوضوح. فدعوى القطع ببطلان هذا الاحتمال في محلها.

الاحتمال السادس: ما في حاشية المحقق الخراساني قدّس سرّه و هو: «أنّ خراج الأرض كمّا و كيفا على من ضمنها إنّما هو بحسب ضمانها» «1».

الاحتمال السابع: ما خطر ببالي، و هو: أنّ المراد بالضمان معناه العرفي، و هو صيرورة مال الغير في العهدة، و المراد بالخراج إمّا معناه المصدري و هو الانتفاع بالشي ء، و إمّا حاصل المعنى المصدريّ و هو ما يخرج من الشي ء و يعدّ منفعة له. و على الأوّل يختصّ بالمنافع المستوفاة، و على الثاني يكون أعم منها، فيشمل المنافع غير المستوفاة أيضا.

فمعنى الحديث- و اللّه العالم- أنّ المنافع مطلقا أو خصوص المستوفاة ثابتة على الشخص بسبب صيرورتها في عهدته، كما إذا غصب مال الغير، فإنّ العين و منافعها مضمونة عليه، فبدل المنافع ثابت عليه، لصيرورتها في عهدته بسبب الغصب. و هذا المعنى يستفاد من قرينة المورد، و هو شراء العبد المعيب و استيفاء المشتري منافعه و ردّه بعد ظهور العيب، فإنّ البائع طلب من المشتري بدل منافع العبد بقوله:

«يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه قد استغلّ عبدي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ عمله للمشتري، لأنّ الخراج بالضمان».

و حكي أنّ عمر بن عبد العزيز قضى- في عبد اشتراه شخص و استعمله ثم انكشف كونه معيبا فردّه- «بأنّ عمله للبائع» يعني: أنّ المشتري ضامن للمنافع التي استوفاها من العبد قبل فسخ البيع. ثم قيل لعمر بن عبد العزيز: إنّه روي عن عائشة أنّ مثله وقع في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخراج بالضمان».

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ص 34

ص: 246

______________________________

و بالجملة: فبعد البناء على كون الخراج ظاهرا في مطلق المنافع- الذي هو حاصل المصدر- أو في الانتفاع بالشي ء الذي هو المعنى المصدريّ، و كون الضمان معناه العرفيّ المتبادر منه حين إطلاقه، و كون الظرف مستقرّا، يكون محصّل معنى الحديث:

أنّ المنافع ثابتة على الشخص بسبب صيرورتها في عهدته و ضمانه، فما لم يتحقق عهدتها على شخص لا يحكم بضمانه لها و خسارتها عليه.

و هذا المعنى ينطبق على مورد الحديث، و هو كون منافع العبد للمشتري، و ذلك لأنّ المشتري لم يضمن المنافع أي لم يجعل بدلها في عهدته، لأنّه استوفى منافع ماله، و لم يستوفها ضامنا لها، إذ لا معنى لضمان مال على عهدة مالكه، فلا وجه لتضمين المشتري بالنسبة إلى المنافع المملوكة له بقاعدة تبعية المنفعة للعين في الملكيّة.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ حديث «الخراج بالضمان» لم يثبت الوثوق بصدوره، و لا يكفي مجرّد تشبّث شيخ الطائفة به في ثلاثة موارد، و كذا تشبّث ابن حمزة به و غيرهما ممن عرفت في المقام الأوّل.

مضافا إلى إجماله و عدم ظهوره فيما ادّعاه ابن حمزة و الشيخ قدّس سرّهما، فلا يصحّ التمسّك بهذا النبويّ لعدم ضمان المنافع التي استوفاها قابض العين بالعقد الفاسد.

ثمّ إنّ المحقق النائيني قدّس سرّه- على ما في تقرير بحثه الشريف- استظهر من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخراج بالضمان» معنى لا بأس بالتعرّض له، فإنّه- بعد بيان: أنّ مفاد الحديث بمناسبة الحكم و الموضوع هو الضمان الجعليّ الفعليّ الأصليّ الممضى شرعا، و بعد دعوى عدم شموله للبيع الفاسد و الضمان القهريّ كما في ضمان المغصوب- أفاد ما توضيحه: أنّ الضمان بمعناه المصدري المعبّر عنه بالفارسيّة «عهده گرفتن يا قرار دادن چيزى در عهده» يتصوّر على أنحاء:

أحدها: أن يكون جعل شي ء في العهدة ببذل عوض في مقابله، كما في العقود المعاوضيّة من البيع و نحوه.

ثانيها: أن يكون هذا الجعل بسبب الشرط من دون بذل عوض في مقابل ما جعله في عهدته، كشرط الضمان في عارية غير الذهب و الفضة، و في كلّ عقد صحيح.

ص: 247

______________________________

أو بسبب التعبّد كحكم الشارع بالضمان في عارية الذهب و الفضة.

و كلّ واحد من هذين القسمين تارة يكون في العقد الصحيح، و أخرى في الفاسد، لأنّ العقد المعاوضيّ أمّا صحيح و إمّا فاسد. و كذا العقد المشروط بالضمان، أو كان الضمان فيه بالتعبّد. فالأقسام أربعة.

و ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخراج بالضمان» هو كون الضمان معاوضيّا و ثابتا ببذل العوض. و الوجه في هذا الاستظهار هو دخول باء السببيّة على كلمة «الضمان» الظاهرة في كون الضمان ببذل العوض، لا بالشرط. فالأموال تبذل بإزاء تعهّد المال بإزائها، فالمبيع مثلا يبذل بعوض في عهدة المشتري، فبسبب تعهد المشتري لعوض الجميع يبذل له المبيع، فكأنّه قيل: الأموال مبذولة بسبب التعهّد بعوضها.

فيختصّ الحديث بما إذا كان الضمان ببذل العوض، و لا يشمل الضمان بالشرط كضمان عارية غير الذهب و الفضّة، و لا بالتعبّد كضمان عاريتهما. كما يختصّ بالعقد الصحيح، لوجهين:

الأوّل: ظهور كلمة «الخراج بالضمان» في كون التعهّد بالمبيع مثلا ببذل الثمن في مقابله هو المنشأ لكون الخراج كالمبيع له. و هذا مختصّ بما إذا كان العقد صحيحا، لأنّ في العقد الفاسد يكون الضمان بالمثل أو القيمة، لا بالعوض المسمّى في العقد. فضمان العوض اسم لما هو كذلك واقعا. و هو منتف في العقد الفاسد.

الثاني: أنّ منشأ الضمان في العقد الفاسد هو اليد، و لذا يراد بالضمان فيه معناه الاسم المصدريّ، فلو أريد تعميمه للعقد الفاسد لزم إرادة معنى اسم المصدر منه كما فهمه أبو حنيفة. فقاعدة «الخراج بالضمان» بعد اختصاصها بالعقد الصحيح لا تصلح لإثبات عدم ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد كما في الوسيلة.

ثمّ إنّ بذل العوض يكون بإزاء الأموال سواء أ كانت باقية مع الانتفاع بها كالدار و الدكّان، أم تالفة كالشبع المترتّب على أكل الخبر، فإنّ الغرض منه يستوفى بإعدامه

ص: 248

______________________________

بالأكل كالعقاقير، فإنّ ترتّب خواصّها و ما هو مناط ماليّتها منوط بإعدامها.

و كيف كان فالظاهر من الضمان في الحديث الضمان المعاوضيّ، بقرينة الباء في «بالضمان» الظاهرة في السببيّة أو المقابلة، و مقتضاهما السببيّة و المقابلة من الطرفين، بمعنى: كون تملّك المنافع داعيا إلى الضمان و التعهّد بالعوض، فلحاظ تملك المنافع علّة غائيّة للضمان أي بذل العوض، فالمنفعة علّة غائيّة للبذل، و متقدّمة تصوّرا عليه و متأخرة عنه في الخارج، كما هو شأن العلّة الغائيّة، فيصحّ أن يقال: تملّك المنافع سبب للضمان، و الضمان سبب لكون المنافع له، فالضمان متأخّر عن لحاظ تملّك المنفعة، كما أنّ وجود المنفعة خارجا متأخّر عن الضمان.

فالمتحصّل: أنّ الحديث ظاهر في الضمان المعاوضيّ الصحيح، و لا يشمل العقد الفاسد. كما أنّه لا يشمل الضمان الحاصل بالشرط أو التعبّد من دون بذل عوض في مقابله، لكونه خلاف مقتضى الباء من السببيّة أو المقابلة. فلا يصحّ الاستدلال به على ضمان المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد، لما عرفت من ظهوره في الضمان المعاوضي الصحيح، أو إجماله «1».

و قد نوقش في كلام المحقق النائيني قدّس سرّه تارة بإنكار ظهور الخبر في المعنى الأخير و هو منشأ ضمان العين، و الداعي إليه تملّك المنافع لينحصر بباب البيع.

وجه الإنكار: أنّ الضمان بهذا المعنى لا ينطبق على جعل الثمن مقابل العين و بالعكس، و لا على القرار و العقد، فإنّها ليست ضمانا عرفا و لغة.

و اخرى: بأنّ جعل مبنى استظهار الجعليّ المعاوضيّ ظهور الباء في السببيّة أو المقابلة، ثم دعوى أن مقتضى السببيّة أن تكون من الطرفين، مع أنّها لا تقتضي ذلك بلا شبهة، عجيب.

و ثالثة: بأنّ حمل السبب على العلّة الغائيّة خلاف ظاهر آخر.

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 133

ص: 249

______________________________

و رابعة: بأنّ المقابلة من الطرفين لا محصّل لها.

و الكلّ كما ترى، إذ في الأولى: أنّ الضمان المعاوضيّ و إن لم يكن ضمانا عرفا و لغة، إلّا أنّ قرينيّة مورد النبويّ- و هو شراء العبد المعيب- توجب الحمل عليه، و إلّا امتنع تطبيقه على المورد.

و في الثانية: أنّ الاستظهار المزبور خارج عن طريقة أبناء المحاورة بعد البناء على ظهور الباء في السببيّة و المقابلة.

و أمّا الاستعجاب من أن تكون قضيّة السببيّة من الطرفين، ففيه: أنّ المراد بالسبب في المعاملات هو الداعي إلى إنشاء المعاملة، و من المعلوم أنّه موجود في الطرفين، فإنّ الدّاعي للمشتري إلى شراء الكتاب مثلا هو الانتفاع به، و الداعي للبائع إلى بيع الكتاب هو انتفاعه بالثمن.

و منه يظهر ما في المناقشة الثالثة من الإشكال، إذ لحاظ احتياج كلّ من المتعاقدين علّة غائيّة لإنشاء المعاملة، بحيث لولاه لم يقدما عليها. فحمل السبب على العلة الغائيّة ليس على خلاف الظاهر و ليس مخالفا لطريقتهم، فإنّ السببيّة مساوقة للعليّة.

و في الرابعة: أنّ المقابلة من المتضايفات، فلا يتّصف شي ء بالمقابلة إلّا مع اتّصاف غيره بها، كالأبوّة و البنوّة و الاخوّة و غيرها. فيتّصف كلّ من العوضين بالمقابلة. و كيف يمكن أن يكون الثمن مقابلا للمبيع و لا يكون المبيع مقابلا للثمن؟

فالمتحصّل: أنّ الاستظهار المنسوب الى المحقّق النائيني- بقرينة الباء و كذا مورد الرواية من بيع العبد و الجارية المعيبين- في محلّه. لكنّه متّجه في المتن الذي يشتمل على الموردين المزبورين. و أمّا المتن الخالي عنهما فإثبات ظهوره في الضمان المعاوضيّ الصحيح مشكل جدّا.

و على كلّ حال لا يصحّ الاستدلال بالنبويّ المذكور لنفي ضمان المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد بعد الغضّ عن ضعف سنده، إمّا لإجماله، و إمّا لظهوره في العقد المعاوضيّ الصحيح الذي هو أجنبي عن المقام.

ص: 250

[ب: ضمان المنفعة الفائتة]

و أمّا المنفعة الفائتة [1] بغير استيفاء (1)

______________________________

ب: ضمان المنفعة الفائتة

(1) هذا شروع في المقام الثاني ممّا تعرّض له في الأمر الثالث المنعقد لبيان حكم منافع المقبوض بالبيع الفاسد، و قد تمّ الكلام في المقام الأوّل و هو ضمان المنافع المستوفاة خلافا لابن حمزة منّا. و المراد بالمنفعة الفائتة هي المقابلة للمستوفاة، سواء أ كانت عينا- كنفس المبيع- كثمرة الشجرة المبيعة فاسدا، و لبن الشاة كذلك و صوفها، أم كانت حيثيّة متصرّمة الوجود قائمة بالعين، و هي المعبّر عنها بالمنافع

______________________________

[1] قد يقال: إنّ المنافع الفائتة هي الحكميّة. و أمّا المنافع العينيّة المتصلة كالسمن، و المنفصلة كالصوف و اللبن و نحوهما فلا إشكال في ضمانها، لصدق المال عليها، و صدق الأخذ بمعنى الاستيلاء عليها، فيشملها الموصول في «ما أخذت» و عليه فمصبّ الأقوال في المنافع غير المستوفاة هي الحكميّة.

لكنّه ممنوع، لما سيأتي في المتن من استدلال المصنّف قدّس سرّه على عدم ضمان المنافع الفائتة بإخبار الجارية المسروقة التي حكم الامام عليه السّلام فيها بضمان خصوص النماء المستوفي كاللبن و الولد و الخدمة، دون ما فات منها، حيث إن مقتضى المقابلة عدم ضمان اللبن لو لم ينتفع به، كما إذا استأجر مرضعة للولد و لم يرتضع منها، فذهب لبنها هدرا.

مضافا إلى: التصريح بالأعمّيّة في بعض الكلمات كقول العلّامة قدّس سرّه: «و يضمنه و ما يتجدّد من منافعه، الأعيان أو غيرها، .. إلخ» «1».

و عليه فلم يتّضح وجه اختصاص المنفعة الفائتة بالحكمية، مع عموم المدّعى و الدليل، فلاحظ.

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 81، السطر 27، (الطبعة الحجرية) و نحوه تصريح المحقق في منافع المغصوب، و إطلاقه في منافع المبيع فاسدا، فراجع شرائع الإسلام، ج 3، ص 244 و 245

ص: 251

فالمشهور فيها (1) أيضا (2) الضمان. و قد عرفت (3) عبارة السرائر المتقدّمة.

______________________________

الحكميّة كسكنى الدار و الأعمال المحترمة المملوكة كخدمة العبد.

و كيف كان فقد أفاد المصنّف قدّس سرّه أنّ الأقوال في حكم المنافع الفائتة خمسة:

أوّلها: الضمان، و هو المشهور، بل المدّعى عليه الإجماع.

ثانيها: العدم و هو الظاهر من فخر المحققين قدّس سرّه.

ثالثها: التفصيل بين علم البائع بالفساد و جهله به، بالضمان في الثاني و بالعدم في الأوّل.

رابعها: التوقّف في صورة علم البائع بالفساد، و الضمان في صورة الجهل.

خامسها: التوقّف عن الحكم بالضمان، و بعدمه مطلقا سواء علم البائع بالبطلان أم لم يعلم.

و اضطربت كلمات المصنّف في المسألة، فاختار القول الأوّل في بدء كلامه، و استدلّ له بوجهين، ثم ناقش فيهما، ثم رجّح القول الثاني لوجوه ثلاثة تقتضي عدم الضمان، ثم جعل التوقّف هو الإنصاف في المسألة، ثم رجّح في آخر كلامه القول الأوّل و هو الضمان مطلقا. و ستأتي الوجوه بالترتيب إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: في المنفعة الفائتة، و هذا شروع في القول الأوّل في المسألة.

(2) يعني: كالمنافع المستوفاة التي تقدّم أنّ المشهور فيها هو الضمان.

(3) يعني: في أوّل بحث المقبوض بالبيع الفاسد، حيث قال: «و في السرائر: أنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب» و غرض المصنّف من الإشارة إلى كلام ابن إدريس قدّس سرّه هو استفادة الإجماع المنقول على ضمان المنافع الفائتة في المقبوض بالبيع الفاسد. و ذلك لمساواته للمغصوب في ما عدا حرمة الإمساك، و لمّا كانت المنافع الفائتة مضمونة في باب الغصب فهي كذلك في المقام.

و على هذا فالمدّعى و إن كان شهرة القول بالضمان في المنفعة غير المستوفاة، إلّا أنّ من يعتمد على الإجماع المنقول بخبر الواحد يلزمه الأخذ به، و لا سبيل له إلى القول بعدم الضمان أو التوقّف فيه.

ص: 252

و لعلّه (1) لكون المنافع أموالا في يد من بيده العين، فهي مقبوضة في يده،

______________________________

(1) أي: و لعلّ الضمان، و هذا استدلال للقول المشهور، و المذكور منه في المتن وجهان:

الوجه الأوّل: قاعدة اليد، فإنّها كما تجري في الأعيان و تثبت ضمانها، كذلك تجري في المنافع، و ذلك لأمرين مسلّمين:

أحدهما: أنّ المنافع أموال حقيقة، لما تقدّم في أوّل بحث البيع من جواز كون الثمن منفعة، مع أنّه تعتبر ماليّة العوضين، لوضوح كون البيع مبادلة مال بمال.

ثانيهما: أنّ المناط في ضمان العين- و هو قبضها و الاستيلاء عليها- متحقق في المنافع أيضا، حيث إنّها مقبوضة بقبض العين. و الدليل على صدق «القبض» على المنفعة ما ذكروه في مسألتين:

الأولى: أنّ الإجارة هي «تمليك منفعة بعوض» فيجب على الموجر تسليم المنفعة إلى المستأجر وفاء بالعقد، و من المعلوم أنّ قبضها يكون بقبض العين، فإذا أقبض الموجر داره للمستأجر فقد أقبضه سكناها. و لو لم تكن المنافع قابلة لوقوعها تحت اليد لم يكن مجرّد تسلّم المستأجر للدار استيلاء على سكناها. مع أنّه لا ريب في دخول المنفعة في ضمان المستأجر، و ثبوت الأجرة عليه بنفس تسلّطه على العين.

و هذا كاشف عن قابلية المنافع للقبض كالأعيان.

الثانية: أنّهم اعتبروا في بيع السّلم قبض الثمن في مجلس العقد، و جوّزوا وقوع المنافع المملوكة ثمنا- كسكنى الدار و خدمة العبد و الجارية- كما إذا باع طنّا من الحنطة سلفا و جعل المشتري خدمة الجارية سنة عوضا عنه، فحكموا بصحته، و أنّ تسليم الجارية- لينتفع البائع بخدمتها- تسلّم للثمن حقيقة. و هذا كاشف عن قابليّة المنافع للقبض و الوقوع تحت اليد، و لو لا بالاستقلال بل بتبع الأعيان. و لو اختصّ القبض و الاستيلاء بالأعيان الخارجيّة لزم بطلان عقد السّلم في الفرض المزبور، مع أنّ ظاهرهم صحته بلا ريب.

ص: 253

و لذا (1) يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين، فتدخل المنفعة في ضمان المستأجر (2). و يتحقّق (3) قبض الثمن في السّلم بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا، و كذا (4) الدار المجعول سكناها ثمنا.

مضافا (5) إلى أنّه مقتضى احترام مال المسلم، إذ كونه في يد غير مالكه

______________________________

و بهذا يتّجه الاستدلال بحديث «على اليد» على ضمان المنافع مطلقا سواء استوفيت أم فاتت. هذا تقريب الدليل الأوّل، و سيأتي تقريب الدليل الثاني و هو قاعدة الاحترام.

(1) يعني: و لأجل كون المنافع أموالا في يد من بيده العين يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين. و غرضه قدّس سرّه الاستشهاد بما ذكره الفقهاء في المسألتين المتقدّمتين آنفا.

(2) هذا إشارة إلى المسألة الأولى، فإنّ المنفعة في باب الإجارة تكون كالمبيع، فكما يكون المبيع في ضمان البائع قبل إقباضه للمشتري، فكذا المنفعة تكون في ضمان الموجر قبل تسليم العين إلى المستأجر. و أمّا بعد التسليم فتدخل في ضمانه، و لو تلفت و لم يستوفها فقد تلفت من ماله لا من مال الموجر. و الغرض من هذا الفرع صدق قبض المنفعة بقبض العين.

(3) هذا إشارة إلى المسألة الثانية، و هي جعل المنفعة المملوكة ثمنا في بيع السّلم، سواء أ كانت سكنى دار أم كتابة عبد أم خدمة جارية، فيتحقّق قبض الثمن فيها بقبض الجارية أو العبد أو الدار. و لو كانت «اليد» مختصّة بالأعيان أشكل جواز وقوع هذه المنافع ثمنا في بيع السّلم.

(4) معطوف على «الجارية» يعني: يتحقق قبض الثمن بقبض الدار المجعول سكناها ثمنا في السّلم. و الجامع بين منفعة الدار و خدمة الجارية هو كونهما حيثيتين قائمتين بالعين و هي الدار و الجارية.

(5) هذا إشارة إلى الدليل الثاني على ضمان المنافع الفائتة في المقبوض بالبيع

ص: 254

مدّة طويلة (1) من غير اجرة مناف (2) للاحترام.

لكن يشكل الحكم (3)- بعد تسليم كون المنافع أموالا

______________________________

الفاسد، و هو قاعدة احترام مال المسلم. و تقريبها- بعد صدق المال على المنفعة- أنّ احترام المسلم و شرفه يقتضيان حرمة التصرّف في ماله بدون إذنه، و حرمة حبسه عن مالكه مدّة طويلة من غير اجرة في قبال منافعه، سواء استوفى ذلك الغير منفعته أم لا. و عليه فاحترام ماله يقتضي ضمان بدل ما تلف منه أو فات بيد الغير، فلا احترام لماله بدون الضمان.

(1) الظاهر أنّه لا خصوصيّة لطول المدة، إذ المناط في الضمان فوت المنفعة التي يبذل بإزائها المال، و لعلّ ذكرها من جهة الترديد في صدق «فوت المال» على فوات المنفعة في مدّة قصيرة، كإشغال دار الغير ساعة أو أقلّ.

(2) خبر قوله: «كونه».

(3) يعني: يشكل الضمان الذي ذهب إليه المشهور. و غرض المصنّف المناقشة في الدليلين المتقدّمين. و حاصل الاشكال على الأوّل أمران:

أحدهما: أنّ الموصول في «ما أخذت» هو المال، و لم يحرز صدق «المال» على المنافع حتى تندرج في الضمان اليديّ. فيحتمل اختصاصه بالأعيان المتموّلة، و يكفي في شبهة شمول المال للمنافع كلام ابن الأثير المنقول في اللسان: «المال في الأصل ما يملك من الذهب و الفضّة، ثم أطلق على كلّ ما يقتني و يملك من الأعيان، و أكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنّها كانت أكثر أموالهم» «1» لظهور قوله: «من الأعيان» في عدم ماليّة المنافع و الحقوق.

و عليه فالمنافع خارجة عن حديث «على اليد» موضوعا، و لا بدّ من التماس دليل آخر على ضمانها.

ثانيهما: أنّ مجرّد صدق «المال» على المنفعة لا يكفي في الضمان ما لم تندرج تحت

______________________________

(1) لسان العرب، ج 11، ص 636

ص: 255

..........

______________________________

عموم قاعدة «على اليد» و المفروض عدم اندارجها تحته، لأنّ صلة الموصول في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أخذت» لا تشمل المنافع، لظهوره في كون المأخوذ باليد قابلا- بنفسه- للرّدّ و الأداء، و لا يكون ذلك إلّا عينا، فإنّها تؤخذ و تردّ. بخلاف المنفعة، لكونها حيثيّة قائمة بالعين، و ليست بنفسها قابلة للأخذ و الرّدّ، هذا.

فإن قلت: قد تقدّم في مسألتي الإجارة و بيع السّلم تحقق قبض المنفعة بقبض العين، و معه لا وجه لمنع شمول الصلة- و هي «أخذت»- للمنفعة، و دعوى اختصاصها بالأعيان. فإمّا أن يقال: بصدق الأخذ على المنفعة بتبع وضع اليد على العين، و مقتضاه دلالة الحديث على ضمان المنافع حتى الفائتة منها. و إمّا أن يقال: بأنّ ما يقبل الأخذ و القبض هو خصوص العين، و مقتضاه الإشكال في المسألتين المتقدّمتين، لأنّ الكلّ من باب واحد، هذا.

قلت: إنّ المنفعة تحصل في اليد و تقبض بقبض العين، و لذا يصحّ وقوعها ثمنا في بيع السّلم، و يتحقّق قبضها بتسليم العين ذات المنفعة، و لكن لا يصدق «أخذ المنفعة» عند وضع اليد على العين، فالأخذ أضيق مفهوما من القبض، لأعمّيّته، لصدقه على كلّ من المقبوض استقلالا، و المقبوض تبعا. بخلاف الأخذ الظاهر في المأخوذ بالأصالة.

و بهذا ظهر الفرق بين المسألتين و بين المنافع الفائتة، لعدم صدق «الأخذ» عليها حتى تندرج في حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

فإن قيل: لا وجه لاختصاص صلة الموصول- و هي: أخذت- بالأعيان التي تتناولها الجارحة الخاصّة، و إلّا يلزم عدم شمول الحديث لوضع اليد على الأموال غير المنقولة كالبساتين و الدور و الدكاكين، مع أنّه لا ريب في تحقق وضع اليد بمجرّد الاستيلاء عليها. و هذا يكشف عن عدم إرادة معنى «الأخذ» حقيقة، و إنّما هو كناية عن مطلق الاستيلاء. و بناء على هذا المعنى الكنائي نقول بصدق الاستيلاء على كلّ من العين و المنفعة، و يتعيّن حينئذ الحكم بضمان المنافع الفائتة كالمستوفاة، هذا.

ص: 256

حقيقة (1)- بأنّ (2) مجرّد ذلك (3) لا يكفي في تحقّق الضمان، إلّا (4) أن يندرج في عموم

______________________________

قلنا: لا ريب في صدق «الأخذ» على الاستيلاء على الأعيان غير المنقولة كالدار و البستان، لكنّه لا يوجب شموله للمنفعة أيضا، و ذلك فإنّ الأخذ و إن كان كناية عن الاستيلاء، إلّا أنّ الاستيلاء الحقيقيّ على شي ء يقتضي أن يكون المستولي عليه موجودا حقيقيّا قارّا، سواء أ كان الاستيلاء عليه باليد كالمفتاح و الكتاب و نحوهما ممّا يتناول بالجارحة الخاصة، أم بالتصرّف فيه بالجلوس و المشي و سائر أنحاء التقلّب.

و أمّا المنفعة التي لا وجود لها بالفعل حين الاستيلاء على العين- بل إمّا توجد تدريجا على تقدير الاستيفاء، و إمّا لا توجد أصلا على تقدير الفوات- فلا وجه للتكلّف في صدق «الاستيلاء» عليها بمجرّد الاستيلاء على العين، لما عرفت من أنّها معدومة فعلا، فكيف يستولي عليها؟.

و الحاصل: أنّ حديث «على اليد» لا يشمل المنافع الفائتة، لمنع صدق الموصول عليها، فالاستدلال به على ضمانها مشكل. و ستأتي المناقشة في الاستدلال بقاعدة الاحترام.

(1) هذا إشارة إلى أوّل الإشكالين على الاستدلال بقاعدة اليد. و مقصوده بقوله: «حقيقة» أنّ المناط في شمول القاعدة للمنافع هو صدق «المال» بمعناه الحقيقيّ عليها، و إلّا فلا عبرة بعدّها من الأموال بالمسامحة و العناية كما هو واضح.

(2) هذا هو الإشكال الثاني على الاستدلال بقاعدة اليد، و قد عرفته آنفا.

(3) أي: مجرّد كون المنافع أموالا حقيقة لا يكفي في ضمان المنافع الفائتة.

(4) متعلّق بقوله: «لا يكفي» و هذا تمهيد لبيان عدم شمول الصّلة للمنافع، لعدم قابليّتها للأخذ.

ص: 257

«على اليد ما أخذت». و لا إشكال (1) في عدم شمول صلة الموصول للمنافع.

و حصولها (2) في اليد بقبض العين لا يوجب صدق الأخذ [1].

______________________________

(1) يعني: و الحال أنّه لا إشكال في عدم شمول «أخذت» للمنافع، لما عرفت آنفا.

(2) مبتدأ خبره «لا يوجب» و غرض المصنّف من هذا بيان الفارق بين المنافع الفائتة و بين مسألتي الإجارة و ثمن بيع السّلم، بصدق قبض المنفعة فيهما بقبض العين، دون المقام، حيث إنّ دليل الضمان هو حديث اليد المشتمل على مادّة «الأخذ» و هي غير صادقة على المنفعة. و قد تقدم توضيح المطلب بقولنا: «فان قلت .. قلت» فلاحظ.

______________________________

[1] لم يظهر الفرق بين قبض المنافع في الإجارة و أخذها هنا، لأنّ الأخذ و الحصول في اليد المعبّر عنه بالقبض متقاربان، بل هما بمعنى، ففي اللسان: «أخذت الشي ء آخذه أخذا: تناولته» «1» و قال في القبض: «قبضت الشي ء قبضا: أخذته ..

و القبض: التناول للشي ء بيدك ملامسة» «2».

و عليه فلم يتّضح الفارق بين القبض و الأخذ حتى يصدق الأوّل على المنفعة و لو بتبع الاستيلاء على العين، دون الثاني.

و توجيه المطلب بما في حاشية سيّدنا الأستاد قدّس سرّه من «أنّ الأخذ إذا أخذ موضوعا لحكم شرعي لا يكفي في تحقّقه القبض بالتبع تشبّثا بإطلاق: ما أخذت» «3» لا يخلو عن غموض أيضا إذا لو كان القبض التبعي مسامحيّا أشكل صدق القبض في بابي الإجارة و السّلم أيضا، لعدم العبرة بالمسامحات العرفية في مقام التطبيق. و لو كان القبض التبعيّ حقيقيّا لزم صدقه على المنفعة في المقام، بعد ترادف الأخذ و القبض لغة، فالفرق بينهما غير متّضح، هذا.

______________________________

(1) لسان العرب، ج 3، ص 472

(2) لسان العرب، ج 7، ص 214

(3) نهج الفقاهة، ص 136

ص: 258

و دعوى (1) «أنّه كناية عن مطلق (2) الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان» مشكلة.

و أمّا احترام مال المسلم فإنّما (3) يقتضي عدم حلّ التصرّف فيه و إتلافه بلا عوض، و إنّما يتحقّق ذلك (4) في الاستيفاء.

______________________________

(1) غرض المدّعي إثبات شمول الحديث للمنفعة مع الغضّ عن صدق قبضها بقبض العين، بل لأنّ «الأخذ» هنا بمعنى الاستيلاء كناية، و من المعلوم صدق الاستيلاء عرفا على كلّ من العين و المنفعة.

و قد منع المصنّف قدّس سرّه هذه الدعوى بقوله: «مشكلة» و تقدم توضيحهما بقولنا:

«فان قيل .. قلنا».

(2) هذه الكلمة قرينة على أنّ «الأخذ» و إن كان بمعنى الاستيلاء في الجملة حتى يتحقّق ذلك بالنسبة إلى ما لا ينقل من الأموال، إلّا أنّه لا موجب للتوسعة في معناه بجعل الأخذ كناية عن مطلق الاستيلاء كي تندرج المنافع في الحديث، لكون هذا المفهوم العامّ خلاف الظاهر، فلا يصار إليه بلا قرينة.

(3) هذا إشكال المصنّف على الاستدلال بقاعدة الاحترام لضمان المنافع الفائتة، و حاصل الاشكال: أنّ ظاهر القاعدة ضمان المنافع المستوفاة، لأنّ الإتلاف عبارة عن إعدام الموجود، و هو لا يتحقّق إلّا في استيفاء المنافع و إتلاف الأعيان، فيقال: إنّ حرمة مال المسلم تقتضي ضمان من أتلفه لئلّا يذهب هدرا، كما أنّ دمه لا يذهب هدرا، و من المعلوم أجنبيّة هذا المعنى عن ضمان المنافع الفائتة، فإنّها تالفة لا متلفة حتى يلزم تداركها ببدلها.

و قد تحصّل: أنّه لا مقتضي للقول المشهور من ضمان المنفعة الفائتة في المبيع بالبيع الفاسد، لما عرفت من الخدشة في الدليلين، و هما قاعدتا اليد و الاحترام.

(4) أي: إنّما يتحقّق التصرّف فيه و إتلافه فيما إذا استوفى المنفعة، و هذا خارج عن محلّ البحث و هو المنفعة الفائتة.

ص: 259

فالحكم (1) بعدم الضمان مطلقا (2) كما عن الإيضاح، أو مع علم البائع بالفساد، كما عن بعض آخر (3) موافق (4) للأصل (5) السليم.

مضافا إلى: أنّه قد يدّعى (6) شمول قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه- بعد إبطال المقتضي للضمان- إبداء المقتضي لعدم الضمان وفاقا لفخر المحققين، و هذا المقتضي لنفي الضمان أمور ثلاثة:

أوّلها: الأصل السليم عن الحاكم و المعارض.

و ثانيها: قاعدة «ما لا يضمن».

و ثالثها: أخبار بيع الجارية المسروقة التي ضمّنت المشتري خصوص المنافع المستوفاة، و سيأتي بيانها.

(2) أي: مع علم البائع بالفساد و جهله به، فالإطلاق في قبال تفصيل بعض بين صورتي العلم و الجهل.

(3) لعلّ مراده من البعض هو العلّامة في القواعد، حيث استشكل في ضمان المنافع الفائتة. فقال: «و لا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد، و يضمنه و ما يتجدّد من منافعه، الأعيان أو غيرها، مع جهل البائع أو علمه مع الاستيفاء، و بدونه إشكال» «1» بناء على ما فهمه المحقّق الكركيّ من العبارة من جعل مورد الاشكال علم البائع بالفساد و عدم استيفاء المشتري للمنفعة، فراجع.

(4) خبر قوله: «فالحكم».

(5) و هو أصالة البراءة عن الضمان عند فوت المنفعة بيد المشتري، و لا معارض لهذا الأصل من دليل اجتهاديّ أو أصل عمليّ.

(6) هذا وجه آخر استدل به بعضهم على عدم ضمان المنفعة الفائتة في المقبوض بالبيع الفاسد، و هو مبنيّ على اختصاص قاعدتي «ما يضمن و ما لا يضمن» بمصبّ العقد و مورده، على ما سبق من المصنّف قدّس سرّه التنبيه عليه، و فرّع عليه عدم ضمان العين

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 81، السطر 27 (الطبعة الحجرية).

ص: 260

بفاسده» و من المعلوم (1) أنّ صحيح البيع لا يوجب ضمانا للمشتري للمنفعة، لأنّها (2) له مجّانا. و لا يتقسّط (3) الثمن عليها. و ضمانها (4) مع الاستيفاء لأجل الإتلاف، فلا ينافي القاعدة المذكورة، لأنّها (5) بالنسبة إلى التلف لا الإتلاف.

______________________________

المستأجرة بالإجارة الفاسدة، بدعوى: أنّ متعلّق المعاوضة فيها هو المنفعة، فتندرج العين في قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

و كذا يقال في المقام: بأنّ صحيح البيع لا يوجب ضمان المشتري للمنفعة، حيث إنّ الضمان المعاوضيّ يقع بين المبيع و الثمن، و منافع المبيع ليست طرفا للمعاوضة و لا تقابل بشي ء من الثمن، فلا تضمن لو تلفت و فاتت. كما أنّ العين المستأجرة لا تضمن لو تلفت بيد المستأجر.

نعم إتلاف العين و استيفاء المنفعة يوجب الضمان، لقاعدة الإتلاف، و هذا لا ينافي قاعدة «ما لا يضمن» المختصّة بمورد التلف، لا الإتلاف كما لا يخفى.

(1) هذا تقريب شمول قاعدة «ما لا يضمن» للمنفعة الفائتة، و قد عرفته آنفا.

(2) يعني: لأنّ المنفعة تكون للمشتري مجّانا، لكون تمام الثمن بإزاء نفس العين.

(3) بأن يكون مقدار من الثمن بإزاء العين، و مقداره بإزاء المنفعة حتى تندرج المنافع- كنفس العين- في قاعدة «ما يضمن» ليكون نتيجة تقسيط الثمن ضمان منافع المبيع بالبيع الفاسد سواء استوفيت أم فاتت.

(4) مبتدأ خبره «لأجل» و غرضه دفع توهّم المنافاة بين نفي الضمان للمنافع بقاعدة «ما لا يضمن» و بين الالتزام بالضمان في استيفائها، و قد عرفت تقريبه بقولنا:

«نعم إتلاف العين ..».

(5) يعني: لأنّ قاعدة «ما لا يمضن» نافية للضمان في مورد التلف، و لا تتعرّض لحال الإتلاف أصلا حتى يتحقق التنافي بينها و بين ما يوجب الضمان كالإتلاف و الاستيفاء.

ص: 261

مضافا إلى الأخبار (1) الواردة في ضمان المنافع المستوفاة من الجارية

______________________________

(1) هذا ثالث الوجوه المستدلّ بها على عدم ضمان المنافع الفائتة، و محصّله:

استفادة عدم الضمان من السكوت في مقام بيان مورد الضمان في الجارية المسروقة، ثم إثباته في المقبوض بالبيع الفاسد بالأولويّة القطعيّة، فهنا أمران ينبغي توضيحهما.

الأوّل: أصل دلالة الأخبار على عدم ضمان المنفعة الفائتة في مورد بيع الجارية المسروقة.

الثاني: أولويّة المقام بعدم الضمان.

أمّا الأوّل فبيانه: أنّه قد ورد في جملة من الأخبار سؤال الراوي عن حكم جارية مسروقة بيعت، فاستولدها المشتري و انتفع بلبنها و خدمتها، فحكم عليه السّلام بضمان قيمة الولد و اللبن و اجرة مثل خدمتها من طبخ و كنس و طحن و نحوها من المنافع التي استوفاها المشتري في المدّة التي مكثت عنده، كقوله عليه السّلام- كما في خبر زرارة-: «و يعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «1» و سكت عليه السّلام عن ضمان منافعها الفائتة، مع كون السائل بصدد استعلام وظيفته الفعليّة و ما تشتغل عهدته به، و من المعلوم أنّ السكوت في مقام البيان بيان العدم.

فإن قلت: إنّ كون هذه الأخبار ناظرة إلى المنفعة الفائتة حتى يستفاد عدم ضمانها من السكوت محلّ تأمّل، لأنّه عليه السّلام اقتصر على بيان ضمان قيمة الولد و المنافع المستوفاة، و لم يفرض فوت بعض منافع الجارية حتى يتحقق موضوع للكبرى المقرّرة، و هي: أنّ السكوت في مقام البيان بيان العدم.

قلت: ليس كذلك، لأنّ مورد السؤال منزّل على المتعارف، و لا ريب في أنّ للجارية منافع يستوفى بعضها و يفوت بعضها الآخر، و ليست تستخدم بمثابة لا يفوت شي ء من منافعها. و لو شكّ كفى استفادة الإطلاق من ترك الاستفصال،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 592، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 4، و قد تقدم في ص 49 و 50 نقل بعض هذه الأخبار، فراجع.

ص: 262

المسروقة المبيعة الساكتة (1) عن ضمان غيرها (2) في مقام البيان [1].

______________________________

إذ لم يسأل عليه السّلام عن أنّ المشتري هل استخدمها في تمام منافعها أم في مقدار منها؟

و عليه ففوت المنفعة مفروض في الرّواية، و يتّجه الاستدلال بسكوته عليه السّلام عن ضمان المنافع الفائتة، و اقتصاره على ضمان المستوفاة.

و أمّا الأمر الثاني- و هو الأولويّة- فتقريبه: أنّ الأخبار الواردة في بيع الجارية المسروقة لم تضمّن المشتري عوض المنفعة الفائتة، مع كون موردها شراءها من الغاصب الأجنبيّ عن المالك، و كون مقتضى أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال هو ضمان المشتري للمنفعة الفائتة أيضا ليرجع على الغاصب من جهة غروره. فإذا كان البائع مالكا للجارية كان عدم ضمان المشتري أولى قطعا، لأنّ المالك أقدم على البيع و تسليمها إلى المشتري.

هذا تمام الكلام في تقريب دلالة هذه الطائفة على انتفاء الضمان في المنفعة الفائتة. و كذا الكلام في رواية أخرى و هي صحيحة محمّد بن قيس الآتية.

(1) صفة ل «الأخبار» و هذا إشارة إلى الكبرى المقرّرة في الأصول من: أنّ السكوت في جواب السؤال عن الوظيفة الفعليّة دليل على عدم الحكم، ففي المقام لو كان المشتري ضامنا لبيّنه الإمام عليه السّلام، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، مع عدم حكمة ظاهرة في تأخيره.

(2) أي: غير المنافع المستوفاة، و هذا الغير هو المنافع الفائتة.

______________________________

[1] قد يقال: إنّ تلك الأخبار ليست في مقام بيان حكم المنافع من حيث الضمان و عدمه، و التعرّض لدفع قيمة الولد إلى مالك الجارية إنّما هو لدفع توهم رقيّة الولد و كونه ملكا لمالك الجارية، لأنّه نماء ملكه. و لو كانت في مقام بيان حكم المنافع فلا بدّ من بيان ضمان المنافع المستوفاة التي هي مضمونة على مستوفيها قطعا، و من المعلوم عدم التعرّض لها مع استيفائها عادة، كخدمة الجارية في المدّة التي كانت عند المشتري.

ص: 263

و كذا (1) صحيحة محمّد بن قيس الواردة في من باع وليدة أبيه بغير إذنه،

______________________________

(1) معطوف على «الأخبار» و مقصوده أنّ الأمرين المتقدمين في تلك الأخبار- من السكوت و الأولويّة- جاريان في صحيحة محمّد بن قيس أيضا، فالتقريب مشترك بينهما.

أمّا الصحيحة فقد رواها شيخ الطائفة بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال، عن سندي بن محمّد و عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قضى في وليدة باعها ابن سيّدها و أبوه غائب، فاشتراها رجل، فولدت منه غلاما، ثم قدم سيّدها الأوّل، فخاصم سيّدها الأخير، فقال هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال: خذ وليدتك و ابنها. فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه- يعني الذي باع الوليدة- حتى ينفذ لك ما باعك. فلمّا أخذ البيّع الابن قال أبوه: أرسل ابني. فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني، فلمّا رأى سيّد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه» «1».

و سيأتي الكلام في مفاد الصحيحة في بيع الفضول إن شاء اللّه تعالى. إلّا أنّ

______________________________

لكن فيه: أنّ أخبار الباب متعدّدة، و قد صرّح في بعضها بضمان خدمتها. كما أدرجناه في التوضيح، و معه لا مجال لدعوى اختصاص القيمة بالولد لأجل دفع توهّم رقيّة الولد و كونه ملكا لسيّد الجارية، فلاحظ.

و لم يظهر من المتن اعتماد المصنّف قدّس سرّه على خصوص الرواية المتضمّنة لقيمة الولد حتى يتّجه ما ذكر، بل مقصوده الاستدلال بمجموعها، و قد عرفت اشتمال بعضها على ضمان ما أصاب من خدمتها، و هو المنفعة المستوفاة، فيبقى مجال استفادة عدم ضمان المنفعة الفائتة من السكوت.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 591، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث: 1، و رواه ثقة الإسلام بسنده، و فيه «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام».

ص: 264

فقال عليه السّلام: «الحكم أن يأخذ الوليدة و ابنها» و سكت عن المنافع الفائتة. فإنّ (1) عدم الضمان في هذه الموارد (2)- مع كون العين لغير البائع (3)- يوجب عدم الضمان هنا (4) بطريق أولى.

و الانصاف أنّ للتوقّف في المسألة- كما في المسالك تبعا للدروس و التنقيح (5)- مجالا.

______________________________

المقصود من نقلها فعلا دلالتها على عدم ضمان ما فات من الجارية المبيعة بغير إذن مالكها. فإنّه عليه السّلام قضى أوّلا للمالك بأخذ الجارية من المشتري، و كذا ولدها الذي هو منفعتها، و لم يضمّن المشتري ما فات من منفعتها في المدّة التي كانت عنده. و حيث إنّ الصحيحة في مقام بيان الوظيفة الفعليّة كان اقتصاره على ضمان قيمة الولد دليلا على عدم استقرار عوض المنفعة الفائتة على عهدة المشتري. هذا تقريب أصل الدلالة.

و أمّا أولويّة المقام- و هو البيع الفاسد مع إقدام المالك على البيع- فقد تقدّمت آنفا.

(1) هذا تقريب الأولويّة، و أمّا الدلالة على عدم ضمان المنفعة الفائتة فمنشؤها السكوت.

(2) يعني: مورد الصحيحة و موارد بيع الجارية المسروقة، لظهورها في تعدّد الواقعة، لأنّ المسؤول في بعض الأخبار أبو جعفر عليه السّلام، و في بعضها أبو عبد اللّه عليه السّلام.

(3) يعني: ليس المبيع ملكا للبائع، إذ البائع فضول، إمّا غاصب كما في الجارية المسروقة، و إمّا غير غاصب كما في صحيحة محمّد بن قيس.

(4) أي: في المقبوض بالبيع الفاسد، إذ قد ينشأ الفساد من اختلال بعض شروط الصيغة خاصّة، مع اجتماع شروط العوضين و المتعاقدين، بأن يكونا مالكين أو مأذونين في التصرّف. هذا تمام الكلام في وجه عدم الضمان و سيأتي التوقّف في المسألة.

(5) قال الفاضل المقداد قدّس سرّه: «و أمّا مع الفوات فوجهان، من أصالة البراءة، و من أنّها منافع عين مضمونة فتضمن» «1».

______________________________

(1) التنقيح الرائع، ج 2، ص 32

ص: 265

و ربّما (1) يظهر من القواعد في باب الغصب عند التعرّض لأحكام البيع الفاسد اختصاص الاشكال و التوقّف بصورة علم البائع، على ما استظهره السيد العميد و المحقّق الثاني من عبارة الكتاب (2)،

______________________________

و قال الشهيد قدّس سرّه في حكم البيع الفاسد: «و يرجع صاحب العين بمنافعها المستوفاة، فلو فاتت بغير استيفاء فوجهان» «1».

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «و لو فاتت بغير استيفاء فوجهان» «2».

و لكنّه في موضع آخر من البيع رجّح الضمان فقال: «و كما تضمن العين تضمن منافعها؛ سواء استوفاها أم لا، على الأقوى» «3».

و كيف كان فقد جعل المصنّف قدّس سرّه هنا- و في عبارته الآتية قريبا- التوقّف مقتضى الإنصاف في المسألة، و لعلّه لأجل تمانع وجهي الضمان و عدمه لو تمّ المقتضي في كلّ منهما، بعد عدم ترجيح أحدهما على الآخر. لكنّه قدّس سرّه عدل عن هذا الإنصاف إلى القول المشهور و هو الضمان اعتمادا على الإجماع المصرّح به في التذكرة، و سيأتي.

(1) غرضه قدّس سرّه من هذه العبارة- إلى عدّ الأقوال في المسألة- هو: أنّ الأقوال في ضمان المنافع الفائتة أربعة، إلّا أنّ اختلاف شرّاح القواعد في الاستظهار من العبارة جعلها خمسة، ففخر المحقّقين قدّس سرّه جعل مصبّ إشكال العلّامة في ضمانها أعمّ من علم البائع بالفساد و جهله به، و لكنّ المحقّق الثاني و السيد العميد استظهرا من عبارة القواعد اختصاص التوقّف في ضمان المنافع الفائتة بما إذا علم البائع بالفساد، فلو كان جاهلا به كان ضامنا لها.

(2) يعني: عبارة كتاب القواعد، و هي قول العلّامة المتقدم في (ص 260) و فيه:

«و بدونه إشكال» فإن كان مرجع ضمير «بدونه» الاستيفاء، اتجه ما استظهره

______________________________

(1) الدروس الشرعية، ج 3، ص 194

(2) مسالك الأفهام، ج 3، ص 154

(3) المصدر، ص 174

ص: 266

و عن الفخر (1) حمل الإشكال في العبارة على مطلق صورة عدم الاستيفاء.

فيتحصّل (2) من ذلك كلّه أنّ الأقوال في ضمان المنافع غير المستوفاة خمسة.

______________________________

فخر المحقّقين من التوقّف في ضمان المنافع الفائتة مطلقا سواء علم البائع بالبطلان أم جهل به.

و إن كان مرجع الضمير الاستيفاء مع قيد «علمه» اتّجه ما استظهره المحقّق الثاني، إذ المعنى حينئذ: «انّه مع علم البائع بالفساد إذا فاتت المنفعة ففي الضمان إشكال و توقّف» فيتألّف موضوع توقّف العلّامة من أمرين: أحدهما علم البائع بالبطلان، و الآخر عدم استيفاء المشتري للمنفعة.

قال المحقّق الثاني في ضمان المنافع: «فلا تفاوت في كون المتجدّد في البيع عينا كالولد أو منفعة كسكنى الدار، و لا في كون البائع عالما بالفساد و جاهلا، و لا بين أن يستوفي المشتري فاسد المنفعة و عدمه، على إشكال في بعض الصور، و هو ما إذا علم البائع بفساد البيع و لم يستوف المشتري المنفعة» «1».

(1) الحاكي لكلام فخر المحققين هو السيّد الفقيه العاملي قدّس سرّهما، قال في الإيضاح- في شرح عبارة القواعد المتقدمة: «و بدونه إشكال»- ما لفظه: «ينشأ من تبعيّة الأصل، و لأنّ الأصل في قبض مال الغير الضّمان إلّا بسبب عدمه، و لم يثبت. و من أنّها لم تقبض بالبيع الفاسد و لا بالغصب. و الحقّ الثاني، لأنّ مال الغير يجدّد في يده بغير فعلهما، فكان كالثوب تطيره الريح» «2».

و ما ذكره قدّس سرّه من وجه عدم الضمان بقوله: «و من أنّها لم تقبض بالبيع الفاسد و لا بالغصب» جار في صورتي علم البائع بالفساد و جهله به، و مقتضاه أنّه فهم من عبارة والده توقّفه في ضمان المنافع الفائتة مطلقا بلا فرق بين العلم و الجهل.

(2) يعني: بعد أن اختلف شرّاح القواعد في مراد العلّامة قدّس سرّه من قوله: «و بدونه إشكال» فقد تحصّل أقوال خمسة في حكم المنافع الفائتة.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 324

(2) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 305؛ إيضاح الفوائد، ج 2، ص 194

ص: 267

الأوّل: الضمان، و كأنّه للأكثر (1).

الثاني: عدم الضمان، كما عن الإيضاح (2).

الثالث: الضمان، إلّا مع علم البائع (3)، كما عن بعض من كتب على الشرائع.

الرابع: التوقّف (4) في هذه الصورة، كما استظهره جامع المقاصد و السيد العميد «1» من عبارة القواعد.

______________________________

إلّا أن يقال: بأن الأقوال ثلاثة، و التوقّف ليس قولا، بل هو تردّد في الحكم، فتأمّل.

(1) تقدم الاستدلال له بقاعدتي اليد و الاحترام، و ناقش فيهما المصنف، و بقي وجه آخر و هو الإجماع المنقول، فلا منافاة بين إنكار الضمان، للخدشة في القاعدتين، و بين إثباته للإجماع.

(2) و استدلّ عليه في عبارته المتقدّمة بقوله: «لأنّ مال الغير يجدّد في يده بغير فعلهما ..» و يمكن المناقشة فيه بأنّ المشتري قبض المبيع باختياره، و يكفي في قبض المنافع قبض العين، فقياس المقام بإطارة الريح في غير محلّه.

(3) لعلّ وجهه- كما عن بعض- أنّ البائع مع علمه بفساد البيع هو المقدم على تسليط المشتري على المنافع مجّانا، فلا وجه حينئذ لضمان المشتري للمنافع.

لكن فيه أوّلا: أنّ قضية هذا الوجه عدم ضمان المنافع مطلقا حتى المستوفاة منها، و هو كما ترى.

و ثانيا: أنّ مجرّد التسليط ليس رافعا للضمان، لا مكان بناء البائع تشريعا على صحّة المعاملة، و كون التسليم إلى المشتري بعنوان الوفاء بالمعاملة، فالتسليط معاوضيّ، و الرافع للضمان هو التسليط المجّانيّ و بلا عوض.

(4) و سيأتي إن شاء اللّه تعالى، في التعليقة وجهه و ضعفه.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 324؛ كنز الفوائد، ج 1، ص 676

ص: 268

الخامس: التوقّف مطلقا (1) كما عن الدروس و التنقيح و المسالك و محتمل القواعد، كما يظهر من فخر الدين.

و قد عرفت (2) أنّ التوقّف أقرب إلى الانصاف.

إلّا (3) أنّ المحكيّ عن التذكرة: «أنّ منافع الأموال من العبد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها، أو فاتت تحت يده، بأن بقيت مدّة في يده لا يستعملها، عند (4) علمائنا أجمع (5)».

______________________________

(1) يعني: مع علم البائع بالفساد و جهله به.

(2) حيث قال قبل أسطر: «و الانصاف أنّ للتوقّف في المسألة كما في المسالك .. إلخ».

(3) يعني: أنّ المانع عن التوقّف هو الإجماع الذي ادّعاه في التذكرة على ضمان الغاصب للمنافع مطلقا- من المستوفاة و غيرها- بعد البناء على كون يد المشتري فيما نحن فيه من اليد العادية خصوصا مع علمه بفساد العقد.

و كذا يظهر الإجماع من عبارة السرائر من قوله: «المنافع تضمن عندنا بالغصب» «1».

و تقدّم منه أيضا: «أن البيع الفاسد يجري عند المحصلين منزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه».

(4) هذا متعلّق بقوله: «مضمونة بالتفويت و الفوات» يعني: أنّ ضمان مطلق المنافع اتّفاقيّ.

(5) ثم قال العلّامة قدّس سرّه: «و به قال الشافعيّ و أحمد بن حنبل، لأنّ المنافع مضمونة بالعقد الفاسد، فتضمن بالغصب كالأعيان .. إلخ» «2».

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 479

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 381

ص: 269

و لا يبعد (1) أن يراد باليد العادية مقابل اليد الحقّة، فيشمل (2) يد المشتري فيما نحن فيه، خصوصا (3) مع علمه،

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه من هذا الاستظهار: أنّ عبارة التذكرة تحتمل وجهين:

أحدهما: اختصاص معقد الإجماع بباب الغصب، لأنّ المتيقّن من قوله: «تحت اليد العادية» هو الغصب الذي يكون استيلاء الغاصب اعتداء على مال الغير. و بناء على هذا الاحتمال يمتنع الاستدلال بإجماع التذكرة على ضمان المنفعة الفائتة في المبيع بالبيع الفاسد، و ذلك لتعدّد الموضوع، إذ ليست يد المشتري عادية حتّى تندرج في موضوع حكمهم بالضمان في منافع المغصوب.

ثانيهما: شمول «اليد العادية المضمّنة» للمقام، لوضوح أنّ اليد على مال الغير إمّا حقّة، لاستنادها إلى إذن مالكي أو شرعي، و إمّا عادية، و لا ثالث لهذين القسمين.

و لا ريب في أنّ يد المشتري- على المبيع بالبيع الفاسد- ليست حقّة واقعا، لفرض فساد السبب المملّك. نعم قد يزعم استحقاقه للتصرّف فيه في صورة الجهل بالفساد، لكن لا عبرة بهذا الاعتقاد، لأنّ المناط في جواز التصرّف تملّكه للمبيع واقعا. و حيث لم يدخل في ملكه كانت يده عادية و إن لم يعلم به المشتري.

و على هذا الاحتمال لا يختصّ الاعتداء على مال الغير بباب الغصب، بل تندرج منافع المبيع بالبيع الفاسد فيه، فتتّجه دعوى الإجماع على ضمان المنفعة الفائتة.

و استظهر المصنّف قدّس سرّه هذا الاحتمال الثاني، لما ذكرناه آنفا من صدق «اليد العادية» على كلا المقامين، و لا قرينة على الاختصاص بباب الغصب. بل في ما نقلناه من التذكرة قرينة على أنّ ضمان منافع المبيع فاسدا أوضح وجها من باب الغصب، فلاحظ قوله: «لأنّ المنافع مضمونة بالعقد الفاسد، فتضمن بالغصب».

(2) لعدم كون يد المشتري حقّة بعد فساد العقد واقعا.

(3) وجه الخصوصيّة: أنّه لو نوقش في صدق «اليد العادية» على يد المشتري الجاهل بفساد العقد- بأنّه يزعم استحقاق التصرّف في المبيع- فلا ريب في صدقها

ص: 270

سيّما (1) مع جهل البائع به.

و أظهر منه (2) ما في السرائر في آخر باب الإجارة من «الاتّفاق أيضا على ضمان منافع المغصوب الفائتة» «1» مع قوله في باب البيع: «انّ البيع الفاسد عند أصحابنا بمنزلة الشي ء المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم عن إمساكه» «2» انتهى.

و على هذا (3) فالقول بالضمان لا يخلو عن قوّة، و إن كان المتراءى من ظاهر

______________________________

على يده عند علمه بالفساد، لاعتقاده حينئذ بأنّ استيلاءه على المبيع اعتداء على البائع.

(1) وجه الخصوصيّة: أنّ البائع العالم بفساد البيع ربما يرضى بتسلّط المشتري على المبيع، فيشكل صدق «اليد العادية» على يد المشتري. و أمّا مع جهل البائع بالفساد و علم المشتري به فلا ريب في صدق الاعتداء كما تقدّم آنفا.

(2) يعني: و أظهر من كلام التذكرة- في دعوى الإجماع على ضمان المنافع مطلقا استوفيت أم فاتت- كلام ابن إدريس قدّس سرّه بعد ضمّ كلامه في باب البيع الفاسد إلى ما أفاده في الغصب من تصريحه بضمان المنفعة الفائتة. فيتحصّل منه الإجماع على ضمانها في البيع كالغصب.

و وجه أظهريّة عبارة السرائر في الإجماع على ضمان المنافع الفائتة هو أنّ تعبير العلّامة باليد العادية يحتمل وجهين كما ذكرناه، لكن تعبير ابن إدريس بضمان منافع المغصوب و كون البيع الفاسد بمنزلة المغصوب لا يقبل الحمل على معنى آخر.

(3) أي: و بناء على الإجماع الذي حكاه ابن إدريس و العلّامة فالقول بالضمان قويّ.

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 479

(2) المصدر، ص 326

ص: 271

صحيحة أبي ولّاد «1» اختصاص الضمان (1) في المغصوب بالمنافع المستوفاة من البغل المتجاوز به إلى غير محلّ الرخصة.

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه دفع توهّم يورد به على الحكم بضمان المنافع الفائتة في البيع الفاسد. و محصّل التوهّم: أنّ صحيحة أبي ولّاد الواردة في البغل المغصوب خصّت الضمان بالمنافع المستوفاة، فحكم الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام على أبي ولّاد بضمان اجرة مثل كراء البغل بالنسبة إلى خصوص المنفعة المستوفاة، لقوله عليه السّلام: «أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل، و مثل كرى البغل من النيل إلى بغداد، و مثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة، توفيه إيّاه» و سكت عليه السّلام عن ضمان ما فات من منفعة البغل في المدّة، فإنّ قطع هذه المسافة يتحقق بأقلّ من خمسة عشر يوما، فيتراءى من ذلك أنّ ذمّته لم تشتغل إلّا بأجرة المنافع التي استوفاها من البغل، دون ما لم يستوفها من المنافع، فإنّ طيّ المسافة المزبورة إذا تحقق في مدّة عشرة أيّام كانت منافع البغل الفائتة في مدّة الخمسة غير مضمونة على مستأجر البغل.

و الحاصل: أنّ المنافع التي فاتت في مدّه الخمسة التي لم يستعمل البغلة فيها غير مضمونة، فالصحيحة تدلّ على عدم ضمان المنافع غير المستوفاة.

و محصّل دفع التوهّم هو: أنّ ضمان المنفعة الفائتة من المغصوب من مسلّمات الفقه، فلو فرض ظهور سكوت الامام عليه السّلام في عدم ضمانها قلنا بأنّ هذا الظهور معرض عنه، و من المعلوم أنّ إعراض جميع الأصحاب عنه يوهن أصالة الجدّ فيها، فلا يمكن التمسّك به لإثبات عدم الضمان في باب الغصب، فكيف يعارض به الإجماع على ضمان المنفعة الفائتة للمبيع بالبيع الفاسد.

ثمّ إنّ تعبير المصنّف قدّس سرّه بقوله: «و إن كان المتراءى .. إلخ» ظاهر في عدم جزمه بالاستظهار المزبور. و لعلّ وجهه أنّ سيره لم يكن من الطريق المتعارف في هذه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 255، الباب 17 من أبواب الإجارة، الحديث 1

ص: 272

إلّا أنّا لم نجد (1) بذلك عاملا في المغصوب الذي هو موردها (2) [1].

______________________________

الأعصار من الكوفة إلى بغداد، فإنّ السير في هذا الزمان من الطريق المتعارف من الكوفة إلى بغداد و بالعكس بالبغال و الحمير يتحقّق في مدّة ثمانية أيّام تقريبا، لكن السّير في مورد الصحيحة كان على غير المتعارف، لأنّه ركب من الكوفة إلى النيل الواقع في الواسط- و يسمى فعلا بالحيّ- و من النيل إلى بغداد، و قيل: إنّ السير على هذا النحو يحتاج إلى زمان أوسع.

و على هذا فلا يبقى للصحيحة ظهور في عدم ضمان المنافع غير المستوفاة حتى يقال: إنّه موهون بالاعراض عن العمل بها في موردها و هو الغصب، فكيف يمكن التعدّي عن موردها إلى المقام، و هو منافع المقبوض بالعقد الفاسد؟

(1) هذا دفع التوهّم، و قد أوضحناه آنفا.

(2) أي: مورد صحيحة أبي ولّاد.

______________________________

[1] قد عرفت أن الأقوال في المسألة خمسة:

الأول- و هو المشهور-: الضمان مطلقا.

الثاني: عدمه كذلك، كما ظهر من عبارة الإيضاح.

الثالث: التفصيل بين علم البائع بالفساد و جهله به، بعدم الضمان في الأوّل، و بالضمان في الثاني.

الرابع: التوقّف عن الحكم بالضمان في الصورة الثالثة، و هي صورة علم البائع.

الخامس: التوقّف في الضمان مطلقا.

لكن لا يستقيم عدّ التوقّف في هاتين الصورتين من الأقوال، لأنّ مرجع التوقّف إلى عدم الحكم، و من المعلوم أنّه ليس قولا و رأيا في المسألة. و عليه فالأقوال ثلاثة، ثالثها: التفصيل بين علم البائع بالفساد و جهله به، بالضمان في الثاني، و عدمه في الأوّل.

أمّا القول المشهور- و هو الضمان مطلقا- فقد استدلّ له بوجوه:

أحدها: الإجماع الذي يظهر من عبارة السرائر المتقدّمة.

ص: 273

______________________________

ثانيها: قاعدة اليد، بعد صدق «الأخذ» على المنافع بأخذ الأعيان، كما أفاده المصنّف قدّس سرّه.

ثالثها: قاعدة الاحترام المستفادة من جملة من الروايات الدالّة على «أنّ حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» و المفروض كون المنافع من الأموال، لتنافس العقلاء عليها، فمنعها عن المالك بدون الضمان ينافي حرمة مال المؤمن.

رابعها: قاعدة نفي الضرر، حيث إنّ عدم ضمان من فوّت منافع الغير ضرر عليه، فينفى بقاعدته.

خامسها: قاعدة الإتلاف، كما استدلّ بها السيد قدّس سرّه «فإنّ الاستيلاء على العين و منع المالك عن الانتفاع بها تفويت و إتلاف لمنافعها. و مقتضى قاعدة الإتلاف ضمانها. و لأجل هذه القاعدة نحكم بضمان منافع المغصوب التي لم يستوفها الغاصب» «1».

سادسها: قوله عجل اللّه تعالى فرجه و صلّى عليه و جعلناه فداه: «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» «2».

سابعها: ما في حاشية المحقّق الخراساني قدّس سرّه من «أنّ الدّليل على ضمان المنافع هو الدليل على ضمان الأعيان، لكون ضمانها من آثار ضمانها و لوازمه. و لا يتفاوت في ذلك بين كونها مستوفاة و غير مستوفاة كما لا يخفى. و الظاهر أنّ هذا هو الوجه في ضمانها مطلقا في باب الغصب قولا واحدا. و لا أظنّ اختصاص ذلك الباب بوجه غير جار في الباب. إلّا أن يكون هو إجماع الأصحاب. لكنّه لا يظن أن يكون مدركهم أيضا إلّا ما ذكرنا، فافهم» «3».

و حاصله: أنّ الوجه في ضمان المنافع المستوفاة و غيرها هو: أنّ من آثار ضمان

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ص 96

(2) وسائل الشيعة، ج 6، ص 377، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 3

(3) حاشية المكاسب، ص 34

ص: 274

______________________________

العين ضمان منافعها، فدليل ضمان العين دليل على ضمان منافعها. و ادّعى قدّس سرّه أنّ هذا هو الوجه في ضمانها مطلقا في باب الغصب. إلّا أن يكون الوجه في ضمان منافع المغصوب مطلقا هو الإجماع المفقود هنا، لكون الأقوال في ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد متعدّدة، هذا.

أمّا الاستدلال بالإجماع ففيه أوّلا: عدم الاتّفاق، لكون المسألة ذات أقوال، كما عرفت.

و ثانيا: أنّ من المحتمل كونه مدركيّا، بأن يكون مستندهم في الضمان ما تقدّم من قاعدتي اليد و الاحترام.

و ثالثا: بأنّه من الإجماع المنقول الذي تقرّر في الأصول عدم حجيّته.

مضافا إلى: أنّ الظاهر من عبارة السرائر ترتيب خصوص وجوب الرّدّ من أحكام الغصب على المقبوض بالعقد الفاسد، ضرورة أنّ الغاصب إذا استولد الجارية المغصوبة لا يلحق به الولد، لأنّه زان، بخلاف ما إذا أولدها من قبضها بالعقد الفاسد، فإنّ الولد يلحق به.

و توجيه إجماع السرائر و التذكرة بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقّق النائيني قدّس سرّه من قوله: «و لكنّه لا يخفى انّ اختياره الضمان أخيرا ليس لاعتماده على الإجماع المنقول، مع أنّه قدّس سرّه منكر لحجّيّته في الأصول، بل اعتمد على نقل الإجماع من جهة كشف اتفاق الأعلام على شمول قاعدة اليد و الاحترام للمنافع» «1» لا يخلو من الغموض، إذ فيه أوّلا:

أن لازم الاتفاق على شمول قاعدتي اليد و الاحترام للمنافع عدم الاختلاف في ضمان المنافع غير المستوفاة. و قد عرفت تعدّد الأقوال فيه.

و ثانيا: أنّ موضوع القاعدتين- أعني بهما اليد و الاحترام- من الموضوعات العرفيّة التي يكون المرجع في معرفتها العرف، و ليس بيد الفقيه بما هو فقيه. فالإجماع

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 134

ص: 275

______________________________

التعبّديّ القائم على تشخيص المفهوم العرفيّ أو تطبيقه على مصاديقه غير الإجماع الذي هو حجّة- أعني به الإجماع- على الحكم الشرعي.

نعم إذا كان الموضوع من الموضوعات المستنبطة التي لا بدّ فيها من الرجوع الى الفقيه، كالغناء، و المفازة و الصعيد و الآنية و غيرها و كان مرجع الإجماع إلى تحديد الموضوع الذي يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، فهو و إن كان وجيها. إلّا أن جماعة ناقشوا في صدق اليد على المنافع و منهم المصنّف، حيث قال قبل أسطر- بعد تسليم كون المنافع أموالا- ما لفظه: «بأنّ مجرّد ذلك لا يكفي في تحقّق الضمان. إلّا أن يندرج في عموم «على اليد ما أخذت، و لا إشكال في عدم شمول صلة الموصول للمنافع».

و مع هذه المناقشة- بل نفي الاشكال عن عدم صدق اليد على المنافع- كيف يمكن أن يدّعى رجوع الإجماع إلى الاتّفاق على صدق اليد على المنافع؟

و قد تقدّم كلام الإيضاح و تنظير المنافع بالثوب الذي أطارته الريح، فإنّه ظاهر في إنكار صدق اليد على المنافع، فلا بدّ أن يراد بالإجماع الاتّفاق على نفس الحكم أعني به الضمان، لا على دليل الحكم، و لا على تحديد موضوعه. لكن قد عرفت عدم الإجماع على الضمان، هذا.

ثمّ أفاد المحقق المذكور في وجه الضمان ما حاصله: «أنّ المقتضي له و هو اليد الشاملة للعين أصالة و المنافع تبعا- لصدق اليد و الأخذ عليهما- موجود، و المانع عنه مفقود، لأنّه إمّا قاعدة «ما لا يضمن» في كلتا صورتي العلم بالفساد و الجهل به. و إمّا تسليط البائع للمشتري على المنافع مجّانا في صورة علم البائع بالفساد.

و كلاهما مفقود، إذ الأوّل مختصّ أصلا و عكسا بمصبّ العقد و هو العين في المقام، و المنافع خارجة عنه، فيرجع فيها إلى القواعد الأخر.

و الثاني لا يستلزم المجّانيّة الرافعة للضمان، لإمكان البناء على الصحة تشريعا» «1».

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 134

ص: 276

______________________________

انتهى ملخّصا.

و يتوجّه عليه: أنّ جعل وجود المقتضي و هو اليد مفروغا عنه أوّل الكلام، لما عرفت من المناقشة في صدق اليد على المنافع، لظهور النبويّ في اعتبار كون المأخوذ بنفسه قابلا للرّدّ، و ليست المنافع كذلك. فالظاهر قصور الحديث عن شموله للمنافع.

فمع عدم تسلّم وجود المقتضي لا تصل النوبة إلى البحث عن وجود المانع أو عدمه.

بل لو سلّمنا صدق اليد على المنافع أمكن المناقشة فيه أيضا بأنّ اليد المضمّنة هي خصوص العادية، و هي مفقودة هنا، لعدم منع القابض للمالك عن استيفاء المنافع كما لا يخفى.

نعم قاعدة الاحترام- بناء على عدم اختصاصها بالحكم التكليفيّ- تجري في المنافع غير المستوفاة. و كذا قاعدة الإتلاف فيما إذا استند تفويت المنافع إليه على التفصيل الآتي.

و أمّا الاستدلال بقاعدة اليد، ففيه: أنّ اليد و إن كانت كناية عن الاستيلاء الصادق على الأعيان و المنافع، و ليس المراد بها خصوص الأخذ بالجارحة الخاصّة قطعا، و إلّا يشكل الأمر في غير المنقولات كالأرض و الدار و نحوهما، لكن الذيل و هو «حتى تؤدي» ظاهر في كون المأخوذ بنفسه مردودا، فيختصّ النبويّ بما كان في نفسه قابلا للرّدّ و إن امتنع عرضا كالتلف.

و بالجملة: فجعل اليد كناية عن الاستيلاء الشامل للأعيان و المنافع لا يجدي في شمول النبويّ أيضا للمنافع، مع قرينيّة «حتى تؤدّي» على كون المأخوذ بعينه قابلا للرّدّ، فيختصّ النبويّ بالأعيان.

و أمّا قاعدة الاحترام فهي متوقّفة على صدق المال على المنفعة، لإضافة نفي الحل إلى المال في قوله عليه السّلام: «حرمة ماله كحرمة دمه» أو «لا يحل مال امرء مسلم» و مع الصدق لا ينبغي الإشكال في صحة الاستدلال بها.

ص: 277

______________________________

و دعوى كونها في مقام بيان الحكم التكليفي- و أنّه لا يجوز التصرّف فيه بدون إذنه، بقرينة السياق المستفاد من الجمل السابقة، كقوله: «سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية» إذ لا ريب في ظهورها في الحكم التكليفيّ- غير مسموعة، لأنّه خلاف إطلاق الحرمة، فاحترام المؤمن و شرفه يقتضي حرمة التصرّف في ماله بدون إذنه، و ضمانه أيضا لو أتلفه متلف بغير إذنه الرافع للضمان.

و أمّا قاعدة الإتلاف فهي منوطة أيضا بصدق المال على المنافع، و إلّا فلا إشكال فيها من حيثيّة أخرى.

و الإتلاف و إن كان إعدام الموجود، إلّا أنّ التّفويت الّذي هو إبداء المانع عن الوجود يستفاد من النصوص الّتي هي مدرك قاعدة الإتلاف أيضا.

فالاتلاف أعمّ من إعدام الموجود و من المنع عن الوجود.

و قد يستشكل في جريان القاعدة في المنافع المستوفاة فضلا عن غير المستوفاة بما في حاشية سيّدنا الأستاذ قدّس سرّه من: أنّ المستفاد من أدلّة القاعدة خصوص الإضرار بالعين بالجناية على ذاتها أو صفاتها، فلا تشمل المنافع الّتي هي اعتبار محض، فالتمسك بقاعدة الإتلاف لضمان المنافع مطلقا مشكل «1».

لكن يمكن أن يقال: إنّ المراد بالنقص هو العرفي الصادق على المنافع التي هي اعتبار محض، فتفويت المنافع بلا عوض جناية عرفا على المنفعة التي هي صفة العين.

و أمّا قاعدة الضرر فلا إشكال في التمسّك بها أيضا، بعد صدق النقص على فوت المنافع تحت يد قابض العين. و الاشكال عليها بما قيل من: «أنّها ناظرة إلى الأحكام الشرعيّة التي ينشأ منها الضرر، و عدم الضمان ليس حكما شرعيّا، فلا تجري القاعدة فيه» مندفع بما عرفت من: أنّ عدم الضمان كسائر الأعدام بعد تشريع الأحكام أيضا حكم شرعيّ يحكم عليه القواعد الثانويّة كقاعدتي الضرر و الحرج، فإنّ تفويت المنافع على

______________________________

(1) نهج الفقاهة، ص 136

ص: 278

______________________________

مالكها ضرر عليه، لكونها مالا عرفا، فينفى بقاعدة نفي الضرر فإتلافها يوجب الضرر و هو النقص في مال مالكها، لا أنّه يوجب عدم النفع، كما لا يخفى.

و أمّا قوله عجّل اللّه تعالى فرجه و صلّى عليه: «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف ..» فحاصل الكلام فيه: أنّ عدم حلّيّة التصرّف- الذي هو فعل اختياريّ- ظاهر في الحرمة التكليفيّة المستتبعة للمؤاخذة و العقوبة، و عدم حلية المال ظاهر في التبعيّة و الخسارة، و ذلك هو الضمان. فحرمة المال يراد بها الحكم الوضعيّ أعني به الضمان، و حرمة الفعل كالتصرّف يراد بها الحكم التكليفيّ أعني به الحرمة. و هذا هو ظاهر الرواية.

و أمّا ما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه في عبارته المتقدّمة ففيه: أنّه إن أراد اقتضاء أخذ العين ضمان منافعها- لتحقّق الاستيلاء عليها بجميع حيثيّاتها و شؤونها بسبب الاستيلاء على العين- فيرد عليه ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدّس سرّه من: أنّ المنافع لا فعليّة لها، لأنّها موجودات بالقوّة، فلا يصدق عليها الاستيلاء «1».

لكن لا يخفى أنّ هذا ما يقتضيه النظر الدّقّي العقليّ الذي لا عبرة به في المقام.

و أمّا النظر العرفي فيساعد على صدق الاستيلاء على المنافع غير المستوفاة. و لذا يصحّ جعلها طرفا لإضافة الملكيّة، فإنّ الإجارة تمليك لتلك المنافع الّتي هي حيثيّات قائمة بالعين، فلا يعتبر في صحّة تمليكها، و لا في صدق الاستيلاء عليها فعليتها، بل المدار في صدق الاستيلاء عليها و صحّة اعتبار الملكيّة لها عرفا وجودها الشأنيّ كقابليّة الدار للسكنى، لا الوجود الفعلي، حتّى يقال: إنّها قبل فعليتها إعدام، فلا يصحّ الاستيلاء عليها.

فالاستيلاء على العين من قبيل الواسطة في الثبوت للاستيلاء على منافعها، لا من قبيل الواسطة في العروض كحركة السفينة و نحوها بالنسبة إلى جالسهما، إذ لو كان من قبيل الواسطة في العروض لزم عدم ضمان حابس الحرّ الأجير المقدّر عمله بأجرة، لأنّ الاستيلاء على العين لا يوجب ضمانها حتى تضمن منافعها عرضا، فلا بدّ من الحكم

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 78

ص: 279

______________________________

بعدم ضمان حابس الحرّ، إذ لا ضمان لنفس العين التي استولى عليها ذاتا- و هي الحرّ- حتى يصح نسبته عرضا إلى منفعته و هي عمله.

و إن أراد أنّ نفس ضمان العين بدليله الخاصّ مستلزم لضمان منافعه من دون سبب آخر بالإضافة إلى منافعها، فيرد عليه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه «1» من أنّه يشبه الجزاف، إذ معناه أنّ ضمان شي ء بموجبه سبب لضمان شي ء آخر، فنفس الضمان يكون من أسباب الضمان. مع أنّه لا شبهة في ضمان المنافع المستوفاة بدون ضمان العين، كما إذا اشترى عينا مسلوبة المنفعة مدّة، فاستوفى منافعها في تلك المدة، فإنّ المنافع مضمونة و العين غير مضمونة حتى يكون ضمانها بضمان العين. و كما إذا استوفى عمل الحرّ، فإنّ الحرّ غير مضمون، مع أنّ عمله المستوفي مضمون إلى غير ذلك.

نعم لا مانع من أن يكون الحديث دليلا على قاعدة التبعيّة، يعني: أنّ ضمان العين في موارده يوجب ضمان ما يعدّ من توابعها من باب التبعيّة، كتمليك العين الموجب لتمليك منافعها تبعا، لكون البيع تمليك العين لا المنفعة، فإنّ التبعيّة جارية في كثير من الموارد كالطهارة و النجاسة و الإسلام و الكفر و غير ذلك.

و لا يرد عليه: أنّ لازمه أن يكون ضمان شي ء بسببه سببا لضمان شي ء آخر. وجه عدم الورود: أنّ ذلك الشي ء إن كان من توابع العين المضمونة فلا مانع من ضمانه تبعا.

و إن لم يكن من توابعها لم يلزم ذلك أصلا، للاختصاص بالتوابع، لا كل شي ء و لو كان أجنبيا عن مورد اليد. فلا يلزم أن يكون سبب ضمان الدار مثلا موجبا لضمان العبد.

و من هنا يظهر الاشكال فيما ذكره قدّس سرّه من النقض باستيفاء منافع العين المسلوبة المنفعة و استيفاء عمل الحرّ، فإنّ اليد تدلّ على عقد إيجابيّ، و هو أنّ العين إذا صارت مضمونة صارت منافعها مضمونة أيضا. و لا تدلّ على عقد سلبي و هو عدم ضمان المنافع إذا لم تكن العين مضمونة.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 88

ص: 280

______________________________

و الحاصل: أنّ المدلول عقد إيجابيّ أعني به ضمان المنافع بتبع ضمان العين، و ليس المدلول عدم ضمان المنافع تبعا لعدم ضمان العين، فيرجع في ضمان منفعة الدار المسلوبة المنفعة و عمل الحرّ المستوفي و نحوهما إلى دليل آخر، كقاعدة الاحترام و غيرها، هذا.

مضافا إلى: أنّ قاعدة اليد المقتضية لضمان المنافع التابعة لما أخذته اليد من العين من العمومات القابلة للتخصيص.

فالمتحصّل: أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية قدّس سرّه من التمسّك بقاعدة اليد لضمان المنافع المستوفاة و غيرها مما لا بأس به.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ ما عن المشهور من ضمان المنافع غير المستوفاة لا يخلو من قوة.

إلّا أن يناقش في صدق الأخذ على المنافع و إن صدق عليها القبض بأخذ العين، بأن يقال: إنّ الأخذ لا يصدق على التخلية و رفع المانع عن استيلاء الغير، بخلاف القبض، فإنّه يصدق عليه. و الأخذ ظاهر في الاستيلاء المقرون بالغلبة، و المقبوض بالعقد الفاسد يكون مبنيّا على الوفاء بالعقد لا القهر و الغلبة، فالتمسّك بقاعدة اليد لضمان المنافع غير المستوفاة مشكل جدا.

فإن دلّ دليل آخر على الضمان كقاعدة الاحترام و غيرها فلا كلام، و إلّا فتصل النوبة إلى الأصل المقتضي لعدم الضمان.

إلّا أن يدّعى أنّ موضوع الضمان لمّا كان من الموضوع المركّب أمكن أن يقال: إنّ الاستيلاء على مال الغير محرز وجدانا، و جزءه الآخر و هو عدم الرضا محرز بالاستصحاب، فيتمّ موضوع الضمان.

إلّا أن يستشكل في الاستصحاب بأنّ القبض لمّا كان بعنوان الوفاء بالعقد. فالرّضا محرز، دون عدمه حتى يستصحب، و يثبت به الضمان، و اللّه العالم.

ص: 281

______________________________

و أمّا القول بعدم الضمان مطلقا و هو المنسوب إلى فخر المحقّقين قدّس سرّه فقد عرفت وجهه من عبارته التي نقلناها عنه في التوضيح، و ضعفه.

و أمّا القول بالضمان في صورة جهل البائع بالفساد، و عدمه في صورة علمه به فقد تعرّضنا لوجهه بقولنا: «وجه الاشكال أنّ المالك مع علمه بالفساد .. إلخ».

و أمّا التوقّف في صورة علم البائع بالفساد فوجهه ما تقدّم في التوضيح من تسليط البائع.

لكن فيه: أنّه لو تمّ اقتضى عدم الضمان لا التوقّف فيه.

و أمّا التوقّف مطلقا فوجهه تضارب الأدلة.

أقول: لعلّ الأقرب التفصيل، بأن يقال: إنّ المشتري مع علمه بالفساد يضمن، لقاعدة الإتلاف، حيث إنّ عدم انتفاع المالك بماله مستند إلى قبض المشتري العالم بعدم استحقاقه للقبض الموجب لكون يده عادية، فلو لم يقبضه كان البائع قادرا على الانتفاع بماله، فالمشتري غاصب فوّت المنافع على المالك، فيضمن. و مع جهله بالفساد لا يضمن، لأنّ فوت المنافع لا يستند إلى المشتري، بل إلى البائع الدافع للمبيع إليه، لبنائهما على صحّة العقد، فلا يعدّ يد المشتري عادية. نعم إذا علم بالفساد و تساهل في دفع المبيع إلى البائع ضمن جميع المنافع من المستوفاة و غيرها.

و بالجملة: فصدق اليد العادية على يد المشتري مع جهله بالفساد، و كون قبضه مبنيّا على زعم صحّة العقد الموجب لعدم التزامه بردّ المبيع إلى المالك العالم بالفساد محلّ تأمّل بل منع.

نعم إذا نهض دليل على «أنّ كلّ من وقع تحت يده مال الغير ضامن له إلّا ما خرج بدليل» كان لضمان المنافع من المستوفاة و غيرها وجه. و عليه فلا يحكم بضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء إلّا مع علم المشتري بالفساد، بحيث يستند فواتها إلى فعله و إلّا فلا دليل على الضمان أصلا.

ص: 282

______________________________

أمّا اليد فلعدم صدقها على المنافع غير المستوفاة أوّلا، و لعدم كونها عادية على تقدير صدقها عليها ثانيا. إذ الظاهر أنّ المراد بالعادية- بناء على تعنون اليد بها- ما لا يحكم شرعا و لو ظاهرا بعدم العداونيّة كالمقبوض بالعقد الفاسد، فإنّ يد القابض قبل علمه بفساد العقد ليست عادية، للحكم بصحّة العقد ظاهرا بمقتضى أصالة الصحة، فلا تكون يده عادية، بل حقّة في ظاهر الشرع.

إلّا أن يقال: إنّ اليد و إن لم تشمل يد القابض حدوثا، لكنّها بعمومها الأزماني تشملها بعد علمه بالفساد بقاء.

و أمّا ضمانها على القول به في الغصب فلصدق الإتلاف و التفويت عليها، و كون حبس العين الذي هو فعل الغاصب سببا لفواتها على المالك كما لا يخفى.

و أمّا قاعدة الاحترام فهي غير جارية، للتعارض، لأنّ احترام مال مؤمن لا يقتضي سلب احترام مال مؤمن آخر بلا وجه. و لا يكون الإضرار بمؤمن آخر من مقتضيات احترام مال مؤمن غيره، ضرورة أنّ المشتري لم يهتك حرمة مال البائع، بل قبضه بعنوان مال نفسه.

نعم مع العلم بالفساد و حبسه يصدق الهتك.

و أمّا قاعدة الضرر فهي معارضة بمثلها في طرف المشتري، إذ المفروض أنّ أخذ بدل المنافع الفائتة من المشتري ضرر عليه و نقصان في ماله، إذ لم يعد إليه نفع.

و أمّا قاعدة الاستيفاء فلا موضوع لها، إذ المفروض عدم استيفائها.

و أمّا أصالة الضمان فموردها الشكّ في تحقّق موضوعها، و هو الاستيلاء على مال الغير بدون رضا مالكه، فيقال: إنّ الاستيلاء محرز وجدانا، و عدم الرضا تعبّدا للاستصحاب، فيتمّ موضوع الضمان، كسائر الموضوعات المركّبة المحرز بعض أجزائها بالوجدان و بعضها الآخر بالتعبّد.

و ليس المقام كذلك، لأنّ الشكّ في ضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء ليس ناشئا

ص: 283

______________________________

من الشكّ في طيب نفس المالك حتى يستصحب عدمه. بل الشك نشأ عن احتمال صدق أصل اليد أو اليد العادية على المنافع غير المستوفاة و عدمه. و هذا لا يجري فيه الأصل، لأنّه بعد قبض العين إمّا يصدق اليد على منافعها، و إمّا لا تصدق عليها، فالشّكّ يكون في قابليّة المنافع لوقوعها تحت اليد، و هذا الشكّ مانع عن التمسّك بقاعدة اليد، لكون الشبهة مصداقيّة، و من المعلوم أنّ الاستصحاب لا يثبت القابليّة.

نظير الشكّ في تحقّق التذكية، للجهل بقابليّة الحيوان لها، فإنّ الأصل لا يجري في القابليّة و لا يثبتها، لأنّ الحيوان إمّا خلق قابلا للتذكية، و إمّا خلق غير قابل لها. نظير القرشيّة، فإنّ الأصل في العدم المحموليّ لا يثبت عدم القابليّة و عدم قرشيّة المرأة إلّا بناء على الأصل المثبت. و في العدم النعتيّ الذي هو موضوع الأثر لا يجري، لعدم العلم بالحالة السابقة.

و قد ظهر من هذا البيان عدم المجال لأصالة الضمان في المنافع غير المستوفاة، لأنّه على تقدير صدق اليد عليها لا ينبغي الإشكال في الضمان، و على تقدير عدمه لا ينبغي الإشكال في عدم الضمان، فتنتهي النوبة إلى الأصل المحكوم و هو أصالة البراءة عن الضمان.

بل يمكن أن يقال بعدم الضمان و لو مع صدق اليد على المنافع أيضا- بعد البناء على كون اليد المضمّنة هي العادية، و اليد غير المضمّنة هي الأمانيّة- لأنّه يشك في صدق العدوانيّة عليها، فيتشبّث بأصالة البراءة لنفي الضمان.

فالمتحصّل: أنّه في صورة علم المشتري بالفساد تكون المنافع مضمونة عليه. و في صورة جهله به لا ضمان عليه. أمّا في الصورة الأولى فلكون يده عادية كالغاصب، بل هو نفسه. و أمّا في الثانية فللأصل بعد عدم الدليل على الضمان. و ليكن هذا قولا سادسا في المسألة.

فقد ظهر وجه العقد السلبيّ أعني به عدم الضمان في صورة جهل المشتري بالفساد، كما ظهر وجه العقد الإيجابيّ، و هو الضمان في صورة علم المشتري بالفساد.

ص: 284

______________________________

كما ظهر أيضا وجه عدم دخل علم البائع و جهله بالفساد في الضمان و عدمه، و اللّه العالم.

ثمّ إنّ سيّدنا الخويي قدّس سرّه التزم بعدم الضمان، لوجهين:

«أحدهما: عدم جريان قاعدة الإتلاف في تلك المنافع، لعدم استناد الإتلاف إلى القابض، حيث إنّه لم يزاحم المالك في استيفائها.

ثانيهما: عدم جريان السيرة على ضمانها بمجرّد تلفها تحت يد القابض من دون استناد إليه.

و ناقش في الوجوه التي استند إليها القائلون بالضمان- من قاعدتي اليد و الاحترام و حديث الحلّ و الإجماع- بعدم جريان قاعدة اليد في المنافع غير المستوفاة، لعدم قابليّتها للردّ.

و بعدم جريان قاعدة الاحترام فيها، إذ ليس مقتضاها أزيد من توقّف جواز التصرّف على إذن المالك.

و بأنّ حديث الحلّ لا يدلّ إلّا على حرمة التّصرّف تكليفا.

و بأنّ الإجماع غير ثابت أوّلا. و على تقديره يكون المتيقّن من معقده هو وجوب الرّدّ فقط، لا جميع أحكام الغصب» «1» انتهى ملخصا.

و توضيح ما له و عليه تقدم فيما اخترناه.

فروع ترتبط بضمان المنافع أ: ضمان عمل الحرّ الكسوب المحبوس ثمّ إنّه يناسب المقام التعرّض لبعض الفروع المبتلى بها في هذا العصر:

الأوّل: ما إذا حبس ظالم حرّا كسوبا، فهل يضمن ما فات عنه في مدّة الحبس من العمل الذي يبذل بإزائه المال أم لا؟ فيه قولان، و قد ذكرناه في بحث عمل الحرّ، فراجع «2».

______________________________

(1) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 138 الى 144

(2) هدى الطالب، ج 1، ص 75 إلى 85

ص: 285

______________________________

ب: جواز مطالبة المستأجر بتخلية العين المستأجرة الثاني: ما إذا استأجر دكّانا و اتّجر فيه مدّة مديدة، و باع جملة من متاعه نسية، و بعد انتهاء مدّة الإيجار أخرجه المؤجر عن الدكّان و أخذه منه، و هذه الإخراج يوجب تضرّر المستأجر، لذهاب أمواله التي تكون على الناس، لعدم معرفتهم بمكانه الفعلي حتى يؤدّوا إليه. و كذا يتضرّر المستأجر بترك تجارته مدّة حتى يتهيّأ له محلّ جديد، و يعرف الناس مكانه ليعاملوا معه و يؤدّوا أمواله، فهل تكون هذه الخسارات على عهدة المؤجر أم لا؟ للمسألة صورتان:

الأولى: ما إذا لم يشترط المستأجر على المؤجر بقاءه في الدكّان إلى مدّة مديدة يريد استيجاره فيها. و الثانية: ما إذا اشترط على المؤجر ذلك.

أمّا الأولى فملخّص البحث فيها: أنّ مقتضى سلطنة المؤجر على ماله جواز أخذ الدّكّان من المستأجر، و عدم ثبوت حقّ للمستأجر في الدّكّان، إذ المفروض عدم اشتراط حقّ لبقائه. و مجرّد استيجاره الدكّان مدّة مديدة لا يوجب حقّا له بحيث يسقط سلطنة المالك على دكّانه، و يجب عليه إبقاء المستأجر فيه.

و الظاهر عدم موجب لضمان المؤجر لخسارات المستأجر، لأنّ المديونين يجب عليهم الفحص عن الدائن و مكانه مقدّمة لأداء دينهم، فالضرر الوارد على المستأجر من ناحية أمواله التي له على الناس مستند إلى تقصير المديونين في أداء ديونهم، لا إلى المؤجر، فلا يجري شي ء من أسباب الضمان- كقواعد الضرر و الإتلاف و اليد و الاحترام- في المقام، لأنّ مناط شمولها لمورد هو عدم توسّط إرادة فاعل مختار بين موارد هذه القواعد، و الشخص الذي يراد تضمينه لا بدّ من استناد الفعل اليه، نظير إرسال الماء إلى دار الجارّ مثلا، فإنّ انهدام الدار حينئذ منسوب إلى مرسل الماء، لعدم توسّط فعل فاعل مختار بين الانهدام و بين إرسال الماء حتى يستند الانهدام إليه.

ص: 286

______________________________

بخلاف المقام، فإنّ الخسارات المتوجّهة إلى المستأجر ناشئة من تقصير المديونين، فيتوسّط بين تلف أمواله و بين أخذ المالك دكّانه إرادة فاعل مختار أعني به المديونين، فلا يستند تلف الأموال إلى المالك حتى يكون ضامنا لها، بل يستند إلى فعل المديونين، و هو تقصيرهم في الأداء. هذا ما يرجع إلى أمواله التي على الناس.

و أمّا ما يرد عليه من ضرر تعطيل تجارته إلى زمان ظفره بمحلّ لها، فليس ضررا أي نقصا ماليّا، بل هو من عدم النفع، فلا تشمله قاعدة الضرر.

و بالجملة: فما نحن فيه أجنبيّ عن قاعدة نفي الضرر، إمّا لعدم صدق الضرر، و إمّا لعدم كونه مستندا إلى مالك الدكّان. و كذا قاعدة الاحترام، لأنّ مال المالك أيضا محترم، و هو يتصرّف في ماله لقاعدة السلطنة.

نعم لو فرض كون أخذ الدكّان من المستأجر علّة تامة لفوات مال أو عمل ذي قيمة منه- كما إذا كان محلّ الخياطة منحصرا بذلك الدكّان، بحيث لا يمكن اشتغاله بها في غيره، و يتّصف إخراجه عن الدكّان بالتفويت- أمكن أن يقال بالضمان، و أنّ الخياطة الفائتة منه مضمونة على مالك الدكّان، إذا أعطي المستأجر أجرة المثل، بحيث لا يتضرّر المالك من بقاء المستأجر في الدكّان، و لا من جهة أخرى.

و الوجه في الضمان حينئذ قاعدة الضرر من دون معارض، إذ المفروض عدم تضرّر المالك ببقاء المستأجر في الدّكّان، حتى يقال: بوجوب دفع ضرر عن الغير، و هو المستأجر، و تحمّله عنه. بل ليس في البين إلّا قاعدة السلطنة، و هي محكومة بقاعدة الضرر.

و الحاصل: أنّه على تقدير كون فعل المالك- أي أخذ الدكّان من المستأجر- علّة تامة لضرر المستأجر، أو وقوعه في الحرج و المشقة يمكن القول بضمان المالك له إن لم يكن في البين سوى قاعدة سلطنة المالك على ماله.

ص: 287

______________________________

و لا بأس ببيان صور المسألة، و هي: أنّ قاعدة الضرر في ناحية المستأجر تارة لا معارض لها إلّا قاعدة سلطنة المالك. و اخرى يعارضها قاعدة الضرر في ناحية المالك، أو قاعدة الحرج، فللمسألة صور:

إحداها: كون سلطنة المالك ضررا على المستأجر أو حرجا عليه من دون لزوم ضرر على المالك، فحينئذ يقدّم حق المستأجر على حقّ المالك، لكون سلطنة المالك حينئذ ضررا أو حرجا على المستأجر، فتنفى بقاعدة الضرر أو الحرج.

ثانيتها: أن يتعارض الضرران، كما إذا تضرّر المالك ببقاء المستأجر في الدكّان، و تضرّر المستأجر أيضا بتخلية الدكّان.

ثالثتها: كون التخلية حرجا على المستأجر، و عدمها حرجا على المالك، فيتعارض قاعدتا الحرج.

رابعتها: كون التخلية ضررا على المستأجر، و عدمها حرجا على المالك.

خامستها: عكس ذلك، بأن تكون التخلية حرجا على المستأجر، كما إذا وقع في مشقّة استيفاء أمواله من الناس، و عدمها ضررا على المالك، فيقع التعارض في هاتين الصورتين بين قاعدتي الضرر و الحرج، فيرجع إلى قاعدة السلطنة، فللمالك إلزام المستأجر بالتخلية.

و بالجملة: هنا كبريان في قاعدة الضرر: إحداهما: حرمة الإضرار بالغير، بأن يكون فعله علّة تامّة أو الجزء الأخير منها لورود الضرر على الغير.

ثانيتهما: عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير.

و للمسألة المبحوث عنها صور يندرج بعضها في القاعدة الاولى، و بعضها الأخر في القاعدة الثانية. و مجموع الصور المتصورة في هذه المسألة تسعة:

الأولى: عدم الضرر لا للمالك في عدم التخلية، و لا للمستأجر في التخلية.

ص: 288

______________________________

و الحكم فيه و هو سلطنة المالك على إلزام المستأجر بالتخلية واضح لا غبار عليه.

و بقيّة الصور أربع منها مركّبات، و مثلها بسائط.

أمّا المركّبات فهي: تضرّر كلّ من المالك بعدم التخلية و المستأجر بالتخلية، و حرجيّة التخلية و عدمها للمالك و المستأجر، و كون التخلية ضررا على المستأجر و حرجا على المالك، و عكس ذلك.

________________________________________

و في هذه الصور الأربع- بعد تعارض الضررين أو الحرجين أو المختلفين- يرجع إلى قاعدة سلطنة المالك المقتضية لجواز إلزامه المستأجر بتخلية الدكّان. هذا بناء على كونها من صغريات كبرى التعارض.

و أمّا بناء على صغرويّتها لكبرى عدم وجوب دفع الضرر و المشقّة عن الغير، فيقدّم حقّ المالك على المستأجر، إذ لا يجب على المالك دفع الضرر أو المشقّة عن المستأجر، فلا بدّ من التأمّل في أنّ الضرر أو الحرج الوارد على المستأجر هل هو ناش عن فعل المالك أو غيره؟

فعلى الأوّل تسقط سلطنة المالك بضرر المستأجر، كسقوط سلطنة المالك على حفر بالوعة في داره إضرارا بجاره، فإنّ ضرر الجار يسقط سلطنة الحافر على حفر البالوعة في داره، لكونه من صغريات الإضرار بالغير.

و على الثاني لا تسقط سلطنة المالك، لكونه من صغريات كبرى عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير.

و أمّا البسائط، و هي الضرر على المالك فقط، و الحرج عليه كذلك، و الضرر على المستأجر فقط، و الحرج عليه كذلك، فالحكم في الأوليين منها سلطنة المالك على إلزام المستأجر بالتخلية، لوضوح عدم مانع من قاعدة السلطنة. و في الأخريين منها يكون

ص: 289

______________________________

الحق للمستأجر إن كان فعل المالك موجبا لوقوع المستأجر في الضرر و الحرج الرافعين لسلطنة المالك، و إلّا فسلطنة المالك باقية على حالها، لعدم وجوب دفع الضرر أو المشقّة عن الغير.

و لو نوقش في سلطنة المالك ففي استصحابها غنى و كفاية، حيث إنّه قبل الإيجار كان سلطانا على شؤون دكانه، و الآن كما كان، فتأمّل جيّدا.

هذا كلّه في الصورة الاولى و هي عدم الشرط على المالك.

و أمّا الصورة الثانية و هي ما إذا شرط المستأجر على المالك في ضمن عقد لازم أن يؤجره الدّكّان إلى مدّة مديدة كعشرين سنة، فليس للمالك إلزام المستأجر بالتخلية، بل عليه أن يؤجره الدكّان بعد مضي السنة الاولى من مدّة الإجارة، فلو لم يؤجره و أجبره بالتخلية، فتضرّر المستأجر بتخلية الدكّان ضمن المالك كلّ ضرر يرد على المستأجر من ناحية التخلية، لقاعدة الضرر، حيث إنّه صار سببا لوقوعه في الضرر، فلو آجر المالك دكّانه من غير المستأجر المشروط له فله فسخه و إجباره المالك بأن يؤجره منه.

ففائدة الشرط قصور سلطنة المالك عن الإيجار من الغير. بخلاف الصورة السابقة، فإنّ المالك فيها مسلّط على ماله، و لا ملزم له بان يؤجر الدكّان من المستأجر.

فالإجارة الثانية فضوليّة منوطة بإجازة المستأجر الأوّل، و له أخذ مال لإسقاط حقّه من المالك أو المستأجر الثاني، كما أنّ له إسقاط هذا الحقّ مجّانا.

ثمّ إنّه مع الشرط المزبور ليس للمستأجر الشارط إلّا إلزام المالك بأصل الإيجار، و ليس له إلزامه بالإيجار بمبلغ معيّن، إلّا إذا شرطه على المالك أيضا في ضمن عقد لازم، بأن شرط عليه بأن يؤجره الدكّان عشر سنين مثلا كلّ سنة بكذا، فحينئذ يكون الشرط بالنسبة إلى أصل الإيجار و الأجرة نافذا، فيجب على المالك الوفاء بهما كما لا يخفى.

و هل يجوز للمستأجر أن يأخذ مالا من المالك أو الأجنبيّ لإسقاط حقّه؟ الظاهر

ص: 290

______________________________

ذلك. أمّا بالنسبة إلى المالك فلا ينبغي الإشكال فيه، لأنّ فائدة إسقاط الشرط دفع قصور سلطنة المالك، و هذا غرض عقلائيّ. و أمّا بالنسبة إلى الأجنبيّ فلأنّ بذل المال لرفع الموانع عن الوصول إلى الأغراض العقلائيّة ممّا جرت عليه السيرة الممضاة شرعا، و حيث إنّ الشرط كجزء أحد العوضين يكون حقّا للشارط و قابلا بنفسه للنقل و الانتقال إن لم يكن هناك مانع كشرط تقوّم الشرط بنفس المشروط له صريحا أو ضمنا.

ففي مسألتنا إن كان شرط الإيجار على المستأجر مقيّدا بنفسه لم ينتقل إلى وارثه، كما لا يقبل النقل إلى غيره. نعم هو قابل للإسقاط مجّانا و مع العوض، سواء أ كان معطي العوض نفس المشروط عليه أم الأجنبي.

كما أنّه بدون شرط المباشرة يكون الشرط قابلا للانتقال القهري كالإرث، إذ مع الشكّ لا مانع من استصحابه إلى زمان موت المشروط له، فيشمله ما دلّ على أنّ ما تركه الميّت فلوارثه. هذا كلّه إذا كان حقّ المستأجر ناشئا من مجرّد الشرط الضمنيّ.

و أمّا إذا كان ناشئا من بذل السرقفليّة إلى المؤجر كان تابعا لكيفيّة المعاهدة بينهما، و تتصور المسألة بوجوه ليس هنا محل ذكرها، و استوفينا الكلام فيها في رسالة المسائل المستحدثة، وفقنا اللّه لنشرها.

ج: حق الطبع و النشر الثالث: أنّه إذا عمل عملا يوجب نقصان ماليّة مال الغير، كما إذا كان وجيها عند الناس، و جعل محلّ تجارته في مكان يوجب كساد تجارات غيره، أو نزّل سعر السّلع فأقبل الناس إليه و أدبروا عن غيره، أو طبع كتابا عزيز الوجود و صار بذلك كثير الوجود و قليل الثمن، فهل يوجب ذلك ضمانا على من تسبّب تنزّل الماليّة أم لا؟

ص: 291

______________________________

الحقّ التفصيل بين الموارد، بأن يقال: إنّ العمل المزبور إن كان تصرّفا في ملك الغير- كما إذا طبع ما ألّفه غيره بدون إذن مؤلفه و صار الطبع سببا لتنزّل قيمة الكتاب- ضمن المتصرّف النقص الماليّ الحاصل بسبب الطبع، حيث إن الكتاب مملوك ذاتيّ للمؤلّف بمعنى كونه نتيجة لعمله و فكره، و الناس مسلّطون على أموالهم، و لا يجوز التصرّف فيه إلّا بإذنهم و طيب نفوسهم. و لو كان التصرّف منقّصا لماليّته ضمن النقص، لأنّه أتلف ماليّة مال الغير. و التصرّف العدوانيّ يوجب الضمان بالنسبة إلى نفس المال و ماليّته، كما إذا غصب ثلجا أو ماء في مفازة و أراد أن يؤدّي الثلج في الشتاء أو الماء على الشاطئ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

و الحق عدم الضمان في شي ء من الموارد، لأنّ قاعدة الضرر لا تجري أوّلا، لأنّ الضرر عبارة عن النقص في المال أو العرض أو الطرف. و المقام يكون من نقص الماليّة، لا من نقص المال، إذ لم يرد نقص في نفس المال.

و ثانيا: على تقدير جريانها متعارضة- بعد وضوح كونها من الأحكام الامتنانيّة- لتضرّر النوع بغلوّ سعر تلك السلعة التي صارت عزيزة الوجود، و من المعلوم أنّ الضرر النوعيّ أهمّ من الشخصي.

نعم في مثال طبع الكتاب من غير إذن مؤلّفه يكون للمؤلّف حق إجازة النشر و عدمها، فلو طلب من طابعه مالا لأن يأذن له في نشره كان له ذلك، لأنّ النشر تصرّف فيما ألّفه، فله المنع عن النشر و أخذ المال لرفع هذا المنع.

فالمتحصّل: أنّه لا ضمان في غير قضيّة طبع الكتاب بغير إذن المؤلّف. و أمّا هو فقد عرفت أنّ للمؤلّف أخذ مال للإجازة في نشره. و أمّا كونه شريكا في المطبوع- لكون ما فيه من المطالب من نتائج أعمال المؤلّف المملوكة له بالملكيّة الذاتيّة- فهو غير واضح، إذ الكتاب مملوك بالملكيّة الاعتبارية لطابعه. و أمّا المطالب فهي و إن كانت نتيجة أعمال المؤلّف و أفكاره، لكنّها ليست مملوكة له بالملكيّة الاعتباريّة. و لو بني على

ص: 292

______________________________

التضمين بالملكيّة الذاتيّة لزم من ذلك تضمين حابس الحرّ الكسوب و إن لم يستوف عمله. و الظاهر عدم التزامهم بذلك، لأنّهم لم يلتزموا بكفاية الملكيّة الذاتيّة في الضمان، و اعتبروا فيه الملكيّة الاعتباريّة.

لكن يبقى حينئذ سؤال الفرق بين استيفاء الحابس عمل الحرّ و عدمه، بالضمان في الأوّل دون الثاني، إذ الاستيفاء لا يجعل عمل الحرّ مملوكا اعتباريّا له حتى يضمنه الحابس.

نعم إذا صار أجيرا، ثم حبسه الحابس كان ضامنا لعمله، سواء استوفاه أم لا، لأنّ عمل الحرّ بسبب الإجارة صار ملكا اعتباريّا للمستأجر، فيضمنه الحابس كضمان عمل العبد بالحبس، فإنّ عمله مملوك للسيّد ملكيّة اعتباريّة تبعا لرقبته.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّه لا وجه للضمان في الأمثلة المزبورة.

نعم في طبع الكتاب بدون إذن المؤلّف و إن لم يكن ضمان على الطابع، إلّا أنّ اختيار نشر مطالبه و كتمانها بيده، لأنّها نتيجة عمله، فهي مملوكة له بالملكيّة الذاتيّة.

و مقتضى «الناس مسلّطون على أنفسهم» سلطنته على ما هو من شؤون نفسه و أعماله، فله الاذن في نشر مطالبه مجّانا و مع العوض.

و أمّا القرطاس و الخطوط فهي مملوكة للطابع ملكيّة اعتباريّة، و المؤلّف أجنبيّ عنهما.

و يمكن أن يقال: إنّ المؤلّف يصير مالكا لماليّة مطالب الكتاب لا نفس الخطوط و النقوش، و تكون مالكيّته لها نظير مالكيّة الزوجة بالإرث ماليّة الأبنية، إذ لا ترث من نفس البناء، بل ترث من قيمة الأبنية.

و عليه فالمراد بما تداول كتبه من «أن حق الطبع محفوظ للمؤلّف» إن كان حقّ النشر فلا بأس به. و إن كان غيره فلا بدّ من النظر فيه. و أمّا إذا كتب هذه الجملة غير المؤلّف فلا أثر له.

ص: 293

[الأمر الرابع ضمان المثليّ بالمثل]

اشارة

الرابع (1): إذا تلف المبيع،

______________________________

4- ضمان المثليّ بالمثل

(1) بعد أن ثبت في المبحث الأوّل ضمان المشتري لما أخذه بالبيع الفاسد، فتلف- و أنّه يجب عليه ردّ بدله إلى البائع- يقع الكلام في خصوصيّة هذا البدل المضمون، و أنّه هل يكفي ردّ ما يشاركه في النوع و هو ماليّته المتحقّقة في ضمن مطلق الأموال من النقود و السّلع المختلفة؟ أم لا بدّ من رعاية خصوصيّته الصنفيّة بدفع ما يكون أقرب إلى التالف مما يشترك معه في الصفات الدخيلة في الرّغبات، و يلزم حينئذ البحث عن ضمان التالف المثليّ بالمثل، و القيميّ بالقيمة. و هو بحث مبسوط لما فيه من الفروع التي تعرّض المصنّف قدّس سرّه لجملة منها، فعقد هذا الأمر الرابع المتضمّن لمقامات ثلاثة:

أوّلها: تعريف المثليّ.

ثانيها: دليل اعتبار ضمان المثليّ بمثله، و هي وجوه ثلاثة، الإجماع المتضافر نقله، و الإطلاق المقاميّ، و آية الاعتداء بالمثل. و إن كان مفاد هذه الوجوه مختلفا كما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.

ثالثها: حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا، و أنّه يتخيّر الضامن بين دفع المثل أو القيمة، أو أنّه يتخيّر المالك بين مطالبة ما شاء منهما، و غير ذلك ممّا سيأتي بالتفصيل.

ثمّ إنّ الداعي لمعرفة مفهوم المثليّ هو وقوع هذا العنوان في دليلين:

ص: 294

فإن كان مثليّا وجب مثله (1) بلا خلاف (2)، إلّا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي.

______________________________

أحدهما: الإجماع على ضمان المثليّ بمثله، و عدم إجزاء أداء قيمته مع إمكان المثل.

و ثانيهما: الآية الشريفة المجوّزة للاعتداء بالمثل. فيلزم حينئذ تمييز موضوع الحكم ليترتب عليه آثاره، و لأجله قدّم المصنّف قدّس سرّه البحث الموضوعيّ، هذا.

(1) هذا هو الدليل الأوّل على أنّ المثليّ يضمن بالمثل. و نقل الإجماع تمهيد للبحث المبسوط عن تعريف المثليّ.

(2) هذا العنوان مقابل لما سيأتي في الأمر السابع في حكم ضمان القيميّ: «لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا فقد حكي الاتفاق على كونه مضمونا بالقيمة» .. ثم قال:

«فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي».

و العبارة المنقولة عن ابن الجنيد هي: «إن تلف المضمون ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه» «1». فإن كان مراده بالمضمون ما هو أعمّ من المثليّ و القيميّ كان معناه مخالفة ابن الجنيد في ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة، لحكمه بضمان القيمة مطلقا إلّا مع رضا المالك بالمثل. فيتّجه حينئذ ما نسبه المصنّف إليه هنا و في الأمر السابع من أنّ المخالف لضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة هو أبو علي الإسكافي.

و إن كان مراده بالمضمون خصوص القيميّ- كما احتمله جماعة منهم الشهيد قدّس سرّه بقوله: «و لعلّه يريد القيميّ»- فما نسبه إليه هنا من قوله: «عدا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي» لا يخلو من غموض، لكون مصبّ كلام الإسكافي خصوص المضمون القيميّ، و لا تعرّض فيه للمثليّ أصلا، حتى يكون مخالفا لإجماع أصحابنا على ضمان المثليّ بالمثل [1].

______________________________

[1] و احتمل قويّا السيّد المحقّق الخويي قدّس سرّه وقوع السّقط في عبارة المتن، فكأنّه قال: «إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله، و إن كان قيميّا وجبت قيمته، بلا خلاف

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 241

ص: 295

و قد اختلف (1) كلمات أصحابنا في تعريف المثليّ. فالشيخ «1» (2) و ابن زهرة «2» و ابن إدريس «3» و المحقّق «4» و تلميذه و العلّامة «5» و غيرهم (3) «قدّس اللّه أسرارهم»

______________________________

(1) هذا شروع في تحقيق معنى المثليّ، و قد اقتصر في أوّل كلامه على تعريف المشهور و حام حوله، و نقل بعد الفراغ منه تعاريف أخر.

(2) نقلنا عبارة المبسوط في (ص 26) فراجع، و من جملتها قوله: «فماله مثل ما تساوت أجزاؤه. و معناه: تساوت قيمة أجزائه .. إلخ».

(3) قال السيد الفقيه العامليّ بعد عدّ كتب الجماعة المصرّح بأسمائها في المتن:

«و المهذّب البارع و المقتصر و التنقيح، و فيه و في المسالك و الكفاية: أنّه المشهور» «6».

______________________________

في ذلك بين الأصحاب، إلّا عن الإسكافي، فإنّه حكم بضمان المثل في القيميّ أيضا» «7».

و هذا التوجيه منوط بظهور كلام الإسكافي في الاحتمال الثاني، و هو إرادة القيميّ. و أمّا بناء على إطلاق كلامه فلا نقص في عبارة المتن، لاقتصار المصنّف في هذا الأمر الرابع على بيان حكم المثليّ، و في الأمر السابع على ضمان القيميّ، و لا مانع من كون الإسكافي مخالفا في المسألتين، هذا.

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 59 و 60؛ و نحوه في الخلاف، ج 2، ص 103، المسألة 29 كتاب الغصب.

(2) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ص 537

(3) السرائر الحاوي، ج 2، ص 480

(4) شرائع الإسلام، ج 3، ص 239؛ و تلميذ هو الفاضل الآبي في شرحه على المختصر النافع، لاحظ كشف الرموز، ج 2، ص 382

(5) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383، السطر 10؛ قواعد الأحكام (الطبعة الحجرية) ص 79؛ تحرير الأحكام، ج 2، ص 139

(6) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 141

(7) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 145 و 146

ص: 296

- بل المشهور على ما حكي (1)- «أنّه ما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة».

و المراد (2) بأجزائه ما يصدق عليه

______________________________

(1) قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «و المشهور بين الأصحاب ما ذكره المصنّف من أنّ المثليّ ما يتساوى قيمة أجزائه، أي: أجزاء النوع الواحد منه ..» «1». و الحاكي عنه هو السيّد الفقيه العاملي قدّس سرّه كما عرفت آنفا.

(2) غرضه قدّس سرّه توجيه تعريف المشهور للمثليّ- بحيث يسلم عن بعض ما يرد عليه- ببيان المراد من الأجزاء، و توضيحه: أنّ الجزء يقابل الكلّ، كما أنّ الجزئيّ يقابل الكلّيّ، فالجزء يطلق على أبعاض المركّبات كالرأس و الرقبة و اليد بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الإنسان، و من المعلوم عدم صدق الكلّ- كزيد- على أجزائه، فلا يقال: إنّ يده إنسان. و هذا بخلاف الجزئيّ، لصحّة حمل الكلّيّ على أفراده، فيقال:

زيد إنسان.

و على هذا، يرد على تعريف المشهور للمثليّ ما حكاه الشهيد الثاني قدّس سرّه بقوله:

«و اعترض بأنّه إن أريد بالأجزاء كلّ ما تركّب عنه الشي ء، فيلزم أن لا تكون الحبوب مثليّة، لأنّها تتركّب من القشور و الألباب. و القشر مع اللّب مختلفان في القيمة. و كذا التمر و الزبيب، لما فيهما من النّوى و العجم. و إن أريد بالأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة فيلزم أن لا تكون الدراهم و الدنانير مثليّة، لما يقع في الصّحاح من الاختلاف في الوزن، و في الاستدارة و الاعوجاج، و في وضوح السّكّة و خفائها، و ذلك ممّا يؤثّر في القيمة» «2».

و حاصل الشقّ الأوّل من الاعتراض هو: أنّ المشهور حكموا بكون الحنطة و الشعير مثليّين، مع أنّ التعريف غير صادق عليهما، إذ الصبرة من الحنطة تحتوي على حبّات مشتملة على ألباب و قشور، و من الواضح عدم مساواتهما في القيمة، فألحقّه من اللباب إذا قوّمت بدينار مثلا كانت الحقّة من القشور درهما لا خمسة دراهم، مع مساواتهما في المقدار من وزن أو كيل.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 182

(2) مسالك الأفهام، ج 12، ص 182

ص: 297

اسم الحقيقة (1).

و المراد (2) بتساويهما من حيث القيمة تساويهما بالنسبة، بمعنى (3) كون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث

______________________________

و لأجل دفع هذا الاعتراض وجّه المصنّف قدّس سرّه تعريف المثليّ بأنّ المراد ب «الأجزاء» هنا هو الأفراد و الجزئيّات التي تصدق عليها طبيعة واحدة، كالحنطة الصادقة على كلّ حبّة من حبّاتها.

فملخّص هذا التعريف: أنّ المثليّ هو «ما يكون أفراده متساوية قدرا و قيمة» فالحنطة من المثليّات، لأنّ فردين منها متساويان في المقدار و القيمة كالمنّين منها مثلا، فإنّ كلّ واحد من المنّين يسوى خمسة دراهم مثلا. فالمثلي على هذا هو الكلّيّ الذي تكون أفراده المساوية في المقدار مساوية في الماليّة أيضا.

و أمّا بناء على إرادة ظاهر لفظ «الأجزاء» فموضوع المثليّة هو الفرد، و مثليّته بلحاظ تساوي أجزائه معه. و موضوع المثليّة بناء على خلاف ظاهر الأجزاء هو الكليّ الذي تتساوى أفراده و مصاديقه في القيمة، و لا يرد إشكال حينئذ.

(1) كمنّ من الحنطة- مثلا- بالنسبة إلى منّ آخر منها، فيصدق حقيقة الحنطة على كلا المنّين، مع تساويهما قيمة.

(2) هذا مترتّب على توجيه التعريف بإرادة الجزئيّات من «الأجزاء» فالمثليّ هو ما تتساوى قيم أفراده، فإذا كان المنّ من الحنطة عشرة دراهم كان نصف المنّ منها خمسة دراهم، و ربعه درهمين و نصف، و هكذا. و لا يكون العبرة بقيمة اللباب و القشور حتى يقال بكون قيمة اللّب أضعاف قيمة القشر. مع وضوح عدم صدق عنوان «الحنطة» على القشر الذي هو بعض المركّب، بل لا بدّ من إضافته إليها فيقال:

قشر الحنطة. و هذا بخلاف إرادة الأفراد، فإنّ كلّ مقدار منها كالمنّ و الحقّة و الأوقيّة مصداق حقيقيّ لطبيعيّ الحنطة كما لا يخفى.

(3) هذا معنى التساوي في القيمة، و قد عرفته آنفا.

ص: 298

المقدار، و لذا (1) قيل في توضيحه: إنّ المقدار منه إذا كان يستوي قيمة فنصفه يستوي نصف تلك القيمة. و من هنا (2) رجّح الشهيد الثاني كون المصوغ من النقدين قيميّا، قال: «إذ لو انفصلت نقصت قيمتها» [1].

______________________________

(1) يعني: و لأجل تساوي الأفراد قيمة و مقدارا قيل في توضيح التساوي ..

إلخ، و القائل هو السيّدان الطباطبائي و العاملي قدّس سرّهما: «و المراد بتساوي قيمة أجزائه تساوي قيمة أجزاء النوع كالحبوب و الأدهان، فإنّ المقدار من النوع الواحد يساوي مثله في القيمة، و نصفه يساوي بنصف قيمة» «1».

(2) أي: و ممّا قيل في توضيح التساوي- المأخوذ في تعريف المثليّ- رجّح ثاني الشهيدين قدّس سرّهما كون المصوغ من النقدين قيميّا، لأنّه لو انفصل نقصت قيمته، فبعد الانفصال لا يساوي قيمة نصفه الفعلي نصف قيمة المجموع قبل الانفصال، فقيمة نصفه بعد الانفصال خمسة دنانير مثلا، مع أنّ قيمته قبل الانفصال كانت سبعة دنانير مثلا.

قال في الاشكال على ما أفاده المحقّق قدّس سرّه من قوله: «و لو كان في المغصوب صنعة لها قيمة غالبا كان على الغاصب مثل الأصل و قيمة الصنعة» ما لفظه:

«و هذا- أي لزوم الرّبا من دفع قيمة الصنعة- أقوى، فضمانها بالقيمة أظهر. مع أنّا نمنع من بقائه- أي المصنوع من النقدين- مثليّا بعد الصنعة، لأنّ أجزاءه ليست متّفقة القيمة، إذ لو انفصلت نقصت قيمتها عنها متّصلة كما لا يخفى» «2».

______________________________

[1] لا يخفى أنّ كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه مبنيّ على كون موضوع المثليّ هو الفرد، و مثليّته ملحوظة بالنسبة إلى أبعاض الفرد، لا الكليّ بالنسبة إلى أفراده، كما هو مقتضى قول المصنّف: «و المراد بأجزائه ما يصدق عليه اسم الحقيقة» فتدبّر في العبارة.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 241؛ رياض المسائل، ج 2، ص 303، السطر 27

(2) مسالك الأفهام، ج 12، ص 191

ص: 299

قلت: و هذا (1) يوجب أن لا يكون الدرهم الواحد مثليّا، إذ (2) لو انكسر نصفين نقص قيمة نصفه عن نصف قيمة المجموع.

إلّا أن يقال (3) [1]: إنّ الدرهم مثلي بالنسبة إلى نوعه، و هو الصحيح

______________________________

(1) المشار إليه هو قوله: «إنّ المقدار منه إذا كان يساوي قيمة فنصفه يساوي قيمة نصفه» و غرض المصنّف قدّس سرّه الإيراد على تعريف المشهور حتّى بعد توجيه السيّد العاملي قدّس سرّه له، و حاصله: أنّه بناء على كون المناط في المثليّ مساواة قيمة نصفه لنصف قيمة كلّه يلزم خروج مسكوك النقدين- و هما الدرهم و الدينار- عن ضابط المثليّ و اندراجهما في القيميّ، فإذا كان الدينار الصحيح يساوي عشرة دراهم لم يكن قيمة نصف الدينار خمسة دراهم، بل أقلّ، لأنّ السّكّة المنقوشة على الذهب دخيلة في قيمته، و ليست المادّة بخصوصها مدار ماليّته، فكيف جعل المشهور الدرهم و الدينار مثليّين مع عدم انطباق التعريف عليهما؟

و بهذا ظهر أنّ الذهب و الفضّة لا يكونان مثليّين. أمّا المصوغ من أحدهما فلما أفاده الشهيد الثاني قدّس سرّه من عدم مساواة قيمة نصفه لنصف قيمة تمامه، مثلا إذا كانت قيمة سوار عشرة دنانير و وزنها مثقالين لم تكن قيمة مثقال من المكسور منه خمسة دنانير، بل هي أقلّ منها. و أمّا المسكوك منهما فلما أفاده المصنّف قدّس سرّه، لنفس التقريب.

و لعلّه اقتبس المطلب من تعليل الشهيد الثاني قدّس سرّه «إذ لو انفصلت نقصت قيمته».

(2) هذا تعليل ورود الاشكال على المشهور الّذين جعلوا الدرهم مثليّا، مع أنّهم اعتبروا مساواة قيمة النصف- مثلا- لنصف قيمة المجموع.

(3) غرضه قدّس سرّه توجيه عدّ المشهور الدرهم من المثليّات، و توضيحه: أنّ

______________________________

[1] لكن على هذا يكون المصوغ من النقدين أيضا مثليّا، كالخاتم، و السوار، و الخلخال و نحوها، لتساوي أمثالها في القيمة كالدرهم الصحيح.

ثمّ إنّ هذا التوجيه غير وجيه، لأنّ معنى النقص هو ما ذكر في التوضيح من كون موضوع المثليّة الفرد، و التوجيه مبنيّ على كون موضوع المثليّة هو الكليّ، و إرادة الأفراد من الأجزاء.

ص: 300

و لذا (1) لا يعدّ الجريش مثلا للحنطة، و لا الدقاقة مثلا للأرز.

و من هنا (2) يظهر أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد، بل كلّ صنف من

______________________________

«الدرهم» جنس يشتمل على نوعين:

أحدهما: الصحيح، و هو الذي تكون سكّته و هيئته محفوظة.

و ثانيهما: المكسور و المعيوب، كما إذا انكسر نصفين أو أكثر، أو عاب بأن انمحى نقشه المضروب عليه.

فإن كان موضوع مثليّة الدرهم هو الجنس الصادق على السليم و المعيب انتقض تعريف المثليّ، لأنّ النصف المكسور من الدرهم لا يسوى قيمة نصف الدرهم الصحيح، لزوال ماليّة هيئته بالكسر، و صيرورة العبرة في ماليّته بنفس المادّة و هي الفضّة.

و إن كان موضوع المثليّة خصوص النوع الصحيح لم ينتقض تعريف المثليّ، إذ لا ريب في أنّ الدراهم الصّحاح متساوية في الماليّة، و ليست الدراهم المكسورة مندرجة في النوع الصحيح حتى يقال بعدم مساواة أبعاضها. و الظاهر أن مناط المثليّة عندهم هو النوع لا الجنس، و لذا لا يعدّون الجريش و الطحين مثلا للحنطة، مع انطباق الجنس عليهما.

(1) يعني: و لكون المثليّة ملحوظة بالنسبة إلى النوع- كما وجّهه بقوله:

إلّا أن يقال- لا يعدّ الجريش مثلا للحنطة. و الجريش هو الحنطة المطحونة بطحن غير ناعم، بحيث تبقى قطعا صغارا. فالحنطة جنس لها أنواع، منها الحبّات غير المطحونة، و منها: الجريش، و منها الطحين. فإذا اشتغلت الذمّة بحقّة حنطة لم تفرغ بدفع حقّة من نوع آخر كالجريش.

(2) يعني: و من لحاظ المثليّة بالنسبة إلى النوع- لا الجنس- يظهر أنّ المثليّة ملحوظة في النوع بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع فقط، لا سائر أنواع الجنس.

ص: 301

أصناف نوع واحد مثليّ بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف (1).

فلا يرد (2) ما قيل من: «أنه إن أريد التساوي بالكلّية، فالظاهر عدم صدقه على شي ء من المعرّف، إذ ما من مثليّ إلّا و أجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة، فإنّ قفيزا من حنطة تساوي عشرة، و من اخرى تساوي عشرين.

و إن أريد التساوي في الجملة فهو في القيميّ موجود كالثوب و الأرض» (3) انتهى.

______________________________

(1) فالرّز في عصرنا له أنواع و أصناف عديدة ربّما يكون سعر النوع الجيّد ضعف سعر المتوسّط أو الردي ء. و هكذا الحنطة، و نحوهما سائر السّلع.

(2) هذا متفرّع على كون مناط المثليّة هو النوع و الصنف، دون مجرّد ما يصدق عليه الحقيقة. و غرضه قدّس سرّه دفع ما أورده المحقّق الأردبيليّ قدّس سرّه على تعريف المشهور، و محصّله: أنّ تفسير المثليّ ب «ما تساوت أجزاؤه» إمّا غير منطبق على شي ء ممّا عدّ مثليّا، و إمّا غير مانع الصدق على الغير و هو القيميّ.

و بيانه: أنه إن أريد بالتساوي التساوي الكلّيّ و من جميع الجهات، فالظاهر عدم صدقه على شي ء ممّا عدّ مثليّا، لاختلاف أجزاء كلّ مثليّ في القيمة، فإنّ قفيزا من حنطة يساوي عشرة، و من حنطة أخرى يساوي عشرين، مع أنّ الحنطة من أظهر أفراد المثليّ.

و إن أريد بالتساوي التساوي في الجملة أي التقارب في القيمة- في قبال الأشياء المختلفة قيمها بكثير، كالتفاوت بين سعر الحنطة و الشعير و الأرز مثلا- لزم دخول جملة من القيميّات في التعريف، لتقارب قيم كثير من الحبوبات و الأقمشة و الثياب و نحوها، مع أنّهم جعلوها من القيميّ. و عليه فجعل ضابط المثليّ التساوي الكلّيّ غير سديد. هذا تقريب إشكال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه «1».

(3) هذه العبارة تختلف يسيرا مع ما في مجمع الفائدة، و كلامه قدّس سرّه متضمّن لشقّ ثالث للمنفصلة لم تذكر في المتن، و هي قوله: «و إن أريد مقدارا خاصّا فهو حوالة على المجهول».

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 522 و 523

ص: 302

و قد لوّح هذا المورد (1) في آخر كلامه إلى دفع إيراده بما (2) ذكرنا من: أنّ كون الحنطة مثليّة معناه أنّ كلّ صنف منها متماثل الأجزاء (3) و متساو في القيمة، لا بمعنى أنّ (4) جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة. فإذا كان المضمون

______________________________

(1) و هو المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه، فإنّه جعل مناط المثليّة النوع أو الصنف، و دفع به الإيراد المتقدّم في كلامه.

و لا يخفى أنّ تماثل الأفراد في النوع و الصنف غير مصرّح به في مجمع الفائدة، لكن يستفاد منه ذلك. قال قدّس سرّه: «و الذي يقتضيه القواعد أنّه- أي المثليّ- لفظ بني عليه أحكام بالإجماع، و كأنّه بالكتاب أيضا، مثل ما تقدّم، و السّنّة أيضا، و ليس له تفسير في الشرع، بل ما ذكر اصطلاح الفقهاء، و لهذا وقع فيه الخلاف، فيمكن أن يحال إلى العرف، إذ الظاهر أنه ليس بعينه مرادا، فإنّ المثل هو المتشابه و المساواة في الجملة. و هو موجود بين كلّ شي ء .. فكلّ شي ء يكون له مثل في العرف، و يقال له:

إنّ هذا له مثل عرفا، فيؤخذ ذلك .. و يؤيّده أنّه على تقدير ثبوت كون المتلف مثليّا مثل الحنطة لا يؤخذ بها كلّ حنطة، بل مثل ما تلف عرفا .. إلخ» «1».

و مثّل أيضا بسنّ الجمل و الثوب و الفرس العتيق، حيث إنّ المضمون هو المماثل للتالف عرفا. و هذا هو النوع أو الصنف في تعبير المصنّف.

(2) متعلق ب «دفع» و المراد بالموصول قوله: «إلّا أن يقال: إنّ الدرهم مثليّ بالنسبة إلى نوعه».

(3) أي: متساوية الأفراد و متساوية في القيمة.

(4) يعني: أنّ تماثل الأجزاء و تساويها قيمة ملحوظ بالنسبة إلى أبعاض الصنف الذي هو أخص من النوع، فالحنطة الحمراء و الصفراء نوعان، و لكلّ منهما أصناف كالحبّات و الجريش و الطحين، فإذا كان المضمون حقّة من الجريش الأحمر كان الواجب دفع هذا المقدار من هذا الجريش، لا دفع نفس الحنطة الحمراء

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 525 و 526

ص: 303

بعضا من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف، لا القيمة (1) و لا بعض من صنف آخر (2).

لكن الانصاف (3)

______________________________

و لا دقيقها، و لا حنطة صفراء.

(1) لاختصاص وجوب دفع القيمة بما إذا كان التالف قيميّا، و المفروض كونه مثليّا كالحنطة.

(2) لفرض أنّ مناط المثليّة هو الصنف لا الجنس و لا النوع، فلو كان المضمون دقيقا من الحنطة الحمراء لم تفرغ الذمّة بدفع دقيق حنطة أخرى، لعدم تماثل الحنطتين كما عرفت.

فتحصّل من كلام المصنّف قدّس سرّه أنّه- وفاقا للمحقّق الأردبيلي و غيره- وجّه تعريف المشهور للمثليّ بإرادة تساوي جزئيّات الأصناف، هذا. و سيأتي عدم تماميّة التعريف حتّى بالنظر إلى هذا التوجيه.

(3) أورد المصنّف قدّس سرّه على تعريف المشهور بوجهين، الأوّل: أنّ جعل مدار المثليّة هو الصنف مخالف لظاهر كلمات المشهور، لأنّهم يطلقون المثليّ على الجنس، لا الصنف. فقد عرفت تعريف المثليّ في عبارة المبسوط و تنظيره له بالتمور و الأدهان و الحنطة و الشعير، و ظاهره أنّ كلّ ما يصدق عليه التمر فهو مثليّ، مع كونه على عشرات الأصناف. و هكذا لكلّ من الحنطة و الشعير و الأدهان أقسام كثيرة.

و يترتّب على مثليّة جنس واحد- بماله من الأصناف- كفاية دفع صنف في مقام تفريغ الذمّة المشغولة بصنف آخر. مع أنّه لا ينطبق تعريف المثليّ على الأصناف، لعدم تساوي صنف لجزئيّات صنف آخر قيمة.

و دعوى «توجيه إطلاق المثليّ على جنس الحنطة بلحاظ تساوي أجزاء صنف واحد قيمة، لا بلحاظ تساوي قيمة أفراد كلّ ما يصدق عليه الحنطة، فيتمّ تعريف المشهور حينئذ» ممنوعة، لتوقّفه على الإضمار في التعريف، بأن يقال: «المثليّ

ص: 304

أنّ هذا (1) خلاف ظاهر كلماتهم، فإنّهم يطلقون المثليّ على جنس الحنطة و الشعير و نحوهما، مع عدم صدق التعريف عليه (2). و إطلاق (3) المثليّ على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه و إن لم يكن بعيدا، إلّا (4) أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار (5) بعيد جدّا.

إلّا (6) أن يهملوا خصوصيّات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة و نقصانها،

______________________________

هو ما تساوت أجزاء كلّ صنف من أصنافه، و ما تساوت أجزاء كل نوع من أنواعه» و لا ريب في أنّ الإضمار و التقدير خلاف الأصل، و لا يصار إليه بلا قرينة.

(1) أي: جعل مدار المثليّة على الصنف خلاف ظاهر كلماتهم، لأنّهم يطلقون المثليّ على الجنس لا الصنف.

(2) أي: على الجنس، إذ المفروض صدق التعريف أي تماثل الأجزاء- أي الأفراد- على أفراد الصنف، لا أفراد الجنس. فجعل جنس الحنطة من المثليّات لا وجه له.

(3) مبتدأ خبره جملة «و إن لم يكن بعيدا» و قد أوضحناه بقولنا: «و دعوى توجيه .. إلخ».

(4) هذا استدراك على قوله: «و إن لم يكن بعيدا» و هو جواب الدعوى، و قد عرفته أيضا.

(5) أي: باعتبار مثليّة الأنواع أو الأصناف. وجه البعد: لزوم المسامحة في التعريف، للاحتياج إلى الإضمار، بأن يقال: «ما يتساوى أجزاء أنواعه أو أصنافه» مع عدم البناء على المسامحة في التعاريف.

(6) ظاهر العبارة أنّ غرضه قدّس سرّه توجيه انطباق التعريف المذكور على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه على نحو يسلم عن هذا البعد. لكنّه ليس كذلك، لأنّ هذا الإهمال يوجب كون الإطلاق بلحاظ نفس الجنس لا بلحاظ الأنواع و الأصناف.

ص: 305

كما التزمه بعضهم، غاية الأمر (1) وجوب رعاية الخصوصيّات عند أداء المثل عوضا عن التالف (2) أو القرض، و هذا أبعد (3)، هذا.

______________________________

و لكن الصحيح أنّ قوله: «إلّا أن يهملوا» معادل لقوله قدّس سرّه: «باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه».

فالأولى في تأدية المطلب أن يقال: إنّ إطلاقهم المثليّ على الجنس إن كان باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه من باب توصيف الشي ء بحال متعلّقه، فهو و إن لم يكن بعيدا، إلّا أنّ انطباق التعريف المذكور عليه بهذا الاعتبار بعيد جدّا.

و إن كان باعتبار إهمال الخصوصيّات النوعيّة و الصنفيّة الموجبة لزيادة القيمة و نقصانها و لحاظ جنس الشي ء من حيث هو، فهو و إن كان يقرب معه انطباق التعريف على الجنس بلا مسامحة و لا احتياج إلى الإضمار، بأن يكون المعنى:

ما يتساوى أجزاؤه في القيمة من حيث هو مع قطع النظر عن الأوصاف النوعيّة و الصنفيّة، و إن كانت تتفاوت فيها مع ملاحظتها.

لكن هذا الإهمال بنفسه أبعد، لأنّ مقتضى التعريف للمثليّ حينئذ أنّه لا يجب على الضامن إلّا ما صدق عليه التعريف، فلا معنى لوجوب رعاية الخصوصيّات عند الأداء، و إلّا فلا فائدة في التعريف.

و بالجملة: الغرض من التعريف تشخيص ما يتحقّق بدفعه فراغ الذمّة عمّا اشتغلت به من مال الغير، و من المعلوم دخل القيمة الناشئة من الخصوصيّات الصنفيّة في الضمان، فلا معنى لإهمال الخصوصيات.

(1) يعني: أنّهم أهملوا خصوصيّة مساواة أفراد صنف لأفراد صنف آخر قيمة، و لكن لا بدّ من رعاية خصوصيّة المضمون في مقام تفريغ الذمّة. ففرق بين مقام تعريف المثليّ و بين مقام الأداء.

(2) يعني: في المقبوض بالعقد الفاسد، في قبال ضمان البدل بالقرض.

(3) يعني: أنّ إهمال الخصوصيّات في التعريف أبعد من الإضمار، لأنّ الغرض من تعريف المثليّ تشخيص ما اشتغلت به ذمّة الضامن، فلا وجه لوجوب رعاية

ص: 306

مضافا إلى (1): أنّه يشكل اطّراد التعريف

______________________________

الخصوصيّات عند الأداء، إذ مقتضى مثليّة كلّيّ هو جواز إعطاء أيّ فرد منه أداء لما في الذمّة، من غير ملاحظة الخصوصيّات.

(1) هذا هو الإشكال الثاني على تعريف المثليّ بما في كلام المشهور من «أنّه ما تساوت قيمة أجزائه» بناء على إرادة تساوي أفراد الصنف. و حاصل الاشكال:

أنّ التعريف إمّا غير جامع للأفراد على تقدير، و إمّا غير مانع للأغيار.

توضيحه: أنّ «تساوي أفراد الصنف الواحد قيمة» إن أريد به تساويها فيها بالدّقة- بحيث لا يكون بينها تفاوت في القيمة أصلا- لزم خروج أكثر المثليّات عن التعريف، و ذلك لأنّ أفراد الصّنف الواحد من الأجناس المثليّة و إن كانت متشابهة في جهات، لكنّها تتفاوت في بعض الخصوصيّات الدخيلة في ماليّة السّلعة.

مثلا إذا كان طنّ من الحنطة الحمراء مائة دينار- أي ما يساوي ألف درهم- لم تكن قيمة أوقيّة منها درهما، بل قيمتها أزيد منه، لتفاوت المبيع جملة لقيمته مفردا، فلا يصدق تعريف المثليّ ب «ما تساوت قيمة أجزاء صنف واحد» على الحنطة، مع كونها من أظهر أفراد المثليّ. و هكذا الحال في سائر السّلع و الأمتعة.

و إن أريد بتساوي الأفراد قيمة تقارب قيم الجزئيات- لا تساويها- لم يكن التعريف مانعا للأغيار، لصدق هذا المعنى على كثير من القيميّات، فإنّ أفراد القيميّ و إن لم تتساو في الصفات و الخصوصيّات، إلّا أنّ أسعارها متقاربة، بل ربّما تتساوى.

مثلا: الكتابة و الفطانة و نحوهما من صفات الكمال دخيلة في قيمة الجارية التي لها أنواع كالروميّة و الزنجيّة و التركيّة و غيرها، فيمكن أن تكون الجارية المضمونة روميّة كاتبة، و لكن للضامن دفع جارية تركيّة خدومة و فطنة تساوي تلك في القيمة، فيلزم صدق تعريف المثليّ على الإماء، مع أنّها من أظهر أفراد القيميّ.

و على هذا فتعريف المثليّ إمّا غير جامع للأفراد، و إمّا غير مانع للأغيار، فلا جدوى فيه، و لا بدّ من التماس تفسير آخر له.

ص: 307

- بناء على هذا (1)- بأنّه إن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد من حيث القيمة تساويا حقيقيّا، فقلّما يتّفق ذلك في الصّنف الواحد من النوع، لأنّ أشخاص ذلك الصّنف لا تكاد تتساوى في القيمة، لتفاوتها بالخصوصيّات (2) الموجبة لزيادة الرغبة و نقصانها، كما لا يخفى.

و إن أريد (3) تقارب أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة- و إن لم يتساو حقيقة- تحقّق ذلك في أكثر القيميّات، فإنّ لنوع الجارية أصنافا متقاربة في الصفات الموجبة لتساوي القيمة، و بهذا الاعتبار (4) يصحّ السّلم فيها، و لذا (5) اختار العلّامة في باب القرض من التذكرة [على ما حكي عنه] أنّ ما يصح فيه

______________________________

(1) أي: بناء على اعتبار تساوي أفراد كلّ صنف من أصناف المثليّ، لا تساوي أفراد الطبيعة.

(2) و أقلّ تلك الخصوصيّات بيعها جملة و بمقدار كثير، و بيعها بمقدار قليل كالحقّة و الأوقيّة.

(3) معطوف على قوله: «و إن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد» و هذا إشارة إلى إشكال عدم مانعيّة التعريف عن الأغيار، و قد تقدّم بقولنا: «و إن أريد بتساوي الأفراد قيمة تقارب قيم الجزئيات .. إلخ».

(4) أي: باعتبار تحقّق تقارب صفات أصناف الجارية، الموجبة لتساوي القيمة بمعنى التساوي العرفي المسامحيّ لا الحقيقيّ. و لأجل الاكتفاء بذلك المقدار في رفع الجهالة القادحة في صحّة البيع يصح السّلم فيها. فلو كانت متباعدة الصفات المانعة عن صدق التساوي العرفي- بحيث لم يكتف بذلك في رفع الغرر- لم يصحّ السّلم فيها من جهة الغرر.

(5) أي: و لأجل تحقّق التقارب- الموجب للتساوي العرفيّ في القيميّات- اختار العلّامة أنّ القيميّات التي يصحّ فيها السّلم مضمونة في القرض بمثلها.

فلو لم يتحقق التقارب فيها كيف يحكم بضمان بعضها بالمثل، و المراد منه الفرد الآخر

ص: 308

السّلم من القيميّات مضمون في القرض بمثله».

و قد عدّ (1) الشيخ في المبسوط الرّطب و الفواكه من القيميّات، مع أنّ كلّ نوع منها مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة، بل متساوية عرفا.

______________________________

المماثل للعين المقترضة المتقارب لها في الصفات، بل لا بدّ من الحكم بضمان القيمة فيها مطلقا، لعدم وجود المثل حينئذ.

ففي التذكرة: «مال القرض إن كان مثليّا وجب ردّ مثله إجماعا .. و إن لم يكن مثليّا، فإن كان ممّا ينضبط بالوصف- و هو ما يصحّ السّلف فيه كالحيوان و الثياب- فالأقرب أنّه يضمنه بمثله من حيث الصورة .. و أمّا ما لا يضبط بالوصف كالجواهر و القسيّ و ما لا يجوز السّلف فيه تثبت فيه قيمته» «1».

و هذه العبارة تتكفّل الكبرى، و هي الملازمة بين القرض و بيع السّلم، بإناطة كليهما بكون المال ممّا ينضبط بالوصف. و طبّق هذه الكبرى في عبارة أخرى على الجارية، فقال: «الأموال إمّا من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم، فالأوّل يجوز إقراضه إجماعا. و أمّا الثاني فإن كان ممّا يجوز السّلم فيه جاز إقراضه أيضا .. و هل يجوز إقراض الجواري؟ أمّا عندنا فنعم، و هو أحد قولي الشافعي، للأصل، و لأنّه يجوز إقراض العبيد، فكذا الجواري، و لأنّه يجوز السّلف فيها فجاز قرضها كالعبيد» «2».

و غرض المصنّف قدّس سرّه الاستشهاد به على تحقق تقارب أفراد القيميّ في القيمة، كتقارب أفراد المثليّ، فينتقض تعريف المثليّ بكثير من القيميّات.

(1) غرضه قدّس سرّه الاستشهاد ثانيا على تقارب قيمة القيميّات، فينتقض تعريف المثليّ بها، لاشتراكهما في تقارب أسعار أفرادها. قال شيخ الطائفة قدّس سرّه: «و إن غصب شجرا فأثمرت كالنخل و نحوها، فالثمار لصاحب الشجر .. و إن تلف رطبا فعليه قيمته، لأنّ كلّ رطب من الثمار كالرّطب و التّفاح و العنب و نحوها إنّما تضمن بالقيمة.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 5، السطر 4 الى 9

(2) المصدر، السطر 27 إلى 29

ص: 309

..........

______________________________

و إن كان رطبا فشمّسه فعليه ردّه إن كان قائما، و مثله إن كان تالفا، لأنّ الثمر له مثل» «1».

و لا يخفى أنّه قدّس سرّه جعل الثّمار كالتمور مثليّا على ما نقلناه عنه (في ص 26) و يمكن حمله على ما فصّله هنا بين الثمرة الرّطبة و المجفّفة، فالرّطبة قيميّ، و المجفّفة مثلي. و تحقيق ما هو الحقّ من كلاميه موكول إلى محلّه.

و قد تحصّل: أنّ المصنّف قدّس سرّه اعترض بوجهين على تعريف المثليّ بما في كلام المشهور، و استشهد بعبارتي التذكرة و المبسوط لإثبات الشقّ الثاني من الإيراد الثاني، و هو انتقاض التعريف بكثير ممّا عدّوه قيميّا، لأنّ تقارب قيم أفراد الصنف جهة مشتركة بين المثليّ و القيميّ، كما عرفت.

فإن قلت: لا ينتقض تعريف المثليّ بما ذكر من أفراد القيميّ، و ذلك لأنّ الأفراد المتقاربة أو المتساوية قيمة من كلّ صنف من أصناف المثليّ كثيرة، كالحنطة و الشعير، و أمّا تساوي سعر أفراد صنف من أصناف القيميّ فنادر. فلو سلّمنا دخول بعض القيميّات في تعريف المثليّ لم يقدح ذلك في انطباق التعريف على المثليات، و عدم انطباقه على غالب القيميّات.

قلت: الغرض من التعريف تحديد ما تشتغل ذمّة الضامن به، إمّا المثل أو القيمة، فيلزم تعريف كلّ منهما بما يجمع الأفراد و يمنع الأغيار، و من المعلوم أنّ دخول بعض أفراد القيميّ في تعريف المثليّ قادح في التحديد، و مجرّد قلّة مورد النقض و ندرته لا يوجب سلامة التعريف. لأنّ التعريف مبنيّ على شرح الحقيقة، لا على ما هو الغالب خارجا.

نعم يوجب عزّة الوجود الفرق بين المثليّ و القيميّ في حكمة الحكم بضمان المثل في الأوّل، و ضمان القيمة في الثاني، لا في تشخيص مصاديق أحدهما عن مصاديق الآخر الذي هو المطلوب هنا.

______________________________

(1) المبسوط، ج 3، ص 99 و 100

ص: 310

ثمّ (1) لو فرض أنّ الصّنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيميّة عزيز الوجود- بخلاف الأنواع المثليّة- لم يوجب (2) ذلك إصلاح طرد التعريف.

نعم يوجب ذلك (3) الفرق بين النوعين في حكمة الحكم بضمان المثليّ بالمثل، و القيميّ بالقيمة.

ثمّ إنّه عرّف المثليّ بتعاريف أخر أعمّ من التعريف المتقدّم، أو أخصّ.

فعن التحرير: «أنّه ما تماثلت أجزاؤه، و تقاربت صفاته (4)» «1».

______________________________

(1) هذا إشارة إلى دخل يرد على قوله: «تحقّق ذلك في أكثر القيميّات» و أوضحناه بقولنا: «فان قلت» و هو- كما أفاده سيّدنا الأستاذ قدّس سرّه- من صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «و لا يرد النقض بالثوب أو الأرض، الذي يمكن رفعه بعدم غلبة ذلك- أي التساوي أو التقارب قيمة- فيهما. و فرض بعض الأفراد كذلك لا يناسب اطراد قواعد الشرع» «2».

(2) هذا جواب الشرط في «لو فرض» و هو دفع الدخل المتقدّم، و قد عرفته أيضا.

(3) أي: يوجب عزّة الوجود في تساوي أفراد كلّ صنف من أصناف القيميّ- و كثرة تساوي أفراد كلّ صنف من المثليّ- الفرق بين النوعين في الحكمة الداعية للحكم بضمان المثليّ بمثله، و القيميّ بقيمته. و من المعلوم خروج الجهات التعليليّة عن موضوعات الأحكام، فالعبرة بما أخذ في لسان الدليل. و قد ثبت انطباق تعريف المثليّ على بعض القيميّات، و هذا المقدار كاف في بطلان تعريف المشهور. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بتفسير المثليّ بما تساوت أجزاؤه في القيمة. و قد ظهر الاشكال فيه.

(4) هذا التعريف مساو لتعريف المشهور بناء على توجيهه بتساوي أفراد الصنف لا الجنس، و أخصّ منه بناء على ظاهره من تساويها في الحقيقة النوعيّة.

______________________________

(1) تحرير الأحكام، ج 2، ص 139

(2) نهج الفقاهة، ص 138

ص: 311

و عن الدروس و الرّوضة البهيّة: «أنّه المتساوي الأجزاء و المنفعة (1) المتقارب الصفات» «1».

و عن المسالك و الكفاية: «أنّه أقرب التعريفات إلى السّلامة» «2».

و عن غاية المراد: «ما تساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية» «3» (2).

و عن بعض العامّة «أنّه ما قدّر بالكيل أو الوزن» «4» (3).

______________________________

(1) قال المحقّق القميّ قدّس سرّه- في ما حكي عنه-: «و لعلّ المنفعة في كلامه عطف على القيمة المقدّرة، يعني المتساوي الأجزاء في القيمة و المنفعة. و يمكن أن يكون نظره في زيادة المنفعة إلى إخراج مثل الحنطة و الحمّص معا إذا تساويا في القيمة، و قيل النوع الواحد في تعريف المشهور يكفي عن ذلك، و في زيادة تقارب الصفات إلى ملاحظة الأصناف كما ذكرنا».

و كيف كان فتعريف الدروس أخصّ من سابقه و لا حقه كما لا يخفى.

(2) هذا أعمّ، و هو قريب من تعريف المشهور بناء على إرادة التساوي في الحقيقة، لا في النوع و الصنف. و أمّا بناء على توجيهه بالتساوي في قيمة أفراد الصنف كان تعريف الشهيد قدّس سرّه أعمّ، كأعمّيّته من تعريف الدروس و الرّوضة.

(3) هذا أيضا أعم من تعريف مشهور الخاصّة، لأنّ كثيرا من القيميّات لا تباع جزافا، بل لا بدّ من تقديرها بكيل أو وزن كالفواكه الرّطبة، و الحبوب، و المعاجين.

و لا يخفى أنّ التعاريف الثلاثة المنقولة عن العامّة مشتركة في ضبط المثليّ بالمكيل و الموزون، و يكون اختلافها بالإطلاق و التقييد، فهذا التعريف مطلق، و يشتمل التعريف الثاني و الثالث على قيد زائد.

______________________________

(1) الدروس الشرعية، ج 3، ص 113؛ الروضة البهيّة، ج 7، ص 36

(2) مسالك الأفهام، ج 12، ص 183؛ كفاية الأحكام، ص 257

(3) غاية المراد، ص 135

(4) روضة الطالب، ج 4، ص 108

ص: 312

و عن آخر منهم: «زيادة جواز بيعه سلما» (1).

و عن ثالث منهم: «زيادة جواز بيع بعضه ببعض» (2). إلى غير ذلك ممّا حكاه في التذكرة (3) عن العامّة [1].

______________________________

(1) فيصير أخصّ من تعريف المثليّ ب «مطلق ما يقدّر كمّه بالكيل أو الوزن» لتوقّف بيع السّلم على إمكان ضبط المبيع بالوصف. فما يعتبر فيه المشاهدة كالجلود لا تباع سلما.

(2) كجواز بيع الحنطة بمثلها كيلا أو وزنا، و التمر بمثله، و هكذا. فيندرج فيه كلّ مكيل أو موزون جاز بيعه ببعض آخر من جنسه، و هو صادق على جملة من القيميّات.

(3) قال فيها- بعد حكاية تعريف شيخ الطائفة و التعاريف الثلاثة عن العامّة-: «و قال بعضهم: المثليّات هي التي تقسم بين الشريكين من غير حاجة إلى تقويم ..

و قال آخرون: المثليّ ما لا يختلف أجزاء النوع الواحد منه في القيمة .. و يقرب منه قول من قال: المثليّات هي التي تتشاكل في الخلقة و في معظم المنافع، أو ما يتساوى أجزاؤه في المنفعة و القيمة. و زاد بعضهم: من حيث الذات لا من حيث الصفة .. إلخ» «1» مما لا جدوى في نقله، فراجع.

______________________________

[1] و في حاشية المحقّق الايرواني قدّس سرّه على المتن: «و الأحسن أن يعرّف المثليّ بما تشابهت أفراده و جزئيّاته في الصورة و الصفات، اللازم منه التساوي في الرغبات، اللازم منه التساوي في الماليّة. و على هذا فجنس الحنطة المختلف الأنواع و الأصناف اختلافا فاحشا إن لم يكن مثليّا صادقا عليه التعريف، فأصنافه النازلة مثليّة البتة» «2».

و يمكن أن يقال: إنّ تفريغ ما في الذمّة مقام، و تعريف المثليّ و تمييز كون شي ء

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 381

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 97

ص: 313

______________________________

مثليّا عن كونه قيميّا مقام آخر، لأنّ تفريغ الذمّة إنّما يحصل بأداء ما اشتغلت به من الجهات الكليّة و الشخصيّة الدخيلة في الماليّة. فالمثليّة إنّما تكون بلحاظ الجامع الذي له أفراد كثيرة متماثلة في الصفات التي تختلف بها الرغبات. فكلّ كلّيّ تكثر أفراده المتماثلة في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات الدخيلة في اختلاف المالية يكون مثليّا، و القيميّ بخلافه.

و على هذا فمنتوجات المعامل الحديثة من الفروش و الظروف و غيرهما مما يغلب اتّفاقها في الصفات المختلفة بها الرغبات كلّها مثليّة، لتساويها في المقدار و الهيئة.

و عليه فالذهب و الفضّة المسكوكان و كذا غير المسكوكين- إذا لم يكونا مصوغين- من المثليّات. و أمّا المصوغان فهما من القيميّ، لاختلاف الصياغة في الصفات الموجبة لتفاوت الرّغبات، و اختلاف الماليّة. و كذا الحال في الحديد و النحاس.

و قيل في ضابط المثليّ و القيميّ: إنّ ماليّة الأموال تارة تكون باعتبار الجامع و الجهات الكليّة من دون لحاظ المشخّصات الفرديّة كالحنطة، فإنّ ماليّتها إنّما تكون بالحنطيّة، و الحمرة و الصفرة و غيرها من الجهات الكليّة نظير كتابة زيد لانسانيّته.

و اخرى تكون بلحاظ الجهات الشخصيّة و الخصوصيّات الفرديّة. فالأوّل هو المثليّ، و الثاني هو القيميّ.

و على هذا فالمثليّ هو الكليّ الذي تكون ماليّة أفراده بالجهات الكليّة الجنسيّة أو النوعيّة أو الصنفيّة، بحيث لا دخل للخصوصيّات الشخصيّة في ماليّتها.

و لعلّه يرجع إلى هذا التعريف ما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه بقوله: «فالأولى تعريفه بما كثر أفراده التي لا تفاوت فيها بحسب الصفات المختلفة بحسب الرغبات» «1». و القيميّ بخلافه كالفرس، فإنّ مناط ماليّته هي الجهات الشخصيّة.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ص 35

ص: 314

ثمّ (1) لا يخفى أنّه ليس للفظ المثليّ حقيقة شرعيّة و لا متشرّعيّة. و ليس

______________________________

(1) هذا تتمّة البحث عن معنى المثليّ، و تمهيد لبيان حكم الشك في كون المضمون مثليّا أو قيميّا. و توضيحه: أنّ تعرّض الفقهاء لتفسير المثلي و القيميّ منوط بوقوع لفظهما موضوعا لحكم شرعيّ في لسان الدليل، كموضوعيّة «الصعيد» لجواز التيمّم به، و موضوعيّة «المفازة و الوطن و الغناء» لأحكام اخرى، فلو لم يتعلّق به حكم لم يكن شأن الفقيه تحقيق معنى اللفظ. هذا بحسب الكبرى.

و أمّا بحسب الصغرى فلم يرد لفظ «المثليّ» في نصوص الضمان حتى يبحث عن مفهومه. فالداعي لبيان معناه هو الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل، فيلزم حينئذ تعريفه لتمييز المضمون، و أنّه مثليّ أو قيميّ.

و على هذا نقول: إمّا أن يكون «المثليّ» بمعناه اللغوي و هو المماثل و «الشبيه» «1» و إمّا أن يكون منقولا عن اللغة إلى معنى آخر شرعيّا أو متشرعيّا، كنقل ألفاظ الصلاة و الزكاة و الحجّ و نحوها عن معانيها اللغويّة إلى ما ينسبق إلى أذهان المتشرّعة. و إمّا أن يكون بمعناه العرفيّ، و هو أعمّ من اللغويّ. هذا بحسب الثبوت.

______________________________

فما تنتجها المعامل الحديثة يكون مثليّا، لأنّ ماليّته بجهاته الكلّيّة، مثل كون الظرف المنتج فيها من القسم الكذائيّ. و كذا الذهب و الفضة المسكوكان و غير المسكوكين قبل الصياغة. و أمّا بعدها فإن كانت مصنوعة في المعامل فهي مثليّة أيضا، لتساوي أفراد كلّ صنف منها في الوزن و عيار الذهب. و إن كانت مصوغة باليد كانت قيميّة، لاختلاف الصياغة في الصفات الموجبة لتفاوت الرّغبات و اختلاف الماليّة.

و إن أمكن جعلها مثليّة أيضا، لإمكان صوغ أسورة عديدة متساوية وزنا و قدرا.

هذا كلّه إذا أحرز كون المضمون مثليّا أو قيميّا. و أمّا إذا شكّ فيه، فسيأتي البحث عنه في آخر هذا الأمر الرابع إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1) المصباح المنير، ص 563

ص: 315

المراد معناه اللغوي، إذ (1) المراد بالمثل لغة المماثل [1]. فإن أريد من جميع الجهات فغير منعكس (2)، و إن أريد من بعضها فغير مطّرد (3). و ليس (4) في النصوص

______________________________

و أمّا بحسب مقام الإثبات فلا يراد منه المعنى اللغويّ و هو المماثل، لما تقدّم من الإشكال الثاني على تعريف المشهور، حيث إنّه غير جامع لأفراد المثليّ لو أريد التماثل من جميع الجهات، و غير مانع عن دخول بعض القيميّات فيه لو أريد التماثل من بعض الجهات.

و أمّا المعنى الثاني- و هو نقله إلى اصطلاح شرعيّ أو متشرّعيّ- ففيه: أنّه لا حقيقة شرعيّة و لا متشرّعيّة في مثله.

فيتعيّن إرادة معناه العرفي بأن يقال: إنّ الفقهاء بصدد بيان مفهومه عرفا.

نعم اختلف المجمعون في مثليّة جملة من الأشياء، و القاعدة تقتضي الحكم بضمان المثليّ بمثله إذا كانت مثليّته متفقا عليها، و الرجوع في الأمور المختلف فيها إلى وجه آخر سيأتي بيانه.

(1) تعليل لعدم إرادة معنى «المثل» لغة في مبحث الضّمان.

(2) يعني: فغير منطبق على أفراد المعرّف، بمعنى عدم كونه جامعا لأفراده.

(3) أي: غير مانع عن دخول أفراد القيميّ في التعريف.

(4) هذا إشارة إلى الكبرى المتقدّمة بقولنا: «و توضيحه: أنّ تعرّض الفقهاء .. إلخ»

______________________________

[1] هذا خلط بين المثل الذي هو مباين للمال التالف، و بين المثليّ الذي هو كلّيّ ينطبق عليه و يصحّ حمله عليه بالحمل الشائع، و كلامنا في الثاني الذي عرّف بتعاريف.

و المثل بالمعنى الأوّل موضوع لأداء ما في الذمّة، لصدق الأداء الرافع للضمان عليه، لكونه الفرد المماثل للتالف من جميع الجهات الدخيلة في ماليّة التالف. و لم يتصدّ أحد لتعريفه و إن تصدّوا لتعريف المثليّ الذي هو الكليّ. و الإشكالات الطّرديّة و العكسيّة واردة على تعريف المثليّ، لا تعريف الفرد المماثل للتالف.

ص: 316

حكم يتعلّق بهذا العنوان حتى يبحث عنه.

نعم (1) وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على «أنّ المثليّ يضمن بالمثل و غيره بالقيمة» و من المعلوم أنّه لا يجوز الاتّكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين (2). و حينئذ (3) فينبغي أن يقال: كلّما كان مثليّا باتفاق المجمعين فلا إشكال في ضمانه بالمثل، للإجماع [1]. و يبقى ما كان مختلفا فيه بينهم كالذهب و الفضة غير المسكوكين. فإنّ صريح الشيخ في المبسوط كونهما من القيميّات (4)،

______________________________

و كان المناسب تقديم الوجه الداعي لهذا البحث المفصّل عن معنى المثليّ.

(1) استدراك على ما يفهم من قوله: «و ليس في النصوص ..» يعني: أنه و إن لم يرد لفظ المثليّ في الأخبار، لكنّه ورد في دليل تعبّديّ آخر و هو الإجماع.

(2) سيأتي في المتن ذكر بعض موارد اختلاف الفقهاء في المثليّة و القيميّة، مع اتّفاقهم على أصل الحكم و هو ضمان المثليّ بالمثل.

(3) أي: و حين عدم جواز الاتكال- في تشخيص صغريات المثليّ- على قول بعض المجمعين فينبغي أن يقال .. إلخ. و قد ذكر المصنّف من موارد المختلف في مثليّتها و قيميّتها أمورا أربعة ستأتي في المتن.

(4) قال قدّس سرّه فيه: «و أمّا إذا كان- أي التالف- من جنس الأثمان لم يخل من أحد أمرين، إمّا أن يكون ممّا فيه صنعة، أو لا صنعة فيه، فإن كان ممّا لا صنعة فيه- و هو

______________________________

[1] ظاهر هذه العبارة و قوله: «و حينئذ فينبغي أن يقال .. إلخ» أنّ مثليّة بعض الأموال و قيميّة الآخر تعبّديّة، فلا بدّ من الرجوع إلى الدليل الشرعيّ في تعيينه و هو الإجماع بالنسبة إلى بعض الموارد. و الظاهر أنّه ليس كذلك، لأنّ المثليّة و القيميّة من الموضوعات العرفيّة التي يرجع فيها إلى العرف، فإتّفاق المجمعين في بعض الموارد، و اختلافهم في الآخر إنّما هو من حيث كونهم من أهل العرف، لا من حيث إنّهم من أهل الشرع. هذا ما قيل، فتأمل فيه.

ص: 317

و ظاهر غيره (1) كونهما مثليّين. و كذا الحديد و النحاس و الرصاص، فإنّ ظواهر عبارة المبسوط (2) و الغنية و السرائر كونها قيميّة. و عبارة التحرير «1» صريحة في كون أصولها مثلية، و إن كان المصوغ منها قيميّا.

______________________________

النقرة- فعليه قيمة ما أتلف من غالب نقد البلد .. فأمّا إذا كان فيها صنعة، لم يخل من أحد أمرين، إمّا أن يكون استعمالها مباحا أو محظورا. فإن كان استعمالها مباحا كحليّ النساء و حليّ الرّجال مثل الخواتيم و المنطقة .. فإن كان غالب نقد البلد من غير جنسها قوّمت به .. إلخ» «2». و المستفاد منه تقويم الذهب و الفضّة بنقد البلد، سواء كانا سبيكتين، أم مصوغتين.

(1) كابن إدريس و المحقّق و العلّامة و فخر الدين و الشهيد و المحقّق الثاني، على ما حكاه عنهم السيد الفقيه العاملي قدّس سرّهم، ذكر ذلك شارحا لقول العلامة: «و الذهب و الفضة يضمنان بالمثل، لا بنقد البلد» «3».

(2) قال فيه: «فإن كان- أي التالف- من غير جنسها- أي جنس الأثمان- كالثياب و الخشب و الحديد و الرصاص و النحاس و العقار و نحو ذلك من الأواني كالصّحاف و غيرها فكلّ هذا و ما في معناه مضمون بالقيمة» «4».

و في التذكرة أيضا، حيث قال بعد ذكر عديد من الأشياء: «و الأظهر عندهم أنّها بأجمعها مثليّة» «5». و كلامه قدّس سرّه ناظر إلى أصولها- كما نسبه المصنّف إليه في التحرير- لا المصنوع منها.

______________________________

(1) تحرير الأحكام، ج 2، ص 139

(2) المبسوط، ج 3، ص 60 و 61

(3) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 258؛ تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 384

(4) المبسوط، ج 3، ص 60؛ غنية النزوع، ص 537، السطر 13؛ السرائر الحاوي، ج 2، ص 480

(5) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 381، السطر 31

ص: 318

و قد صرّح الشيخ (1) في المبسوط «1» بكون الرّطب و العنب قيميّا، و التمر و الزبيب مثليّا.

و قال في محكيّ المختلف: «إنّ (2) في الفرق إشكالا» بل (3) صرّح بعض من قارب عصرنا «2» «بكون الرّطب و العنب مثليّين».

و قد حكي (4) عن موضع من جامع المقاصد: «أنّ الثوب مثليّ» و المشهور خلافه.

و أيضا (5) فقد مثّلوا للمثليّ بالحنطة و الشعير. و لم يعلم أنّ المراد نوعهما

______________________________

(1) تقدّم نقل كلامه آنفا، فراجع. و هذا ثالث موارد الاختلاف.

(2) قال بعد نقل كلام الشيخ قدّس سرّه: «و في الفرق إشكال» «3».

(3) الوجه في الإضراب هو: أنّ العلّامة لم يجزم بمثلية الرّطب و العنب، و إنّما استشكل في الفرق بين العنب و الزبيب بجعل العنب قيميّا و الزبيب مثليّا. و أمّا المحقّق القميّ قدّس سرّه فلم يتردّد في مثليّة الرّطب و العنب، فيكون مخالفا لشيخ الطائفة قدّس سرّه.

(4) هذا مورد رابع ممّا اختلفوا في كونه مثليّا أو قيميّا، قال المحقّق الثاني قدّس سرّه بعد نقل تعريف المبسوط: «و نقض بالثوب و نحوه، فإنّ قيمة أجزائه متساوية، و ليس بمثليّ» «4». و لم يظهر أنّ النقض بالثوب منه أو من غيره من الفقهاء.

(5) لم يختلفوا في كون الحنطة و الشعير مثليّين، فغرض المصنف قدّس سرّه أنّهما و إن كانا متيقّنين من المثليّات، إلّا أنّه لم يظهر منهم أنّ المثليّة هل هي ملحوظة بالنسبة إلى أفراد طبيعة نوعيّة كالحنطة مثلا، فأنواعها و أصنافها أفراد الكلّيّ المثليّ؟ أم أنّها

______________________________

(1) المبسوط، ج 3، ص 60 و 99 و 100

(2) هو المحقّق القمي في جامع الشتات، ج 2، ص 543 و 544

(3) مختلف الشيعة، ج 6، ص 135

(4) جامع المقاصد، ج 6، ص 243 و 244، و الحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 241

ص: 319

أو كلّ صنف (1)، و ما المعيار في الصنف؟ و كذا التمر.

[حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا]

و الحاصل: أنّ موارد عدم تحقّق الإجماع على المثليّة فيها كثيرة (2)، فلا بدّ (3)

______________________________

ملحوظة بالنسبة إلى الأصناف، فكلّ صنف مثليّ بالنسبة إلى خصوص جزئيّاته، لا بالنسبة إلى سائر الأصناف. و هل المراد بتساوي الأجزاء في القيمة تساويها من جميع الجهات أو من بعضها؟

(1) حيث إنّ للتمر عشرات الأصناف، فهل مناط مثليّته صدق الحقيقة، أم النوع.

(2) كالأراضي، فقد اختلفوا في ضمانها بالمثل أو بالقيمة.

حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا

(3) هذا شروع في المقام الثالث ممّا تعرّض له في الأمر الرابع، و هو حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا. و كان المناسب بيان الأدلة على أصل اعتبار المثل، ثم التعرض لحكم الشك. و قد اقتصر قدّس سرّه على نقل إجماعهم على الحكم، و أخّر الوجهين الآخرين.

و كيف كان ففي تردّد المضمون بين المثليّ و القيميّ وجوه أربعة:

أوّلها: الضمان بالمثل معيّنا.

ثانيها: الضمان بالقيمة كذلك.

ثالثها: تخيير الضامن بين المثل و القيمة.

رابعها: تخيير المالك بينهما.

و اضطربت كلمات المصنّف قدّس سرّه في حكم المسألة، فرجّح أوّلا تخيير الضامن بين دفع المثل و القيمة، ثم تخيير المالك لو كان تخيير الضامن مخالفا للإجماع. ثم قوّى تخيير المالك من أوّل الأمر. ثم عاد إلى تقوية تخيير الضامن، و في آخر البحث ذهب إلى اقتضاء أدلة الضمان ثبوت المثل في العهدة، لكونه أقرب إلى التالف، و سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 320

من ملاحظة أنّ الأصل (1) الذي يرجع إليه عند الشك هو الضمان بالمثل أو بالقيمة أو تخيير المالك أو الضامن بين المثل و القيمة؟

و لا يبعد أن يقال (2): إنّ الأصل هو تخيير الضامن، لأصالة (3) براءة ذمّته

______________________________

(1) ظاهره هو الأصل العمليّ من البراءة أو الاشتغال، لكن المراد به أعمّ منه و من الأصل اللفظيّ، لما سيأتي من الاستدلال بحديث «على اليد» على تخيير المالك.

(2) أشرنا آنفا إلى أنّ المصنّف قدّس سرّه رجّح بدوا تخيير الضامن في مقام تفريغ ذمّته بين أداء المثل و القيمة. و هو مبنيّ على أمرين:

أحدهما: جريان أصالة البراءة عن ضمانه بأمر زائد على ما يختاره.

ثانيهما: الإجماع- بل الضرورة- على عدم وجوب الجمع بين المثل و القيمة.

أمّا الأوّل فتوضيحه: أنّ الضامن يعلم باشتغال ذمته بما تلف عنده من مال الغير، و لكنّه- عند الشكّ في كون التالف مثليّا و قيميّا- إذا أدّى أحدهما إلى المالك يشكّ في اشتغال عهدته بأمر زائد على ما أدّاه، و من المعلوم جريان أصالة البراءة النافية لضمانه بشي ء آخر. فإن دفع المثل نفى ضمانه بالقيمة بالأصل. و إن دفع القيمة نفى به ضمانه بالمثل.

هذا بناء على ما حقّق في الأصول من جريان الأصل في الأحكام الوضعيّة كجريانه في التكليفيّة. و إن قلنا باختصاص الجعل بالتكليف جرى الأصل في منشأ الانتزاع و هو وجوب الغرامة.

و أمّا الثاني فلأنّه لولا الإجماع على عدم وجوب الجمع بين الخصوصيّتين اقتضت أصالة الاشتغال دفع المثل و القيمة معا تحصيلا للقطع بالفراغ.

و بتماميّة الأمرين يتّضح وجه تخيير الضامن.

(3) بناء على كون الفرق بين المثل و القيمة هو الفرق بين الأقلّ و الأكثر، فيكون الشك في وجوب المثل شكّا في وجوب الأكثر. و أمّا بناء على كونهما من قبيل المتباينين- لكون المراد من القيمة في المقام النقد الواقع ثمنا كالدينار و الدرهم-

ص: 321

عمّا زاد على ما يختاره. فإن فرض (1) إجماع على خلافه

______________________________

فيرجع عند الشك في أحدهما بعينه إلى أصالة الاحتياط.

(1) شرع المصنّف من هذه العبارة في ترجيح تخيير المالك بين مطالبة المثل أو القيمة، و سلك لإثباته طريقين، أحدهما: بالنظر إلى الإجماع على عدم تخيير الضامن في مقام تفريغ ذمّته، و الآخر: مع قطع النظر عن هذا الإجماع.

أمّا الأوّل- و هو تخيير المالك مع الالتفات إلى الإجماع- فيدلّ عليه وجهان:

أوّلهما: أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك، كما إذا زعم الضامن كونه مخيّرا، فأدّى القيمة إلى المالك، و لم يرض بها، إذ يشك حينئذ في فراغ ذمّة الضامن عمّا اشتغلت به قطعا، و مقتضى استصحاب بقاء ما في العهدة عدم حصول البراءة بدفع ما يختاره الضامن و لم يرض به المالك. و قد تقرّر حكومة الاستصحاب على الأصل غير المحرز كالبراءة، فلا سبيل لإثبات تخيير الضامن بالتمسّك بأصالة البراءة.

ثانيهما: حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» حديث إنّ الضمير المحذوف الراجع إلى «ما» الموصول ظاهر في تحقق الأداء- المسقط للضمان- بردّ نفس العين، إلّا إذا رضي المالك بردّ غيرها، فلا يرتفع الضمان بردّ غير العين إلّا برضا المالك، و مرجع هذا إلى تخيير المالك. فلو أدّى الضامن القيمة المغايرة للعين المضمونة- و لم يرض المالك بها- دلّ الحديث على بقاء مال الغير في عهدة الآخذ، و عدم حصول الغاية- و هي: حتّى تؤدّي- المفرّغة لما في الذمّة.

و أمّا الثاني:- أعني به ثبوت تخيير المالك مع الغضّ عن الإجماع على عدم تخيير الضامن- فيقتضيه أصالة الاشتغال، للشكّ في فراغ ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك. و لا ريب في أنّ الاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة المنوطة بدفع المثل و القيمة معا. نعم الإجماع قائم على عدم وجوب الجمع بينهما.

و لكنّه لا يثبت تخيير الضامن، و إنّما يثبت تخيير المضمون له، لأنّه مالك لذمّة

ص: 322

فالأصل (1) تخيير المالك، لأصالة عدم (2) براءة ذمّته بدفع ما لا يرضى به المالك.

______________________________

الضامن، فله مطالبة ما شاء.

فإن قلت: إنّ أصالة البراءة معارضة لقاعدة الاشتغال، فتتساقطان، لكونهما في رتبة واحدة، فلا يبقى مرجّح لتخيير المالك من أوّل الأمر، و ينتهي الأمر إلى الطريق الأوّل المنوط بالاعتماد على الإجماع على عدم تخيير الضامن.

قلت: لا معارض لأصالة الاشتغال هنا، لعدم جريان أصالة البراءة في أمثال المقام ممّا يكون المتعلّق دائرا بين المتباينين، و هما المثل و القيمة، إذ لو كانت القيمة هي مجرّد ماليّة المضمون الموجودة في جميع الأعيان المتمولّة كانت هي الأقلّ، و كان المثل الواجد للجهات الصنفيّة المشتركة مع التالف هو الأكثر، فيكون المقتضي لجريان أصالة البراءة عن وجوب دفع الأكثر موجودا، و هي معارضة لقاعدة الاشتغال المقتضية لتخيير المالك.

و لكن المراد بالقيمة في باب الضمان هو النقد الواقع ثمنا كالدرهم و الدينار و الأنواط التي يعامل بها. و من المعلوم أنّ المثل و النقد متباينان، لعدم كون القيمة بعضا من المثل حتى تجري أصالة البراءة عن الأكثر، كما تجري في الزائد على المتيقّن عند دوران الدّين بين تسعين و مائة درهم مثلا.

و عليه فقاعدة الاحتياط تجري بلا معارض، و بعد الإجماع على عدم وجوب أداء الخصوصيّتين يتّجه تخيير المالك في قبول المثل أو القيمة. هذا تقريب القول بتخيير المالك.

(1) هذا الأصل أعمّ من العمليّ و اللفظيّ، لأنّه استدلّ بحديث «على اليد» و هو دليل اجتهاديّ.

(2) أي: استصحاب بقاء المضمون على عهدة الضامن، و قد عرفته بقولنا:

«أوّلهما: أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك .. إلخ».

ص: 323

مضافا إلى عموم (1) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإنّ مقتضاه (2) عدم ارتفاع الضمان بغير أداء العين، خرج ما إذا رضي المالك بشي ء آخر (3).

و الأقوى (4) تخيير المالك من أوّل الأمر (5)، لأصالة الاشتغال.

و التمسّك (6) «بأصالة البراءة» لا يخلو من منع (7).

نعم يمكن أن يقال (8):

______________________________

(1) هذا أصل لفظيّ يقتضي تخيير المالك. و قد أوضحناه بقولنا: «ثانيهما:

حديث- على اليد- حيث إن الضمير .. إلخ».

(2) أي: مقتضى عموم «على اليد» عدم ارتفاع الضمان .. إلخ.

(3) و بقي- ما لم يرض المالك به- في عموم «على اليد» المقتضي للضمان بقاء، كاقتضائه له حدوثا بمجرّد وضع اليد.

(4) هذا هو الطريق الثاني لإثبات تخيير المالك، و قد عرفته بقولنا: «و أمّا الثاني .. فيقتضيه أصالة الاشتغال .. إلخ».

(5) يعني: مع قطع النظر عن الإجماع على عدم تخيير الضامن.

(6) مبتدأ خبره «لا يخلو من منع» و هو دفع دخل، و قد تقدّم توضيحهما بقولنا: «فإن قلت: إن أصالة البراءة معارضة لقاعدة الاشتغال .. قلت: لا معارض لأصالة الاشتغال .. إلخ».

(7) إمّا لما ذكرناه من كون العلم الإجماليّ بالمثل و القيمة من قبيل العلم الإجماليّ بالمتباينين، و إمّا لما قيل من كونه من التعيين و التخيير الذي هو مجرى أصالة التعيينيّة، فتأمّل.

(8) هذا نظره الثالث في المسألة، و هو إثبات التخيير بين المثل و القيمة عقلا بمناط دوران الأمر بين المحذورين، لا التخيير الشرعيّ كما تقدّم في النظرين السابقين، و هما تخيير الضامن و تخيير المالك.

و هذا الوجه يعتمد على مقدّمتين:

ص: 324

..........

______________________________

الأولى: عدم تماميّة شي ء من الأقوال الأربعة، و هي تعيين المثل، و تعيين القيمة، و تخيير الضامن، و تخيير المالك، إذ لو نهض دليل على ترجيح أحدها تعيّن المصير إليه، سواء أ كان الدليل الشرعي أصلا لفظيّا كحديث «على اليد» أم عمليّا كالاستصحاب و الاشتغال و البراءة. فإذا نوقش فيها- إمّا لقصور المقتضي و إمّا لوجود المانع و هو المعارضة- تصل النوبة إلى تعيين الوظيفة بحكم العقل.

الثانية: قيام الإجماع على عدم تخيير المالك بين مطالبة المثل و القيمة، إذ لو تمّ هذا الإجماع كان الدليل الاجتهاديّ على تخييره شرعا موجودا، و معه لا مجال للتمسك بالأصل العمليّ العقليّ المتأخّر رتبة عن الأصول الشرعيّة.

و بناء على هاتين المقدّمتين نقول: إنّ المستقرّ في عهدة الضامن إمّا المثل أو القيمة، فإن رضي المالك بما يؤدّيه الضامن فلا كلام. و إن لم يرض به فإن كانت الذمّة مشغولة بالمثل واقعا و دفع القيمة إلى المالك لم تفرغ ذمّته عمّا اشتغلت به. و إن كانت مشغولة بالقيمة كذلك و أدّى المثل لم تفرغ ذمّته. كما أنّه لو كان على الضامن هو المثل لم يكن للمالك الامتناع عن قبوله، و ليس له مطالبة القيمة، و كذا لو كان عليه القيمة لم يكن للمالك الإباء عن قبولها.

فيدور أمر كلّ من الضامن و المالك بين المحذورين. أمّا الضامن فلأنّ ما عليه واقعا إحدى الخصوصيّتين مع فرض عدم وجوب الجمع بينهما.

و أمّا المالك فلاستحقاقه واقعا أحد الأمرين لا كليهما، و لا تخيير شرعا بينهما حسب الفرض. فيقال بالتخيير عقلا من باب الاضطرار. كما يقال في تخيير المجتهد في مقام الفتوى في ما لو اختلفت الأمّة على قولين، و لم يقم على أحدهما دليل بالخصوص، و لم يجز إبداع رأي ثالث في المسألة، فيتخيّر عقلا في الفتوى على

ص: 325

- بعد عدم الدليل لترجيح أحد الأقوال (1)، و الإجماع (2) على عدم تخيير المالك- بالتخيير (3) في الأداء، من جهة دوران الأمر بين المحذورين [1] أعني (4): تعيّن المثل بحيث لا يكون للمالك مطالبة القيمة، و لا للضامن الامتناع (5)،

______________________________

طبق أحد القولين، هذا.

(1) هذا إشارة إلى المقدّمة الأولى. و عدم ترجيح بعض الأقوال مبنيّ على الغضّ عمّا جعله أقوى من تخيير المالك.

(2) بالجرّ معطوف على «عدم» يعني: و بعد الإجماع على عدم تخيير المالك.

و هذا إشارة إلى المقدّمة الثانية.

(3) متعلق ب «يقال» يعني: يقال بالتخيير العقليّ.

(4) هذا بيان المحذورين. فإن كان المضمون خصوص المثل وجب على الضامن بذله، و لم يجز للمالك الامتناع عن قبوله. و إن كان المضمون خصوص القيمة وجب على الضامن أداؤها و لم يجز للمالك مطالبة المثل. و حيث إنّ الواقع مجهول لم يمكن تحصيل العلم ببراءة الذمّة، فيحكم العقل بالتخيير بين أداء المثل و القيمة.

(5) أي: الامتناع عن بذل المثل.

______________________________

[1] فيه: أنّ المقام أجنبيّ عن الدوران بين المحذورين اللذين يحكم فيه العقل بالتخيير، و ذلك لأنّه إنّما يكون في أمرين لا يمكن فعلهما و لا تركهما، كدوران الأمر بين وجوب شي ء و حرمته، أو وجوب شي ء و وجوب ضده، في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما كالحركة و السكون. و ليس المقام كذلك، لإمكان تحصيل اليقين بالبراءة بدفع المثل و القيمة إلى المالك، ليأخذ المالك ما شاء منهما، و إن لم يخرجا عن ملكه بمجرّد الدفع.

و مع إمكان تحصيل اليقين بالبراءة بهذا النحو لا تصل النوبة إلى القرعة.

ص: 326

و تعيّن (1) القيمة كذلك (2)، فلا متيقّن (3) في البين. و لا يمكن (4) البراءة اليقينيّة عند التّشاحّ (5)، فهو (6) من باب تخيير المجتهد في الفتوى.

______________________________

(1) معطوف على «تعيّن المثل» يعني: أنّ منشأ كون المقام من موارد الدوران بين المحذورين هو تعيّن أحد الأمرين واقعا، و المفروض عدم طريق إلى إحرازه.

(2) يعني: بحيث لا يكون للمالك مطالبة المثل، و لا للضامن الامتناع عن بذل القيمة.

(3) إذ ليس المثليّ و القيميّ من قبيل الأقلّ و الأكثر حتى يكون الأقل هو المتيقن، بل هما متباينان، فلا تجري البراءة في المثليّة.

(4) لكونهما متباينين. و عدم الاحتياط في الماليّات، فالمضمون له لا يستحقّ واقعا إلّا أحدهما.

(5) بأن لا يأذن الضامن إلّا بقبض ما عليه واقعا، و لا يرضى المالك أيضا إلّا بما له واقعا، و المفروض جهلهما بالواقع، فلا يمكن تحصيل اليقين بالبراءة.

(6) حيث إنّ الضامن يدور أمر أدائه بين المحذورين، إجزاء المثل بخصوصه، و القيمة كذلك، لعدم القدر المتيقّن الذي تحصل به البراءة، فيتخيّر الضامن حينئذ. نظير تخيير المجتهد في الفتوى بما يختاره من المحذورين اللذين دار أمره بينهما، كما إذا قام عنده خبران متعارضان أحدهما يأمر بفعل و الآخر ينهى عنه، فإن كان الخبر الآمر صادرا واقعا وجبت الفتوى بمضمونه و لم تجز الفتوى بالحرمة. و إن كان الخبر الناهي صادرا وجبت الفتوى بالحرمة و حرمت الفتوى بالوجوب.

و حيث إنّ المفروض تردّد الصادر واقعا بين الخبرين فقد تردّد الأمر عنده بين الوجوب و الحرمة، فلا محالة يفتي بمضمون أحدهما، هذا.

ص: 327

فتأمّل (1) [1] هذا.

______________________________

(1) لعلّه إشارة إلى: أنّ تخيير المجتهد إنّما هو في تعارض الخبرين دون مثل المقام.

أو إلى: أنّ التخيير منوط بعدم ترجيح لأحد الأقوال، و المفروض وجود المرجّح لتخيير المالك من أوّل الأمر، فلا وجه لتنظيره بتخيير المجتهد.

______________________________

[1] إذا شكّ في كون مال مثليّا أو قيميّا لأجل الشبهة المفهوميّة فهل الأصل يقتضي تعيّن المثل أو القيمة أو تخيير الضامن أو المالك؟ احتمالات. قد عرفت في التوضيح مبانيها.

و قبل بيان الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه عند الشك في المثليّة و القيميّة لا بدّ من تقديم مقدّمتين نافعتين في جميع موارد الضمانات.

إحداهما: أنّ القيميّ و المثليّ من المتباينين أو الأقلّ و الأكثر. فإن أريد بالقيمة مطلق الماليّة السارية في جميع الأموال كانا من قبيل الأقلّ و الأكثر، لأنّ المثليّ حينئذ مال خاصّ علاوة على الماليّة المشتركة بين سائر الأموال، فتكون المثليّة خصوصيّة زائدة على المالية المشتركة.

و إن أريد بالقيمة خصوص ما هو المرتكز في الأذهان و المتسالم عليه من النقود الرائجة التي تقدّر بها ماليّة الأموال و تتمحض في الماليّة كانا من المتباينين. و ربّما يكون هذا ظاهر كلام اللغويّين.

ثانيتهما: أنّ الذمّة في باب الضمانات هل تشتغل بنفس الأعيان، بمعنى كون نفس العين على عهدة الضامن مطلقا من غير فرق في ذلك بين ضمان اليد و الإتلاف، و يكون أداء المثل أو القيمة أداء لها، لأنّه حكم العرف، فإنّهم يحكمون بضمان المثل في المثلي و القيمة في القيميّ، إذ لو كان له مثل عادة لا يعدّ إعطاء غيره أداء لها؟ أم تشتغل الذمّة بالمثل مطلقا، و يكون أداء القيمة بتعذّره نحو أداء له، أو بدلا اضطراريّا، أم تشتغل ابتداء في المثليّ بالمثل، و في القيميّ بالقيمة مطلقا كما نسب إلى المشهور، أم تشتغل بالقيمة مطلقا حتّى في ضمان اليد. أم يفصّل بين ضمان اليد و غيره.

ص: 328

______________________________

قد يقال: لو بني على المتعارف و تنزيل الإطلاقات الواردة في الضمان عليه كان مقتضى ذلك ضمان الماليّة مطلقا و ليست الخصوصيّات العينيّة ملحوظة في نظر العرف إلّا عبرة إلى مرتبة ماليّة المال، و لذا لو سقط المثل عن الماليّة لم يلتفتوا إليه أصلا.

و لا يرون دفعه تداركا. و كذا لو زاد في الماليّة لا يرون المالك مستحقّا لأزيد من قيمة ماله.

و بالجملة: ليس النظر في الأموال إلّا إلى ماليّتها. بل لو كانت خصوصيّة مال مطلوبة كان ذلك لأمر خارجيّ غير دخيل في حيثيّة الضمان. و إنّما يدور الضمان مدار التمول في أي عين كان بلا خصوصيّة للنقدين، و لا للمماثل و لا لغيرهما.

و هذا في غاية الغرابة، إذ لازمه ارتفاع الضمان بجبران الماليّة بأيّ مال كان، فلو أتلف منّا من حنطة زيد، و دفع إليه مقدارا من الدهن يساوي قيمة منّ الحنطة- و إن لم يرض به المالك- لزم منه براءة ذمّة الضامن، و هو كما ترى خلاف ما عليه العقلاء في باب الضمانات، إذ لا يرون هذا أداء لما أتلفه، فإن العقلاء كما يحكمون بأصل الضمان كذلك يحكمون بكيفيّته. فدعوى كون الضمان مطلقا بالماليّة- من دون رعاية الخصوصيّات الدخيلة في الرغبات و الماليّة- في غاية الغرابة.

فالحقّ أن يقال: إنّ حكم العقلاء في باب الضمانات هو ثبوت نفس العين التالفة المضمونة على عهدة الضامن، فالاستيلاء على العين الموجب للضمان يوجب ثبوتها في الذمّة. و هذا وجود اعتباريّ للعين، فبدون التلف يكون خروجه عن عهدتها بدفع عينها إلى مالكها، و مع التلف يكون أداؤها بإعطاء مماثلها إن كان مثليّا، و قيمتها إن كان قيميّا. و ثمرة ثبوت العين في الذمة هو كون المدار في القيميّة قيمة يوم الأداء لا يوم التلف.

و هذا- أي ثبوت نفس العين في الذمّة إلى وقت الأداء- ممّا تقتضيه الأدلّة الشرعية أيضا كحديث «على اليد» فإنّ ظاهره كون نفس المأخوذ على الآخذ و مستعليا

ص: 329

______________________________

عليه كما هو قضيّة كلمة على الاستعلائيّة، حيث إنّ الظرف مستقرّ متعلّق بفعل من أفعال العموم، فكأنّه قيل: المأخوذ ثابت على الآخذ، فالثابت على العهدة محمول على نفس المأخوذ، نظير قوله تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ حيث إنّ الرّزق بنفسه ثابت على المولود له، و جعل شي ء على شخص ظاهر في كونه على عهدته، و لذا استظهر الأصحاب من هذه الآية المباركة ملكيّة النفقة للزوجة، و التفصيل في محله.

و بالجملة: لا مانع من جعل شخص المأخوذ على العهدة اعتبارا كما في الكفالة، فإنّ الشخص المكفول يكون على عهدة الكفيل اعتبارا، فإن كانت العين موجودة كان أداؤها بنفسها، و إن كانت تالفة كان أداؤها بما هو أقرب إليها. و لا يعارضها سائر أدلّة الضمانات كآية الاعتداء على فرض دلالتها على ضمان المثل و القيمة، لأنّ ظاهرها تجويز الاعتداء بهما أي التقاصّ- يعني: على عهدة الغاصب ما يكون تقاصّه بالمثل أو القيمة- و هو لا يدلّ على أنّ ما في العهدة نفس العين أو القيمة أو المثل، إذ لو كان ما على العهدة نفس العين فلازمه أيضا التقاصّ بالمثل أو القيمة، فهذا اللازم أعمّ من كون ما في الذمّة نفس العين أو المثل أو القيمة.

فظهور «على اليد» يكشف عن كيفيّة الضمان و لا ينافيه الآية الشريفة، و لا دليل احترام مال المؤمن و أنّه كدمه، إذ لا يدلّ على كيفية الضمان، بل يدلّ على نفس الضمان و عدم هدره. و كذا سائر أدلّة الضمانات، فإنّها لو لم تكن ظاهرة في ضمان نفس العين و ثبوتها على العهدة ليست ظاهرة في الخلاف. فالبناء العقلائيّ الذي يساعده الدليل الشرعيّ كحديث «على اليد» قد استقرّ على كون الثابت في ذمّة الضامن نفس العين، هذا.

لكن يمكن أن يقال: إنّ ما وقع تحت اليد هو الموجود الخارجيّ، و لا ريب في انعدامه بالتلف، فلا بدّ أن يسقط الضمان بسبب التلف، إذ الماهيّة المعرّاة عن الوجود الخارجيّ لم تقع تحت اليد، و لا يمكن وقوعها عليه. فلا يستفاد من حديث اليد ضمان المأخوذ بعد التلف.

ص: 330

______________________________

و الحاصل: أنّ الحديث في مقام بيان وجوب ردّ المأخوذ الموجود إلى مالكه، و لا يدلّ على وجوب ردّ بدله بعد التلف، لأنّ ظاهره كون المضمون ما هو الموجود خارجا، لا الأعمّ منه و من المعدوم الذي يعتبر موجودا باقيا، فلا يستفاد من الحديث اعتبار نفس العين على العهدة بعد التلف، كما لا يستفاد ذلك أيضا من أدلّة الضمانات.

فالمرجع حينئذ في كيفيّة الضمان هو العرف، و من المعلوم أنّهم يحكمون بضمان المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، لأنّ ذلك أقرب إلى التالف، و صدق الجبران و تدارك الفائت عليه أولى من غيره، كمطلق الماليّة، فالضمان من أوّل الأمر يتعلّق ببدل التالف مثليّا أو قيميّا، لا بنفس العين بوجودها الاعتباريّ، فإنّه و إن كان ممكنا ثبوتا، لكنّه لا دليل عليه إثباتا.

ثمّ إنّ الظاهر- كما أشير إليه- عدم تعبّد في نفس الضمان و لا في كيفيّته، بل كلاهما من الأحكام العقلائيّة، فما اشتهر بين الأصحاب من ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة ممّا يساعده الارتكاز العقلائيّ، فالضمان عندهم عبارة عن عهدة الخسارة للمال بالتلف. و لا ينافي هذا الارتكاز شي ء من أدلّة الضمان، فالضمان المأخوذ في أدلّته ليس إلّا عهدة الخسارة في صورة التلف، و جبران الخسارة بمقتضى الارتكاز العقلائيّ إنّما هو بالمثل في المثليّ، و بالقيمة في القيميّ.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم: أنّ مقتضى العلم الإجمالي باشتغال ذمّة الضامن بإحدى الخصوصيّتين اللّتين هما بدل التالف- لحكم العقل بأنّ الضمان هو تدارك خسارة التالف ببدله الأقرب إليه، و هو المثل أو القيمة- هو الاحتياط بدفع المثل و القيمة إلى المضمون له، غاية الأمر أنّه يجب على المالك أخذ أحدهما، للإجماع على عدم الاحتياط في الماليّات، و لقاعدة الضرر. و لو لم يرض بأحدهما فالظاهر تعيّن القرعة بناء على جريانها في الشبهات الحكمية، و إلّا فالصلح القهري.

ص: 331

و لكن يمكن أن يقال (1): إنّ القاعدة المستفادة

______________________________

(1) هذا إشارة إلى دليل آخر على أصل الحكم بضمان المثليّ بالمثل- كما سيأتي تصريحه به في المتن بقوله: نعم الانصاف عدم وفاء الآية كالدليل السابق عليه بالقول المشهور- و الظاهر أنّ غرضه قدّس سرّه من التعرّض له هنا- بعد الفراغ عمّا يقتضيه الأصل العمليّ في الشك في كون التالف مثليّا و قيميّا- هو: استفادة حكم المسألة من الدليل الاجتهاديّ أعني به إطلاق أخبار الضمان مقاميّا، في قبال ما تقدّم من استفادته من الأصل العمليّ المقتضي لتخيير الضامن شرعا، أو تخيير المالك كذلك، أو التخيير عقلا.

______________________________

و لا تجري أصالة البراءة في إحدى الخصوصيّتين- و هي المثليّة- ليكون نتيجته تخيير الضامن، و ذلك لكون المقام من المتباينين كما مرّ سابقا، لا من الأقل و الأكثر.

كما لا تجري أصالة التعيينيّة القاضية بتعيّن المثل، لأنّ موردها العلم بوجوب شي ء تعيينا أو تخييرا، كوجوب تقليد المجتهد الأعلم المردّد بين كونه بنحو التعيينيّة و التخييريّة. و هذا أجنبيّ عن مطلوبيّة كلّ واحدة من الخصوصيّتين كالمثليّة و القيميّة، فإنّ الضمان تعلّق بالخصوصيّة المثليّة أو القيميّة.

كما لا وجه لتخيير المالك، ببيان: أنّ ما يختاره المالك إمّا هو البدل الواقعيّ الذي اشتغلت به ذمّة الضامن، فيكون مسقطا قهريّا، و إمّا هو بدل البدل، لرضاء المالك بغير الجنس في مرحلة الوفاء، فيكون مسقطا أيضا. فمختار المالك مسقط للذمّة قطعا دون غيره، لأنّه مشكوك المسقطيّة، و الأصل عدم سقوطه إلّا بما يختاره المالك.

إذ فيه: أنّ الكلام في إجراء الأصل بالإضافة إلى ما اشتغلت به ذمّة الضامن من المثل بالخصوص أو القيمة كذلك، لا بالنسبة إلى ما يرضى به المالك بدلا عن ماله التالف، لأنّه قد يكون القيمة في المثليّ و المثل في القيميّ، و قد يكون شيئا آخر ممّا لا ينضبط. و من المعلوم أنّ دفعهما معا مستلزم للعلم بأداء ما في الذمّة، سواء رضي المالك بأحدهما بالخصوص أم لا. فالقطع ببراءة الذمّة لا يتوقّف على دفع ما يختاره المالك، و نسبة الأصل إلى كليهما على حدّ سواء.

ص: 332

من إطلاقات الضمان (1)

______________________________

و توضيح ما أفاده: أنّ مادّة «الضمان و الغرامة» و ما بمعناهما قد وردت في كثير من النصوص المتكفلة لحكم المغصوب، و الأمانات التي فرّط أصحابها فيها كالعين المستأجرة و اللّقطة و العارية و الوديعة، و كان السائل يستفهم عن وظيفته الفعليّة المبتلى بها، و لم يستفصل منه الامام عليه السّلام عن أنّ المضمون مثليّ أو قيميّ، و إنّما حكم عليه السّلام بالضمان أو بما يؤدّيه، كما يستفاد أيضا من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ممّا ظاهره استقرار المأخوذ على عهدة الآخذ إلى أن يردّه إلى المأخوذ منه.

و من المعلوم أنّ إهمال خصوصيّة المضمون- مع تفاوت الأموال في مالها مثل و ما ليس لها مثل- لا بدّ أن يكون لأجل إيكال الأمر إلى ما هو المتعارف بين العقلاء في ما يضمنون به، و عدم إبداع طريقة أخرى في مقام تفريغ الذمّة.

هذا من جهة. و من جهة أخرى نرى استقرار سيرتهم على أنّ من وضع يده على شي ء مملوك للغير لزمه ردّه إليه، و إن تلف لزمه ردّ أقرب شي ء إليه، و مع تعذّره يؤدّي قيمة التالف.

و لا ريب في أنّ الأقرب إلى التالف هو مماثلة في جميع الجهات المعتبرة في الماليّة و الأوصاف الدخيلة في رغبة العقلاء فيه، سواء أ كان متّحدا مع المثليّ الذي اصطلح عليه الفقهاء قدّس سرّهم، أم لم يكن كذلك. فالحيوان مطلقا ليس مثليّا بنظر الفقهاء، و لكن لا يبعد ضمانه عرفا بما يماثل التالف من جميع الجهات، و لو تعذّر فبقيمته.

و عليه فهذا الدليل يقتضي الضمان أوّلا بمثل التالف، ثم بقيمته، و معه لا مجال للتخيير أصلا.

(1) حاصله: أنّ المستفاد من بناء العرف الممضى شرعا- بمقتضى الإطلاقات المقاميّة الثابتة لأدلّة الضمان المتفرّقة في أبواب الفقه- هو: أن الضمان في جميع موارده يكون بالمثل، ثمّ بالقيمة، و معرفة المثل موكولة إلى العرف، و لا تتوقّف على الإجماع على كون الشي ء مثليّا أو قيميّا.

ص: 333

في المغصوبات (1) و الأمانات المفرّط فيها (2)

______________________________

نعم لو شكّ العرف فالمرجع الأصل المتقدّم.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاقات هو الترتيب، بمعنى أنّ اللازم أوّلا هو المثل، و بعد إعوازه قيمة التالف. بخلاف مقتضى الأصل، فإنّه التخيير، لا الترتيب. و يدلّ على هذا الترتيب ما سيأتي من قوله: «و قد استدلّ في المبسوط .. إلخ» على التقريب الآتي.

(1) كالنبوي: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1» بناء على اختصاص الأخذ بالقهر كما قيل، فيختصّ الحديث بباب الغصب. و كمرسلة حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه السّلام: «لأنّ الغصب كلّه مردود» «2» بناء على عدم اختصاصه بحال بقاء العين المغصوبة، و شموله لردّها ببدلها.

(2) فمنها: ما ورد في ضمان الأجير، كمعتبرة زرارة و أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: في رجل كان له غلام، فاستأجره منه صانع أو غيره.

قال: إن كان ضيّع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون» «3» حيث دلّ على ضمان مولى الأجير الذي ضيّع مال المستأجر، مع أنّ الأجير أمين. و لم يفصّل عليه السّلام في أنّ المضمون مثليّ أو قيميّ، و إطلاق الضمان منزّل على المتعارف.

و منها: ما ورد في ضمان الدابّة، كمعتبرة عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام، قال: «سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره، فنفقت، ما عليه؟ قال: إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها، و إن لم يسمّ فليس عليه شي ء» «4» حيث إنّ الدابّة أمانة بيد المستأجر فرّط فيها بمخالفته للشرط، فضمنها، و لم يذكر عليه السّلام أنّ

______________________________

(1) عوالي اللئالي، ج 1، ص 224، الحديث 106

(2) وسائل الشيعة، ج 17، ص 309، الباب 1 من أبواب الغصب، الحديث 3

(3) وسائل الشيعة، ج 13، ص 251، الباب 11 من أبواب الإجارة، الحديث 2

(4) المصدر، ص 256، الباب 16 من أبواب الإجارة، الحديث 1، و نحوه الحديث 2 و 3 و 4 و 6، من الباب 17، ص 257 و 258

ص: 334

..........

______________________________

ضمانها بالمثل أو بالقيمة.

و منها: ما ورد في ضمان الصنّاع، كمعتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«سئل عن القصّار يفسد، فقال: كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» «1». و لم يبيّن عليه السّلام المضمون به، مع أنّ ما يعطى الأجير لإصلاحه قد يكون مثليّا و قد يكون قيميّا.

و منها: ما ورد في ضمان الوصيّ المفرّط في المال الموصى به، كمعتبرة محمّد بن مسلم، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم، فضاعت، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال: إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن .. إلى أن قال: و كذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربّه الذي أمر بدفعه إليه، فإن لم يجد فليس عليه ضمان» «2».

و لا تبعد دعوى قوّة الإطلاق في هذه الرواية، لأعمّيّة المال الزكويّ و الموصى به ممّا هو مثليّ في مصطلح الفقهاء، و قيميّ عندهم، فيحمل الضمان على المتعارف عند العقلاء.

و منها: ما ورد في ضمان الملتقط، كخبر الحسين بن يزيد عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام، قال: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول في الضالّة يجدها الرّجل فينوي أن يأخذ لها جعلا، فتنفق، قال: هو ضامن. فإن لم ينو أن يأخذ لها جعلا و نفقت فلا ضمان عليه» «3».

و منها: ما ورد في ضمان الودعيّ مع التفريط، كخبر محمّد بن الحسن، قال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 271، الباب 29 من أبواب الإجارة، الحديث 1، و بمضمونه أكثر أخبار الباب، و هي أزيد من عشرين حديثا.

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 417، الباب 46 من أبواب الوصايا، الحديث 1، و نحوه سائر أحاديث هذا الباب و الباب 37

(3) وسائل الشيعة، ج 17، ص 369، الباب 19 من أبواب اللقطة، الحديث 1

ص: 335

و غير ذلك (1) هو (2) الضمان بالمثل، لأنّه (3) أقرب إلى التالف من حيث الماليّة و الصفات، ثمّ بعده (4) قيمة التالف من النقدين و شبههما (5)، لأنّهما أقرب من

______________________________

«كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام: رجل دفع إلى رجل وديعة، و أمره أن يضعها في منزله [أو لم يأمره] فوضعها في منزل جاره، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره و أخرجها عن ملكه؟ فوقّع عليه السّلام: هو ضامن لها إن شاء اللّه» «1».

و منها: غير ذلك من النصوص المتفرقة في أبواب الرهن و غيرها التي ورد فيها كلمة «الضمان» و لم يعيّن المضمون به. و لو كان ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة كان إهمال هذه الجهة- مع كون السائل في مقام استعلام وظيفته الفعليّة- تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة بلا مصلحة واضحة فيه.

(1) أي: غير المغصوب و غير الأمانة المفرّط فيها، و مثال هذا الغير هو عارية الذهب و الفضة أو العارية المشروط فيها الضمان، فإنّ المستعير ضامن إن لم يكن مفرّطا، كما ورد في صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان، إلّا الدنانير، فإنّها مضمونة و إن لم يشرط فيها ضمانا» «2». و التقريب كما تقدّم آنفا.

(2) خبر قوله: «ان القاعدة المستفادة».

(3) يعني: لأنّ المثل العرفيّ أقرب إلى التالف من قيمته. و وجه الأقربيّة واضح.

(4) أي: بعد الضمان بالمثل، و المراد بالبعديّة هو الرّتبيّة، أي: تأخّر جواز دفع القيمة عن تعذّر المماثل العرفيّ.

(5) مما يجعل ثمنا في المعاملات بمنزلة النقدين كالفلوس الرائجة المصوغة من غير النقدين- كالنحاس و الرصاص و القرطاس و غيرها- ممّا يعامل معها في الأسواق معاملة النقدين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 229، الباب 5 من أبواب الوديعة، الحديث 1

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 239، الباب 3 من أبواب العارية، الحديث 1

ص: 336

حيث المالية (1)، لأنّ ما عداهما يلاحظ مساواته للتالف بعد إرجاعه إليهما.

و لأجل الاتّكال على هذا الظهور (2) لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه الموارد (3)- على كثرتها- قد نصّ الشارع فيه على ذكر المضمون به، بل كلّها- إلّا ما شذّ و ندر (4)-

______________________________

(1) لأنّهما متمحّضان في الماليّة، و لذا يقدّر بهما ماليّة الأموال.

(2) أي: الضمان بالمثل ثم بالقيمة.

(3) يعني: الموارد التي حكم الشارع فيها بالضمان كالغصب و الأمانات المفرّط فيها.

(4) يعني: أنّ الشارع قد نصّ في موارد نادرة على المضمون به، و أنّه قيمة التالف، كما ورد في عدّة نصوص:

منها: صحيحة أبي ولّاد الحنّاط التي تقدّم مفادها (في ص 234) و سيأتي متنها في كلام المصنّف (في ص 482)، و المقصود منها قول أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق «صلوات اللّه و سلامه عليها»: «قيمة بغل يوم خالفته» «1» فالمضمون به هو خصوص الماليّة، و ليس الضمان مطلقا حتى يحمل على المفهوم منه عرفا، و هو المماثل في الصفات زيادة على المماثلة في الماليّة.

و منها، ما تقدّم في أخبار «2» بيع الجارية المسروقة من ضمان قيمة الولد و اللّبن و الخدمة، فراجع (ص 49 و 50).

و لا يخفى أنّ اعتبار القيمة في هذا المورد ليس تخصيصا في الحكم بالضمان بالمثل إن وجد و إلّا فبالقيمة. و ذلك لأنّ مورد الحكم بضمان المثل هو ما له مثل عرفا، فلو لم يكن له مثل كذلك كان ضمانه بالقيمة موافقا لبناء العقلاء. فإنّ الولد ممّا لا يوجد له مماثل حتى يضمن به، مع انعقاده حرّا. و كذلك لا يبعد أن يكون ضمان البغل بقيمته لأجل عدم المماثل له في جميع الصفات الدخيلة في ماليّته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 255، الباب 17 من أبواب الإجارة، الحديث 1

(2) وسائل الشيعة، ج 14، ص 591، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 1 و غيره.

ص: 337

قد أطلق (1) فيها الضمان.

فلو لا الاعتماد (2) على ما هو المتعارف لم يحسن من الشارع إهماله في موارد البيان.

______________________________

و منها: ما ورد في خبر السكونيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان أمير المؤمنين سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها و خبزها و جبنّها و بيضها، و فيها سكّين، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يقوّم ما فيها، ثم يؤكل، لأنّه يفسد، و ليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن» «1». و ظاهر الجملة الأخيرة- بل صريحها- ضمان السّفرة بقيمتها، و لعلّه لأجل ندرة المماثل في غالب الصفات.

و منها: ما ورد في ضمان المرتهن إذا فرّط في العين المرهونة من قوله عليه السّلام: «إنّه إن استهلكه ترادّ الفضل بينهما» «2» بناء على أنّ الدّين غالبا يكون في النقدين، و الرّهن من الأعيان، فحكم عليه السّلام بترادّ الفضل، فإن كان الدّين أزيد قيمة من الرّهن وجب على الراهن ردّ الزائد إلى المرتهن. و إن كان الدين أقلّ ماليّة من الرهن وجب على المرتهن ردّ الفضل إلى الراهن.

و منها: غير ذلك ممّا يظفر به المتتبّع في أخبار أهل بيت العصمة صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و سيأتي نقل جملة منها في الأمر السابع، فلاحظ (ص 456 و 457).

(1) خبر «كلها».

(2) هذا تقريب الإطلاق المقاميّ الدالّ على إمضاء البناء العرفيّ على ضمان التالف بما هو أقرب إليه أعني به المماثل عرفا، و بتعذّره فالقيمة.

هذا تمام الكلام في الوجوه المتصوّرة في ضمان التالف المشكوك كونه مثليّا و قيميّا، و مقتضى الإطلاق المقاميّ هو الضمان بما يشابه التالف و يماثله عرفا، ثم بقيمته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 372، الباب 23 من أبواب اللقطة، الحديث 1

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 129، الباب 7 من أبواب الرهن، الحديث 1 و غيره.

ص: 338

و قد استدلّ (1) في المبسوط و الخلاف على ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة بقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ «1» بتقريب: أنّ مماثل ما اعتدى هو المثل في المثليّ و القيمة في غيره (2).

______________________________

(1) هذا وجه ثالث استدلّ به للقول المشهور، و هو ضمان التالف المثليّ بالمثل، و كان الوجه الأوّل الإجماع المحكيّ، و الثاني الإطلاق المقاميّ، و قد عرفت أنّ مفاد هذه الوجوه مختلف من حيث إفادة الترتيب بين المثل و القيمة و عدمه.

(2) ما نسبه المصنف إلى شيخ الطائفة قدّس سرّهما من استدلاله بالآية الشريفة على ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة- قد صرّح به في موضعين من غصب الخلاف، و لم أظفر به في غصب المبسوط بعد ملاحظته بتمامه، و إنّما استدلّ فيه بالآية الشريفة على ضمان المثليّ بمثله، لا على ضمان القيميّ بالقيمة.

قال في الخلاف: «المنافع تضمن بالغصب كالأعيان، مثل منافع الدار و الدابّة و العبيد و الثياب، و به قال الشافعيّ. و قال أبو حنيفة: لا تضمن المنافع بالغصب بحال .. دليلنا، قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ. و المثل مثلان، مثل من حيث الصورة، و مثل من حيث القيمة. فلمّا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة وجب أن يلزمه من حيث القيمة. و على المسألة إجماع الفرقة. و أخبارهم تدلّ عليها» «2».

و هذه العبارة صريحة في أنّه قدّس سرّه استظهر من الآية الشريفة ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة، لكون القيمة مثلا للتالف من حيث ماليّته. و هذا المقدار من المماثلة كاف في استفادة ضمان القيميّ بقيمته من الآية المباركة. و نحوه كلامه في ضمان العقار بقيمته، فلاحظ (مسألة 18) من الغصب.

و قال في غصب المبسوط- بعد تقسيم الأموال إلى حيوان و غير حيوان،

______________________________

(1) سورة البقرة، الآية 194

(2) الخلاف، ج 3، ص 402، المسألة: 11، و ص 406، المسألة: 18، و نحوه كلام ابن إدريس، فراجع السرائر، ج 2، ص 485

ص: 339

و اختصاص (1) الحكم بالتلف عدوانا لا يقدح بعد عدم القول بالفصل.

و ربما يناقش في الآية: بأنّ مدلولها اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء (2)

______________________________

و غير الحيوان إلى ما له مثل، و ما لا مثل له- ما لفظه: «فإذا غصب غاصب من هذا شيئا، فإن كان قائما ردّه. و إن كان تالفا فعليه مثله، لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ .. إلخ». و نقلناه في (ص 26) فراجع. و هذه العبارة ظاهرة في دلالة الآية الشريفة على ضمان المثليّ بالمثل، و ليس في كلامه قدّس سرّه دلالتها على حكم القيميّ أصلا، فلاحظ.

و بما نقلناه عن شيخ الطائفة قدّس سرّه ظهر أنّ ما أفاده الفقيهان الشيخ المامقاني و سيدنا الأستاذ قدّس سرّهما- من اقتصار عبارة المبسوط على دلالة الآية الشريفة على حكم المثليّ دون القيميّ «1»- و إن كان متينا، إلّا أنّ المصنّف قدّس سرّه عزاه إلى الخلاف أيضا. و قد عرفت صراحة كلامه فيه في استفادة حكم القيميّ أيضا من الآية الشريفة.

كما ظهرت المسامحة في تعبير الماتن- من نسبة الاستدلال بالآية على كلّ من المثليّ و القيميّ- إلى المبسوط و الخلاف معا.

(1) نوقش في الاستدلال بالآية الشريفة- على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بمثله- بوجهين، الأوّل: أن الآية الشريفة أجنبيّة عن المدّعي- الذي هو ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة في البيع الفاسد- لاختصاص الآية بالتلف العدواني، و من المعلوم أنّ محلّ الكلام هو تلف المقبوض بالعقد الفاسد، لا إتلافه، و ليس فيه اعتداء خصوصا مع الجهل بالفساد.

و أجاب عنه المصنّف قدّس سرّه، بأنّ الآية و إن اختصّت بمورد الاعتداء، إلّا أنّه يلحق به المقبوض بالبيع الفاسد بعدم القول بالفصل بين باب الغصب و ما نحن فيه.

و عليه فلا بأس بدلالة الآية على ضمان المثليّ بمثله.

(2) هذا هو الوجه الثاني من المناقشة، و المناقش هو السيّد العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه حيث قال في إنكار تعلّق الحكم بعنوان المثلي ما لفظه: «و فيه نظر، لاحتمال كون

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 303؛ نهج الفقاهة، ص 142

ص: 340

..........

______________________________

المراد بالمثل فيه مثل أصل الاعتداء، لا مثل المعتدى فيه الذي هو ما نحن فيه، فتأمّل» «1».

و توضيحه: أنّ المماثلة بين الاعتدائين ليست بحسب الذات، لأنّها من ضروريّات كونهما اعتداء. فالمماثلة إنّما تكون بينهما بحسب المعتدى به، و هو مدخول الباء في قولنا: «اعتدى عليه» بضربة أو بإتلاف ماله أو قطع يده أو غير ذلك.

و جهة المماثلة بالمعتدى به تارة تكون بلحاظ ذاتيهما، كما إذا اعتدى عليه بالضرب، فيعتدي عليه بالضرب.

و اخرى تكون بلحاظ الكمّ، كأن يضربه مرّة، فيشتمه مرّة.

و ثالثة بلحاظ الأثر الخاصّ المترتّب عليه، كأن يضربه ضربا مؤديا إلى بكائه، فيجازيه بالشتم مثلا المؤدّي إلى بكائه.

و رابعة بلحاظ الماليّة، كأن يتلف من أمتعة زيد ما يساوي درهما، فيأخذ زيد درهما من أمواله.

ثم إنّ كلمة «ما» في الآية الشريفة إمّا مصدريّة، فيكون المعنى «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ اعتدائه». و إمّا موصولة، فيكون المعنى «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ الذي اعْتَدىٰ به عَلَيْكُمْ» و المتحصّل من المعنيين واحد، إذ الجهات الملحوظة في المماثلة بين الاعتدائين ترجع إلى الجهات الملحوظة بين الأمرين المعتدى بهما.

و مرجع مناقشة الرّياض إلى أنّ الظاهر المماثلة في مقدار الاعتداء، يعني: في جنسه، فإن كان الاعتداء بالضرب كان جزاؤه به، فكأنّه قال: «من اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ اعتداء بِمِثْلِ اعتدائه عَلَيْكُمْ» فإن ضربكم فاضربوه، و إن شتمكم فاشتموه، هذا بناء على المصدريّة. أو: «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بشي ء هو مثل الظلم الذي وقع عَلَيْكُمْ، فان شتمكم فاشتموه» و هذا بناء على كون «ما» موصولة. و المعنى على التقديرين واحد، و هو المماثلة في نوع الظلم كالشتم و الضرب.

______________________________

(1) رياض المسائل، ج 2، ص 303، السطر 32

ص: 341

لا المعتدى به (1). و فيه نظر (2).

______________________________

(1) يعني: لا مقدار المعتدى به، كما إذا ضربه مرّتين، فلا تدلّ الآية على ضربه مرّتين.

(2) وجهه- على ما حكي عنه في الحاشية- أنّ ظاهر الآية اعتبار المماثلة في الاعتداء و المعتدى به [1].

______________________________

[1] فيه: أنّ المماثلة في مقدار الاعتداء لا تنفكّ عن المماثلة في مقدار المعتدى به، فتأمّل.

و الانصاف أنّ الآية لا تخلو عن الدلالة على الضمان و إن وردت في الحرب، لكن لا قصور في دلالتها على الضمان، فإنّ إطلاق جواز الاعتداء بالمثل يشمل المورد و هو الحرب، غاية الأمر أنّ المراد بالمماثلة هنا المماثلة في نفس الاعتداء في الزمان، يعني: إذا حاربكم المشركون في أشهر الحرام، فيجوز لكم أن تحاربوهم في أشهر الحرام أيضا.

و إن لم يلزم المماثلة في نفس الحرب، كما إذا قتلوا من المسلمين عددا خاصّا أو رمى أحدهم سهما في عين مسلم أو قطع رجله، فلا يجب أن يكون الجزاء مثله، فإنّ اعتبار هذه المماثلة منفيّ بدليل خارجيّ.

فالمماثلة في الآية المباركة بمعونة الدليل الخارجيّ متمحّضة في الحرب في الشهر الحرام، لا في كيفية الحرب. و هذا التقييد لانفصاله لا ينافي إطلاق اعتبار المثليّة في سائر الموارد.

و لذا قال في مجمع البيان: «و في هذه الآية دلالة على أنّ من غصب شيئا و أتلفه يلزمه ردّ مثله. ثمّ إنّ المثل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال، و من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له» «1».

فما قيل من: أنّ الآية أجنبيّة عن الضمان بتقريب «أنّ ظاهرها أنّ الكفّار إن اعتدوا عليكم فاعتدوا عليهم، كما أنّهم اعتدوا عليكم، فإذا لم يكن المثل في موردها كذلك

______________________________

(1) مجمع البيان، ج 1، ص 288

ص: 342

______________________________

- أي: لا يراد بالمثل في مورد ورود الآية المماثلة في مقدار الاعتداء- لا يمكن استفادة ضمان المثل في غير موردها بإطلاقها. و المثليّة في أصل الاعتداء لا تجدي في إثبات المطلوب. بل القرينة المذكورة أي عدم تقدير المقابلة بالمثل و جواز التجاوز عنه في المورد قائمة على عدم دخول الماليّات فيها، فهي إمّا مختصّة بالحرب، أو شاملة لما هو نظيره كمدافعة اللّص و المهاجم» «1».

يقال عليه: بأن تقييد مورد الآية بدليل خارجيّ لا يقدح في إطلاق المثل و ليس هذا من قبيل خروج المورد المستهجن، لكفاية المماثلة بين نفس الاعتدائين في شمول الدليل للمورد.

و كذا لا يرد ما أورده المصنّف قدّس سرّه على الاستدلال بالآية الشريفة من: أنّ المماثلة العرفيّة قد تتحقّق في القيميّات عند المشهور كالكرباس، فإنّه عندهم من القيميّات مع حكم العرف بكونه من المثليّات، فلا تنطبق الآية على مدعى المشهور، فلا يصحّ الاستدلال بها عليه.

وجه عدم الورود: أنّ المدّعى هو ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة، و الآية وافية بذلك، و الاختلاف في مفهوم المثليّ و القيميّ يرجع إلى النزاع في الصغرى. و هذا أجنبي عن أصل الكبرى و هي ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة.

و بالجملة: النزاع الصغرويّ لا يقدح في تسلم الكبرى.

و عليه فالاستدلال بالآية تامّ. و إجماعهم على مثليّة شي ء أو قيميّته إن كان تعبديّا فهو يخصّص أو يقيّد الآية. و المتحصّل بعد التقييد: أنّ المماثل العرفي للتالف مضمون على الضامن، إلّا إذا قام الإجماع على أنّه لا بدّ في ضمانه بالمماثل من كون غالب الأفراد مماثلا للتالف، لا فرد نادر كما في القيميّات، فإنّ أكثر أفراد القيميّ ليست مماثلة في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات، بخلاف المثليّ كما تقدّم سابقا.

و إن لم يكن تعبّديا، بل ذهابهم إلى المثليّة أو القيميّة إنّما هو لكونهم من العرف، فلا حجيّة فيه في مقابل العرف العام.

______________________________

(1) كتاب البيع، ج 1، ص 326

ص: 343

نعم (1) الانصاف عدم وفاء الآية- كالدليل السابق عليه (2)- بالقول (3) المشهور، لأنّ (4) مقتضاهما وجوب المماثلة العرفيّة في الحقيقة و المالية.

______________________________

(1) استدراك على ما أفاده من اقتضاء الآية الشريفة و بناء العقلاء الضمان بالمثل. و غرضه قدّس سرّه المناقشة في الدليلين المتقدّمين بعدم وفائهما بالقول المشهور، لكون النسبة بين الدليل و الدعوى عموما من وجه، و هو غير مفيد.

و محصّل المناقشة: أنّ المراد بالمثل- في الآية و الإطلاق المقاميّ- هو ما يعدّ عرفا مثلا للتالف في أمرين، أحدهما في الحقيقة النوعيّة، و ثانيهما في الماليّة. و من المعلوم أنّ الآية و العرف يقتضيان الضمان بالمثل- بهذا المعنى- حتى في القيميّات، لإمكان مساواة أفراد بعض القيميّات في الماليّة فضلا عن المساواة في الحقيقة. مع أنّ المشهور حكموا بضمان القيميّ بقيمته سواء وجد مثله أم لم يوجد، و سواء أ كانت قيمة المثل- على فرض وجوده- مساوية لقيمة المتلف أم أزيد أم أقلّ، هذا.

و استشهد المصنف قدّس سرّه بكلماتهم في مسألتين لإثبات عدم مطابقة الدليل مع المدّعى.

________________________________________

الأولى: ما إذا أتلف شخص ذراعا من كرباس، و أمكنه تحصيل مماثله عرفا، فإنّ الآية و العرف يقتضيان وجوب أداء ذراع من الكرباس إلى المالك، مع أنّ المشهور على كون الأقمشة و الثياب قيميّات، و أنّ الواجب دفع قيمة ذلك الذراع المتلف لا مماثلة في الصفات و الماليّة.

الثانية: الجناية على عبد مملوك للغير، و سيأتي بيانه.

(2) و هو الإطلاق المقاميّ المقتضي للضمان بالمماثل العرفيّ، لا المثل في مصطلح الفقهاء.

(3) متعلّق ب «وفاء» و قد عرفت وجه عدم الوفاء بالقول المشهور، المبنيّ على ضمان المثليّ بالمثل الذي عرّفوه بما تساوت أفراده قيمة.

(4) تعليل لعدم الوفاء، حيث إنّ المدّعى أمر، و مدلول الدليلين أمر آخر.

ص: 344

و هذا (1) يقتضي اعتبار المثل حتّى في القيميّات، سواء وجد المثل فيها أم لا (2).

أمّا مع وجود المثل كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا متساوية من جميع الجهات، فإنّ مقتضى العرف و الآية إلزام الضامن بتحصيل ذراع آخر (3) من ذلك و لو بأضعاف قيمته، و دفعه إلى مالك الذراع المتلف، مع أنّ القائل بقيميّة الثوب لا يقول به (4).

و كذا (5) لو أتلف عليه عبدا، و له في ذمة المالك- بسبب القرض أو السّلم- عبد موصوف بصفات التالف، فإنّهم لا يحكمون بالتهاتر القهريّ،

______________________________

(1) أي: وجوب المماثلة يقتضي .. إلخ.

(2) المقصود من ضمان التالف بمماثله عرفا- حتى مع فقد المثل- هو انتقال ضمان المثل إلى ضمان قيمته لا قيمة التالف، لإمكان اختلاف القيمتين، بأن تزيد قيمة المثل المتعذر عن قيمة التالف، و سيأتي في المتن توجيهه.

(3) لأنّ هذا الذراع الآخر مماثل للذراع التالف، و المفروض دلالة الآية الشريفة و الإطلاق المقاميّ على أنّ المضمون به هو المثل لا القيمة، فعلى الضامن تحصيل ذراع آخر و لو كانت قيمته أضعاف قيمة الذراع المتلف. مع أنّ المشهور القائلين بقيميّة الأقمشة و الثياب يقولون بكفاية أداء قيمة ما أتلفه، و عدم اشتغال العهدة بمثل المتلف.

(4) يعني: فلا ينطبق مفاد الآية الشريفة على ما يدّعيه المشهور من ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة، بل تدلّ على ضمان التالف بما يكون مماثلا له عرفا، و إن كان عند المشهور من القيميّات.

(5) يعني: و كذا نظير الكرباس كون التالف عبدا، فإنّهم حكموا فيه بضمان قيمته و إن كان له مماثل، و لذا لم يحكموا بالتهاتر القهريّ فيما إذا أتلف عبدا موصوفا بصفات العبد الذي يكون للضامن على المالك. فلو كان العبد مثليّا عند المشهور كان عليهم الحكم بالتهاتر، لكونهما من المثليّ.

ص: 345

كما يشهد به (1) ملاحظة كلماتهم في بيع عبد من عبدين.

______________________________

كما إذا كان لزيد عبد روميّ أبيض اللون كاتب، فاقترضه عمرو منه، و حصل لعمرو عبد بهذه الأوصاف، فأتلفه زيد. فإن كان العبد مثليّا لزم القول بالتهاتر القهريّ. لكنّهم قالوا باشتغال ذمّة عمرو بقيمة ما اقترضه من زيد، و باشتغال ذمّة زيد بقيمة ما أتلفه من عمرو. و من المعلوم أنّ اشتغال الذمّتين بالقيمة دليل على أنّ العبد عندهم معدود من القيميّات حتى مع وجود المماثل العرفيّ.

و كذا الكلام إذا باع زيد من عمرو- سلما- عبدا موصوفا بصفات معيّنة، ثمّ أتلف عمرو عبدا موصوفا بتلك الصفات من زيد، فبناء على الأخذ بظاهر الآية الشريفة و ببناء العقلاء لا بدّ من القول بالتهاتر القهريّ، و فراغ كلتا الذمّتين عمّا اشتغلتا به، لكنّهم حكموا بوجوب أداء العبد المبيع سلما إلى المشتري عند الأجل، و وجوب أداء قيمة العبد المتلف إلى المالك. و من المعلوم أنّ هذه الفتوى تكشف عن عدم الأخذ بالآية و الإطلاق المقاميّ، فكيف يستدلّ بهما على القول المشهور من ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة؟

(1) أي: كما يشهد بعدم حكمهم بالتهاتر ملاحظة كلماتهم .. إلخ. قال المحقّق قدّس سرّه:

«إذا اشترى عبدا في الذمّة، و دفع البائع إليه عبدين، و قال: اختر أحدهما، فأبق واحد. قيل: يكون التالف بينهما، و يرجع بنصف الثمن، فإن وجده اختاره، و إلّا كان الموجود لهما، و هو بناء على انحصار حقّه فيهما. و لو قيل: التالف مضمون بقيمته، و له المطالبة بالعبد الثابت في الذمّة كان حسنا. و أمّا لو اشترى عبدا من عبدين لم يصحّ العقد، و فيه قول موهوم» «1».

توضيحه: أنّ مسألة بيع عبد من عبدين يبحث عنها تارة في فروع شرطيّة العلم بالمبيع، فيقال: كما يصحّ ابتياع الجزء المشاع من الكلّيّ كنصف الدار، كذلك يصحّ ابتياع الكلّيّ في المعيّن بشرط تساوي الأجزاء كقفيز من كرّ. فلو لم تتساو الأفراد

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 2، ص 60

ص: 346

..........

______________________________

الكلّيّ لم يصحّ البيع. و مثّل له المحقّق قدّس سرّه بذراع من الثوب، و جريب من الأرض، و عبد من عبدين، و شاة من قطيع «1».

و الوجه في البطلان تفاوت الأجزاء- أي الأفراد- في الصفات الدخيلة في ماليّتها، فلا يرتفع الغرر. خلافا للشيخ و ابن البرّاج و الشهيد، حيث ذهبوا إلى صحّة بيع عبد من عبدين عملا برواية محمّد بن مسلم المخالفة للأصول الشرعيّة كما في المسالك «2».

و اخرى: في بيع الكلّيّ في الذمّة- لا الجزء المشاع و لا الكلّيّ في المعيّن- بأن اشترى زيد من عمرو عبدا موصوفا بصفات معيّنة تخرجه عن الجهالة، فدفع البائع عبدين إلى المشتري، و قال له: اختر أحدهما. فتسلّمهما المشتري و أبق أحدهما قبل أن يختار. هذا صورة المسألة. و لا ريب في صحّة البيع لاجتماع شرائطها فيه.

إنّما الكلام في أنّ العبد الآبق هل يتلف على كلا المتبايعين و يرجع المشتري على البائع بنصف الثمن. و لو لم يظفر بالآبق كان العبد الموجود ملكا لهما، لانحصار حقّ المشتري في العبدين؟ أم يكون الآبق مضمونا على المشتري خاصّة بقيمته- سواء زادت على قيمة العبد الموجود أم نقصت منها أم ساوتها- و له مطالبة عبد من البائع، لأنّ المبيع عبد كلّيّ ثابت في ذمته إلى أن يتسلّمه المشتري. فيه قولان.

و على كليهما يتّجه ما نسبه المصنّف قدّس سرّه إلى الأصحاب من عدم الحكم بالتهاتر.

أمّا بناء على الأوّل فلأنّ العبد الآبق تلف من كليهما، فيضمن كلّ منهما نصف قيمته.

و يرجع المشتري بنصف الثمن الذي بذله للمبيع الكلّيّ. و لو كان العبدان مثليّين و تساوت قيمتهما لم يكن وجه لرجوع المشتري على البائع بنصف الثمن، و لم يجب عليه أداء نصف قيمة الآبق إلى البائع، بل حصل التهاتر القهريّ، و سقط ما في ذمّة

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 2، ص 18

(2) مسالك الأفهام، ج 3، ص 396

ص: 347

نعم (1)

______________________________

البائع- من نصف الثمن- بما في ذمّة المشتري من نصف قيمة الآبق.

و أمّا على القول الثاني الذي استحسنه المحقّق قدّس سرّه فعدم التهاتر أوضح، فإنّ الآبق مضمون بقيمته على المشتري، لكونه مقبوضا بالسّوم، فيجب دفع تمام قيمته إلى البائع. كما أنّ للمشتري مطالبة عبد منه وفاء لبيع عبد كلّىّ بثمن معيّن. و من المعلوم أنّ العبدين لو كانا مثليّين و ممّا تساوت قيمتهما لحصل التهاتر القهريّ، فلم يكن للمشتري مطالبة عبد من البائع، و لم تكن على عهدته قيمة الآبق. لكن لأجل عدم المماثلة لا يقال بالتهاتر، بل كلّ منهما بحسب قيمته.

و قد ظهر أنّ قول المصنّف قدّس سرّه: «كما يشهد به ملاحظة كلامهم» إشارة إلى ما نقلناه عن المحقّق في بيع عبد كلّيّ في الذمّة، فإنّه شاهد على عدم التزامهم بالتهاتر في القيميّات.

و أمّا بيع عبد من عبدين موجودين خارجا فهو شاهد على عدم المماثلة بين العبدين و نحوهما. و لكنّه أجنبيّ عن التهاتر، كما أوضحناه. فما في كلام بعض الأجلّة «1» من الاستشهاد بعبارتين من الخلاف و عبارة من الشرائع لا يخلو من بعد، فلاحظ.

(1) هذا استدراك على ما ذكره من عدم التزام المشهور بضمان المثل في القيميّات- الذي هو مقتضى الآية و العرف- و محصّله: أنّه يستفاد من ذهاب جماعة إلى جواز ردّ العين المقترضة في القيميّات ضمان القيميّ بالمثل، لأنّ العين المقترضة تكون مماثلة عرفا للقيمة المستقرة على عهدة المقترض، فجواز ردّ نفس العين- دون القيمة- مستند إلى آية الاعتداء الظاهرة في اعتبار المماثلة بين البدل و المبدل. و لو لم تكن الآية دالّة عليه لم يجز الاقتصار في أداء القرض على دفع العين، بل كان المتيقّن دفع القيمة من النقدين.

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 305

ص: 348

ذهب جماعة (1) منهم الشهيدان (2) في الدروس و المسالك إلى جواز ردّ العين المقترضة إذا كانت قيميّة.

لكن لعلّه (3) من جهة صدق أداء القرض [1] بأداء العين، لا من جهة

______________________________

(1) و منهم شيخ الطائفة و المحقّق الأردبيليّ، على ما حكاه عنهما السيّد الفقيه العامليّ قدّس سرّهم «1».

(2) قال الشهيد قدّس سرّه: «و يردّ البدل مثلا أو قيمة. و لو ردّ العين في المثل وجب القبول. و كذا في القيميّ على الأصحّ. و نقل فيه الشيخ الإجماع. و يحتمل وجوب قبولها إن تساوت القيمة أو زادت وقت الرّدّ، و إن نقصت فلا» «2».

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «و أولى بالجواز لو ردّ العين، لأنّ الانتقال إلى القيمة إنّما وضع بدلا عن العين، فإذا أمكنت ببذل المقترض كانت أقرب إلى الحق ..» «3».

(3) أي: لعلّ ذهابهم إلى جواز ردّ العين المقترضة. و غرضه المناقشة في الاستدراك بأنّ مجرّد جواز ردّ العين القيميّة المقترضة لا يكشف عن التزامهم بضمان القيميّ بالمثل، و اشتغال ذمّة الضامن بالكلّيّ الجامع بين العين و بين فرد آخر مماثل لها

______________________________

[1] لا يصدق الأداء حقيقة إلّا على ما إذا كان ما يؤدّي به فردا لما في الذمّة لانطباقه قهرا عليه. فإذا كان ما في الذمّة هو القيمة لم يصدق أداؤه على دفع العين، و لا يعدّ دفعها أداء لما في الذمة.

نعم يصدق الأداء مجازا من باب الوفاء بغير الجنس مع تراضي الطرفين، و الوفاء بغيره معاوضة على ما في الذمّة، لا أداء حقيقيّ له.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 57

(2) الدروس الشرعية، ج 3، ص 320

(3) مسالك الأفهام، ج 3، ص 449

ص: 349

ضمان القيميّ بالمثل (1). و لذا (2) اتّفقوا على عدم وجوب قبول غيرها و إن كان مماثلا لها (3) من جميع الجهات.

______________________________

من جميع الجهات الماليّة. بل لا بدّ من إحراز استناد جواز ذلك إلى كون العين المقترضة عندهم كأمثالها فردا من الكلّيّ الّذي استقر على عهدة المقترض، و ذلك غير معلوم، إذ لعلّه من جهة صدق أداء القرض بأداء العين، لا من جهة كون العين فردا من كلّيّ المثل- بالمعنى الذي عرفته- حتى يدلّ على ذهابهم إلى ضمان القيميّ بالمثل كما يستفاد من الآية.

و عليه فالإشكال الذي أورده المصنّف على المشهور من التزامهم بضمان القيميّ بالقيمة- مع دلالة دليلهم على وجوب المماثل عرفا- باق بحاله.

(1) حتى تكون فتوى هؤلاء الجماعة عملا بآية الاعتداء و العرف من اشتغال الذمّة بالمثل حتى في القيميّات.

(2) أي: و لأجل كون جواز ردّ العين المقترضة من جهة صدق أداء القرض على ردّها- لا من جهة ضمان القيميّ بالمثل حتى يكون جواز ردّ العين من باب جواز ردّ المثل الكلّيّ و أدائه ببعض أفراده- اتّفقوا على أنّه لا يجب على المقرض قبول فرد آخر مماثل للعين من جميع الجهات. فلو كان ضمان المديون بفرد من أفراد الكلّيّ الذي تكون العين من مصاديقه وجب على الدائن قبول نفس العين أو فرد آخر مثلها. فعدم وجوب قبول غير العين- على المقرض- يكشف عن عدم اشتغال ذمّة المقترض بالمثل في اقتراض القيميّ. مع أنّك قد عرفت دلالة آية الاعتداء على استقرار المماثل العرفيّ على عهدة الضامن، و لا تصل النوبة إلى الضمان بالقيمة إلّا بتعذّر المثل، و هذا ممّا لا يقول به المشهور.

(3) هذا الضمير و ضمير «غيرها» راجعان إلى العين المقترضة المفروض كونها قيميّة.

ص: 350

و أمّا (1) مع عدم وجود المثل للقيميّ التالف فمقتضى الدليلين (2) عدم سقوط المثل من الذّمّة بالتعذّر، كما لو تعذّر المثل (3) في المثليّ، فيضمن (4) بقيمته يوم الدفع و لا يقولون (5) به.

______________________________

(1) معطوف على قوله: «أمّا مع وجود المثل فيها» و غرضه بيان شقّ آخر من المنفصلة حتى يظهر عدم وفاء الآية و الإطلاق المقاميّ بقول المشهور، لكون النسبة بين الدليل و الدعوى عموما من وجه. فإن كان المثل العرفيّ موجودا كما في الكرباس و العبد افترق الدليل عن قول المشهور بأنّ مقتضى الدليلين الضمان بالمثل، و المفروض عدم التزامهم به، لأنّهم يضمّنون المتلف بقيمة المتلف.

و إن لم يكن المثل موجودا افترقا في مورد آخر، توضيحه: أنّ المشهور يقولون بضمان القيميّ التالف بقيمة يوم التلف، مع اقتضاء الدليلين بقاء ما يماثل ذلك القيميّ في الذمّة، و عدم سقوط ضمانه بالتعذّر، فلو أراد الضامن التخلّص ممّا في عهدته لزمه أداء قيمة يوم الدفع إلى المالك، كما هو الحال في المثليّ الذي يتعذّر مثله، فإنّه لا يسقط عن ذمّته إلّا بأداء قيمته يوم الأداء. مع أنّ المشهور حكموا في القيميّ بأنّ ما عليه هو قيمة يوم تلف المضمون، و لا يضمن زيادة قيمته من يوم التلف إلى يوم الأداء، و هذا الحكم مما يأباه الآية و العرف.

(2) و هما الآية و العرف، إذ لا وجه لسقوط القيميّ بمجرّد تعذّره عن الذمّة- حتى يتعيّن عليه قيمة يوم التلف- مع اقتضاء هذين الدليلين اشتغال الذمّة بمثل التالف حتى في القيميّ، فيلزم اتّحاد حكم المثليّ و القيميّ المتعذّرين.

(3) فإنّه لا يسقط عن ذمّة الضامن بمجرّد تعذّره، و لا ينتقل إلى قيمته يوم تعذّره.

(4) هذه نتيجة بقاء المثل في الذمة، سواء في المثليّ و القيميّ.

(5) يعني: و الحال أنّ المشهور لا يقولون بضمان قيمة يوم الأداء- في القيميّ-

ص: 351

و أيضا (1) فلو فرض نقصان المثل عن التالف من حيث القيمة نقصانا فاحشا، فمقتضى ذلك (2) عدم وجوب (3) إلزام المالك بالمثل، لاقتضائهما اعتبار المماثلة في الحقيقة و الماليّة، مع أنّ المشهور كما يظهر من بعض (4)

______________________________

بل يقولون بضمان قيمة يوم تلف العين القيميّة، و هذه الفتوى مخالفة لمفاد الدليلين كما عرفت، و هذه المخالفة أيضا من موهنات الاستدلال بالآية و العرف على مذهب المشهور.

(1) هذا إشكال آخر على الاستدلال بالآية و العرف لمذهب المشهور، و حاصله: أنّ مقتضى الآية و العرف عدم جواز إلزام المالك بأخذ المثل الذي نقصت قيمته نقصانا فاحشا، إذ مقتضاهما اعتبار المماثلة في الحقيقة و الماليّة، و المفروض زوال المماثلة في الماليّة بنقصان القيمة. مع أنّ المشهور لم يلتزموا به، بل التزموا بجواز إلزام المالك بأخذ المثل حتى في هذه الصورة.

(2) أي: فمقتضى الآية و العرف. و إفراد اسم الإشارة باعتبار «ما تقدّم» و إلّا كان الأولى أن يقال: «ذينك».

(3) كذا في نسخ متعددة، و الصواب تبديل «وجوب الإلزام» بجوازه، أو إرادة الجواز من الوجوب و إن كان بعيدا.

و الوجه في عدم جواز الإلزام بالمثل هو: أنّ المماثلة المعتبرة عرفا في الصورة و الماليّة مفقودة. كما إذا أتلف فاكهة في أوّل أوانها، و هي- لعزّتها- تباع أضعاف قيمة وقت وفورها، فأراد الضامن دفع ذلك المقدار من الفاكهة أوان كثرتها، فإنّ المماثلة تكون حينئذ في صدق الحقيقة، فقط دون الماليّة، مع أنّ الآية و الإطلاق المقاميّ يقتضيان الانتقال إلى قيمة وقت التلف حتى تراعى المماثلة في المالية.

(4) قال السيد العاملي قدّس سرّه: «فلو بقي له- أي للمثل- قيمة و إن قلّت، فالمثل

ص: 352

إلزامه (1) به، و إن قوّى خلافه بعض (2). بل و ربّما (3) احتمل جواز دفع المثل

______________________________

بحاله، كما هو صريح جامع المقاصد، و قضيّة ما لعلّه يفهم من كلام التذكرة» «1».

و قال المحقّق الثاني: «هذا الحكم- أي وجوب أداء القيمة- إنّما يستقيم مع خروج المثل عن التقويم أصلا، فلو بقي له قيمة و إن قلّت فالمثل بحاله» «2». و يلوح منه اتّفاق الأصحاب عليه، بقرينة اتّفاقهم على الانتقال إلى القيمة لو سقط المثل عن الماليّة رأسا، هذا.

(1) قد سقط هنا كلمة «جواز» أي: جواز إلزام الضامن بالمثل، يعني: مع أنّ المشهور ذهبوا إلى جواز إلزام المالك بأخذ المثل و إن نقصت قيمته نقصانا فاحشا، و هذا التجويز مناف لمقتضى الآية و العرف.

(2) يعني: أنّ هذا البعض قوّى انتقال ضمان المثل إلى القيمة كي لا يتضرر المضمون له بنقصان ماليّة المثل «3».

(3) هذا متعلق بقوله: «مع أنّ المشهور .. إلزامه به» و غرضه: أنّ المشهور اقتصروا على جواز أداء المثل المنحطّ قيمته جدّا، كما نقلناه آنفا عن مفتاح الكرامة، و لكن العلّامة «4» قدّس سرّه احتمل جواز دفع المثل الساقط عن الماليّة، كما إذا أتلف الماء في المفازة و أدّاه على الشاطئ. و الإتيان بكلمة «بل» لأجل أنّه لو قيل بفراغ الذمّة بدفع المثل الساقط عن الماليّة رأسا، كان فراغها بدفع المثل المنحطّ قيمته أولى، لبقاء شي ء من ماليّته بعد.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 252، آخر الصفحة.

(2) جامع المقاصد، ج 6، ص 258

(3) لم أظفر على من يقوّي الانتقال إلى القيمة حتى مع بقاء مقدار من ماليّة المثل، نعم قوّاه جمع في الخروج عن التقويم، و هو أمر آخر. فراجع الجواهر، ج 37، ص 99؛ الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 113، و غيرهما.

(4) قواعد الأحكام، ص 79، السطر 26 (الطبعة الحجرية).

ص: 353

و لو سقط من القيمة بالكلّيّة، و إن كان الحقّ خلافه (1) [1].

______________________________

(1) لأنّه خلاف التغريم المعتبر في الضمان. ففرق بين سقوط العين عن الماليّة و سقوط المثل عنها، حيث إنّ العين تردّ بلحاظ ملكيّتها لا بلحاظ ماليّتها، لكن التضمين و التغريم بلحاظ ماليّتها، فيجب حفظ الماليّة في الثاني دون الأوّل، فالمثل إذا سقط عن الماليّة لا يصدق على ردّه التغريم المقوّم للضمان، فلا يخرج الضامن عن عهدة الضمان بردّ المثل الساقط عن الماليّة، بخلاف ردّ العين، فإنّه يصدق عليه أداء ملك الغير، و ردّه إلى مالكه.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ هذا الاشكال إنّما يرد على الاستدلال بالآية الشريفة بناء على كون المراد المماثلة بنحو الإطلاق و من جميع الجهات. لكن الظاهر أنّ المراد بها المماثلة من حيث الحقيقة مع حفظ الماليّة تحقيقا للتغريم و التضمين بالمال. فمقتضى الآية غير مخالف لمسلك المشهور، كيف؟ و المرجع في فهم معنى الآية هو العرف، فما يحكم به العرف في باب الضمان من ضمان المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ هو المستفاد من الآية الشريفة.

فالمراد بالمثل في الآية و في كلام المشهور واحد. و النسبة بينهما هي التساوي، لا الأعمّ و الأخصّ من وجه، لأنّ المراد بالمثل في الآية هو المماثل العرفيّ للتالف من حيث الحقيقة و الماليّة، كما هو قضيّة إطلاق المماثلة و إن لم يكن مماثلا للتالف من حيث الحقيقة و الماليّة. فيراعى المثليّة من حيث الماليّة. فالأوّل هو المثليّ و الثاني هو القيميّ.

نعم يقيّد إطلاق المثل بالنسبة إلى الأفراد التي تقلّ مماثلتها للتالف، كما إذا كان المال التالف غنما و كان فرد من الأغنام مماثلا له في الصفات، فإنّ مقتضى الآية لزوم دفع الفرد المماثل للتالف، و إن كان فردا نادرا من حيث المماثلة للتالف. لكن قيّد هذا الإطلاق بأنّ دفع المماثل للتالف لازم في صورة كثرة الأفراد المماثلة للتالف لا ندرتها، و هذا التقييد قد ثبت بالإجماع، و لولاه لكان الضمان بالمماثل، و إن كان منحصرا في فرد.

ص: 354

______________________________

فالمتحصّل بعد التقييد وجوب دفع المماثل فيما إذا كان أكثر أفراد الطبيعيّ الجامع بينها و بين التالف متفقة في الصفات الموجبة للرغبات و الماليّة، فإطلاق المثل يقيّد بالقيميّات، يعني: أنّ ضمان القيميّ يكون بالقيمة و إن وجد له مماثل.

و إن شكّ في كون التالف مثليّا أو قيميّا فيتمسّك بالعامّ، لأنّه المرجع في المخصّص المجمل المفهوميّ المردّد بين الأقل و الأكثر، حيث إنّه المرجع في أصل التخصيص و التخصيص الزائد، فإنّ وجوب دفع المثل خصّص بما إذا كثرت الأفراد المماثلة للتالف حقيقة و ماليّة، و قد خرج عن وجوب دفع المثل ما لا يكون كذلك، لأنّه يجب حينئذ بمقتضى الإجماع لزوم دفع القيمة. فمع الشكّ في المثليّة و القيميّة يشكّ في تخصيص العامّ زائدا على المتيقّن قيميّته، فيتمسّك في نفي الشك بالعامّ، و يحكم بلزوم دفع المماثل العرفيّ للتالف.

هذا بناء على إرادة المماثل العرفيّ الشامل للمثليّ و القيميّ، و أمّا بناء على إرادة المثل المشهوريّ المقابل للقيميّ فالآية لا تتكفّل حكم القيميّ حتّى تعمّه و يلتزم بتخصيصها بالإجماع، بل لا تتكفّل إلّا لحكم المثليّ، يعني: ضمان المثليّ بالمثل، فالآية ساكتة عن حكم ضمان القيميّ. و حينئذ فلو شكّ في المثليّة و القيميّة فلا عموم حتى يرجع إليه، فالمرجع حينئذ قاعدة الاشتغال و وجوب تسليم الضامن كلّا من المثل و القيمة ليختار أيّ واحد منهما شاء كما تقدّم سابقا.

و الحقّ أن يقال: إنّ التمسك بالآية الشريفة مشكل، لأنّه إن أريد بالمثل فيها المماثلة المطلقة من حيث الاعتداء و المعتدى به في كل مورد، سواء أ كان من الدماء أو الأعراض أو الأموال- كما إذا اعتدى شخص على غيره في عرضه كشتمه أو سرقة ماله أو غيبته أو قذفه إلى غير ذلك من أنحاء الاعتداء- لزم تخصيص الأكثر المستهجن كما لا يخفى.

و لزم أيضا خروج المورد، و ذلك مستهجن. توضيحه: أنّ مورد الآية هو ابتداء المشركين بالقتال في الأشهر الحرم، و المماثلة من جميع الجهات أن تكون في أصل

ص: 355

فتبيّن (1) أنّ النسبة بين مذهب المشهور و مقتضى العرف و الآية عموم

______________________________

(1) هذه نتيجة الإشكالين المتقدّمين، و محصّلها: أنّ الدليل الثاني و الثالث على ضمان المثليّ بالمثل- و هما الآية و العرف- قاصران عن إثبات مدّعى المشهور،

______________________________

الحرب و كيفيّتها و كمّها، بأن يجازيهم المسلمون في نفس القتال و مقداره، فإن قتلوا من المسلمين عددا خاصّا بكيفيّة خاصّة كالقتل بالسّهم أو السيف لزم على المسلمين ذلك من دون زيادة، مع أنّه ليس كذلك.

و إن أريد بالمثل فيها المماثلة في نفس الاعتداء من دون نظر إلى الجنس المعتدى به و كيفيّته و مقداره لزم أن يكون قتالهم جائزا بالاعتداء منهم بالسرقة مثلا، فإن سرقوا من المسلمين في الأشهر الحرم جاز لهم قتال المشركين فيها. و هذا كما ترى.

فالظاهر أنّ المراد بالمثل بقرينة المورد خصوص القتال من دون لحاظ كمّه و كيفه، و التّعدّي عنه لا بدّ أن يكون إلى ما هو مناسب له كاللصّ و المهاجم، فلا وجه للاستدلال بالآية على الضمان أصلا، فإنّ بناء العقلاء الممضى كاف في إثبات أصل الضمان، و كيفيّته أي ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة. و في صورة الشك في المثليّة و القيميّة يرجع الى قاعدة الاشتغال على التقريب السابق، لا إلى عموم الآية، لما عرفت من أجنبيّتها عن مسألة الضمان.

هذا كلّه مضافا إلى: أنّ الشك في القيميّة يلازم الشك في المثليّة أيضا، لما مرّ من كونهما متباينين. فالشكّ في حدود مفهوم أحدهما يستلزم الشكّ في حدود مفهوم الآخر، فلا وجه للرجوع إلى عموم الآية مع الشكّ في حدود مفهوم موضوعه و هو المثل المشهوريّ.

و إلى: أنّ الآية في مقام بيان جواز الاعتداء في مقابل الاعتداء، فإذا أتلف مال زيد جاز لزيد إتلاف ماله، و هذا غير الضمان أعني الغرامة، فلا تدلّ الآية على الضمان، بل تدلّ على جواز إتلاف مال الغير جزافا.

ص: 356

من وجه، فقد يضمن بالمثل بمقتضى الدليلين (1) و لا يضمن به عند المشهور كما في المثالين المتقدّمين (2). و قد ينعكس الحكم (3) كما في المثال الثالث (4). و قد يجتمعان (5) في المضمون به كما في أكثر الأمثلة.

ثمّ (6) إنّ الإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة- على تقدير تحقّقه- لا يجدي

______________________________

لكون النسبة بين الدليل و المدّعى عموما من وجه.

فمورد الافتراق من ناحية الدليل هو مثل إتلاف ذراع من كرباس و عبد من عبدين، فالدليل يقتضي الضمان بالمثل، لوجود المماثل العرفيّ في الصورة و الماليّة، مع أنّ المشهور قالوا بضمان القيمة.

و مورد الافتراق من ناحية قول المشهور هو تنزّل قيمة المثل تنزّلا فاحشا، فإنّهم حكموا بضمان المثل، مع أنّ الدليل يقتضي الضمان بالقيمة، إذ الملحوظ في التغريم ماليّة التالف و الاتّحاد في الصورة، و المفروض تفاوت الماليّة بمقدار كثير لا يتسامح فيه.

و مورد الاجتماع كلّ مضمون مثليّ باصطلاح الفقهاء مع عدم اختلاف قيمة المضمون و المثل.

و حيث كانت النسبة عموما من وجه لم يمكن إثبات هذا المدّعى بهذا الدليل.

(1) و هما آية الاعتداء و بناء العرف.

(2) و هما العبد و الثوب، فإنّهما مضمونان بالمثل بمقتضى الآية و العرف، و بالقيمة عند المشهور.

(3) يعني: أنّ الآية و العرف يقتضيان الضمان بالقيمة، مع أنّ المشهور على الضمان بالمثل، كما في نقصان الماليّة فاحشا.

(4) و هو تنزّل قيمة المثل.

(5) تثنية الضمير في «يجتمعان» باعتبار عدّ الدليلين شيئا واحدا، و جعل مذهب المشهور طرفا آخر. و مراده بأكثر الأمثلة: الأمثلة الواقعيّة للضمان، و ليس غرضه الإشارة إلى شي ء ذكره سابقا.

(6) هذا تمهيد لبيان حكم الشكّ في القيميّة و المثليّة، و حاصله: أنّه- بعد البناء

ص: 357

بالنسبة إلى ما لم يجمعوا على كونه قيميّا (1)، ففي موارد الشكّ يجب الرجوع إلى المثل بمقتضى الدليل السابق (2) و عموم الآية بناء على ما هو الحق المحقّق من أنّ

______________________________

على تخصيص الآية بالإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة دون المثل- لا يجدي هذا الإجماع في موارد الشك في القيميّة و المثليّة، لعدم الإجماع فيها، فلا بدّ من الرجوع فيها إلى عموم الآية القاضي بلزوم دفع المماثل العرفيّ، لأنّه المرجع في المخصص المجمل المفهوميّ المردّد بين الأقل و الأكثر.

كما إذا ورد «أكرم الشعراء» و خصّصه بمخصّص منفصل مجمل مفهوما مردّد بين الأقل و الأكثر مثل «لا تكرم فسّاق الشعراء» بناء على تردد الفسق بين مخالفة مطلق التكليف الإلزاميّ و بين ارتكاب الكبائر خاصّة، فقد تقرّر في الأصول تخصيص العام بالمتيقّن من مفهوم الخاصّ، و الرجوع في الأكثر- كمقترف الصغيرة- إلى عموم إكرام الشعراء.

و كذا الحال في المقام، فإنّ عموم الآية يقتضي الضمان بالمثل حتى في القيميّ، لكنّه خصّص بالإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة. و مع إجمال مفهوم القيميّ يقتصر في التخصيص على المتيقّن منه، و يرجع في مورد الشك إلى عموم الآية.

و على هذا فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي بعد وجود الأصل اللفظيّ و هو أصالة العموم.

(1) كما أنّ الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل لا يجدي بالنسبة الى ما لم يجمعوا على كونه مثليّا، كما عرفته مفصّلا. فالضمان بالمثل منوط بإجماعين: أحدهما على أصل الحكم، و الآخر على الموضوع، و هو كون التالف مثليّا بنظر المجمعين.

و كذا الحال في الضمان بالقيمة في القيميّات، فلو لم يكن التالف قيميّا عند الكلّ كان ضمانه بالمماثل العرفيّ عملا بمقتضى الآية و العرف.

(2) و هو بناء العرف المنزّل عليه إطلاق الضمان في أخبار كثيرة.

ص: 358

العامّ المخصّص بالمجمل مفهوما المتردّد بين الأقلّ (1) و الأكثر (2) لا يخرج عن الحجّيّة بالنسبة إلى موارد الشك.

فحاصل الكلام (3): أنّ ما اجمع على كونه مثليّا يضمن بالمثل مع مراعاة

______________________________

(1) المراد بالأقلّ هو الأشياء التي أجمع الفقهاء على كونها قيميّة كالعقار.

(2) المراد بالأكثر هو ما يشكّ في مثليّته و قيميّته. و قد أشار المصنف إلى جملة منها (في ص 317 و 318).

(3) أي: حاصل ما يترتّب على الدليلين المذكورين من الآية و بناء العرف.

و هذا الحاصل يتكفّل النظر النهائي في ضمان التالف سواء أحرز كونه مثليّا أو قيميّا أم شكّ فيه.

أمّا المثليّ الذي أجمع الأصحاب على مثليته فيضمن بمماثله مع مراعاة الصفات الدخيلة في الماليّة، سواء ساوى قيمته- يوم الأداء و مكانه- قيمة التالف، أم نقص عنه. أمّا مع المساواة فلا ريب في سقوط المضمون عن العهدة. و امّا مع النقص غير المسقط عن الماليّة بالكلّيّة فلوجهين:

أحدهما: الإجماع المحكيّ على إهمال نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف، كما إذا كان قيمة التالف عشرة دنانير، و قيمة مثله يوم الأداء- و بلد الأداء- خمسة دنانير و لولا هذا الإجماع كان مقتضى الآية و العرف رعاية المماثلة في المالية كما حقّقه المصنّف قدّس سرّه.

ثانيهما: الأخبار الواردة في ضمان دراهم أسقطها السلطان عن المعاملة بها، و ضرب دراهم أخرى و روّجها، فتقلّ مالية الدراهم المنسوخة. و قد حكم الامام عليه السّلام بأنّ ذمة المديون مشغولة بتلك الدراهم الأولى لا الدراهم الجديدة. فإنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ التالف المثليّ مضمون بمثله حتى مع حطّ قيمته، هذا.

و أمّا القيميّ الذي أجمعوا على كونه قيميّا فيضمن بالقيمة سواء وجد مماثلة في الصفات أم لم يوجد.

ص: 359

الصفات التي يختلف بها الرّغبات، و إن فرض نقصان قيمته- في زمان (1) الدفع أو مكانه- عن قيمة التالف، بناء على (2) تحقّق الإجماع على إهمال هذه التفاوت.

مضافا إلى الخبر (3) الوارد في «أنّ اللازم على من عليه دراهم و أسقطها السلطان و روّج غيرها هي الدراهم الأولى».

______________________________

و أمّا التالف المشكوك مثليّته و قيميّته- لاختلاف الأصحاب في ذلك- فإن تساوت قيمة المضمون و قيمة المدفوع بدلا عنه الحق بالمثليّ، و لا يجزي أداء القيمة.

و إن اختلفت القيمتان الحق بالقيميّ، و لا يكفي دفع المماثل الذي نقصت قيمته عن قيمة المضمون، هذا.

(1) يعني: أنّ منشأ نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف أحد أمور ثلاثة، إمّا هو الزمان بأن كان التالف عزيز الوجود، كالفاكهة في أوّل أوانها، فأدّاه الضامن في موسم وفورها. و إمّا هو المكان كما إذا ضمن في بلد يعزّ وجود التالف فيه، لكونه منقولا إليه من بلد آخر، فأدّاه الضامن في بلد ثالث يكون المثل فيه أنقص قيمة من بلد الضمان.

و إمّا هو الزمان و المكان معا. و الأمثلة واضحة. و المقصود أنّ تنزّل قيمة المثل لا يقدح في فراغ الذمّة، للإجماع و النصّ.

(2) قيد لقوله: «يضمن بالمثل و إن فرض نقصان» و هذا إشارة إلى أوّل الوجهين على عدم قدح نقصان قيمة المثل عن قيمة المضمون.

(3) هذا وجه ثان لكفاية ردّ مثل المضمون و إن نقص قيمته عنه، و المراد بالخبر هو الجنس لا الشخص، لورود هذا الحكم في خبرين. كمكاتبة يونس إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «أنّه كان لي على رجل عشرة دراهم، و أنّ السلطان أسقط تلك الدراهم، و جاءت دراهم [بدراهم] أعلى من تلك الدّراهم الاولى، و لها اليوم وضيعة، فأيّ شي ء لي عليه؟ الاولى التي أسقطها السلطان، أو الدراهم التي أجازها

ص: 360

و ما أجمع على كونه قيميّا يضمن بالقيمة، بناء (1) على ما سيجي ء من الاتّفاق على ذلك (2)، و إن وجد مثله (3) أو كان (4) مثله

______________________________

السلطان، فكتب: لك الدّراهم الاولى» «1».

بتقريب أنّ الدراهم الأولى الساقطة عن الرّواج لم تخرج عن الماليّة رأسا، لأنّ مادّتها فضّة، و هي لا تسقط عن القيمة بمجرّد إسقاط الهيئة و السّكّة، و إنّما تنقص قيمتها عن الدراهم الرائجة. مثلا إذا كانت عشرة من الدراهم الاولى تساوي دينارا، فبعد إسقاطها يكون الدينار بعشرين منها أو بثلاثين، و هذا هو تنزّل المالية، لا السقوط عن التقويم رأسا.

(1) متعلّق ب «يضمن بالقيمة» يعني: أنّ ضمان ما أجمعوا على قيميّته بالقيمة مبنيّ على تسلّم الكبرى، و هي ضمان القيميّ بقيمته لا بمماثله عرفا، فلولا هذا الإجماع اقتضت الآية الشريفة ضمانه بالمماثل، ثم بالقيمة.

(2) أي: على ضمان القيميّ بالقيمة، قال في الأمر السابع: «فالمرجع في وجوب القيمة في القيميّ و إن فرض تيسّر المثل له، كما في من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه .. هو الإجماع كما يستظهر».

(3) كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا، فإنّ مثل التالف ليس بعزيز الوجود، و مع ذلك فالمضمون به هو القيمة، للإجماع على قيميّة الأقمشة و الثياب.

(4) كما لو أتلف عبدا، و له على سيّده بسبب القرض أو السلم عبد بصفات التالف، فإنّهم لا يحكمون بالتهاتر، بل على المتلف قيمة العبد المتلف. و على المقترض أو البائع سلما أداء ما في ذمّته من العبد إلى مالكه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص 488، الباب 20 من أبواب الصرف، الحديث 2

ص: 361

في ذمّة المالك (1).

و ما (2) شكّ في كونه قيميّا أو مثليّا يلحق بالمثليّ، مع عدم اختلاف قيمتي المدفوع و التالف، و مع الاختلاف الحق بالقيميّ (3)، فتأمّل (4).

______________________________

(1) و لولا الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة كان اللازم التهاتر في مثال إتلاف العبد.

(2) هذا حكم الشكّ في مثليّة التالف و قيميّته، و قد أوضحناه آنفا.

(3) لعلّ وجه إلحاقه بالقيميّ هو عدم إمكان المثل المماثل للتالف في الماليّة، فيصير من قبيل تعذّر المثل الموجب لجواز دفع القيمة.

(4) لعلّه إشارة إلى: أنّ مقتضى الدليلين السابقين اعتبار المماثلة في المالية، و المفروض فقدانها، فالدليلان قاصران عن الدلالة على الاجتزاء به. و لعدم الدليل على الاكتفاء بالقيمة يدور الأمر بين المثل و القيمة، و المرجع فيه أصالة الاشتغال كما تقدّم.

أو إشارة إلى: أنّه مع فرض تحقّق الإجماع على إهمال التفاوت بين قيمتي التالف و المدفوع لا وجه لإلحاق المثليّ بالقيميّ مع اقتضاء الآية الضمان بالمثل.

ص: 362

[الخامس ارتفاع ثمن المثليّ]

الخامس (1): ذكر في القواعد: «أنّه لو لم يوجد المثل إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد» انتهى (2).

______________________________

5- ارتفاع ثمن المثليّ

(1) هذا البحث متفرّع على ما تحقّق في الأمر الرابع من ضمان المثليّ بالمثل، للوجوه الثلاثة المتقدّمة من آية الاعتداء و إطلاق نصوص الضمان مقاميّا و الإجماع، فيحرز اشتغال الذمّة بالمثل. هذا مع عدم تفاوت قيمتي المثل من زمان ضمانه إلى زمان أدائه. و أمّا إذا ارتفعت قيمته بأن صارت قيمته أضعاف قيمته وقت ضمانه فهل يجب على الضامن تحصيل المثل أم يكفي ردّ ثمنه الذي كان حين ضمانه؟

و كذا يتّجه هذا البحث بناء على قصور الأدلّة عن إثبات ضمان المثليّ بمثله، و قلنا بتخيير المالك بين مطالبة المثل و القيمة.

و أمّا بناء على القول بتخيير الضامن بينهما لم يبق موضوع لهذا البحث، لجواز اقتصار الضامن على القيمة، هذا.

(2) العبارة الموجودة في القواعد و في متن جامع المقاصد و مفتاح الكرامة هي:

«و لو تعذّر المثل إلّا بأكثر من ثمن مثله، ففي وجوب الشراء نظر» «1».

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 79 (الطبعة الحجرية)؛ مفتاح الكرامة، ج 6، ص 254؛ جامع المقاصد، ج 6، ص 260

ص: 363

أقول (1): كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة السوقيّة للمثل (2)، بأن صار

______________________________

و وجه النظر ما أفاده في التذكرة بقوله: «إذا أتلف المثليّ وجب عليه تحصيل المثل، فإن وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه بلا خلاف. و إن لم يجده إلّا بأزيد من ثمن المثل ففي إلزامه بتحصيله إشكال. ينشأ من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرّقبة في الكفارة و الهدي. و من أنّ المثل كالعين، و ردّ العين واجب و إن لزم في مئونته أضعاف قيمته. و للشافعيّة وجهان. أظهرهما الأخير. و ربّما يمكن الفرق بين المثل و العين بأنّه تعدّى في العين دون المثل، فلا يأخذ المثل حكم العين» «1».

و الأوّل وجه لعدم وجوب الشراء، و الثاني وجه لوجوبه كما لا يخفى.

و جعل المحقّق الثاني قدّس سرّه منشأ نظر العلامة قدّس سرّه: «لزوم الضرر المنفيّ عن الضامن، فلا يجب عليه الشراء بأكثر من ثمن المثل. و أنّ القدرة على المثل موجودة، فيجب شراؤه» ثمّ رجّح الوجوب كما صنعه العلّامة في التحرير «2».

(1) ناقش المصنّف قدّس سرّه في تردّد العلّامة و حكم بوجوب شراء المثل سواء أ كانت زيادة قيمته لأجل ارتفاع قيمته السوقيّة، لارتفاع أسعار السّلع بحيث قل ما تتساوى قيمة الأمتعة في مبدأ الشهر و منتهاه، أم كانت لأجل عزّة وجود المثل ككونه عند من يضنّ به، و لا يبيعه إلّا بأكثر من قيمته المتعارفة.

و لو كان كثير الوجود لم يرتفع قيمته السوقيّة. لكنّه قدّس سرّه في بادئ الأمر فصّل بين الصورتين، كما سيتّضح.

(2) هذا هو أحد منشئي كثرة ثمن المثل. و محصّله: أنّ تردّد العلّامة إن كان في صورة ارتفاع القيمة السوقيّة، لم يكن له وجه، لأنّ وجوب الشراء إجماعيّ، كما إذا

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 384، أواخر الصفحة.

(2) تحرير الأحكام، ج 2، ص 139

ص: 364

قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه، فالظاهر أنّه لا إشكال في وجوب الشراء و لا خلاف، كما صرّح به في الخلاف، حيث قال: «إذا غصب ماله مثل كالحبوب و الأدهان فعليه مثل ما تلف في يده، يشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف» «1».

و في المبسوط: «يشتريه بأيّ ثمن كان إجماعا» «2» انتهى.

و وجهه عموم النصّ و الفتوى (1) بوجوب المثل في المثليّ.

و يؤيّده فحوى (2) حكمه بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف

______________________________

أتلف زيد حنطة من عمرو، فأراد ردّ مماثلها بعد عام، و قد بلغت قيمة الحنطة ضعف ما كانت عليه، فإنّه لا ريب في وجوب الشراء مقدّمة لأداء المثل إلى المضمون له.

و يدلّ عليه وجوه ثلاثة، أوّلها: الإجماع الذي ادّعاه شيخ الطائفة في المبسوط و الخلاف.

ثانيها: إطلاق آية الاعتداء، القاضي بوجوب ردّ المثل سواء توقّف على الشراء أم لا، و سواء أ كان شراؤه بثمن المثل أم بأزيد منه.

ثالثها: إطلاق فتوى الأصحاب بوجوب ردّ المثل مهما كلّف من مئونة.

(1) الظاهر أن المراد بعموم النص عموم آية الاعتداء، و المراد بالعموم هو الإطلاق الأحوالي كما أوضحناه.

(2) تقريب الفحوى: أنّ دفع المثل مع نقصان قيمته عن قيمة التالف إنّما هو لصدق المماثلة، فإذا صدق عليه أنّه مماثل مع عدم مماثلته للتالف في الماليّة بحدّها، فصدق المماثل عليه مع بلوغه قيمة التالف و زيادة يكون بالأولويّة، لأنّه مماثل له في الحقيقة و الماليّة حقيقة لا عناية لمجرّد المماثلة في الصورة.

______________________________

(1) الخلاف، ج 3، ص 415، المسألة 29 من كتاب الغصب.

(2) المبسوط، ج 3، ص 103

ص: 365

لا يوجب الانتقال إلى القيمة. بل ربّما احتمل بعضهم ذلك (1) مع سقوط المثليّ في زمان الدفع عن الماليّة (2) كالماء على الشاطئ (3) و الثلج في الشتاء.

و أمّا (4) إن كان لأجل تعذّر المثل و عدم وجدانه إلّا عند من يعطيه بأزيد

______________________________

و يمكن تقريب الفحوى بنحو آخر، و هو: أنّ حكمهم بعدم الانتقال إلى القيمة في صورة التنزّل يقتضي عدم مراعاة قاعدة «نفي الضرر» بالنسبة إلى تضرّر المالك به، فعدم مراعاة قاعدة الضرر بالنسبة إلى الضرر الوارد على الضامن- بازدياد ثمن المثل- أولى، لأنّ الضامن أقدم على ضرر نفسه.

(1) أي: عدم الانتقال إلى القيمة مع سقوط المثل عن التقويم، و المحتمل هو العلّامة في القواعد، من دون ترجيح له و لا لخلافه، و قد تقدم كلامه في الأمر الرابع.

و مال إليه في الجواهر «1».

(2) متعلّق بقوله: «سقوط».

(3) يعني: أتلف الضامن الماء في مفازة حيث يبذل المال الكثير لتحصيله، فأراد دفع ذلك المقدار من الماء على شاطئ النهر بحيث لا يبذل فلس بإزائه.

و كذا الحال في إتلاف الجمد و الثلج في حرّ الصيف، فأراد دفع مماثلهما في الشتاء.

(4) هذا عدل قوله: «إن كانت لزيادة القيمة السوقيّة» و كان الأولى أن يقال:

«و إن كانت لأجل تعذّر المثل ..» و كيف كان فلم نظفر في العبارة بجواب «و أمّا» فلاحظ و تأمّل.

و احتمال «كون- و الظاهر- غلطا، و أنّ الصواب اقترانه بالفاء ليكون جواب الشرط» ضعيف، إذ بعد فرض كون النسخة الصحيحة كذلك لا يصلح لأن يكون جوابا، لعدم الارتباط بين الشرط و الجزاء، إذ لا يكون قوله: «و الظاهر» مرتبطا بما قبله، فإنّ الجواب لا بدّ أن يكون مترتّبا على الشرط، و هو مفقود هنا كما لا يخفى.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 99

ص: 366

ممّا يرغب فيه الناس مع (1) وصف الإعواز، بحيث يعدّ بذل ما يريد مالكه بإزائه ضررا عرفا. و الظاهر أنّ هذا هو المراد بعبارة القواعد، لأنّ الثمن في الصورة الأولى ليس بأزيد من ثمن المثل، بل هو ثمن المثل. و إنّما زاد على ثمن التالف يوم التلف. و حينئذ (2) فيمكن التردّد في الصورة الثانية

______________________________

مع أنّ مقصوده حمل ترديد العلّامة قدّس سرّه على هذه الصورة الثانية، و هذا الحمل أجنبيّ عن بيان الحكم الذي يناسب الجزاء.

(1) متعلق بقوله: «يرغب» يعني: أنّ رغبة الناس فيه مع إعوازه لا تقتضي زيادة قيمته بمقدار يريده مالكه، فزيادة الثمن حينئذ ليست لارتفاع القيمة السوقيّة عند الإعواز، بل لأجل طمع المالك و إجحافه، بحيث يعدّ بذل ما يطلبه بائع المثل ضررا عرفا.

و حاصل الفرق بين الصورة الاولى- و هي ما أفاده بقوله. «كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة إلخ»- و الصورة الثانية و هي قوله: «و أمّا إن كان لأجل تعذّر المثل إلخ» هو: أنّه في الصورة الاولى لا يصدق «الأكثر من ثمن المثل» إذ المفروض ارتفاع قيمة المماثل للتالف، فالثمن الفعليّ للمثل هو نفس ثمن المثل، لا أكثر منه. نعم هو أكثر من ثمن التالف يوم تلفه.

بخلاف الصورة الثانية، فإنّه يصدق عليها ذلك، إذ المفروض كون الثمن الذي يريده المالك أكثر من قيمته السوقيّة التي يرغب فيها الناس بوصف الإعواز، كما إذا كانت قيمته السوقيّة بهذا الوصف عشرة دراهم و المالك يريد خمسة عشر درهم، فإنّ صدق «أكثر من ثمن المثل» عليه حينئذ من الواضحات، و يصدق عليه أنّ المالك مجحف في هذه المعاملة، فيتّجه البحث عن وجوب شراء المثل و عدمه.

(2) يعني: حين إرادة بائع المثل أكثر من الثمن السوقيّ لمثل التالف بوصف إعوازه. و الظاهر زيادة هذه الكلمة، للزوم التكرار، لوضوح أنّ مفروض الصورة الثانية إرادة بائع المثل زيادة على ثمنه الواقعي، فلا حاجة إلى كلمة «حينئذ»

ص: 367

- كما قيل (1)- من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرقبة في الكفّارة و الهدي، و أنّه (2) يمكن معاندة البائع و طلب أضعاف القيمة، و هو ضرر (3).

و لكن الأقوى مع ذلك (4) وجوب الشراء وفاقا للتحرير كما عن الإيضاح «1» و الدروس و جامع المقاصد، بل إطلاق السرائر (5)، و نفي الخلاف

______________________________

و على تقدير إسقاطها أمكن جعل «فيمكن» جوابا لقوله: «و أمّا» الشرطيّة.

و الأولى أن يقال: «في هذه الصورة» بإسقاط كلمة «الثانية». أو إبقاؤها، و إن كان إسقاطها أولى، للاستغناء عنها باسم الإشارة، و هي «هذه».

(1) القائل هو العلّامة قدّس سرّه في التذكرة، و قد تقدّمت عبارته آنفا.

(2) معطوف على «أنّ الموجود» يعني: أنّه يمكن معاندة بائع المثل بأن يطلب أضعاف قيمته الواقعيّة، و هذا الوجه أفاده السيد العميد قدّس سرّه «2».

(3) هذا وجه تنزيل الموجود بأكثر من ثمن المثل منزلة المعدوم كالرقبة في الكفّارة، و من المعلوم أنّ الضرر منفيّ في الشريعة.

(4) أي: مع كون الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم- و طلب أضعاف قيمته ضررا على الضامن- يكون الأقوى وجوب الشراء، قال المحقّق الثاني: «و الأصحّ الوجوب، فإنّ الضرر لا يزال بالضرر، و الغاصب مؤاخذ بأشقّ الأحوال، فلا يناسبه التخفيف، و هو الأصحّ» «3».

(5) الإتيان بكلمة «بل» لأجل أنّ ابن إدريس لم يكن من المصرّحين بوجوب شراء المثل إذا زاد ثمنه على ثمن التالف، فنسبة هذا الحكم إليه إنّما هي لاقتضاء إطلاق

______________________________

(1) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 254. راجع تحرير الاحكام، ج 2، ص 139، إيضاح الفوائد، ج 2، ص 178، الدروس الشرعية، ج 3، ص 113

(2) كنز الفوائد، ج 1، ص 661

(3) جامع المقاصد، ج 6، ص 260

ص: 368

المتقدّم عن الخلاف، لعين ما ذكر في الصورة الاولى (1).

ثمّ إنّه لا فرق (2)

______________________________

كلامه بوجوب ردّ المثل، سواء تغيّرت الأسعار أم لم تتغيّر. و لو كان نظره قدّس سرّه إلى صورة مساواة ثمن المثل لثمن التالف لنبّه عليه، و من المعلوم أنّ عدم تقييد وجوب أداء المثل بصورة المساواة كاشف عن إطلاق الحكم. قال قدّس سرّه: «فمن غصب شيئا له مثل وجب عليه ردّه بعينه، فإن تلف فعليه مثله» «1». و الجملة الأخيرة هي محطّ نظر المصنّف قدّس سرّه من نسبة الإطلاق إليه، و هو كذلك.

نعم قال في موضع آخر: «فأمّا ماله مثل فعليه مثله يوم المطالبة، تغيّرت الأسعار أم لم تتغيّر ..» «2». و هذا تصريح بالإطلاق، بناء على أنّ المراد بالتغيّر الارتفاع، و لعلّ المصنّف قدّس سرّه لم يظفر بهذه العبارة و نسب الإطلاق إلى ابن إدريس قدّس سرّه.

(1) و هي كون زيادة الثمن لأجل رواج السوق، فإنّ ما ذكر فيها- من عموم النصّ و الفتوى- آت هنا، و لا مجال لقاعدة الضرر، لأنّها مخصّصة بأدلّة الضمان.

فالمتعيّن الرجوع إلى إطلاق تلك الأدلّة المخصّصة.

نعم تجري قاعدة نفي الحرج إذا لزم الإجحاف بحال الضامن، فإنّ هذه القاعدة تنفي وجوب الشراء.

إلّا أن يقال: إنّ قاعدة نفي الحرج أيضا مخصّصة بتلك الأدلّة المخصّصة، خصوصا بملاحظة «مؤاخذة الغاصب بأشق الأحوال».

(2) لإطلاق أدلّة الضمان، يعني: كما أنّ إطلاقها يقتضي وجوب شراء المثل بأكثر من ثمن المثل، لارتفاع الأسعار مرّ الزمان، كذلك يقتضي وجوب شرائه في بلد آخر- غير بلد تلف العين- إذا طالبه المالك بالمثل. سواء أ كانت قيمتا البلدين متساويتين أم كانت قيمة بلد المطالبة أزيد.

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 480

(2) المصدر، ص 490

ص: 369

في جواز مطالبة (1) المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره. و لا بين كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف أم لا، وفاقا (2) لظاهر المحكيّ «1» عن التحرير و التذكرة و الإيضاح و الدروس و جامع المقاصد.

و في السرائر: «أنّه الذي يقتضيه عدل الإسلام و الأدلّة و أصول المذهب» (3).

______________________________

و الوجه فيه اشتغال ذمة الضامن بالمثل، فللمضمون له مطالبة حقّه. إلّا إذا تعذّر تحصيله، فينتقل إلى قيمته حينئذ كما سيأتي تفصيله في الأمر السادس إن شاء اللّه تعالى.

(1) المصدر مضاف إلى الفاعل، و ضمير «كونه» راجع إلى المثل.

(2) و خلافا لما في المبسوط من «لزوم قيمته في بلد الغصب، أو يصبر حتى يصل إليه ليستوفي ذلك، للضرر المنفي» «2». لكن قد عرفت الإشكال في العمل بقاعدة الضرر من عدم شمولها للحكم الثابت بعنوان الضرر كالضمانات.

(3) كلام ابن إدريس قدّس سرّه لا يختصّ بردّ المثل في غير بلد التلف، لتصريحه بأنّه حكم بدل التالف سواء أ كان مثليّا أم قيميّا، فلاحظ قوله: «إذا غصب منه مالا مثليّا بمصر، فلقيه بمكّة، فطالبه به. فإن كان المال له مثل، فله مطالبته، سواء اختلفت القيمة في البلدين، أم اتّفقت. و إن كان لا مثل له، فله مطالبته بقيمته يوم الغصب، دون يوم المطالبة، إذا أهلكه و أتلفه في يوم غصبه .. و لأنّ المغصوب منه لا يجب عليه الصبر إلى حين العود إلى مصر، بل يجب على الغاصب ردّ مثل الغصب إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل، فإنّ هذا الذي يقتضيه عدل الإسلام و الأدلّة، و لا يعرج إلى

______________________________

(1) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 252. و لاحظ تحرير الأحكام، ج 2، ص 139، تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383 و 384، إيضاح الفوائد، ج 2، ص 177، الدروس الشرعية، ج 3، ص 114، جامع المقاصد، ج 6، ص 252

(2) المبسوط، ج 3، ص 76

ص: 370

و هو (1) كذلك، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم (2)» «1». هذا (3) مع وجود المثل في بلد المطالبة.

و أمّا مع تعذّره فسيأتي حكمه في المسألة السادسة [1].

______________________________

خلافه بالآراء و الاستحسان» «2».

و منه ظهر أنّ كلمة: «و أصول المذهب» غير موجودة في ما بأيدينا من نسخة السرائر و إن نقله عنه السيد العاملي أيضا.

(1) يعني: أنّ ما حكي عن جمع- من جواز المطالبة بالمثل في غير بلد التلف- هو المتعيّن، لعموم سلطنة الناس على أموالهم.

(2) فإنّ إطلاقه يقتضي سلطنة المالك على المطالبة في كلّ مكان و زمان و بأيّ سعر كان، و ليس للضامن حبسه عنه.

و مع هذا الإطلاق لا حاجة إلى التمسّك بمثل «على اليد» أو «كلّ مغصوب مردود» حتى يورد عليه بقصوره، بدعوى «انصرافه إلى خصوص مكان ذلك المال».

لكن يمكن أن يقال: إن كانت سلطنة المالك على المطالبة في بعض الصور حرجيّة فتنفى بقاعدة الحرج، فلا بدّ من ملاحظة موارد المطالبة زمانا و مكانا، و عزّة و كثرة للمثل، و تنزّلا و ترقّيا من حيث القيمة. ففي كل مورد تكون مطالبة المالك حرجيّة يرتفع جوازها بنفي الحرج، فتأمّل.

(3) أي: جواز المطالبة في غير بلد التلف.

______________________________

[1] تحقيق المقام: أنّه قد استدل بآية الاعتداء على وجوب شراء المثل و لو بأكثر من قيمة مماثله. لكن قد عرفت الإشكال في الاستدلال بها على ما نحن فيه.

و قد استدلّ أيضا عليه بالإجماع تارة، و بأنّ الحكم بعدم وجوب الشراء على الغاصب يستلزم الضرر على المالك اخرى.

______________________________

(1) عوالي اللئالي، ج 1، ص 222، الحديث: 29 و ص 457، الحديث 198

(2) السرائر، ج 2، ص 490 و 491

ص: 371

______________________________

و لا يعارض ضرر المالك بضرر الضامن ليندرج المقام في تعارض الضررين كي لا يجب الشراء بأكثر من ثمن المثل. و ذلك لأنّ ضرر الضامن إنّما نشأ عن إقدامه، فلا تجري قاعدة الضرر في حقّه، فتجري في طرف المالك بلا معارض، فيجب شراء المثل و لو بأكثر من ثمن المثل.

لكن فيه: أنّ الاقدام ليس إلّا في الغصب و ما هو بمنزلته من العلم بفساد العقد الموجب للقبض. و أمّا مع الجهل بالفساد فلا إقدام، فالضرران متعارضان. و مقتضى أصل البراءة عدم وجوب شراء المثل بأكثر من القيمة السوقيّة.

إلّا أن يقال: إنّ استصحاب بقاء ما في الذمّة من المثل و عدم انتقاله إلى القيمة يقضي بلزوم شراء المثل بأيّ ثمن كان.

و الذي ينبغي أن يقال هو: أنّ قاعدة الضرر لا تجري في الضمانات، لأنّ موضوعها الضرر، كالخمس و الزكاة، فإنّ المقتضي لوجود شي ء يمتنع أن يكون رافعا له، فقاعدة الضرر لا تجري في الضمانات أصلا، فلا موضوع لتعارض ضرري المالك و الضامن، و لا لدفعه بقاعدة الإقدام من ناحية الضامن.

مضافا إلى ما فيها: من كونها أخصّ من المدّعى، لاختصاصها بالغصب و ما هو بمنزلته، إذ لا إقدام على الضمان في غير الغصب.

فالمرجع إطلاق أو عموم أدلّة الضمان و عموم سلطنة الناس على أموالهم. هذا بالنسبة إلى الصورة الأولى المذكورة في المتن، و هي كون زيادة القيمة لأجل الرواج السوقيّ، لا العناد المالكيّ و لا طمعه. و مع هذا الإطلاق لا تصل النوبة إلى أصل عملي من استصحاب أو براءة أو اشتغال.

نعم إذا لزم الحرج كما إذا كان مجحفا لم يجب الشراء، لقاعدة نفي الحرج.

و أمّا الصورة الثانية- و هي كون زيادة القيمة غير مستندة إلى الرواج بل إلى عناد بائع المثل أو طمعه- فحكمها كما في المتن حكم الصورة السابقة، لجريان ما ذكر من الأدلة من عموم النص و الفتوى و الإجماع المستفاد من نفي الخلاف- في الخلاف- في

ص: 372

______________________________

هذه الصورة حرفا بحرف.

و بالجملة: فإطلاق أدلّة ضمان المثليّ بالمثل محكّمة، فيجب شراؤه و لو بأكثر من ثمن المثل، إذ المفروض عدم جريان قاعدة الضرر في الضمانات. و على تقدير جريانها تسقط بمعارضتها لضرر المالك. فيبقى إطلاق أدلّة الضمان سليما عن المعارض، و مقتضاه وجوب شراء المثل بأيّ ثمن كان.

إلّا أن يقال: إنّ قاعدة الضرر لا ترفع الحكم المجعول في مورد الضرر إذا كان الضرر بمقدار يقتضيه طبع الحكم كما في الصورة الأولى. و أمّا إذا كان الضرر زائدا على ذلك و مترتّبا على أمور خارجة عمّا يقتضيه طبع الحكم، كما إذا كان مترتّبا على عناد بائع المثل أو طمعه، فينفى بقاعدة الضرر، لأنّه خارج عن حيطة الضمان العقلائيّ و كون المثل في عهدة الضامن.

و بعبارة أخرى: ليس الضرر الزائد جزء ماليّة المثل الثابت على عهدة الضامن، و ما ثبت بالضمان هو المثل بماليّته السوقيّة لا بالماليّة الخاصّة التي يريدها شخص للطمع أو العناد، فإنّ ذلك خارج عن حيطة الضمان الشرعي و العرفيّ.

و عليه فلا يجب شراء المثل في الصورة الثانية، لقاعدة الضرر بالنسبة إلى الضامن، فينتقل إلى القيمة.

لكن يمكن أن يقال: بناء على إطلاق لفظيّ لأدلّة الضمان- كآية الاعتداء و الروايات- لا تجري قاعدة الضرر في الصورة الثانية أيضا، إذ المفروض وفاء الإطلاق بجعل الحكم الضرريّ بالنسبة إلى الضرر الزائد على القيمة السوقيّة، و حيث إنّ موضوع هذا الحكم هو الضرر فلا يرتفع بقاعدة الضرر، فحينئذ لا فرق في وجوب الشراء بين الصورتين.

نعم بناء على كون مستند الحكم بكيفيّة الضمان- أي ثبوت المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ في عهدة الضامن- هو الدليل اللبّيّ من السيرة أو الإجماع، فالمتيقّن هو وجوب الشراء في الصورة الأولى، فيرجع في الصورة الثانية إلى الأصل العمليّ، و هو

ص: 373

______________________________

استصحاب الضمان بالمثل، إن لم تجر قاعدة الضرر في الشراء بالزيادة على القيمة السوقيّة، لمعارضتها بضرر المالك، أو حرجه. و لو كان الشراء حرجيّا و لم يعارضه ضرر المالك أو حرجه لم يلزم شراؤه، لكون الحرج رافعا له، فلا يجري حينئذ استصحاب بقاء المثل في الذمّة حتى يجب شراء المثل بثمن كثير يريده بائع المثل.

فتلخّص ممّا ذكرناه: أنّه في الصورة الثانية لا يجب الشراء بأكثر من ثمن المثل، من غير فرق في ذلك بين كون دليل الضمان بناء العقلاء أو الإجماع أو مثل آية الاعتداء.

أمّا على الأوّلين فلأنّ الضمان العرفيّ مبنيّ على المتعارف عندهم من اعتبار القيمة السوقيّة ارتفاعا و انحطاطا، فلو تنزّل السعر السوقيّ ليس للمالك الامتناع عن أخذ المثل. كما أنّه لو ترقّى ليس للضامن الامتناع من إعطاء المثل، بل يجب عليه شراؤه و لو بأكثر من ثمن المثل.

فإذا كانت كثرة الثمن غير مستندة إلى القيمة السوقيّة بل إلى الأغراض الأخر- كالعناد أو الطمع- فهي غير مضمونة عرفا على الضامن، لأنّ الدليل لبّيّ. و المتيقّن منه هو ضمان المثل بقيمته السوقيّة قلّت أو كثرت، فلا يشمل ما إذا كانت كثرة الثمن لغير الرواج السوقيّ، فتنفيه قاعدة الضرر أو الحرج.

و حينئذ لا يجري استصحاب بقاء المثل في الذمّة، لأنّ الدليل الاجتهاديّ ينفي الضمان، و يجعل المثل الموجود في هذه الصورة كالمثل المتعذّر، فينتقل إلى القيمة. كما أنّ قاعدة السلطنة القاضية بجواز مطالبة المالك بالمثل- و إن كثر ثمنه لا لأجل رواج السوق- محكومة بقاعدة الضرر أو الحرج.

و أمّا على الثالث فلأنّ المنساق منه عرفا أيضا هو الضمان العقلائيّ الذي يبنى عليه إطلاق أدلة الضمان. و على تقدير الإطلاق تكون قاعدة الضرر حاكمة عليه، و تخصّه بالضمان المتعارف أعني به القيمة السوقيّة.

و بالجملة: فدليل الضمان لفظيا كان أم لبّيّا لا يقتضي وجوب شراء المثل بثمن لا يقتضيه رواج السوق، بأن نشأ عن داع نفسانيّ كالطمع و العناد.

ص: 374

[السادس: لو تعذّر المثل في المثليّ]

اشارة

السادس (1): لو تعذّر المثل في المثليّ،

______________________________

(1) هذا الأمر من فروع الأمر الرابع الذي تحقّق فيه أنّ المقبوض بالبيع الفاسد إذا تلف عند القابض يضمن بمثله إن كان مثليّا، و بقيمته إن كان قيميّا. خلافا لما نسب إلى ابن الجنيد. فبناء على اشتغال ذمّة الضامن بمثل التالف- في المثليّ- يتّجه البحث عن حكم تعذّر المثل، و انقلاب المضمون إلى القيمة. و يقع الكلام في تعيين قيمة المثل المتعذّر هل هو ثمنه يوم الأداء إلى المضمون له، أم يوم تعذّر المثل، أم غير ذلك من الاحتمالات التي سيأتي تفصيلها إن شاء اللّه تعالى؟

و لا بأس- قبل توضيح المتن- بالإشارة إلى أمرين:

الأوّل: أنّ تعذّر المثل قد يكون ابتدائيّا أي من حين تلف العين، بأن يعزّ وجود المتاع المثليّ في مدّة من الزمن، فتلفت العين فيها. و قد يكون طارئا، بأن يوجد المثل حين تلف العين و لم يحصّله الضامن تساهلا حتى تعذّر المثل.

و انقلاب الضمان بالمثل إلى الضمان بالقيمة و إن كان في كلتا الصورتين. إلّا أنّ المقصود بالبحث فعلا كما صرّح المصنّف قدّس سرّه به بقوله: «إذ لا فرق في تعذّر المثل بين تحقّقه ابتداء كما في القيميّات، و بين طروّه بعد التمكّن كما فيما نحن فيه» هو التعذّر الطاري. و أمّا إذا فقد المثل وقت التلف فسيأتي حكمه.

الثاني: أنّ وجوب أداء ما في الذمّة لا يتوقّف على مطالبة من له الحق كما في المغصوب، فإنّ الغاصب مأمور بردّه- بنفسه أو ببدله- إلى المغصوب منه، سواء طالبه به أم لم يطالبه، لإطلاق «أنّ المغصوب مردود». و المبيع بالبيع الفاسد يكون كالمغصوب في عدم توقّف وجوب ردّه إلى مالكه على المطالبة. نعم إن لم نقل بحرمة إمساكه كما تقدّم من شيخ الطائفة و الحلّي قدّس سرّهما لم يجب ردّه فورا بدون المطالبة.

ص: 375

فمقتضى القاعدة (1) وجوب دفع القيمة

______________________________

و الصحيح من الوجهين هو الأوّل كما حقّقه المصنّف قدّس سرّه في الأمر الثاني، و أنّه يجب ردّه فورا إلى مالكه.

و هذا جار في صور ثلاث: إحداها: بقاء المبيع بالبيع الفاسد. ثانيتها: تلفه مع كونه مثليّا ممكن الحصول. ثالثتها: تلفه مع كونه قيميّا.

فيجب ردّ المبيع- في الصورة الاولى- و بدله في الصورتين الأخريين إلى مالكه فورا.

و بقي حكم صورة واحدة، أعني بها كون المبيع مثليّا، و قد تلف و تعذّر تحصيله، و قد عقد المصنف هذا الأمر لتحقيقه، و تعرّض لجهات من البحث.

الاولى: اشتراط انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة بمطالبة المالك.

الثانية: تعيين القيمة التي تجب بمطالبة المالك، هل هي قيمة المثل يوم الإعواز أم يوم الدفع أم غيرهما؟ و في هذه الجهة تفصيل الاحتمالات المذكورة في قواعد العلّامة قدّس سرّه.

الثالثة: في أنّ محلّ النزاع هل يختصّ بالتعذر الطاري أم يعمّ الابتدائيّ؟

الرابعة: في أنّ مناط إعواز المثل فقده في بلد التلف.

الخامسة: في كيفيّة تقويم المثل مع فرض تعذّره و فقده.

السادسة: في جواز مطالبة الضامن بالمثل لو وجد في بلد آخر غير بلد التلف.

السابعة: في حكم خروج المثل الموجود عن الماليّة و التقويم، و أنّه ملحق بتعذّر المثل أم لا؟

و سيأتي الكلام في كلّ منها إن شاء اللّه تعالى.

(1) هذه هي الجهة الاولى. و توضيحها: أنّ المصنّف قدّس سرّه بنى انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة على مطالبة المالك، إذ لو لم يطالب لم يكن دليل على إلزامه بقبول القيمة، لفرض أنّ ذمّة الضامن مشغولة بالمثل، و مجرّد التعذّر و الإعواز لا يسقط المثل عن العهدة، للفرق بين الأحكام التكليفيّة التي تتغيّر بطروء العناوين الثانويّة، و بين الأحكام الوضعية كالضمان، فلو صبر المالك إلى أن يتيسّر للضامن أداء المثل لم يتّجه إلزامه بقبول القيمة، هذا.

ص: 376

مع مطالبة (1) المالك، لأنّ منع المالك ظلم (2)، و إلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر، فوجب القيمة جمعا بين الحقّين (3).

مضافا إلى قوله تعالى:

______________________________

و أمّا إذا طالبه المالك بقيمة المثل المتعذر، فقد استدلّ المصنف قدّس سرّه بوجهين على وجوب بذل القيمة على الضامن.

أحدهما: الجمع بين حقّي المالك و الضامن. و الآخر: آية الاعتداء، و سيأتي بيانهما.

(1) وجه تقييد وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك هو استقرار المثل في ذمّة الضامن، و عدم كون القيمة في رتبة المثل، بل هي في طوله و متأخّرة عنه رتبة. و هذا التقييد لا ينافي كون المقبوض بالبيع الفاسد كالمغصوب ممّا يجب ردّه بنفسه أو ببدله إلى المالك فورا، و ذلك لعدم كون القيمة واجدة لخصوصيّة المثل المستقرّ في العهدة حتى يكون أداؤها مسقطة له، و سيأتي مزيد توضيح له.

(2) هذا أوّل الوجهين على وجوب أداء القيمة على الضامن، استدلّ به المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه و غيره «1». و هو مقتضى الجمع بين حقّي المالك و الضامن.

أمّا حقّ المالك فهو استحقاقه للقيمة بعد إسقاط الأوصاف النوعيّة التي هي من حقوقه، فله المطالبة بالقيمة، فلو أبى الضامن عن دفع القيمة إلى المالك كان ظلما عليه، و هو قبيح عقلا و ممنوع شرعا.

و أمّا حقّ الضامن فهو: أنّ مطالبة المثل منه غير جائزة، لسقوط التكليف بسبب تعذّره، فلو ألزمناه بدفع المثل كان ظلما عليه، و هو منفيّ عقلا و شرعا.

و الجمع بين الأمرين- بحيث لا يستلزم ظلما على أحدهما- إنّما هو بإلزام الضامن بأداء القيمة لو طالبه المالك بها.

(3) و هو حقّ المالك و الضامن.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 527؛ مفتاح الكرامة، ج 6، ص 242 و 243

ص: 377

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ (1) فإنّ الضامن إذا ألزم بالقيمة مع تعذر المثل لم يعتد عليه (2) أزيد مما اعتدى (3).

______________________________

و بالجملة:- بعد البناء على كون ذمّة الضامن مشغولة بالمثل حتى يعدّ تعذّره و عدم سقوط الأوصاف النوعيّة بدون إسقاط المالك لها- لا وجه لإلزام الضامن إيّاه بقبول القيمة، بل له الانتظار إلى أن يوجد، إذ المفروض عدم كون تعذّر المثل مسقطا له عن ذمّة الضامن، و موجبا للانتقال إلى القيمة، فلا موجب لإلزام المالك بقبول القيمة.

و لا يقاس إعواز المثل بتلف العين، حتى يقال: إنّ الإعواز يوجب الانتقال إلى القيمة، كما أنّ تلف العين يوجب الانتقال إلى المثل إن كان مثليّا و القيمة إن كان قيميّا.

و ذلك لأنّه لا معنى لبقاء العين التالفة في الذمّة، لامتناع أدائها بعد تلفها.

فالانتقال إلى المثل أو القيمة بالتلف قهريّ، بخلاف إعواز المثل، إذ لا مانع من ثبوت كلّيّ المثل في الذمّة إلى زمان الأداء، و لذا لا يجوز للضامن إلزام المالك بالقيمة. كما لا يجب على الضامن إلّا دفع قيمة يوم الأداء، لما مرّ من عدم كون الإعواز موجبا للانتقال إلى القيمة، بل المثل باق في ذمّته إلى يوم الأداء، فتعتبر القيمة يوم الدفع، لأنّه زمان الانتقال إلى القيمة.

(1) هذا ثاني الوجهين على وجوب أداء القيمة. و هو مبني على ما تقدم من شيخ الطائفة قدّس سرّه من: أنّ المماثلة أعم من كونها في الصورة- و هي المشاركة في الحقيقة- و من كونها في المالية خاصة. و حيث إنّ القيمة مماثلة للتالف في المالية دلّت الآية الشريفة على أنّه يجوز للمالك الاعتداء على الضامن بأخذ قيمة ماله منه، فمطالبة القيمة اعتداء بالمثل، لا بأزيد منه حتى تحرم.

(2) هذا الضمير و الضمير المستتر في «اعتدى» راجعان إلى الضامن.

(3) لأنّ القيمة مثل التالف في الماليّة، و المفروض دلالة الآية على جواز الاعتداء بالمماثل.

ص: 378

و أمّا (1) مع عدم مطالبة المالك فلا دليل على إلزامه بقبول القيمة، لأنّ المتيقن (2) أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك، و جمع (3) بين حقّ المالك بتسليطه

______________________________

(1) معطوف على قوله: «مع مطالبة المالك» و قد تقدّم وجه تقييد وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك بقولنا: «و بالجملة بعد البناء على كون ذمّة الضامن مشغولة بالمثل .. إلخ».

(2) هذا التعليل ظاهر في أنّ الوجه الأوّل- و هو الجمع بين الحقّين- لا يجري في ما إذا صبر المالك حتى يتيسّر المثل، و لم يطالب الضامن بالقيمة، لأنّه مالك للمثل في ذمّة الضامن. فهو مسلّط شرعا على المطالبة ببدل المثل المتعذر، كما أنّ له الانتظار و عدم أخذ القيمة.

و أمّا الوجه الثاني- أعني به آية الاعتداء- فيستفاد من التعليل المزبور أيضا عدم وجوب دفع القيمة في صورة عدم مطالبة المالك بها. و ذلك لأنّ المخاطب بجواز الاعتداء على المعتدي- كالضامن في ما نحن فيه- هو المالك، لقوله تعالى فَاعْتَدُوا المنسلخ عن الوجوب. فللمعتدى عليه تغريم المعتدي بالمماثل، الشامل للمماثلة في مجرّد الماليّة خاصّة، و له الانتظار إلى زمان تيسّر المثل المصطلح الذي هو أقرب إلى التالف، لمساواته له في الحقيقة و الماليّة معا. و على كلّ فليس أمر تفريغ الذمّة عن المثل أو القيمة موكولا إلى الضامن حتى يجوز له تفريغ ذمّته عمّا اشتغلت به فورا كي ينقلب ضمانه من المثل إلى القيمة، هذا.

(3) هذا و قوله: «و حقّ الضامن» قرينة على أنّ غرضه من قوله: «لأنّ المتيقّن» هو عدم المجال للاستدلال بالجمع بين الحقّين على جواز أداء القيمة حتى مع عدم مطالبة المالك بها.

لكن يستفاد منه أيضا وجه عدم دلالة الآية الشريفة، لقوله قدّس سرّه: «أمّا عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل» لظهوره في توقف انقلاب ما في الذمّة من المثل إلى القيمة على المطالبة التي هي من شؤون سلطنته على ماله التالف أو المتلف.

ص: 379

على المطالبة، و حقّ الضامن بعدم تكليفه (1) بالمعذور (2) أو المعسور (3). أمّا مع عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل.

و ما ذكرنا (4) يظهر من المحكي «1» عن التذكرة و الإيضاح، حيث ذكرا في ردّ بعض الاحتمالات الآتية «2» في حكم تعذّر المثل ما لفظه: «أنّ المثل لا يسقط بالإعواز، ألا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به. و إنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها» انتهى.

______________________________

(1) أي: تكليف الضامن.

(2) فيما إذا لم يوجد المثل أصلا، فلو كلّف الشارع الضامن بدفع المثل كان معذورا عن امتثاله.

(3) فيما إذا وجد المثل في بلد بعيد بحيث لا يخلو تحصيله و نقله من مشقّة شديدة منفيّة شرعا.

(4) أي: عدم سقوط المثل عن ذمّة الضامن بالتعذّر و الإعواز- مجرّدا عن مطالبة المالك و الانتقال إلى القيمة- إنّما هو لمطالبة المالك، بمقتضى سلطنته على مطالبة ماله، و الكلام المحكيّ عن التذكرة و الإيضاح كالصريح في ذلك، فإنّ كلمة «تغريمها» تدل على إناطة أداء القيمة بمطالبة المالك غرامة ماله.

و لا يخفى أنّ العلّامة قدّس سرّه وجّه بالعبارة المنقولة في المتن الاحتمال الرابع من الاحتمالات العشرة المحكيّة عن الشافعيّة. و الاحتمال الرابع هو ضمان أقصى القيم من يوم الغصب إلى وقت التغريم. و ليس في كلامه ردّ بعض الاحتمالات، إلّا من جهة استلزام تقوية بعضها تضعيف ما عداها، فراجع التذكرة.

______________________________

(1) الحاكي هو السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 252. لاحظ: تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383، السطر 25؛ إيضاح الفوائد، ج 2، ص 175

(2) ستأتي بقوله: «ثم إن في المسألة احتمالات أخر ذكر أكثرها في القواعد».

ص: 380

لكن أطلق (1) كثير منهم الحكم بالقيمة عند تعذّر المثل.

و لعلّهم (2) يريدون صورة المطالبة، و إلّا (3) فلا دليل على الإطلاق (4).

______________________________

(1) يعني: أنّ إطلاق كثير منهم الحكم بالقيمة وقت تغريم الضامن- و عدم تقييده بالمطالبة- يقتضي الانتقال إلى القيمة عند تعذّر المثل مطلقا و إن لم يطالب المالك.

قال السيّد الفقيه العاملي قدّس سرّه: «أمّا أنّه ينتقل إلى القيمة عند التعذّر فهو مما طفحت به عباراتهم كما ستسمع، بل هو إجماعيّ .. و أمّا أنّها تلزم يوم الإقباض لا الإعواز- و إن حكم بها الحاكم يوم الإعواز- فممّا صرّح به في الخلاف و المبسوط و الغنية و السرائر و الشرائع و التحرير و التذكرة و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و مجمع البرهان، و هو قضيّة من اقتصر على لزوم القيمة يوم الإقباض كالإرشاد و غيره» «1».

و أنت ترى خلوّ كلامهم من قيد مطالبة المالك. و به يشكل ما ذهب إليه المصنّف قدّس سرّه و غيره من اشتراط وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك.

(2) غرضه توجيه الإطلاق المزبور، و حاصله: أنّه يمكن أن يريدوا خصوص صورة المطالبة، لا مطلقا حتى يكون مرادهم انتقال المثل بالإعواز إلى القيمة.

(3) يعني: و إن لم نحمل إطلاق حكمهم بالقيمة- عند تعذّر المثل- على خصوص صورة مطالبة المالك أشكل الأخذ بظاهر كلامهم، لعدم دليل على إطلاق انقلاب المثل إلى القيمة.

(4) كما هو مذهب القائلين بثبوت العين في الذمّة، و لا ينتقل إلى البدل من المثل أو القيمة، خلافا لغيرهم كالمصنّف و جماعة، حيث ذهبوا إلى الانتقال إلى البدل بمجرّد تلف العين و الإعواز.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 242 و 243

ص: 381

و يؤيّد ما (1) ذكرنا: أنّ المحكيّ عن الأكثر في باب القرض «أنّ المعتبر في المثل المتعذر قيمته يوم المطالبة» (2).

نعم (3) عبّر بعضهم بيوم الدفع،

______________________________

(1) من عدم سقوط المثل عن ذمّة الضامن بمجرّد الإعواز و التعذّر لو لم يطالبه المالك بالقيمة. وجه التأييد أنّ تعبير الأكثر «باعتبار قيمة العين المقترضة- المتعذّر مثلها- يوم مطالبة المالك» يدلّ على كون موضوع كلامهم خصوص صورة المطالبة، فبدونها لا موجب لانقلاب ما في الذمّة- من المثل- إلى القيمة.

و التعبير بالتأييد- دون الدلالة- لوجهين، أحدهما: أنّه استشهاد بكلام الأكثر، لا بدليل معتمد من نصّ أو إجماع، و من المعلوم أنّ فتوى الأكثر أو المشهور لا تصلح دليلا على حكم شرعيّ.

و ثانيهما: أنّه يحتمل أن يريدوا أنّ الانقلاب إلى القيمة كان في يوم تعذّر المثل لا في يوم المطالبة. كما يحتمل أن يختصّ الحكم بباب القرض، لا في جميع موارد الضمان حتى المقبوض بالبيع الفاسد.

(2) الحاكي هو السيّد الفقيه العاملي، قال قدّس سرّه في شرح قول العلّامة: «و لو تعذّر المثل في المثليّ وجبت القيمة يوم المطالبة» ما لفظه: «كما في السرائر و التذكرة و جامع المقاصد- لما ستسمعه عنه في الدراهم- و مجمع البرهان و المسالك و الكفاية و المفاتيح، لأنّ الثابت هو المثل إلى أن يطالبه» «1».

(3) استدراك على التأييد، و غرضه قدّس سرّه أنّ العلّامة قدّس سرّه لم يعبّر بقيمة يوم المطالبة، و إنّما قال في المختلف: «و الأجود يوم الدفع» «2». فبناء على وجوب رعاية قيمة يوم دفعها إلى المالك لا يتوقف انقلاب المثل المتعذّر إلى القيمة على مطالبة المالك، بل نفس التعذّر موجب للانتقال. و من المعلوم منافاة هذا لمذهب الأكثر، و لا يصحّ التأييد المزبور.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 48

(2) مختلف الشيعة، ج 5، ص 392

ص: 382

فليتأمّل (1).

و كيف كان (2) فلنرجع إلى حكم المسألة، فنقول:

______________________________

(1) لعلّه إشارة إلى: أنّه لا بدّ أن يراد بيوم المطالبة يوم الدفع أيضا، ضرورة أنّ المطالبة بنفسها لا تصلح سببا لانتقال الحقّ من المثل إلى القيمة، و إلّا لزم الانتقال إلى قيمة يوم المطالبة فيما إذا طالب و لم يقدر عليه الضامن، أو عصى و لم يؤدّ القيمة إلى أن زادت أو نقصت، و من المعلوم أنّه ليس كذلك. فالتعبير بيوم المطالبة إنّما هو بالنظر إلى الغالب، و هو اتّحاده مع يوم الدفع.

لكن يشكل هذا الحمل بأنّ العلّامة قدّس سرّه نقل أوّلا فتوى ابن إدريس باعتبار يوم المطالبة، ثم أورد عليه بأنّ الأجود قيمة يوم الدفع، فكيف يمكن إرادة يوم واحد و هو يوم المطالبة و الدفع المترتّب عليها حتى يكون اختلاف التعبير لفظيّا؟

فالأولى جعل الأمر بالتأمّل إشارة إلى كفاية نظر الأكثر في مقام التأييد لو صحّ في نفسه.

(2) أي: سواء تمّ التأييد المزبور- بتوجيه يوم الدفع بيوم المطالبة- أم لم يتم، فلنرجع إلى حكم المسألة، و هذا شروع في الجهة الثانية، و هو تعيين القيمة التي يجب على الضامن دفعها إلى المالك. فنقل المصنّف قدّس سرّه قولين في بادئ الأمر، ثم نقل احتمالات اخرى عن قواعد العلّامة.

أمّا القولان فأوّلهما للمشهور، و هو اعتبار قيمة يوم الأداء، و ثانيهما للحلّيّ و العلّامة في بعض المواضع، و هو اعتبار قيمة وقت تعذّر المثل.

و اختار الماتن مذهب المشهور، و استدلّ عليه بأنّ المثل لمّا لم يسقط عن ذمّة الضامن بمجرّد إعوازه فهو باق على عهدته إلى زمان أداء قيمته، فإن دفعها سقط المثل، و إلّا فلا، فزمان الانتقال إلى القيمة هو زمان دفعها، فيتعيّن رعايتها، و لا عبرة بقيمة يوم التعذّر، و لا أقصى القيم من زمان التلف أو الإعواز إلى الأداء.

ص: 383

إنّ المشهور (1) أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع، لأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك الزمان، و لا دليل على سقوطه بتعذّره، كما لا يسقط الدّين بتعذّر أدائه. و قد صرّح بما ذكرنا المحقّق الثاني (2). و قد عرفت (3) من التذكرة و الإيضاح ما يدلّ عليه (4).

و يحتمل (5) اعتبار وقت تعذّر المثل. و هو للحلّيّ في البيع الفاسد،

______________________________

(1) كما في مفتاح الكرامة، حيث قال بعد عبارته المنقولة (في ص 381):

«و الحاصل: انّي لم أجد مخالفا منّا في ذلك، بل و لا متأمّلا في هذا الباب إلّا قوله في الإيضاح: إنّ الاحتمال الرابع أصحّ، و إلّا قوله في المفاتيح: و قيل وقت الإعواز» «1».

(2) حيث قال- في ردّ القول بضمان أعلى القيم من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز- ما لفظه: «و يضعّف بأنّ المثل لا يسقط من الذمّة بتعذّره، و أداء الدين لا يسقط بتعذّر أدائه، و لهذا لو تمكّن من المثل بعد ذلك وجب المثل دون القيمة، فما دام لم يأخذ المالك القيمة فالمثل باق في الذمّة بحاله» «2».

(3) قبل أسطر، حيث قال: «و ما ذكرنا يظهر من المحكيّ عن التذكرة و الإيضاح .. إلخ» «3».

(4) أي: ما يدلّ على اعتبار قيمة يوم الدفع، و كلام التذكرة و الإيضاح و إن كان تعليلا لاشتراط دفع القيمة بمطالبة المالك، لكنّه يدلّ أيضا على أنّ الملحوظ قيمة يوم الدفع، لترتبه على المطالبة، إذ لا عبرة بدفع القيمة التي لم يطالبها المالك من الضامن.

(5) هذا الاحتمال هو القول الثاني في المسألة، لا محض احتمال، فإنّ ابن إدريس قدّس سرّه اختاره في بعض موارد البيع الباطل، حيث قال: «و إن أعوز المثل فعليه ثمن المثل

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 243

(2) جامع المقاصد، ج 6، ص 254

(3) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383؛ إيضاح الفوائد، ج 2، ص 175

ص: 384

و للتحرير في باب القرض (1)، و عن محكيّ المسالك (2)

______________________________

يوم الإعواز» «1». خلافا لما اختاره في كتاب الغصب بقوله: «فإن أعوز المثل فله قيمته يوم إقباضها» «2».

(1) قال السيّد العامليّ في إعواز المثل إذا كانت العين المقترضة مثليّة: «و قيل وقت التعذّر، و هو خيرة التحرير، و نسب إلى الشيخ في النهاية و القاضي و ابن إدريس في موضع من كتابه فيما إذا تعذّرت الدراهم، و هو خيرة الكتاب- يعني القواعد- في ذلك كما يأتي، و يظهر من الإيضاح أيضا، لأنّه وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة» «3».

(2) يعني: في بعض مواضع المسالك، و هو ما أفاده في شروط العوضين- في عدم انعقاد البيع بحكم أحدهما- بقوله: «و لا يخفى أنّ هذا كلّه في القيميّ. أمّا المثليّ فيضمن بمثله، فإن تعذّر فبقيمته يوم الإعواز على الأقوى» «4».

لكن الشهيد الثاني قدّس سرّه قوّى في باب القرض ضمان قيمة يوم المطالبة «5» و في باب الغصب قال: إنّ الأظهر عند الأصحاب قيمة يوم الإقباض، فراجع.

و عليه كان المناسب التنبيه على أنّ قيمة يوم الإعواز ليست نظره بقول مطلق، بل هي مختاره في خصوص كتاب البيع، و العهدة على الحاكي الذي لم أظفر به، و لم أجده في مفتاح الكرامة، بل عدّ السيد الشهيد الثاني في المسالك من القائلين باعتبار قيمة يوم المطالبة، كما تقدّمت عبارته (في ص 381).

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 285

(2) المصدر، ص 490

(3) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 48

(4) مسالك الأفهام، ج 3، ص 174

(5) المصدر، ص 447

ص: 385

لأنّه (1) وقت الانتقال إلى القيمة.

و يضعّفه (2) أنّه إن أريد بالانتقال (3) انقلاب ما في الذمّة إلى القيمة في ذلك الوقت (4) فلا دليل عليه (5). و إن أريد عدم وجوب إسقاط ما في الذّمّة إلّا

______________________________

(1) أي: لأنّ وقت تعذّر المثل هو وقت الانتقال إلى البدل. و هذا التعليل متكرّر في كلمات أرباب هذا القول، و قد نقله عنهم السيّد العامليّ قدّس سرّه في عبارته المتقدّمة.

(2) ضعّف المصنف قدّس سرّه احتمال اعتبار ثمن المثل يوم الإعواز بما حاصله: أنّه إن أريد بالانتقال انقلاب ما في الذمة من المثل إلى القيمة في ذلك الوقت- أي وقت الإعواز- حتى لو لم يطالب المالك بها، ففيه: أنّه لا دليل على سقوط المثل بمجرّد الإعواز و انتقاله إلى القيمة.

و إن أريد بالانتقال وجوب إسقاط ما في الذمة من المثل بالقيمة في صورة مطالبة المالك، فهو و إن كان صحيحا. لكنّه لا يوجب سقوط المثل و ثبوت القيمة في الذمّة. و لذا لو أخّر الاسقاط عذرا أو عصيانا بقي المثل في ذمّة الضامن إلى أن يتحقّق الاسقاط. و إسقاطه في كلّ زمان إنّما يتحقّق بأداء قيمته في ذلك الزمان، و ليس مكلّفا بإسقاطه بقيمة زمان آخر.

مثلا إذا كان ثمن المثل وقت تعذّره و إعوازه عشرة دنانير، و بعد مضيّ شهر خمسة عشر دينارا، فإن طالب المالك الضامن يوم التعذّر كان مكلّفا بأداء العشرة لإسقاط ما في ذمّته بها. و إن طالبه بعد شهر كان الضامن مكلّفا بأداء خمسة عشر دينارا، و لا يكفي أداء عشرة دنانير حينئذ، لأنّ تفريغ الذمّة في كلّ زمان منوط بدفع قيمة المثل في زمان الاسقاط، لا قيمة الأزمنة السابقة. و عليه فلا عبرة بما اختاره جماعة من كون المدار ثمن المثل يوم إعوازه.

(3) أي: في قولهم: «لأنّ يوم التعذّر وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة».

(4) أي: وقت تعذّر المثل.

(5) بل الدليل على خلافه موجود، و هو عدم إناطة الحكم الوضعيّ- كالضمان-

ص: 386

بالقيمة، فوجوب (1) الاسقاط بها (2) و إن حدث يوم التعذّر مع المطالبة، إلّا (3) أنّه لو أخّر الاسقاط بقي المثل في الذمّة إلى تحقّق الاسقاط. و إسقاطه في كلّ زمان بأداء قيمته في ذلك الزمان (4). و ليس في الزمان الثاني (5) مكلّفا بما (6) صدق عليه الإسقاط في الزمان الأوّل (7)، هذا.

______________________________

بالتمكّن، فالعهدة مشغولة بالمثل حتى في وقت إعوازه.

(1) يعني: ففيه: أنّ وجوب الإسقاط بالقيمة و إن حدث يوم التعذّر مع المطالبة، إلّا .. إلخ.

(2) يعني: أنّ حدوث وجوب دفع القيمة يوم التعذّر مشروط بمطالبة المالك قيمة المثل في يوم التعذّر، فلو لم يطالب لم يحدث يوم الإعواز وجوب دفع القيمة.

(3) يعني: أنّ حدوث وجوب أداء القيمة يوم الإعواز لا يكفي في سقوط المثل عن الذمّة، و انتقال الضمان إلى ثمن المثل. و الشاهد على عدم تبدّل المثل بالقيمة بمجرّد التعذّر هو: أنّ المالك لو طالبه بها يوم الإعواز- حتى يسقط ما في ذمّة الضامن من المثل- و لكنّه لم يؤدّ القيمة في ذلك اليوم و أراد أداءها بعد شهر وجب عليه مراعاة القيمة الفعليّة، لا قيمة يوم التعذّر. و هذا دليل على أنّ وقت الانتقال من المثل إلى القيمة هو يوم الأداء، لا يوم الإعواز.

(4) فإن أدّى قيمة يوم الإعواز- مع مطالبة المالك- كان هو المسقط لما في ذمّته، و كان زمان انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة متحدا مع زمان الاسقاط.

و إن أدّى القيمة بعد الإعواز بشهر لم تكف قيمة يوم التعذّر إذا كانت أقلّ من قيمة يوم الدفع.

(5) و هو زمان إسقاط ما في الذمّة من المثل.

(6) المراد بالموصول هو ثمن المثل المتعذّر يوم تعذّره.

(7) و هو زمان تعذّر المثل مع مطالبة المالك بالقيمة، فإنّه زمان حدوث وجوب القيمة، و لكنّه ليس زمان إسقاط المثل، و لا زمان انقلابه إلى القيمة.

هذا ما أفاده في تضعيف احتمال اعتبار قيمة يوم الإعواز، و تثبيت مختار المشهور.

ص: 387

و لكن (1) لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا- من (2) الآية و من أنّ المتبادر من إطلاقات الضمان هو وجوب الرجوع إلى أقرب الأموال إلى التالف بعد تعذّر المثل- توجّه (3) القول بصيرورة التالف قيميّا بمجرّد تعذّر المثل (4)، إذ لا فرق في تعذّر المثل بين تحقّقه ابتداء كما في القيميّات (5) و بين طروّه بعد التمكّن كما فيما نحن فيه.

______________________________

(1) استدراك على ما اختاره المشهور- من كون العبرة بقيمة يوم الدفع- و تأييد للقول باعتبار قيمة يوم الإعواز. و حاصل الاستدراك: أنّ مقتضيات الأدلّة مختلفة، فإن استندنا إلى الجمع بين الحقّين- و أنّ تعذر المثل لا يسقطه عن الذمّة- اتّجه القول بضمان قيمة يوم الدفع. و إن استندنا في لزوم القيمة في المثل المتعذّر إلى آية الاعتداء و إطلاقات الضمان القاضية بلزوم الرجوع إلى أقرب الأموال إلى التالف اتّجه القول بانقلاب المثل بمجرّد تعذّره إلى القيمة، إذ لا فرق في تعذّر المثل بين كونه بالأصالة كما في القيميّات، و بين كونه بالعرض بعد التمكّن منه كما نحن فيه، فيكون العبرة في انقلاب المثليّ إلى القيميّ يوم تعذّره و إعوازه، لا يوم أدائه.

(2) هذا و قوله: «و من أنّ المتبادر» بيان للموصول في قوله: «ما تقدّم سابقا» أي: في الأمر الرابع. و المراد بالآية آية الاعتداء بالمثل التي استدلّ بها شيخ الطائفة قدّس سرّه على ضمان المثليّ بالمثل، و القيميّ بالقيمة.

(3) جواب الشرط في قوله: «لو استندنا».

(4) سواء طالبه المالك بقيمة المثل المتعذّر أم لم يطالبه بها، و سواء أسقط الضامن ما في ذمّته يوم الإعواز أم أخّره إلى زمان آخر. و الوجه فيه كون ثمن المثل أقرب إلى العين التالفة أو المتلفة عند تعذّر المثل، فيكون يوم الإعواز وقت الانقلاب إلى القيمة.

(5) فإنّ المثل متعذّر فيها بحسب الخلقة، فالتعذّر في القيميّات ابتدائيّ، بخلاف تعذّر المثل في المثليّ بعد التمكن من دفعه، فإنّه عارضيّ.

ص: 388

و دعوى (1) اختصاص الآية و إطلاقات الضمان بالحكم بالقيمة بتعذّر المثل ابتداء لا يخلو عن تحكّم (2) [1].

______________________________

(1) غرض المدّعي الذبّ عن مقالة المشهور من ضمان قيمة يوم الدفع، ببيان: أنّ الآية و الإطلاق و إن اقتضيا اعتبار قيمة يوم الإعواز، لكنّهما مختصّان بالتعذّر الابتدائيّ، بأن لم يوجد مماثل التالف من أوّل الأمر، فيقال بضمان القيمة يوم الإعواز.

و هذا أجنبيّ عمّا نحن فيه من التعذّر الطاري، فالذمّة مشغولة بالمثل، لوجوده حال تلف العين، و إعوازه لا يوجب الانقلاب إلى القيمة، بل الموجب له هو الاسقاط بتسليم الثمن إلى المالك.

(2) إذ المناط في كليهما تعذّر وجود المثل، و هو جار في القيميّ و المثليّ الذي تعذّر وجوده، سواء أ كان طارئا أم ابتدائيّا. و لا مقيّد في البين حتى تختصّ الآية بالتعذّر البدويّ.

لكن يمكن إبداء الفرق بينهما بأنّ اعتبار المثل في القيميّ لغو، إذ المفروض عدم كونه مرجوّ الحصول، بخلاف المثل المتعذّر في المثليّ، فإنّه مرجوّ الحصول. و هذا الفرق يوجب الفرق بين القيميّ و المثليّ المتعذّر المثل عند العرف المحكّم في باب الضمانات، فإنّ تضمين الضامن بالمثل في القيميّات لا أثر له، فيلزم اللغويّة بل الامتناع، لكونه من التكليف بغير المقدور، إذ لا يرجى وجوده في زمان حتى يصحّ إشغال ذمّته بالمثل، فمن أوّل الأمر يجعل في ذمّته القيمة. فلا تحكّم في الفرق بين القيميّ المتعذّر مثله إلى الأبد و بين المثليّ المتعذر مثله المرجوّ وجوده بعد حين، بانقلاب القيميّ بمجرّد إعوازه إلى القيمة، و انقلاب المثل المتعذر إلى القيمة يوم الدفع.

و قد تحصّل من كلمات المصنّف قدّس سرّه: أنّ المشهور بين الأصحاب اعتبار قيمة يوم الدفع، و غير المشهور هو اعتبار قيمة يوم إعواز المثل. و سيأتي الكلام في وجوه اخرى ذكرها العلّامة في التذكرة و القواعد.

______________________________

[1] قد يتمسك لإثبات القيمة بقاعدة الميسور، بتقريب: أنّ دفع المثل الواجد

ص: 389

______________________________

للصفات النوعيّة معسور، فيسقط وجوب أدائه، و يبقى الميسور و هو نفس الماليّة، فيجب أداؤها.

لكن فيه: أنّ المثل و القيمة متباينان، و ليسا من قبيل المركّب المتعذّر بعض أجزائه، فلا تكون القيمة ميسورا للمثل حتى تجري فيها قاعدة الميسور.

ثم إنّ ما أفاده، المصنّف قدّس سرّه من «أنه ليس للضامن إلزام المالك بقبول القيمة عند إعواز المثل و عدم مطالبة المالك» مبنيّ على ما نسب إلى المشهور في باب الضمان من اشتغال الذمّة بالمثل في المثليّ معلّقا على التلف في صورة البقاء، و منجّزا في صورة التلف، إذ بناء عليه يكون المثل في الذمّة، و إعوازه لا يوجب الانتقال إلى القيمة، فإذا صبر المالك إلى أن يوجد المثل فليس للضامن إلزامه بالقيمة.

و أمّا بناء على كون الثابت على عهدة الضامن نفس العين، فمع إعواز المثل يجوز دفع القيمة و لو مع عدم مطالبة المالك، و ليس له الامتناع عن قبولها، لأنّ القيمة حينئذ نحو أداء للعين بجهتها الماليّة، كما أنّ المثل أداء للعين بجهتها النوعيّة مراعاة لحال المالك، لكونه أقرب إلى التالف. فمع إعواز المثل و مطالبة القيمة يجب أداؤها، لأنّه مع تعذّر المرتبة الكاملة يجب دفع النازلة.

و قد وجّه هذا المبنى- أي: اشتغال الذمّة بنفس العين، الموجب لجواز مطالبة قيمة المثل و وجوب أدائها على الضامن- بوجوه:

الأوّل: حديث «على اليد» بدعوى: ظهوره في أنّ الثابت في الذمّة و لو بعد التلف نفس العين بخصوصيّتها الشخصيّة و النوعيّة و الماليّة.

و فيه أوّلا: عدم دلالة حديث «على اليد» على الضمان، بل يدلّ على الحكم التكليفيّ و هو وجوب الأداء ما دامت العين موجودة، فتأمّل.

و ثانيا:- بعد تسليم دلالته على الضمان- أنّه لا يفهم العرف منه إلّا ضمان المثليّ

ص: 390

______________________________

بالمثل و القيميّ بالقيمة، و اعتبار كون العين على العهدة قيد زائد لا ينتقل إليه أذهان أبناء المحاورة. بل يمتنع اشتغال الذمّة بالعين بخصوصيّاتها المشخصة، لامتناع أدائها بعد تلفها، فلا تشتغل الذمّة إلّا ببدلها من المثل أو القيمة.

و ثالثا: أنّه لم يثبت كون دليل الضمان بالمثل أو القيمة لمراعاة حال المالك حتى يكون له الاعراض عن مرتبة و الأخذ بمرتبة أخرى، و لذا لو كان المثل موجودا ليس له الاعراض عن المثليّة و مطالبة القيمة، بل يجب عليه قبول المثل.

الثاني: أنّ اليد إذا وقعت على العين وقعت عليها بخصوصيّتها الشخصيّة و النوعيّة و الماليّة، فجميع تلك الجهات تقع على عهدته. و مقتضى دليل السلطنة جواز إلقاء المالك خصوصيّة المثليّة، و مطالبة خصوصيّة الماليّة. من غير فرق في ذلك بين كون مقتضى دليل اليد عهدة نفس العين بشؤونها، و بين كونه ضمان المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، حيث إنّ ضمان المثل و كونه على العهدة متضمّن لضمان القيمة أيضا، فله إلقاء جهة المثليّة و مطالبة القيمة.

و فيه- مع أنّ لازم ذلك جواز إلقاء خصوصيّة المثل و العين و جواز مطالبة القيمة حتى مع وجود العين و المثل، و هو كما ترى- أنّ دليل الضمان لا يدلّ إلّا على ضمان نفس العين على المبنى الأوّل، و المثل في المثليّ على المبنى الثاني. و ليس في ضمان العين ضمانات، و لا في ضمان المثل ضمانان عرضا أو طولا حتى يصحّ للمالك إسقاط جهة و مطالبة جهة أخرى، إذ ليست شؤون العين مضمونة، بل المضمون نفس العين التي لها مثل و قيمة، و هكذا المثل على المبنى الثاني.

و أمّا دليل السلطنة على الأموال فلا يقتضي جواز مطالبة غير ما على عهدة الضامن و هو المثل في المثليّ، و لا معنى لاقتضائه أداء القيمة إلّا إذا قيل بتبدّل المثل بالقيمة عند الإعواز، و هو أوّل الكلام.

ص: 391

______________________________

الثالث: ما في المتن من: أنّ منع المالك ظلم، و إلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر، و مقتضى الجمع بين الحقّين وجوب القيمة.

و فيه: أنّ كون منع المالك عن القيمة ظلما منوط بثبوت القيمة على عهدة الضامن، و هو أوّل الكلام، و مع ضمان المثل إلزام الضامن بغير ما للمضمون له لعلّه ظلم.

و دعوى «اشتمال المثل على الماليّة، فتعذّره لا يسلب سلطنة المالك عن الماليّة، فله مطالبة القيمة» مدفوعة بما مرّ آنفا من عدم كون شؤون العين مضمونة. فالعهدة لا تشتغل إلّا بالمثل، لا به و بالقيمة، و لا دليل على كون التعذّر بمجرده موجبا للانقلاب كما تقدّم.

نعم إذا تعذّر المثل إلى الأبد أو إلى أمد بعيد كان منع المالك عن القيمة ظلما.

فإطلاق كلام المصنّف القاضي بوجوب القيمة مع التعذّر و لو إلى أمد قريب محلّ النظر.

كما أنّ ما أفاده من الجمع بين الحقّين أيضا محلّ التأمّل، لأنّ نفي الإلزام بالتعذّر غير ثبوت الحق للضامن، كما أنّه ليس للمالك حقّ المطالبة مع تعذّره، و حقّ مطالبة القيمة له غير ثابت مع اشتغال الذمّة بالمثل فقط.

الرابع: ما في المتن أيضا من التمسّك بقوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ حيث إنّ الضامن إذا ألزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى.

و كذا إطلاقات أدلّة الضمان، إذ المتبادر منها وجوب الرجوع إلى ما هو الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل، و هو القيمة. فالتعذّر يوجب الانتقال إلى القيمة، كالتعذّر الابتدائي في القيميّات. و لا فرق بين التعذّر الابتدائيّ و العارضيّ.

و فيه أوّلا: أنّ الآية وردت في الاعتداء الحربيّ، و ليست راجعة إلى باب الضمان أصلا.

و ثانيا: أنّه- بعد الغضّ عمّا ذكر- لا يكون إلزام الضامن بالقيمة اعتداء بالمثل، بل بغيره، و لم يرخّص الشارع فيه.

ص: 392

______________________________

إلّا أن يقال: إنّ القيمة اعتداء بالمثل، لمماثلتها للتالف في المالية.

و لو سلّم دلالة الآية على عدم الاعتداء زائدا على مقدار اعتداء الغاصب أو الضامن، لكن لا تدلّ على جواز الاعتداء بكلّ شي ء لا تزيد ماليّته على ماليّة المضمون، لعدم كون الآية في مقام بيان ذلك، حيث إنّها بصدد بيان المنع عن التعدّي بالزيادة، لا جواز الأخذ بكل ما لا يزيد ماليّته عن ماليّة المضمون.

و ثالثا: أنّه فرق بين التعذّر الابتدائيّ كالقيميّات و التعذّر العارضيّ، بأنّ التعذّر العارضيّ لا يوجب الانتقال إلى القيمة، لرجاء وجود المثل فيه. بخلاف الابتدائي، فإنه لا يرجى وجوده، فالتكليف بدفع المثل فيه ممتنع، فلا يمتنع فيه التكليف بدفع المثل.

الخامس: أنّ صبر المالك إلى أن يوجد المثل ضرر عليه، و هو منفي، فله المطالبة بالقيمة.

و فيه أوّلا: أنّ التأخير ليس ضررا دائما، فالدليل أخصّ من المدّعى.

و ثانيا: أنّ لزوم التأخير لتعذّر المثل عقليّ، و ليس بشرعيّ حتى يرفع بقاعدة الضرر.

و ثالثا: أنّ شأن قاعدة الضرر نفي الحكم، لا إثبات أمر مباين أو مخالف، كإثبات القيمة مع ضمان المثل.

و منه يظهر الكلام في دليل نفي الحرج لو كان التأخير حرجيّا.

السادس: بناء العقلاء على مطالبة القيمة عند تعذر المثل، و إلزام الضامن بأدائها.

و فيه: أنّ المتيقّن منه- بعد ثبوته و اتّصاله بزمان المعصوم عليه السّلام- هو تعذّر المثل إلى الأبد، أو إلى أمد بعيد جدّا. و أمّا إذا كان أمد التعذّر قليلا فلا.

السابع: الالتزام بانقلاب المثل بمجرّد التعذّر إلى القيمة، بتقريب كون الوضع منتزعا عن التكليف، و من المعلوم امتناع التكليف بأداء المتعذّر. و عدم سقوط الضمان

ص: 393

______________________________

رأسا، لأنّ سقوطه مخالف للضرورة، فالتكليف لا محالة يتوجّه إلى أداء القيمة. و ينتزع من هذا التكليف الحكم الوضعيّ أعني به اشتغال الذمّة بالقيمة، و هو المطلوب. فللمالك مطالبة القيمة. فالتعذّر أوجب التكليف المنتزع عنه الشغل المترتّب على انقلاب المثل إلى القيمة، و ليس للضامن التأخير.

و فيه: مع إمكان استقلال الوضع و عدم تبعيّته للتكليف فعلا كما في إتلاف الصبيّ مال غيره- فإنّه ضامن مع عدم تكليف فعليّ عليه بوجوب الأداء- فلا ينتزع عن وجوب أداء القيمة اشتغال الذمّة بالقيمة، إذ من الممكن كون ذمّته مشغولة بالمثل، و مع ذلك جاز للمالك مطالبة الضامن بالقيمة، لعدم إمكان وصوله إلى المثل. و حبس ماله إلى زمان وصوله إلى المثل ضرر عليه، و هو منفيّ.

و الحاصل: أنّ سلطنة المالك على مطالبة القيمة و وجوب أدائها على الضامن ليست لانقلاب المثل إليها، بل لأقربيّتها إليه في مقام التأدية.

و هذا نظير بدل الحيلولة، و القول بأن ظاهر قاعدة اليد ضمان نفس العين، و أداء المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ نحو أداء لها من غير انقلاب العين إليهما.

الثامن: لغويّة جعل المثل المتعذّر في الذمّة سيّما إذا كان التعذّر إلى الأبد. و كذا التكليف بأدائه، بل هو ممتنع، لعدم القدرة عليه، فلا محالة ينقلب المثل بمجرّد تعذّره إلى القيمة.

و فيه: أنّه لا يلزم اللغويّة مطلقا. أمّا في صورة تعذر المثل إلى أمد قريب فواضح.

و أمّا مع تعذّره إلى الأبد فلأنّ بقاء المثل في الذمة يوجب اعتبار قيمة يوم الدفع، بخلاف ما إذا قلنا بتبدله بمجرّد التعذّر، فإنّ المدار على قيمة يوم التعذّر.

فالمتحصل: أن الوجوه المستدل بها على الانقلاب لا تخلو من مناقشة.

نعم لا بأس ببناء العقلاء المحكّم في باب الضمان على اعتبارهم القيمة

ص: 394

______________________________

بمجرّد تعذّر المثل، بمعنى انقلاب ما في ذمّة الضامن من المثل إلى القيمة، أو بمعنى سلطنة المالك على مطالبة ماليّة ماله و إن كان المثل في ذمة الضامن. و ذلك إمّا لكون المثليّة من حقوق المالك، و له إسقاطها. و إمّا لكون الصبر ضررا عليه.

لكن ينبغي تقييد سلطنة المالك على مطالبة القيمة بما إذا لم يكن دفع القيمة مضرّا بحال الضامن أزيد من الضرر الوارد من نفس الضمان، و إلّا فليس للمالك مطالبة القيمة، إلّا إذا كان الضمان اعتدائيّا، كما إذا غصب الضامن أو قبض المبيع مع علمه بفساد المعاملة، فإنّ الإقدام حينئذ يوجب جواز المطالبة منه بالقيمة و إن كانت ضررا عليه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: أنّه لا دليل على انقلاب المثل عند إعوازه إلى القيمة و إن قلنا بجواز مطالبة القيمة لجهة من الجهات، فإنّ إعواز المثل لا يخرج المضمون عن المثليّة، و لذا لو فرض الإعواز في مدّة طويلة ثم وجد المثل وجب بحكم العقلاء أداء المثل، و وجب على المالك قبوله، و ليس له الامتناع. و لو امتنع ردّه إلى الحاكم.

فأداء القيمة عند إعواز المثل نحو أداء له في هذه الحالة من دون انقلاب العين إليها، فإنّ انقلاب المباين إلى مثله بمجرّد التعذّر ممّا لا يساعده دليل، إذ بقاؤه في الذمّة ليس منوطا بوجوده خارجا، و إلّا لم يصحّ إحداثه كما في السّلم، فإنّ بيع حنطة في الذمّة إلى أجل معلوم مع عدم وجودها حين البيع صحيح بلا إشكال. فلو كان وجود الكلّيّ خارجا شرطا لاشغال الذمّة بالكلّيّ لم يصحّ بيع السلف في هذه الصورة أصلا.

و منه يظهر عدم الإشكال في بقائه على الذمّة، و عدم انقلابه بمجرّد إعواز أفراده إلى كلّيّ آخر، فإنّ البقاء لا يزيد على الحدوث، فعدم وجود المثل في الخارج لا يوجب انقلاب الحقيقة المثليّة إلى الحقيقة القيميّة المباينة لها، إذ ليس الميزان في القيميّ عدم وجود المثل له في الخارج.

و الحاصل: أنّ إعواز المثل لا يوجب خروج الشي ء عن المثليّة، و هو الموافق لارتكاز العقلاء أيضا في باب الضمانات، و لذا لو أعوز المثل مدّة طويلة، ثم وجد

ص: 395

______________________________

فللمالك مطالبته، و ليس له الامتناع عن قبوله إذا دفعه الضامن إليه كما تقدّم آنفا. كما أنّه بناء على انقلاب المثليّ بمجرّد تعذّر المثل إلى القيمة يجب على المالك قبول القيمة، و ليس له الامتناع، لأنّه لا حقّ له في المثل حتى يصبر إلى أن يوجد، بل حقّه نفس القيمة، فيجب عليه قبولها، و إن لم يقبلها تردّ إلى الحاكم.

و ممّا ذكرنا من عدم مساعدة ارتكاز العقلاء على انقلاب المثل إلى القيمة بمجرّد إعوازه- و أنّ هذا الارتكاز هو الموجب لانصراف أدلّة الضمان إليه- يظهر ما في كلام المصنّف قدّس سرّه: «و لكن لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا من الآية و من أنّ المتبادر .. إلخ» من الإشكال، إذ لا يستفاد منها إلّا الضمان العقلائيّ الذي قد عرفت أنّه ليس ضمان المثليّ إلّا بالمثل، سواء أعوز المثل أم لا، فإنّ الإعواز لا يوجب خروج الشي ء عن حقيقته.

فالمتحصّل: أنّ تعذّر المثل لا يوجب انقلاب المال المثلي إلى القيميّ.

ثمّ إنّ في زمان اعتبار القيمة احتمالات و وجوها كثيرة، و تحقيق ما هو الحقّ منها موقوف على بيان أمور:

الأوّل: أنّه قد مرّ سابقا عدم الدليل على انقلاب المثل عند تعذّره إلى القيمة، و إن كان المستند في لزوم القيمة آية الاعتداء و المتبادر من إطلاق الضمان، ببيان: أنّ الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل هو القيمة، فينقلب المثل عند إعوازه إلى القيمة.

و ذلك لما عرفت من أنّ إعواز أفراد طبيعة لا يوجب الانقلاب إلى طبيعة أخرى، فإنّ المثليّ- كما تقدّم سابقا- مغاير للقيميّ و مباين له، فكيف تنقلب المثليّة الى القيميّة بإعواز أفراد المثليّ؟ نعم القيمة عند تعذّر المثل أقرب إلى التالف في مقام التأدية، و هذا غير الانقلاب.

الثاني: أنّ مقتضى «على اليد ما أخذت» ضمان العين المأخوذة بجميع صفاتها الحقيقيّة و الانتزاعيّة و الإضافيّة ممّا لها دخل في الرغبات و اختلاف القيم، فالدابّة مثلا

ص: 396

______________________________

بمالها من الصفات المزبورة و كذا الثلج المأخوذ في الصيف و في قارّة أفريقا مضمونان على المستولي عليهما، و لذا يكون وصف الصحّة مضمونا، لوقوعه تحت اليد تبعا، فإذا كانت العين المغصوبة أو المقبوضة بعقد فاسد موجودة وجب ردّها مع أداء قيمة الصفات التالفة.

و إذا تلفت وجب ردّ مثلها بصفاتها إن كانت مثليّة، و إن كانت قيميّة وجب ردّ أعلى القيم من زمن الغصب أو الأخذ بالبيع الفاسد إلى زمان التلف، إن كان ارتفاع القيمة لأجل الصفات، لا لزيادة القيمة السوقيّة التي لا ترجع إلى وصف من أوصافها.

الثالث: أنّ الاحتمالات في زمان اعتبار القيمة كثيرة، و نذكر مهمّاتها و مهمّات مبانيها.

و محصّل الكلام فيها: أنّه إمّا أن نقول بأنّ مقتضى أدلّة الضمان هو وقوع العين في العهدة في المثل و القيميّ حتى حال التلف و التعذّر، و لا تنقلب إلى غيرها إلى زمان الأداء بالمثل أو القيمة.

و إمّا أن نقول بأنّ مقتضاها ضمان المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، بمعنى: أنّ العين إذا تلفت يقع على العهدة بدلها، و هو المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ.

و على هذا الاحتمال إمّا نقول ببقاء المثل على العهدة إلى وقت الأداء حتى مع إعوازه مطلقا، و أنّ دفع القيمة إلى المالك عند التعذّر نحو أداء للمثل. و إمّا نقول بانقلابه بمجرّد التعذّر إلى القيمة. و بانقلاب العين في الاحتمال الأوّل، و هو وقوع العين على العهدة وقت تعذّر الأداء.

هذه هي الاحتمالات المعتدّ بها من الاحتمالات المتصورة في المقام.

فإن قلنا بالاحتمال الأوّل- و هو كون العين على العهدة- فعن بعض المحقّقين: أنّ الاعتبار بقيمة يوم الأداء، ببيان: أنّ ماليّة العين حال الأداء لا تحتاج إلى عناية، بخلاف غير حال الأداء كحال التعذّر أو التلف أو المطالبة، فإنّها تحتاج إلى عناية و معيّن.

بل نفس التكليف بأداء ماليّة العين تقتضي تعيّن ماليّتها عند تعلّق الأداء بها، لأنّها

ص: 397

______________________________

قيمتها بالفعل، و هي نحو أداء للعين. و التكليف و إن لم يتعلّق إلّا بنفس العين دون القيمة، إلّا أنّ عدم إمكان ردّها بنفسها أوجب المصير إلى ماليّتها، إذ المضمون هو العين بماليّتها، دون ذات العين بدون الماليّة. فنفس دليل الضمان يقتضي ضمان ماليّة المضمون، و لا يحتاج ضمانها إلى دليل آخر. و تقييد ماليّتها بغير وقت الأداء محتاج إلى مئونة زائدة، فمقتضى الضمان العرفيّ الممضى شرعا هو قيمتها الفعليّة.

فلا يرد عليه: أنّ هذا التقريب قاصر عن إثبات مطلوبهم، لأنّ التكليف على هذا المبنى لم يتعلّق بأداء القيمة و الماليّة، ضرورة عدم انقلاب العين إلى القيمة، و ليس دليل لفظيّ دالّ على وجوب أداء قيمة العين حتى يستظهر منه ما ذكر، هذا.

نعم الإشكال في أصل المبنى «بعدم دليل على وقوع العين في العهدة بعد التلف مع عدم إمكان أدائها أصلا» في محلّه، لاحتياجه إلى عناية زائدة، فإنّ اعتبار وجود العين على العهدة ممّا لا يتبادر في أذهان العقلاء الحاكمين بالضمان. بل تلف العين يوجب اشتغال الذمّة ببدلها مثلا أو قيمة. كما أنّ تلف المثل يوجب الانتقال إلى البدل إلّا مع رجاء وجود المثل في زمان غير بعيد، هذا.

و قد يقال: باعتبار قيمة يوم التلف مع فرض كون العين على العهدة، ببيان: «أنّ الماليّة بلحاظ حال التلف ماليّة حقيقية موجودة مضمونة. و أمّا الماليّة قبل التلف فهي موجودة، لكنّها غير مضمونة، و لذا لا يجب تداركها مع دفع العين إذا نقصت قيمتها.

و الماليّة بعد التلف ليست موجودة، بل مفروضة بفرض وجود العين، و لا تدارك حقيقة إلّا للماليّة المتحقّقة بتحقّق العين، لا الماليّة المقدّرة للعين المفروضة.

فالنتيجة هي الاعتبار بقيمة يوم التلف، لا يوم الأداء كما هو مقتضى الوجه الأوّل.

نعم إنّما تكون العبرة بيوم الأداء إذا قلنا بأنّ مقتضى أدلة الضمان كون الثابت على العهدة المثل لا العين، لأنّ المثل ثابت عليها إلى زمان الأداء، فالاعتبار بيومه، لأنّ المثل كلّي ثابت في الذمة له ماليّة موجودة لا مفروضة. و هو الفارق بين بقاء العين على العهدة

ص: 398

______________________________

إلى زمان التفريغ، و بقاء المثل إلى زمان الأداء، فإنّ العين حيث كانت شخصيّة و قد تلفت فلا وجود و لا ماليّة لها إلّا بالفرض. بخلاف المثل، فإنّه كلّيّ لا يتوقّف اشتغال الذمّة به على وجود شي ء يطابقه خارجا، فلا تلف له، فماليته حال الأداء متحققه لا مفروضة» «1».

و فيه: أنّ الفرق بين بقاء العين على العهدة إلى زمان التفريغ، و بقاء المثل إلى زمان الأداء غير ظاهر، لأنّ ماليّة الكلّيّ ليست باعتبار نفسه، بل باعتبار ماليّة مصاديقه المحقّقة أو المقدّرة، فمصاديقه التي تكون تحت قدرة الضامن جهة تعليليّة لصيرورة الكلّيّ في الذمّة مالا، نظير الأوراق النقديّة، فإنّ ماليّتها باعتبار الذهب أو الفضّة أو غيرهما ممّا جعل بإزائها و منشأ لماليّتها، و يقال لها: «رصيد».

و عليه فالكلّيّ إذا كان على ذمّة معتبرة- أمكن لصاحبها إيجاد مصاديقه مهما أراد، أو يطالب آجلا أو عاجلا- يكون مالا، و مع عدم الإمكان مطلقا لا تعتبر له الماليّة، فكما أنّ ماليّة الكلّيّ باعتبار غيره و هو مصاديقه، فكذلك ماليّة العين التي هي في الذمّة باعتبار أنّها مضمونة، و أنّ صاحب الذمة قادر على أدائها بمثلها أو قيمتها. و العين المعدومة خارجا غير معدومة في صقع الاعتبار، و لها ماليّة باعتبار إمكان تأديتها بالمثل أو القيمة.

فلا فرق بين الكلّيّ في الذمّة. و العين فيها، لا من جهة المعدوميّة من جهة و الموجوديّة من أخرى، فإنّ كلّا منهما معدوم خارجا و موجود اعتبارا. و لا من جهة الماليّة، لأنّ كلّا منهما بذاته مع الغضّ عن إمكان تحقّق مّا لا مالية له. و لهذا لا يعتبر الكلّيّ في ذمّة من لا يقدر على إيجاد مصداقه عاجلا و لا آجلا، و لا ماليّة له. فالعين المعتبرة في ذمّة من أمكنه أداء مثلها أو قيمتها مال، و المسألة عقلائيّة لا عقليّة، فالاعتبار على هذا المبنى- أي كون العين في الذمّة- بقيمة يوم الأداء مع اعتبار جميع الأوصاف الدخيلة في الرغبات.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني، ج 1، ص 94

ص: 399

______________________________

و أمّا ما أفيد من «عدم ضمان الماليّة قبل التلف و إن كانت موجودة» فإن أريد بها القيمة السوقيّة فلا بأس به، لما قيل من أنّ مجرّد زيادة القيمة السوقيّة ما لم ترجع إلى وجود وصف أو فقدانه لا توجب الضمان، لعدم مساعدة العرف عليه، إذ القيمة معتبرة بإزاء الشي ء و صفاته الموجبة للرغبات، و لا تلاحظ القيمة وصفا لنفس الشي ء.

و إن أريد بها الأعمّ منها و من الأوصاف الدخيلة في الرغبات، فهي مضمونة بدليل الضمان كما تقدّم.

و عليه فالأولى أن يقال: إنّ مقتضى هذا المبنى- أي: كون العين في الذمّة- وجوب الخروج عن عهدة العين التي في عهدته. بأداء قيمتها التي هي نحو أداء لها، و العرف يحكم بأنّ أداءها يتحقق بأداء قيمتها الفعلية، لا القيم الأخر، فلو كان قيمتها حال الأداء مائة مثلا و قبله خمسين، فأداء الخمسين ليس نحو أداء لها.

و كذا الحال بناء على كون مفاد دليل الضمان ضمان المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ- في قبال المبنى المتقدّم و هو ضمان نفس العين- فإنّه بناء على بقاء المثل في الذمة إلى وقت الأداء و عدم انقلابه بالتعذّر إلى القيمة يجري فيه ما مرّ من كون العبرة بقيمة يوم الأداء.

و أمّا بناء على انقلاب المثل بتعذّره إلى القيمة، فإن كان التعذّر بدويّا أي من زمان تلف العين- فالعبرة بقيمة العين يوم التلف، لأنّه يوم الانقلاب إلى القيمة.

و لا وجه لاعتبار قيمة الأزمنة المتخللة بين تلف العين و أداء القيمة، إذ القيمة في تلك الأزمنة فرضيّة لا حقيقيّة. فالضمان إنّما ثبت في الماليّة الموجودة، و هي زمان تلف العين، فالقيمة قيمة العين، لا قيمة المثل حتى يلاحظ قيمة يوم الأداء، نظرا إلى ثبوت كلّيّ المثل في الذمّة إلى زمان الأداء.

و إن كان التعذّر طارئا، فعلى القول بكون المثل و القيمة كليهما غرامة نفس العين- و أنّ ضمان المثل في المثليّ لسدّ خلل مال الغير بمقدار الإمكان، و هو ماهيّته النوعية،

ص: 400

______________________________

و مع عدم الإمكان من هذه الجهة لا بدّ من ضمان قيمتها، لأنّها سدّ لخللها في هذا الحال بالمقدار الممكن- فلا بدّ حينئذ من اعتبار قيمة يوم تلف العين أيضا.

و على القول باشتغال العهدة مع التعذّر الطاري بالمثل فلا بدّ من الخروج عن عهدته، لا عهدة العين، إذ المفروض عدم اشتغال الذمّة بها، بل بالمثل، فلا وجه لاعتبار قيمتها، فالعبرة حينئذ بقيمة المثل يوم التعذّر.

هذا بناء على ضمان المثل في المثليّ. و أمّا بناء على كون العين على العهدة إلى زمان تعذّر المثل ثم انقلابها إلى القيمة، فالمدار على قيمة يوم تعذّر المثل، لأنّه وقت انقلابها إلى القيمة.

فالمتحصّل: أنّه بناء على وقوع العين على العهدة تكون العبرة بقيمة يوم الأداء.

و بناء على وقوع المثل في الذمّة ففي تعذّره البدويّ تكون العبرة بقيمة يوم تلف العين، لأنّه زمان انقلاب العين بالقيمة، فيكون كتلف القيميّ في كون العبرة بقيمة يوم التلف.

و في تعذّره الطاري تكون العبرة أيضا بقيمة يوم تلف العين بناء على كون المثل و القيمة كليهما غرامة نفس العين. و بقيمة يوم تعذر المثل بناء على اشتغال الذمّة بالمثل، لا قيمة العين التالفة، لعدم اشتغال الذمّة بالعين، فلا وجه لاعتبار قيمتها، هذا.

تتمة: اعلم أنّ من الأقوال اعتبار أعلى القيم من حين أخذ العين إلى زمان التلف.

و وجهه ما أشير إليه سابقا من كون العين بجميع أوصافها الدخيلة في الرغبات مضمونة، فالقيمة العالية الناشئة من الأوصاف الثابتة له حال الأخذ مضمونة، لوقوع الأوصاف تبعا للعين تحت اليد، فلو تنزّلت قيمتها بعد الأخذ كان الضمان باقيا، فمع تلف العين تصير قيمتها العالية مضمونة.

و أمّا بعد التلف فلا وجه لضمان زيادة قيم الأمثال إلى حين تعذّر المثل أو الأداء، لأنّ العين التالفة خرجت عن تحت اليد، و وقوعها على العهدة على القول به- أو وقوع

ص: 401

______________________________

مثلها على القول الآخر- مغاير لكونهما تحت اليد الذي هو الموجب للضمان، فلا وجه لضمان زيادة قيم أمثال العين في صورة وقوع المثل على الذمّة، أو العين المفروضة الوجود في صورة وقوع العين بوجودها الاعتباري على الذمّة، فيسقط كثير من الاحتمالات كأعلى القيم من حين الأخذ إلى حين الإعواز أو المطالبة أو الأداء، أو من حين التلف إلى زمان الإعواز، أو غيره مما ذكر.

فما قيل من: «أن الانقلاب إلى القدر المشترك بين العين و المثل أي أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان إعواز المثل وجيه، لأنّ القول بضمان القيميّ بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف ينتج في المقام ضمانه بأعلى القيم من زمان أخذ العين إلى زمان إعواز المثل، لأنّ معنى الضمان بأعلى القيم هو استقرار مراتب القيمة السوقيّة في عهدة الضامن بشرط تلف المضمون، فإذا تعذّر ردّ المثل بقي ارتفاع قيمته على العهدة، كما أنّ ارتفاع قيمة العين أيضا عليها» «1».

ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لما مرّ آنفا من أنّ الموجب للضمان هو كون الشي ء تحت اليد. و أمّا كونه على العهدة فهو مغاير لما يوجب الضمان، و لذا لو كان عليه صاع من الحنطة بسبب القرض أو البيع و لم يؤدّ مع المطالبة لم يضمن ارتفاع قيمته، إذ لا وجه للضمان بعد عدم كون ما على العهدة تحت اليد. فالقول بضمان أعلى القيم في الغصب إلى زمان التلف لا ينتج ما ذكر من ضمان أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان إعواز المثل.

و توهّم شمول آية الاعتداء لذلك بتقريب: أنّ عدم أداء العين و المثل حين ارتفاع قيمته اعتداء يعتدى فيه بالمثل، و هو القيمة، فاسد، لأنّ الاعتداء مع المطالبة اعتداء في تأخير أداء ما في ذمّته، لا اعتداء في قيمته.

مضافا إلى عدم دلالة الآية الشريفة على الضمان كما مرّ مرارا.

و الحاصل: أنّ ما ذكر ليس له وجه، فضلا عن كونه وجيها.

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 142

ص: 402

[الوجوه المحتملة في قيمة المثل المتعذّر، و مبانيها]

________________________________________

ثمّ إنّ في هذه المسألة (1) احتمالات أخر (2)، ذكر أكثرها في القواعد (3)، و قوّى بعضها في الإيضاح، و بعضها بعض الشافعيّة.

______________________________

الوجوه المحتملة في قيمة المثل المتعذّر، و مبانيها

(1) أي: مسألة تعذّر المثل.

(2) أي: غير اعتبار القيمة يوم تعذّر المثل الذي نسبه إلى الحلّيّ في البيع، و إلى التحرير في باب القرض.

(3) قال العلّامة قدّس سرّه فيه: «و لو تلف المثليّ في يد الغاصب و المثل موجود فلم يغرمه حتى فقد، ففي القيمة المعتبرة احتمالات: الأوّل: أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف، و لا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال. الثاني: أقصى قيمته من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز. الثالث: أقصى القيم من وقت الغصب إلى الإعواز. الرابع:

أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة. الخامس: القيمة يوم الإقباض» «1».

و أضاف إلى هذه احتمالات أخرى في غصب التذكرة، فراجع.

و لا يخفى أنّ الاحتمال الخامس هو مذهب المشهور الذي اختاره المصنّف، و قد تقدّم وجهه و مبناه، و هو عدم سقوط المثل عن الذّمّة بمجرّد الإعواز، بل يتوقف سقوطه على أداء ثمن المثل، و لذا تكون العبرة بقيمة يوم الدفع و الإقباض. و يبتني عليه الاحتمال الرابع أيضا كما سيأتي.

و أمّا سائر الاحتمالات فمبنيّة على استقرار القيمة في عهدة الضامن بأحد أنحاء ثلاثة:

الأوّل: انقلاب العين المثليّة التالفة إلى القيمة بسبب إعواز المثل.

الثاني: انقلاب نفس المثل إلى القيمة.

الثالث: انقلاب الجامع المشترك بين العين التالفة و المثل المتعذّر إلى القيمة.

و هذا المبنى الثالث لم يشر إليه المصنّف قدّس سرّه هنا، و لكنّه أشار إليه في تفصيل مباني

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 79 (الطبعة الحجرية).

ص: 403

و حاصل جميع الاحتمالات (1) في المسألة مع مبانيها: أنّه إمّا أن نقول باستقرار المثل في الذّمّة إلى أوان الفراغ منه بدفع القيمة، و هو الذي اخترناه (2) تبعا للأكثر من اعتبار القيمة عند الإقباض، و ذكره في القواعد خامس الاحتمالات.

و إمّا (3) أن نقول بصيرورته (4) قيميّا عند الإعواز.

______________________________

الاحتمالات بقوله: «و إن قلنا: إنّ المشترك بين العين و المثل صار قيميّا» و كان المناسب التنبيه على إجماله هنا كما نبّه على إجمال سائر المباني.

و كيف كان فكلام المصنّف قدّس سرّه حول مباني الاحتمالات المذكورة في قواعد العلّامة قدّس سرّه يقع في مقامين:

أحدهما: مقام الثبوت، و بيان ما يمكن أن يكون وجها لكلّ واحد من الاحتمالات.

ثانيهما: مقام الاثباب، و هو الاستظهار من أدلّة الضمانات.

(1) أي: جميع الاحتمالات المتصورة في هذه المسألة ممّا تقدّم و غيره ممّا سيأتي.

(2) يستفاد اختياره له من بيانه و عدم المناقشة فيه، حيث قال: «ان المشهور أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع .. إلخ».

(3) معطوف على قوله: «إمّا أن نقول» و قد أشرنا آنفا إلى أنّ: منشأ ما عدا الاحتمال الخامس- من الاحتمالات المذكورة في القواعد- هو هذا الشّقّ من القضيّة المنفصلة أعني استقرار القيمة في ذمّة الضامن عند الإعواز.

(4) مقتضى السياق رجوع الضمير إلى «المثل» الذي تقدّم في قوله: «إمّا أن نقول باستقرار المثل في الذّمّة إلى أوان الفراغ منه» فالمراد بقوله: «و إمّا أن نقول» هو:

أن نقول بصيرورة المثل المتعذّر قيميّا، أي انقلاب المثل إلى القيمة.

و لكن يشكل هذا الإرجاع من جهة أنّ المصنف رتّب عليه احتمالين:

أحدهما: انقلاب المثل إلى القيمة، و هذا يلتئم مع إرجاع الضمير إلى المثل.

ص: 404

فإذا صار كذلك (1)، فإمّا أن نقول: إنّ المثل المستقرّ في الذّمّة (2) قيميّ فيكون القيميّة صفة للمثل بمعنى: أنّه لو تلف وجب قيمته. و إمّا أن نقول: إنّ المغصوب انقلب قيميّا بعد أن كان مثليّا.

فإن قلنا بالأوّل (3)، فإن جعلنا الاعتبار في القيميّ

______________________________

ثانيهما: انقلاب نفس العين المثليّة التالفة إلى القيمة، لما سيأتي من قوله: «و إمّا أن نقول: إنّ المغصوب انقلب قيميّا بعد أن كان مثليّا» و من المعلوم أنّ انقلاب نفس العين التالفة إلى القيمة أجنبيّ عن صيرورة المثل قيميّا، لأنّ المدار على قيمة العين لا قيمة المثل المتعذّر، و إن كان تعذّره واسطة ثبوتيّة لتبدّل ضمان العين بالثمن.

و كيف كان فمراد المصنّف من قوله: «و إمّا أن نقول بصيرورته قيميّا» هو تبدّل ضمان المثل بضمان القيمة، إمّا قيمة المثل، و إمّا قيمة العين التالفة أو المتلفة.

إلّا أن يوجّه إرجاع الضمير إلى «المثل» بأنّ المثليّ يصير قيميّا، سواء أ كانت القيمة قيمة المثل أم قيمة العين المضمونة، فيصحّ جعله مقسما لقسمين، فتدبّر.

(1) يعني: فإذا صار قيميّا عند إعواز المثل، لا عند دفع القيمة الذي نسبه المصنّف إلى المشهور و اختاره كما عرفت.

(2) كما فهمه المحقّق الثاني «1» من قول العلامة قدّس سرّهما. و عليه فتكون القيمة بدلا عن المثل الذي هو بدل عن العين، فتصير القيمة بدل البدل، في قبال الاحتمال الآخر و هو كون القيمة بدلا عن العين، نظير بدليّة المثل عنها، فيكون للعين بدلان: المثل و القيمة، لكنّهما ليسا بدلين عرضيّين بل طوليين، و بدلية القيمة مشروطة بتعذّر المثل.

أمّا بدليّة المثل فمطلقة.

(3) المراد بالأوّل هو أوّل الاحتمالين المبنيين على انقلاب المثل قيميّا عند الإعواز، و قد أفاده بقوله: «فإمّا أن نقول: إنّ المثل المستقرّ في الذّمّة قيميّ ..» و ليس المراد بالأوّل بقاء المثل في الذّمّة إلى أوان أداء القيمة، لما عرفت من أنّه لو قلنا

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 254

ص: 405

بيوم التلف (1)- كما هو أحد الأقوال (2)- كان (3) المتعيّن قيمة المثل يوم الإعواز، كما صرّح به (4) في السرائر في البيع الفاسد، و التحرير في باب القرض، لأنّه (5) يوم تلف القيميّ.

و إن جعلنا الاعتبار فيه (6) بزمان الضمان- كما هو القول

______________________________

ببقاء المثل في عهدة الضامن إلى يوم الإقباض تعيّنت قيمته في ذلك اليوم، و لا مجال لسائر الاحتمالات.

(1) و هو الموافق للمرتكز العرفيّ في الضمان بالقيم من تدارك الخسارة الماليّة- الواردة على المالك بتلف العين- بما يساوي تلك الخسارة حين التلف.

(2) بل في الدروس و الروضة نسبته إلى الأكثر، كما نقله المصنف في الأمر السابع. و الوجه فيه: أنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف، إذ الواجب قبله إنّما هو ردّ العين.

(3) جواب الشرط في «فإن جعلنا» و جملة الشرط و الجزاء جواب لقوله:

«فإن قلنا ..».

(4) أي: كما صرّح ابن إدريس و العلّامة قدّس سرّهما- في بعض المواضع- بتعيّن قيمة المثل يوم إعوازه. و قد تقدّم كلامهما و كلام الشهيد الثاني في بيع المسالك، فراجع (ص 384 و 385).

(5) يعني: لأنّ يوم إعواز المثل هو يوم تلف القيميّ، فلا بدّ من رعاية قيمة المثل يوم تعذّره.

و لا يخفى أنّ تعيّن قيمة المثل يوم الإعواز ليس من الاحتمالات المذكورة في القواعد، و إنّما ذكره العلّامة قدّس سرّه في التذكرة سابع الاحتمالات، و نبّه المصنّف قدّس سرّه عليه، لترتّبه على القول بالانقلاب و بضمان القيميّ يوم تلفه.

(6) أي: و إن جعلنا الاعتبار في القيميّ بزمان الضمان- لا يوم التلف- اتّجه القول بضمان قيمة زمان تلف العين، لأنّ زمان تلف العين هو أوّل أزمنة ثبوت المثل في

ص: 406

الآخر في القيميّ (1)- كان (2) المتّجه اعتبار زمان تلف العين (3)، لأنّه (4) أوّل أزمنة وجوب المثل في الذّمّة المستلزم (5)

______________________________

الذّمّة، لأنّ الذّمّة لا تشتغل بالمثل ما دامت العين موجودة، فإذا تلفت انتقل الضمان إلى البدل و هو المثل، و حيث إنّ المفروض إعواز المثل ضمنه بقيمته يوم تلف العين.

و بعبارة أخرى: إنّ اشتغال الذّمّة بقيمة المثل زمان تلف العين منوط بأمرين:

أحدهما: القول بأنّ القيميّ المغصوب يضمن بقيمة يوم غصبه، ضرورة أنّ وضع اليد على مال الغير مقتض لاشتغال العهدة به. و لا عبرة بقيمته في سائر الأزمنة كيوم تلفه أو يوم مطالبة الملك ببدل التالف.

ثانيهما: أنّ المثليّ انقلب يوم إعوازه بالقيميّ.

و بناء عليهما يتّضح وجه ضمان قيمة المثل يوم تلف العين، و ذلك لأنّ تلفها يوجب استقرار المثل في الذّمّة، فالمضمون في يوم التلف هو المثل، و حيث تعذّر الوصول إلى المثل- كما هو المفروض- و انقلب قيميّا، فلا بدّ من رعاية قيمته يوم استقراره في العهدة و هو يوم تلف العين.

(1) هو لشيخ الطائفة في موضع من المبسوط، و لغيره أيضا كما سيأتي في الأمر السابع.

(2) جواب الشرط في قوله: «و إن جعلنا ..».

(3) يعني: اعتبار ثمن المثل في يوم تلف العين المضمونة بالغصب أو بالقبض بالبيع الفاسد كما في المقام.

(4) يعني: لأنّ زمان تلف العين أوّل أزمنة ثبوت المثل في الذّمّة، فانقلب ضمان العين بضمان المثل، و حيث إنّ المثل متعذّر، ضمن ثمنه يوم تعذّره، كما إذا تلفت العين في أوّل الشهر، و تعذّر المثل في آخر الشهر، فيضمن ثمن المثل في أوّل الشهر الذي تلفت العين فيه، لا ثمنه في يوم إعواز المثل كما كان في الاحتمال السابق على هذا الاحتمال.

(5) صفة ل «وجوب المثل» و المراد بالوجوب هو الثبوت.

ص: 407

لضمانه بقيمته عند (1) تلفه (2). و هذا (3) مبنيّ على القول بالاعتبار في القيميّ بوقت الغصب كما عن الأكثر.

و إن جعلنا (4) الاعتبار فيه بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان التلف- كما حكي عن جماعة من القدماء (5) في الغصب- كان المتّجه الاعتبار بأعلى

______________________________

(1) متعلّق ب «ضمانه» لا «بقيمته» و ظرف القيمة- و هو زمان تلف العين و اشتغال الذّمّة بالمثل- محذوف.

(2) هذا الضمير راجع إلى العين، و ضميرا «لضمانه، بقيمته» راجعان إلى المثل، فكأنّه قيل: وجوب المثل في الذّمّة مستلزم لضمان خصوص قيمة المثل الثابتة عند تلف العين، لا سائر قيمة.

(3) أي: ضمان قيمة يوم التلف مبنيّ على القول بكون العبرة في القيميّ بزمان الغصب، لأنّه وقت الضمان كما عن الأكثر، و المفروض أنّ زمان اشتغال الذّمّة بالمثل هو زمان تلف العين.

(4) معطوف على «و إن جعلنا» و مقصوده قدّس سرّه بيان مبنى الاحتمال الثاني المتقدّم عن القواعد، و هو ضمان أعلى القيم من يوم تلف العين إلى زمان إعواز المثل، فأفاد:

أنّه لو قلنا في القيميّ المغصوب بمقالة جماعة من قدماء الأصحاب- من ضمان أعلى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف- اتّجه الاحتمال الثاني و هو ضمان المثليّ المتعذّر وجوده بأعلى القيم من تلف العين إلى الإعواز، و ذلك لأنّ زمان الضمان بالمثل هو زمان تلف العين، كما إذا تلفت أوّل الشهر و تعذّر المثل في آخره، فإنّ المثل المنقلب إلى القيميّ صار مضمونا في تمام الشهر، فلو ارتفعت قيمته وسط الشهر و انخفضت في يوم إعواز المثل ضمن تلك القيمة العليا.

(5) قال السيّد العامليّ قدّس سرّه: «هو خيرة الخلاف و المبسوط و النهاية في موضع منهما، و الوسيلة و الغنية و السرائر و الإيضاح و اللمعة و المقتصر و التبصرة- على إشكال- و كذا شرح الإرشاد للفخر، و في بيع المختلف نسبته إلى علمائنا، و في

ص: 408

القيم من يوم تلف (1) العين إلى زمان الإعواز.

و ذكر هذا (2) الوجه في القواعد ثاني الاحتمالات.

و إن قلنا (3): إنّ التالف

______________________________

غصبه: انّه أشهر. و استحسنه في الشرائع، و كأنّه قال به أو مال إليه. و في الكفاية و المسالك: أنّ في خبر أبي ولّاد ما يدلّ على وجوب أعلى القيم بين الوقتين، و كأنّه قال به و قوّاه في الروضة أيضا .. إلخ» «1».

(1) لما عرفت من أنّ يوم تلف العين أوّل زمان ضمان المثل بقيمته عند تلفها، و آخر زمانه زمان تلف المثل أعني به زمان إعوازه.

(2) أي: اعتبار أعلى القيم من يوم تلف العين إلى زمان إعواز المثل.

هذا تمام الكلام في الاحتمالات الثلاثة المبتنية على انقلاب المثل إلى القيمة بالإعواز.

أوّلها: اعتبار قيمة المثل يوم الإعواز، و هو مبنيّ على القول بضمان القيميّ بقيمة يوم تلفه.

ثانيها: اعتبار قيمة المثل يوم تلف العين، و هو مبنيّ على القول بضمان القيميّ بقيمة يوم ضمانه و دخوله في العهدة. و حيث إنّ ضمان المثل تحقّق في يوم تلف العين اعتبر ثمنه فيه، لا في يوم إعوازه و تعذّره.

ثالثها: اعتبار أعلى قيم المثل من زمان تلف العين إلى زمان إعواز المثل، و هذا مبنيّ على ضمان القيميّ المغصوب بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان التلف.

و سيأتي الكلام فيما يبتني من الوجوه على القول الآخر في المثليّ المتعذّر، و هو ضمان قيمة نفس العين لا قيمة المثل.

(3) معطوف على قوله: «فان قلنا بالأوّل» يعني: و إن قلنا بالثاني- و هو انقلاب التالف المثليّ قيميّا، لا انقلاب المثل المعوز إلى القيمة- ففيه احتمالان:

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 244

ص: 409

انقلب (1) قيميّا احتمل (2) الاعتبار بيوم الغصب

______________________________

أحدهما: كون العبرة بقيمة يوم الغصب.

و الآخر: كون العبرة بأعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف. و سيأتي توضيحهما.

(1) ليس المراد بالانقلاب اتّحاد المثليّ المتعذّر مع القيميّ حقيقة، لما تقدّم في الأمر الرّابع من التقابل بينهما و تباينهما، فالمثلي ما تساوت أجزاؤه، و القيميّ ما لا تتساوى أجزاؤه. بل المراد إجراء حكم القيميّ في المثليّ المتعذّر. فكما أنّ الضامن للتالف القيميّ مخاطب بتفريغ ذمّته بأداء القيمة، فكذا في المضمون المثليّ الذي كان موجودا حين تلف العين ثم طرأ عليه التعذّر، فإنّه مخاطب بأداء قيمة التالف بعد أن كان مخاطبا بأداء المثل.

(2) وجه هذين الاحتمالين واضح، و هو اتّحاد حكم المثليّ المتعذّر المنقلب إلى القيميّ مع حكم القيميّ بالأصالة. فإن قلنا بضمان الأعيان القيميّة بقيمة يوم غصبها تعيّن ضمان العين المثليّة- التي طرأ التعذّر على أمثالها- بقيمة يوم ضمانها و دخولها في العهدة. فكأنّ هذه العين المثليّة قيميّة من أوّل الأمر، فتضمن بما تضمن به الأعيان القيميّة.

و إن قلنا بضمان القيميّ بأعلى القيم من الغصب- أو الضمان- إلى يوم التلف اتّجه القول بضمان المثليّ المتعذّر بأعلى قيمته من حين غصبه إلى تلفه.

و لا يخفى أنّ المصنّف قدّس سرّه اقتصر- بناء على الانقلاب- على احتمالين، و أهمل الاحتمال الأوّل الذي رتّبه على ضمان القيميّ بقيمة يوم تلفه.

و الوجه في إهمال ذكره- كما في حاشية الشيخ المامقاني قدّس سرّه- وجود المانع عن جريانه بناء على مفروض البحث و هو انقلاب المثليّ قيميّا، و ذلك لأنّ الكلام في المثليّ الذي تعذّر مثله، و من المعلوم أنّ الضامن كان مخاطبا يوم تلف العين بأداء المثل دون قيمة العين، و لهذا لم يمكن إلزام المالك بقبول القيمة لو دفعها الغاصب يومئذ.

ص: 410

كما في القيميّ (1) المغصوب، و الاعتبار بالأعلى منه (2) إلى يوم التلف. و ذكر هذا أوّل الاحتمالات في القواعد.

و إن (3) قلنا: إنّ المشترك بين العين و المثل صار قيميّا

______________________________

و عليه فلا يصحّ أن يكون المناط قيمة العين عند تلفها «1».

(1) أي: القيميّ بالأصالة، و هو ما لا تتساوى أجزاؤه. و المراد بيوم الغصب يوم القبض.

(2) أي: من يوم غصب العين إلى يوم تلفها بوصف كونها قيميّة، و هو يوم إعواز المثل.

(3) معطوف على «فإن قلنا بالأوّل» و هذا مبنى الاحتمال الثالث المذكور في القواعد، و هو ضمان القيمة العليا من حين الغصب إلى التلف.

و حاصل هذا المبنى: أنّ المدار في ضمان المثليّ الذي تعذّر مثله ليس هو العين بخصوصها حتى تضمن بقيمة يوم غصبها أو يوم تلفها، و لا هو المثل بخصوصه حتى يضمن بقيمة يوم تلف العين الذي هو زمان اشتغال الذّمّة بالمثل، و لا بيوم إعوازه الذي هو كتلفه. بل المدار على قيمة الجامع بين العين و المثل، بمعنى: أنّ المنقلب قيميّا هو القدر المشترك بينهما أي الصفات الكلّيّة و الجهات النوعيّة و الصنفية الموجبة لماليّة الشي ء، إذ هي الأمر المشترك الموجود في العين التالفة و مثلها اللذين هما من مصاديق الكلّيّ المثليّ. و تعذّر هذا الأمر المشترك منوط بتلف العين و تعذّر المثل، ضرورة توقّف تعذّر الكلّيّ و تلفه على تلف جميع أفراده.

مثلا إذا وضع يده على صاع من الحنطة المملوكة لزيد و تلفت عنده، اشتغلت ذمّته بما يماثلها في الصفات الدخيلة في ماليّتها، فلو أهمل حتى تعذّر المثل تبدّل الضمان بصنف الحنطة الكلّيّة الجامعة للعين و المثل.

و المناسب لهذا المبنى احتمالان مما احتمله العلّامة قدّس سرّه.

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 310

ص: 411

جاء (1) احتمال الاعتبار بالأعلى من يوم الضمان (2) إلى يوم تعذّر المثل، لاستمرار (3) الضمان فيما قبله (4) من (5) الزمان إمّا للعين، و إمّا للمثل. فهو (6) مناسب لضمان الأعلى من حين الغصب إلى التلف.

______________________________

أحدهما: الاحتمال الثالث، و هو ضمان أعلى القيم من يوم الضمان و القبض إلى يوم إعواز المثل، فإذا كانت قيمة الحنطة زمان الغصب دينارا، ثم صارت يوم تلفها نصف دينار، و يوم تعذّر المثل دينارا و نصف دينار، كان المضمون به هو الأخير، لأنّ المستقرّ في العهدة ليس خصوص العين و لا خصوص المثل، بل كلّيّ الحنطة إلى زمان إعوازها. و لا ريب في أنّ ارتفاع القيمة من حالات العين المضمونة، فيكون مضمونا.

ثانيهما: الاحتمال الرابع، و هو ضمان أعلى القيم من يوم الضمان إلى يوم أداء القيمة، لأنّه يوم تفريغ الذّمّة من الكلّيّ المثليّ المستقرّ في العهدة من يوم الضمان، و يتوقّف الفراغ عنه على أداء قيمته.

(1) وجه مجي ء هذا الاحتمال ما ذكرناه من استقرار الكلّيّ في ذمّة الضامن، لا خصوص العين التالفة، و لا خصوص المثل المتعذّر.

(2) المراد بيوم الضمان هو يوم الغصب، و يوم قبض المبيع بالبيع الفاسد.

(3) تعليل لتوجّه احتمال الضمان بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان إعواز المثل الذي هو يوم سقوط خصوصيّة المثل عن الذّمّة، و تبدّله بضمان الجامع بين العين و المثل.

(4) أي: قبل يوم تعذّر المثل.

(5) بيان ل «ما» الموصولة، يعني: أنّ الضمان مستمرّ من يوم الضمان إلى يوم الإعواز.

(6) الظاهر رجوع الضمير إلى استمرار الضمان قبل تلف المغصوب إلى زمان تعذّر المثل، و عليه فلا بدّ من حمل «التلف» على إعواز المثل لا تلف العين، إذ لو أريد تلف العين لم يتّجه ضمان ارتفاع قيمة الأمثال من هذا اليوم- الذي هو مبدأ استقرار المثل في الذّمّة- إلى زمان الإعواز، و ذلك لفرض كون المضمون خصوص العين من يوم غصبها إلى يوم تلفها، لا الماليّة المشتركة بين المثل و العين.

ص: 412

و هذا (1) ذكره في القواعد ثالث الاحتمالات.

و احتمل (2) الاعتبار بالأعلى من يوم الغصب إلى دفع المثل (3).

و وجهه (4) في محكيّ التذكرة و الإيضاح: بأنّ المثل لا يسقط بالإعواز، قالا: «ألا ترى أنّه لو صبر المالك إلى وجدان المثل استحقّه (5)، فالمصير إلى القيمة عند تغريمها» و القيمة الواجبة على الغاصب أعلى القيم.

______________________________

(1) المشار إليه قوله: «احتمال الاعتبار بالأعلى من يوم الضمان إلى يوم تعذّر المثل» و هو ثالث الاحتمالات المتقدمة في عبارة القواعد.

(2) معطوف على قوله: «جاء احتمال» و غرضه قدّس سرّه أنّه لو قلنا بضمان الماليّة الجامعة بين العين التالفة و المثل المتعذّر احتمل القول بضمان القيمة العليا من حين الضمان إلى زمان أداء الغرامة، و هي قيمة المثل.

و الوجه في هذا الاحتمال: أنّ ذمّة الضامن مشغولة بالجامع بين العين و المثل، و المسقط هو أداء القيمة إلى المالك، فلو ارتفعت قيمة المثل بعد زمان تعذّره كان هذا الارتفاع مضمونا أيضا.

(3) الصواب أن يقال: «إلى دفع القيمة» كما هو صريح عبارة القواعد و التذكرة.

إلّا أن يلتزم بتقدير مضاف، بأن يقال: «دفع قيمة المثل المفروض تعذّره» فيكون دفع القيمة أداء للمثل المتعذّر من جهة ماليّته، لا من جهة مثليّته، هذا.

(4) أي: وجّه العلّامة و فخر المحقّقين ضمان أعلى القيم- من يوم الغصب إلى أداء القيمة- بأنّ المثل لا يسقط .. إلخ.

(5) هذه العبارة منقولة بالمعنى، و إلّا فعبارة التذكرة و الإيضاح هي: «ملك المطالبة به» ثم زاد في التذكرة قوله: «و إنّما المصير إلى القيمة عند تغريمها».

و هذا الاحتمال الرابع مختار فخر المحققين، لقوله بعد ذكر مآخذ الاحتمالات الخمسة: «و الأصحّ الرابع» «1».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383؛ إيضاح الفوائد، ج 2، ص 175

ص: 413

و حاصله (1): أنّ وجوب دفع قيمة المثل يعتبر (2) من زمن وجوبه (3) إلى وجوب مبدله أعني العين، فيجب أعلى القيم منها (4)، فافهم (5).

______________________________

و كيف كان فالحاكي لعبارتي التذكرة و الإيضاح هو السيّد العامليّ، و عبارة المتن نصّ كلامه «1».

(1) هذا الحاصل مذكور في مفتاح الكرامة أيضا، فراجع. يعني: حاصل توجيه العلّامة و فخر الدين للاحتمال الرابع هو: أنّ وجوب دفع قيمة المثليّ الذي بقي مثله في الذّمّة إلى يوم غرامة القيمة- و سقط بدفع القيمة إلى المالك- إنّما يعتبر بنحو القهقرى من أوّل زمان وجوب قيمة المثليّ، و هو زمان دفعها، و ينتهي إلى زمان ثبوت مبدل القيمة أعني نفس المال المثليّ المغصوب، و هو زمان غصب العين.

و عليه فيكون هنا وجوبات عديدة بعدد القيمة إن اختلفت في أجزاء هذا الزمان المتخلّل بين المبدء و المنتهى، فيجب دفع الأعلى من هذه القيم، إذ المفروض أنّ القيمة الواجبة على الغاصب هي أعلى القيم.

و الأولى: أن يعبّر هكذا: «و حاصله: أنّ إسقاط وجوب دفع قيمة المثل يلاحظ من زمن ثبوت القيمة .. إلخ».

(2) أي: يلاحظ من زمن وجوب القيمة- أي ثبوتها- إلى ثبوت مبدل القيمة و هو نفس المال المثليّ المغصوب.

(3) الوجوب بمعنى الثبوت في الذّمّة، و ضميره و كذا ضمير «مبدله» راجعان إلى القيمة، فالمناسب تأنيث الضميرين، و إن صحّ تذكيرهما أيضا باعتبار الرجوع إلى البدل المستفاد من قوله: «إلى وجوب مبدله». و الأمر سهل.

(4) الأولى إسقاط كلمة «منها» بأن يقول- كما في مفتاح الكرامة-: «فيجب الأقصى» أو «أقصى القيم».

(5) لعلّه إشارة إلى ضعف القول بصيرورة القدر المشترك قيميّا، الذي هو أحد

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 252

ص: 414

[استظهار بعض الوجوه المتقدّمة من أدلّة الضمان]

إذا عرفت هذا (1) فاعلم: أنّ المناسب لإطلاق كلامهم لضمان المثل في المثليّ هو أنّه مع تعذّر المثل لا يسقط المثل عن الذّمّة، غاية الأمر يجب إسقاطه مع

______________________________

جزأي هذا الاحتمال الرابع. و أمّا الجزء الآخر- و هو ثبوت المثل إلى زمان دفع القيمة- فقد قوّاه سابقا.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل و هو بيان مآخذ الاحتمالات الخمسة.

و قد تحصّل مما أفاده المصنّف قدّس سرّه من أوّل الأمر السادس إلى هنا وجوه في ضمان قيمة العين المثليّة التالفة مع إعواز المثل.

الأوّل: اعتبار ضمان قيمة يوم الدفع و المطالبة، و هو المنسوب إلى المشهور، و هو خامس الاحتمالات المذكورة في القواعد، و قد عبّر عنه بقيمة يوم الإقباض.

الثاني: اعتبار قيمة يوم تعذّر المثل. و اختاره ابن إدريس و العلّامة و الشهيد الثاني، في بعض المواضع.

الثالث: اعتبار قيمة يوم تلف العين، الذي هو زمان استقرار المثل في العهدة.

الرابع: اعتبار أعلى القيم من يوم تلف العين إلى زمان إعواز المثل.

الخامس: اعتبار قيمة يوم ضمان العين.

السادس: اعتبار أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف العين.

السابع: اعتبار أعلى القيم من يوم ضمان العين إلى زمان أداء قيمة المثل. و قد عرفت مبنى كلّ واحد منها.

استظهار بعض الوجوه المتقدّمة من أدلّة الضمان

(1) هذا شروع في المقام الثاني، و هو بيان ما يستفاد من الأدلّة و كلمات الأصحاب. و محصّله: أنّ الدليل على ضمان المثليّ بالمثل إمّا هو الإجماع أو المتبادر من إطلاقات الضمان الدالة على التغريم بما هو أقرب إلى التالف. فإن اعتمدنا على الإجماع قلنا باقتضائه لضمان قيمة يوم أدائها، و ذلك لاستقرار المثل على عهدة الضامن بمجرّد تلف العين، و لم يقيّد اشتغال الذّمّة بالمثل بعدم تعذّره و إعوازه، فلا يوجب تعذّره

ص: 415

مطالبة المالك. فالعبرة بما هو إسقاط حين الفعل (1)، فلا عبرة بالقيمة إلّا يوم الاسقاط و تفريغ الذّمّة.

و أمّا بناء (2) على ما ذكرنا (3) من أنّ المتبادر من أدلّة الضمان التغريم بالأقرب إلى التالف فالأقرب كان (4) المثل مقدّما مع تيسّره. و مع تعذّره ابتداء

______________________________

انتقال الضمان إلى القيمة حتى يكفي أداء ثمنه يوم إعوازه، بل يبقى المثل في الذّمّة إلى إسقاطه بمطالبة المالك، فتكون العبرة بقيمته يوم أدائها. و قد تقدّم وجهه عند بيان رأي المشهور، و هكذا في مبنى الاحتمال الخامس.

و إن اعتمدنا على المتبادر من أدلّة الضمان انقلب الضمان إلى القيمة، و سيأتي.

(1) أي: حين الإسقاط، إذ المفروض بقاء المثل على عهدة الضامن، و لا يسقط إلّا بدفع القيمة. فالعبرة بقيمة يوم الاسقاط، لا يوم إعواز المثل.

(2) هذا في مقابل ما ذكره بقوله: «فاعلم أنّ المناسب لإطلاق كلامهم لضمان المثل في المثليّ .. إلخ» و إطلاق كلامهم إنّما هو لعدم تقييدهم ذلك بصورة التمكّن من المثل، فأطلقوا ضمان المثل في المثليّ، و لم يقيّدوه بصورة التمكّن من دفع المثل، و هذا الإطلاق يقتضي بقاء المثل في الذّمّة و لو مع إعوازه.

و أمّا بناء على ما ذكرنا- من أنّ المتبادر من أدلّة الضمان التغريم بالأقرب إلى التالف، فالأقرب- كان المثل مقدّما مع التمكّن من دفعه إلى المالك، و مع عدم التمكّن منه كان المتعيّن دفع القيمة. فالاعواز يوجب انقلاب المثليّ إلى القيميّ، فالقيمة قيمة للمثل حال الإعواز، فيكون عدم التمكّن العارضيّ من دفع المثل كعدم التمكّن بالأصالة كما في القيميّات. فالمثل الثابت في الذّمّة ينقلب إلى القيمة من زمان الإعواز.

(3) أي: في كلّ من الأمر الرابع و السادس، فقال في السادس: «و لكن لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا من الآية و من أنّ المتبادر من إطلاقات الضمان .. إلخ» فراجع (ص 388).

(4) جواب «و أمّا بناء». و «فالأقرب» بالجرّ معطوف على «بالأقرب».

ص: 416

كما في القيميّ أو بعد التمكّن كما فيما نحن فيه كان (1) المتعيّن هو القيمة، فالقيمة (2) قيمة للمغصوب من حين صار قيميّا و هو حال الإعواز، فحال الإعواز معتبر من حيث إنّه أوّل أزمنة صيرورة التالف قيميّا، لا من حيث ملاحظة القيمة قيمة للمثل دون العين.

فعلى القول باعتبار يوم التلف في القيميّ توجّه ما اختاره الحلي رحمه اللّه (3).

و لو قلنا (4) بضمان القيميّ بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف (5)- كما عليه جماعة من القدماء «1»- توجّه (6) ضمانه فيما نحن فيه بأعلى القيم من حين الغصب إلى زمان الإعواز (7)،

______________________________

(1) جواب «و مع تعذّره» المتضمن للشرط.

(2) يعني: أنّه بناء على المتبادر من إطلاقات الضمان يتعيّن القول في المثليّ- المتعذّر مثله- بضمان قيمته يوم الإعواز، لأنّه يوم صيرورة العين المثليّة قيميّة.

(3) من الاعتبار بقيمة يوم تعذّر المثل و إعوازه، لأنّه يوم تلف العين بوصف القيمية، إذ قبل هذا الزمان كان التالف مثليّا، و إنّما صار قيميّا بسبب الإعواز

(4) هذا مقابل قوله: «فعلى القول باعتبار يوم التلف» و الأولى لرعاية المشاكلة أن يقال: «و على القول بضمان القيميّ بأعلى القيم .. إلخ».

و كيف كان فتوضيح كلامه قدّس سرّه: أنّه بناء على القول بضمان القيميّ بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف توجّه ضمان المثليّ فيما نحن فيه- أعني به إعواز المثل- بأعلى القيم من حين الغصب في المغصوب، و من زمان القبض في المقبوض بالعقد الفاسد، و كان هذا هو الاحتمال الثاني في عبارة القواعد.

(5) و هو الوجه لما حرّرناه في التعليقة بقولنا: «تتمة اعلم أنّ من الأقوال اعتبار أعلى القيم .. إلخ.

(6) جواب الشرط السابق.

(7) الذي هو بمنزلة تلف العين القيميّة، لكن قد ذكرنا في التتمّة المشار إليها خلافه.

______________________________

(1) نقلنا أسماءهم عن مفتاح الكرامة، فراجع ص 408

ص: 417

إذ (1) كما أنّ ارتفاع القيمة مع بقاء العين مضمون بشرط تعذّر أدائه المتدارك (2) لارتفاع (3) القيم، كذلك بشرط تعذّر المثل في المثليّ، إذ مع ردّ المثل يرتفع ضمان القيمة السوقيّة (4).

و حيث كانت العين فيما نحن فيه مثليّا كان أداء مثلها عند تلفها كردّ عينها في إلغاء ارتفاع القيم، فاستقرار (5) ارتفاع القيم إنّما يحصل بتلف العين و المثل.

فإن قلنا (6): إنّ تعذّر المثل يسقط المثل- كما أنّ تلف العين يسقط العين-

______________________________

(1) تعليل لاعتبار تعذّر المثل في ضمان ارتفاع القيمة، المستفاد من تقييد «الأعلى» بغاية الإعواز. يعني: أنّ ارتفاع القيمة إنّما لا يضمن إذا أمكن دفع العين، و لم ينته الأمر إلى دفع القيمة، بل كان ارتفاع الضمان بسبب دفع العين أو مثلها. و أمّا إذا انتهت النوبة إلى دفع القيمة لتلف العين و تعذّر المثل فارتفاع القيمة يكون حينئذ مضمونا، و هذا الارتفاع المضمون يكون من زمان الضمان إلى زمان تعيّن القيمة و ثبوتها في الذّمّة، أو إلى زمان أدائها بناء على ثبوت المثل في الذّمّة إلى زمان الأداء.

(2) باسم الفاعل صفة ل «أدائه» يعني: أنّ أداء العين كان جابرا لارتفاع القيمة، لكن حيث تعذّر أداؤها- لفرض تلفها- صار الغاصب ضامنا لارتفاع القيمة.

(3) اللام للتعدية، مثل «خرجت لزيد من الدار» بمعنى: أخرجته من الدار.

(4) لتفرّع ضمان القيمة السوقيّة- في الأعيان المثليّة- على إعواز المثل.

(5) هذا متفرّع على كون ردّ المثل- في الأعيان المثليّة التالفة- بمنزلة ردّ نفس التالف، في عدم اشتغال الذّمّة بأعلى القيم. فإذا لم يتحقّق ردّ العين لتلفها و لا ردّ المثل لاعوازه ضمن أعلى قيمتيهما. و هل المضمون ارتفاع القيمة من زمان الغصب إلى زمان الإعواز، أم هو من حين الغصب إلى حين أداء القيمة؟ فيه خلاف سيأتي مأخذ كلّ منهما في المتن.

(6) هذا تفصيل لقوله: «فاستقرار ارتفاع القيم ..».

ص: 418

توجّه القول بضمان القيمة من زمان الغصب إلى زمان الإعواز (1)، و هو أصحّ الاحتمالات في المسألة عند الشافعيّة على ما قيل (2).

و إن قلنا (3): إنّ تعذّر المثل لا يسقط المثل و ليس كتلف العين (4) كان (5) ارتفاع القيمة فيما بعد تعذّر المثل أيضا مضمونا (6)، فيتوجّه ضمان القيمة من حين الغصب إلى حين دفع القيمة، و هو المحكيّ عن الإيضاح. و هو أوجه الاحتمالات على القول بضمان ارتفاع القيمة مراعى بعدم ردّ العين أو المثل (7).

______________________________

(1) أي: إعواز المثل الذي هو كتلف العين في كونه سببا لسقوط المثل.

(2) القائل هو العلّامة في التذكرة، قال قدّس سرّه: «و للشافعيّة في القيمة المعتبرة عشرة أوجه .. ثالثها: و هو الأصح عندهم، القيمة المعتبرة أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم الإعواز، لأنّ وجود المثل كبقاء عين المغصوب من حيث إنّه كان مأمورا بتسليم المثل، كما كان مأمورا بردّ العين، فإذا لم يفعل غرم أقصى قيمته في المدّتين. كما أنّ المتقوّمات تضمن بأقصى قيمتها لهذا المعنى، و لا نظر إلى ما بعد انقطاع المثل، كما لا نظر إلى ما بعد تلف المغصوب من المتقوّم» «1».

(3) هذا عدل قوله: «فإن قلنا: إنّ تعذّر المثل يسقط المثل».

(4) حتى يسقط المثل بالإعواز كسقوط العين بتلفها.

(5) جواب الشرط المتقدّم أعني به «و إن قلنا: انّ تعذر .. إلخ».

(6) إذ المفروض بقاء المثل في العهدة و عدم سقوطه بتعذّره، فارتفاع قيمته بعد تعذّره مضمون كضمانه قبل تعذّره، فيتوجه حينئذ ضمان القيمة من حين الغصب إلى زمان دفع القيمة كما حكي عن الإيضاح.

(7) يعني: بأن يكون ضمان ارتفاع القيمة مشروطا بعدم إمكان ردّ العين أو المثل، فمع إمكانهما و ردّهما لا يضمن ارتفاع القيمة.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383

ص: 419

[اختصاص انقلاب الضمان إلى القيمة بالتعذّر الطارئ]

ثمّ اعلم: أنّ العلّامة ذكر في عنوان هذه الاحتمالات «أنّه لو تلف المثليّ و المثل موجود، ثم أعوز» (1) و ظاهره اختصاص هذه الاحتمالات بما إذا طرء تعذّر المثل بعد تيسّره في بعض أزمنة التلف (2)، لا ما تعذّر فيه المثل ابتداء.

و عن جامع المقاصد: «أنّه يتعيّن حينئذ (3) قيمة يوم التلف» (4)

______________________________

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المتكفلة لتعيين قيمة العين المثليّة المضمونة عند إعواز المثل. و سيأتي التنبيه على أنّ مورد البحث و موضوعه هو التعذّر الطارئ لا البدويّ. و قد جعلناه في صدر الأمر السادس جهة ثالثة ممّا يتعلّق بتعذّر المثل.

و إن أمكن جعله تتمة للجهة الثانية، و الأمر سهل.

اختصاص انقلاب الضمان إلى القيمة بالتعذّر الطارئ

(1) هذا منقول بالمعنى، و إلّا فعبارة القواعد هكذا: «و لو تلف المثليّ في يد الغاصب و المثل موجود، فلم يغرمه حتى فقد ففي ..» و قريب منها عبارة التذكرة «1».

و كيف كان فالمقصود أنّ موضوع كلامهم بانتقال الضمان من المثل المتعذّر إلى القيمة هو التعذّر الطاري على المثل، لا ما كان متعذّرا حين تلف العين أو قبله، فإنّه مضمون بالقيمة حين التلف، كما يظهر من المحقّق الثاني قدّس سرّه و سيأتي كلامه.

(2) أي: أزمنة تلف العين، و الظرف متعلّق ب «تيسّره».

(3) أي: حين تعذّر المثل ابتداء، أي: حين تلف العين.

(4) الحاكي لكلامه السيّد العاملي قدّس سرّه «2». و اعتبار قيمة يوم التلف يستفاد من ضمّ كلاميه في موضعين:

أحدهما: قوله في ضمان القيميّ المغصوب- في تضعيف رأي المبسوط-: «و إنّما

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 79، (الطبعة الحجرية)؛ تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383

(2) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 250

ص: 420

و لعلّه (1) لعدم تنجّز التكليف بالمثل عليه في وقت من الأوقات.

و يمكن أن يخدش فيه (2) بأنّ التمكّن من المثل ليس بشرط لحدوثه في

______________________________

ينتقل إلى القيمة عند التلف» «1».

ثانيهما: قوله في ضمان المثليّ المتعذّر مثله: «لو لم يكن المثل موجودا وقت التلف فالظاهر أنّ الواجب قيمة التالف. أمّا مع وجوده و عدم التغريم إلّا بعد فقده فإنّه قد استقرّ في الذّمّة، فيرجع إلى القيمة» «2».

فيحمل قوله: «فالظاهر أن الواجب قيمة التالف» على قوله: «و إنّما ينتقل إلى القيمة عند التلف» و يصحّ ما نسبه المصنف إليه.

(1) يعني: و لعلّ تعيّن قيمة يوم التلف لأجل عدم تنجّز التكليف بالمثل على الضامن في وقت من الأوقات، لفقدانه من أوّل الأمر.

(2) أي: في هذا الوجه. و حاصل الخدشة: إنّ اشتغال الذّمّة بالمثل ليس مشروطا بالتمكّن من أداء المثل، لا حدوثا و لا بقاء.

و لا يخفى أنّه نوقش في كلام جامع المقاصد بوجهين مذكورين في الجواهر أيضا، أحدهما حلّي، و الآخر نقضيّ. و ارتضى المصنّف الحليّ و تأمّل في النقضيّ.

قال في الجواهر- بعد نقل ما استظهره جامع المقاصد من ضمان قيمة يوم التلف في التعذّر البدويّ- ما لفظه: «و قد يناقش بعدم المنافاة بين ثبوته في الذّمّة و بين تعذّر أدائه في ذلك الوقت. و دعوى صيرورته قيميّا واضحة المنع، إذ المثليّ لا يتعيّن كونه كذلك بتعذر المثل. و إلّا لزم عدم وجوب دفعه لو تمكّن منه بعد ذلك قبل الأداء، لثبوت القيمة حينئذ في الذّمّة، و لا أظنّ القائل المزبور يلتزمه، لوضوح ضعفه. فالمتجه ثبوت المثل في ذمّته على كلّ حال. و تعذّر أدائه حال التلف لا يقتضي عدم ثبوته في الذّمّة، فإن عدم التمكّن من وفاء الدين لا يقتضي عدم ثبوته في الذّمّة، و حينئذ لم يكن

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 246

(2) المصدر، ص 252

ص: 421

الذّمّة ابتداء، كما لا يشترط في استقراره استدامة، على ما اعترف (1) به مع طروء التعذّر بعد التلف (2). و لذا (3) لم يذكر أحد هذا التفصيل في باب القرض.

و بالجملة (4): فاشتغال الذّمّة بالمثل إن قيّد بالتمكّن لزم الحكم بارتفاعه

______________________________

للتقييد المزبور فائدة» «1».

و الإيراد النقضيّ على كلام جامع المقاصد هو قوله: «و إلّا لزم .. لوضوح ضعفه» و ما قبله و ما بعده هو الإيراد الحلّي الذي ارتضاه المصنّف و أثبته في المتن.

(1) أي: اعترف المحقّق الثاني بعدم اشتراط التمكّن من المثل في استقرار المثل في الذّمّة استدامة، لأنّه اختار أنّ المعتبر قيمة يوم الإقباض. و لو كان التمكّن من المثل شرطا في صحّة تعلّقه بالغاصب كان اللازم سقوط المثل بمجرّد تعذّره، و تحقّق الانتقال إلى القيمة، و قد قال في جامع المقاصد في شرح قول العلامة قدّس سرّه: «الخامس القيمة يوم الإقباض» ما نصّه: «هذا هو الأصحّ، لأنّ الواجب هو المثل، فإذا دفع بدله اعتبرت البدليّة حين الدفع، فحينئذ يعتبر القيمة».

و قد نقل المصنف تصريح جامع المقاصد- بما ذهب إليه المشهور- في أوائل هذا الأمر من كون العبرة بقيمة يوم الدفع بقوله: «و قد صرّح بما ذكرنا المحقّق الثاني ..»، فراجع ص (384).

(2) أي: تعذّر المثل بعد تلف العين.

(3) أي: و لعدم دخل التمكّن من المثل في اشتغال الذّمّة به ابتداء لم يذكر أحد التفصيل- في باب القرض بين وجود المثل و عدمه، بأن يقال: مع التمكّن من المثل في المثليّ يثبت في ذمّة المقترض مثله، و مع عدم التمكّن منه يثبت قيمة العين المقترضة، بل أطلقوا القول في ذلك، و قالوا: إنّ العين المقترضة إن كانت مثلية ثبت مثلها في ذمّة المقترض، و إن كانت قيميّة ثبت قيمتها.

(4) هذه خلاصة الخدشة، و محصّل الكلام: أنّ حصر موضع البحث بالتعذّر

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 97 و 98

ص: 422

بطروء التعذّر، و إلّا لزم الحكم بحدوثه مع التعذّر من أوّل الأمر.

إلّا أن يقال (1): إنّ أدلّة وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكّن و إن لم يكن مشروطا به عقلا (2)، فلا تعمّ صورة العجز [1]. نعم (3) إذ طرء العجز فلا دليل على سقوط المثل و انقلابه قيميّا (4).

______________________________

الطارئ غير سديد، إذ لو كان اشتغال الذّمّة بالمثل مقيّدا بتمكّن الضامن منه لزم الحكم بالانقلاب إلى القيمة بمجرّد التعذّر، سواء طالب المالك به أم لم يطالب، مع أنّهم اشترطوا أداء القيمة بالمطالبة. و هذا يكشف عن عدم إناطة استقرار المثل في العهدة بتيسّره. و لو لم يكن مقيّدا بتمكّن الضامن تعيّن القول بضمان المثل في الأعيان المثليّة حتى مع تعذّره البدوي.

(1) غرضه توجيه ما أفاده العلّامة و المحقّق الثاني قدّس سرّهما- من اختصاص موضوع البحث بالتعذّر الطارئ- بما حاصله: أنّ اشتغال الذّمّة بالمثل و إن لم يكن منوطا عقلا و لا عرفا بالتمكّن من أداء ما اشتغلت به الذّمّة، لكن الدليل لا يدلّ إلّا على اشتغال الذّمّة في صورة التمكّن من أدائه، فلا تعمّ صورة العجز الابتدائيّ، فلو وجد المثل- حين تلف العين- اشتغلت العهدة به، سواء أدّاه إلى المالك أم لم يؤده إليه حتى أعوز، فيبقى المثل في الذّمّة إلى إسقاطه بمطالبة المالك.

(2) مرجعه إلى قصور مقام الإثبات عن شمول صورة التعذّر الابتدائي، و قد عرفته.

(3) هذا تتمّة للتوجيه المتقدّم بقوله: «إلّا أن يقال» و غرضه التفصيل في مفاد الدليل بين التعذّر الطاري و الابتدائيّ.

(4) يعني: و مع عدم الدليل على الانقلاب يرجع إلى الاستصحاب.

______________________________

[1] مجرد العجز لا يكفي في ثبوت القيمة، بل المثبت لها هو اعتبار التمكّن في ثبوت المثل حتّى ينتفي بانتفائه، و يثبت القيمة. و بدون اشتراط التمكّن يدور الأمر بين المثل و القيمة، و لا دليل على تعيّن القيمة.

ص: 423

و قد يقال (1) على المحقّق المذكور: إنّ اللازم ممّا ذكره أنّه لو ظفر المالك بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له المطالبة. و لا أظنّ أحدا يلتزمه (2). و فيه تأمّل (3).

______________________________

(1) هذا هو الإيراد النقضيّ الذي أورده صاحب الجواهر على المحقّق الكركي قدّس سرّهما القائل بضمان قيمة يوم التلف في تعذّر المثل ابتداء.

و حاصل النقض: أنّه لو كان الوجه في الانتقال إلى قيمة وقت التلف عدم تنجّز التكليف بالمثل على الضامن في وقت من الأوقات انتقض كلامه بما إذا كان المثل متعذّرا من أوّل الأمر، و لكن لم يأخذ المضمون له القيمة، ثم وجد المثل.

و الوجه في ورود النقض هو: أنّ المحقّق الكركي يدّعي اشتغال ذمّة الضامن في هذا التعذّر البدويّ بثمن المثل من حين تلف العين المضمونة، و لم يستقرّ في عهدته المثل أصلا، فالتمكّن من المثل بعد التلف لا يوجب تبدّل القيمة به. مع أنّه لا سبيل للالتزام بكفاية دفع القيمة مع وجود المثل.

و هذا كاشف عن غموض ما أفاده المحقّق الثاني من عدم اشتغال الذمّة بالمثل في موارد التعذّر البدويّ. فالصحيح اتّحاد التعذّر البدويّ و الطارئ حكما، هذا.

(2) أي: يلتزم بعدم جواز مطالبة المثل من الضامن إذا تيسّر المثل بعد إعوازه و قبل أخذ القيمة. و الوجه في عدم الالتزام بعدم جواز المطالبة هو اشتغال الذّمّة بالمثل.

(3) تأمّل المصنّف قدّس سرّه في ورود هذا النقض على المحقّق الثاني، و ذلك لإمكان الالتزام بجواز المطالبة بالمثل في مورد النقض، و هو لا ينافي اشتغال الذّمّة بالقيمة في التعذّر الابتدائيّ. و الوجه في عدم التنافي بين الحكمين هو: أنّ اشتغال الذّمّة بالمثل مشروط بالتمكّن منه، و لمّا كان متعذّرا حين التلف- كما هو المفروض- قلنا: إنّه لا يتنجّز التكليف بالمثل على الضامن، فإن دفع القيمة سقط المثل عن ذمّته.

______________________________

ثمّ إنّ الحقّ عدم الفرق في الحكم الوضعي أعني به اشتغال ذمّة الضامن بالمثل بين صورتي التعذّر البدوي و الطاري، كما في القرض و السّلم.

نعم في الحكم التكليفيّ- أعني به وجوب الأداء- يكون بينهما فرق، فإنّه في التعذّر البدويّ يمتنع الوجوب، لامتناع أداء المثل دائما إذا كان التعذّر كذلك، لكنّه لا يمتنع

ص: 424

..........

______________________________

و إن لم يدفعها حتى تيسّر المثل لم تفرغ ذمّته بأداء القيمة، بل يجب عليه دفع المثل، و ذلك لصيرورة كلّ تكليف مشروط فعليّا بفعليّة شرطه، و بهذا يسلم كلام المحقّق الكركي عن نقض صاحب الجواهر قدّس سرّه.

______________________________

عن شغل الذّمّة بالمثل. و لا أثر للإعواز بدويّا كان أم طارئا في هذا الحكم الوضعيّ.

نعم توجّه الخطاب بوجوب أداء المثل تكليفا منوط بالقدرة عليه، و فائدة شغل الذّمّة بالمثل هو تقويمه حال الأداء. نعم إذا ثبت إجماع تعبّديّ على انقلاب المثليّ بسبب التعذّر إلى القيميّ كان ذلك مخصصا لما دلّ على ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة، لكن ثبوته مشكل، و إلّا لم يقع فيه الخلاف.

و الحاصل: أنّ حكم تعذّر المثل حكم تعذّر العين، لا حكم تلفها، و من المعلوم أنّ تعذّر العين لا يوجب الانتقال إلى القيمة، بل العين تبقى في الذّمّة، و إنّما يجب على الضامن بدل الحيلولة.

و ينبغي التنبيه على أمور: الأوّل: أنّ المراد بالإعواز الواقع في معقد الإجماع هو معناه العرفيّ، لا العقليّ الموقوف على فقدان جميع أفراد الكليّ، لأنّ الإعواز كسائر الألفاظ الواقعة في الكتاب و السنّة و معاقد الإجماعات، فيخصّص الإجماع قاعدة السلطنة المقتضية لتسلّط الناس على مطالبة أموالهم سواء كانت خارجيّة أم ذميّة، فالمالك للمثل الذّمّي مسلّط على مطالبة مثل ماله، إلّا إذا أعوز المثل. فحينئذ ينتقل بسبب الإجماع إلى القيمة. و الإعواز على تفسير العلّامة من عدم وجدانه في البلد و ما حوله لا يناط بالتعذّر و التعسّر.

لكن الظاهر خلافه، لاعتبار المشقّة عرفا في تحقّق الإعواز، فبدون المشقّة لا ينتقل المثل إلى القيمة استنادا إلى عموم سلطنة المالك على مطالبة ماله.

و ما ذكرناه من اعتبار المشقّة في الإعواز هو المتيقّن من معقد الإجماع لو لم يكن ظاهره، و التعبير بالتعذّر إشارة إلى المشقّة العرفيّة، و ليس المراد بالتعذّر التعذّر العقليّ، لعدم إناطة شي ء من الأحكام الشرعيّة بالأمور العقليّة. فعلى هذا يمكن أن لا يكون في

ص: 425

______________________________

تحصيل المثل من خارج نواحي البلد لشخص مشقّة، و يكون لغيره مشقّة.

فالأولى إحالة المشقّة إلى العرف. و على أيّ حال يكون التعذّر شخصيّا لا نوعيّا و لو شكّ في تحقّق الإعواز مفهوما لإجماله فالمعوّل قاعدة السلطنة، لكون الشك في التخصيص الزائد، هذا.

لكن الحقّ عدم ثبوت إجماع تعبّديّ على انقلاب المثليّ بتعذّر المثل إلى القيمة، بل المثل باق في الذّمّة حتى بعد التعذّر.

الثاني: أنّه لا فرق في التعذّر بين أن يكون خارجيّا و شرعيّا، كما إذا فرض تنجّس جميع أفراد الكليّ المثليّ بحيث لا يمكن تطهيرها مع توقّف الانتفاع المحلّل بها على طهارتها كالدّهن و الخلّ و نحوهما ممّا لا يقبل التطهير.

الثالث: أنّه لا فرق في التعذّر بين الذاتي كفقدان الأمثال في الخارج، و بين العارضي كعدم وصوله إليه لحبس و نحوه، فإنّ المناط في التعذّر- و هو عدم القدرة العرفية على أداء المثل- موجود في الجميع.

الرابع: هل يجوز للضامن إجبار المالك على أخذ القيمة مع إعواز المثل أم لا؟

الظاهر العدم، إذ ليست القيمة متعلّقة للضمان حتى يجوز للضامن إجباره على أخذ القيمة، بل تعلّق الضمان بالمثل، فللمالك الصبر إلى أن يوجد المثل و عدم أخذ القيمة.

و هل يجوز للمالك إجبار الضامن على أخذ القيمة منه؟ الظاهر ذلك، لقاعدة السلطنة الموجبة لجواز مطالبة ماله مع الإعواز، و الصبر إلى تمكّن الضامن من أداء المثل نفسه.

و دعوى كون إجبار الضامن على أخذ القيمة منه ضررا عليه، فينفى بقاعدته، غير مسموعة، لأنّ أخذ القيمة منه ليس ضررا عليه، بل أداء لما في ذمّته بعد رضا المالك بإلغاء الخصوصيات الدخيلة في متعلّق الضمان أعني به المثل.

إلّا أن يقال: إنّ القيمة ليست مالا للمالك حتى يكون له السلطنة عليها، و إنّما المال الثابت له في الذّمّة هو المثل، فليس له إجبار الضامن بالقيمة.

ص: 426

______________________________

اللّهم إلّا أن يدّعى: أنّ الضمان قد تعلّق بكلّ من المثليّة و الماليّة، و له رفع اليد عن المثليّة و الأخذ بالماليّة. لكن قد تقدّم سابقا ما فيه، فتدبّر.

الخامس: هل العبرة في تقويم المثل مع فرض عدمه بقيمة يوم الإعواز أم يوم الأداء أم يوم المطالبة أم غيرها ممّا بنى عليه في المسألة؟ فلا وجه للترديد بين قيمته في غاية العزّة أو المتوسّط، إذ المفروض تعيّنها بما بني عليه في المسألة من قيمة يوم إعواز المثل أو غيره مما تقدّم. و بعد اختيار قيمة يوم معيّن لا يبقى مجال للترديد بين حالات القيمة ممن كونها في غاية العزّة و متوسّطها.

السادس: هل المدار على قيمة المثل المتعذّر في بلد المطالبة أم في بلد الضمان أم في بلد الأداء إذا اختلفت القيم في البلاد؟ الظاهر أنّ المناط قيمة بلد الأداء، لأنّه بناء على ما هو المشهور المنصور من بقاء المثل في ذمّة الضامن إلى حين الأداء المسقط له لا بدّ من مراعاة قيمة يوم الأداء، سواء كان الأداء في بلد الضمان أم غيره من البلاد. و قد تقدّم سابقا أنّ ارتفاع قيمة المثل المتعذّر من زمان اشتغال الذّمّة به إلى يوم الأداء غير مضمون، لأنّ ماليّة الارتفاع المزبور مالية فرضية، و دليل الضمان لا يشمل غير الماليّة الحقيقية.

نعم لو كانت القيمة مرتفعة بسبب خصوصية بلد التلف فتلك الخصوصية الحافّة بالعين أو المثل مضمونة، فلا بد من ملاحظة مرتبة من الماليّة ناشئة من خصوصية بلد التلف، فإذا كان بلد المطالبة غير بلد التلف، فالمضمون هي القيمة التي روعي فيها خصوصية بلد التلف.

و لو بني على الانتقال إلى القيمة- و كونها بدلا عن المثل عند إعوازه- تعيّن قيمة بلد التعذّر إن كانت مخالفة لبلد المطالبة في مالية المثل، إذ المفروض انقلاب المثل من زمان التعذّر إلى القيمة، فالمتعيّن قيمة يوم إعوازه.

ص: 427

[هل مناط تعذّر المثل فقده في البلد و ما حوله؟]

ثمّ إنّ المحكيّ عن التذكرة «أنّ المراد بإعواز المثل: أن لا يوجد في البلد و ما حوله» (1). و زاد في المسالك قوله: «ممّا ينقل عادة منه إليه كما ذكروا في انقطاع المسلم فيه» (2).

______________________________

هل مناط تعذّر المثل فقده في البلد و ما حوله؟

(1) هذه جهة رابعة ممّا يتعلّق بإعواز المثل، و هي بحث عن تحديد الموضوع أيضا، و أنّ مناط الإعواز هل هو فقد المثل في جميع الأمكنة، أم فقده في خصوص بلد التلف و حواليه أم الرجوع فيه إلى العرف؟

قال في التذكرة: «إذا غصب عينا من ذوات الأمثال و تلفت في يده أو أتلفها و المثل موجود فلم يسلّمه حتى فقد أخذت منه القيمة، لتعذّر المثل، فأشبه غير المثليّ.

و المراد من الفقد أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حواليه» «1».

(2) هذا منقول بالمعنى، و إلّا فعبارة المسالك هكذا: «و المراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حوله ممّا ينقل منه إليه عادة، كما بيّن في انقطاع المسلم فيه» «2».

و حاصل ما أفاده في انقطاع المسلم فيه في بلد البائع- و إمكان تحصيله من بلد آخر- أنّه إن نقله البائع باختيار فهو. و إن لم ينقله إليها، فإن لم يكن في نقله إليها مشقّة أجبر على النقل. و إن كان فيه مشقّة لم يجبر على نقله إلى البلد» «3».

فإن كان مراده قدّس سرّه من عدم المشقّة هو اعتياد النقل من خارج البلد إلى بلد المعاملة كان كلامه في بيع السّلم موافقا لما أفاده هنا من تعارف النقل من مكان آخر إلى البلد، و إلّا لم يتّحد مفاد الكلامين، فلاحظ.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383، السطر 12

(2) مسالك الأفهام، ج 12، ص 183

(3) مسالك الافهام، ج 3، ص 431

ص: 428

و عن جامع المقاصد: «الرجوع فيه (1) إلى العرف».

و يمكن أن يقال (2): إنّ مقتضى عموم وجوب أداء مال الناس (3) و تسليطهم (4) على أموالهم- أعيانا (5) كانت أم في الذّمّة-

______________________________

(1) قال قدّس سرّه: «و اعلم أنّ المراد من تعذّر المثل أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حواليه. كذا ذكر في التذكرة. و لم يحدّ ما حواليه. و الظاهر أنّ المرجع فيها إلى العرف» «1».

و على هذا التحديد لا يعتبر التعذّر و التعسّر في تحصيل المثل.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة القواعد المتقدمة هو كون المرجع في تحديد حوالي البلد العرف، لا في تحديد الإعواز- كما هو ظاهر المتن- فالصواب تأنيث ضمير «فيه».

(2) غرضه قدّس سرّه تضييق دائرة الإعواز، و أنّ مقتضى عموم وجوب ردّ الأموال إلى مالكيها هو وجوب ردّها مع وجودها و لو في بلاد نائية، و كان في تحصيلها مئونة كثيرة، فدائرة الإعواز حينئذ تكون أضيق ممّا ذكره المحقّق الكركي قدّس سرّه.

(3) كقوله عليه السّلام: «المغصوب مردود» «2» بناء على شموله لردّ المثل أو القيمة، و عدم اختصاصه بردّ نفس المغصوب.

(4) كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الناس مسلّطون على أموالهم» «3».

(5) خبر مقدّم ل «كانت» و الجملة مبيّنة ل «أموالهم» يعني: لا فرق في سلطنة الملّاك على أموالهم بين كونها أعيانا خارجيّة كالدينار، و الكتاب و الدار و نحوها، أم أعيانا كلّيّة في ذمّة الآخرين، فإنّها أموال أيضا، بشهادة جواز بيعها و شرائها كما تقدّم في أوّل بحث البيع. و لو لا هذا التعميم لم يمكن التمسّك بحديث السلطنة

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 245

(2) وسائل الشيعة، ج 17، ص 309، الباب 1 من كتاب الغصب، الحديث 3

(3) عوالي اللئالي، ج 1، ص 222 و 457

ص: 429

وجوب (1) تحصيل المثل كما كان يجب ردّ العين أين ما كانت، و لو كانت في تحصيله مئونة كثيرة (2)، و لذا (3) كان يجب تحصيل المثل بأيّ ثمن كان. و ليس (4) هنا تحديد التكليف بما عن التذكرة.

نعم لو انعقد الإجماع على ثبوت القيمة عند الإعواز تعيّن ما (5) عن جامع المقاصد.

______________________________

لإثبات جواز مطالبة المالك من الضامن بدل ماله التالف أو المتلف، لوضوح عدم كون ما في الذّمّة عينا خارجيّة حتى يتسلّط المالك عليها.

(1) خبر قوله: «إنّ مقتضى» يعني: أنّ مقتضى عموم الأدلّة وجوب تحصيل المثل على الضامن، كما يجب عليه ردّ العين أينما كانت.

(2) كما تقدّم تفصيله في الأمر الخامس.

(3) أي: و لأجل اقتضاء الأدلّة العامّة وجوب تحصيل المثل كان تحصيله واجبا بأيّ ثمن كان.

(4) غرضه الإيراد على ما أفاده العلّامة قدّس سرّه في التذكرة من إناطة وجوب أداء المثل على الضامن بتيسّره في البلد و حواليه. و محصّل الإيراد: أنّ مقتضى عموم الأدلّة وجوب أداء المثل حتى لو توقف على نقله من بلد بعيد عن بلد الضمان أو المطالبة، و بهذا يتضيّق دائرة الإعواز و الانقلاب إلى القيمة، هذا.

و يحتمل أن يكون ما في التذكرة تحديدا لجواز مطالبة المالك للضامن بالقيمة، لا لانقلاب المثل بها، و إن كان يجب على الضامن تحصيل المثل.

(5) من الرجوع في معنى الإعواز إلى العرف، لأنّ الإعواز الواقع في معقد الإجماع كغيره- من الألفاظ الواقعة في الكتاب و السنّة و معاقد الإجماعات- في الرجوع في مفاهيمها إلى العرف، فيكون الإجماع مخصّصا لعموم دليل السلطنة، و تختص سلطنة المطالبة بالمثل بما إذا كان موجودا في البلد و نواحيه.

و عليه فقوله: «نعم لو انعقد» تقييد لعموم ما دلّ على وجوب أداء مال الناس و سلطنتهم على أموالهم، سواء توقّف الرّدّ على تحمّل مشقّة أم لا.

ص: 430

كما أنّ (1) المجمعين إذا كانوا بين معبّر بالإعواز و معبّر بالتعذّر كان (2) المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ- و هو المتعذّر- لأنّه المجمع عليه.

______________________________

(1) غرضه: أنّه لو تمّ الإجماع على ثبوت القيمة عند إعواز المثل ترتّب عليه أمران:

أحدهما: تقييد إطلاق الأدلّة العامّة المقتضي للفحص عن المثل في سائر البلاد، و نقله إلى بلد المطالبة مقدّمة لأدائه إلى المالك.

ثانيهما: الاقتصار في تقييد الإطلاق على القدر المتيقّن، و الرجوع فيما عداه إلى الإطلاق.

توضيحه: أنّ الأصحاب- الّذين أجمعوا على انتقال الضمان من المثل المتعذّر إلى القيمة- عبّروا تارة ب «فإن تعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإعواز» و اخرى ب «و لو أعوز المثل».

و الظاهر أنّ «التعذّر» أخصّ من «الإعواز» لظهور التعذّر في فقدان جميع أفراد الكلّيّ حقيقة، بخلاف الإعواز الذي يراد منه معناه الإضافيّ، و هو فقدان الأمثال في البلد و نواحيه، و إن كانت موجودة في سائر البلدان. و لمّا كان التعذّر أضيق دائرة من الإعواز توقّف تقييد الأدلّة العامّة على صدق «التعذّر» و يرجع في ما عداه إلى الإطلاق المقتضي لجواز المطالبة بالمثل، لعدم اتفاقهم على انتقال الضمان إلى القيمة بمجرّد الإعواز.

هذا بناء على عدم ترادف اللفظين في عبارات المجمعين، و إلّا فبناء على إرادة معنى واحد منهما و من «الفقد» المذكور في عبارتي التذكرة و القواعد- بأن يراد التعذّر الحقيقيّ في الجميع، أو العرفيّ الإضافيّ كذلك- لم يختلف الحال في تقييد الأدلّة العامّة، لعدم كون التعذّر أخصّ من الإعواز حينئذ. و كذا الحال إذا كان كلّ من الأعمّ و الأخصّ مذكورا في بعض معاقد الإجماعات، إذ لا ينافي الإجماع على الأخصّ الإجماع على الأعمّ.

(2) جواب «إذا كانوا» يعني: كان المتيقّن في رفع اليد عن عموم مثل دليل السلطنة الرجوع إلى الأخصّ.

ص: 431

نعم (1) ورد في بعض (2) أخبار السّلم: «أنّه إذا لم يقدر المسلم إليه (3) على

______________________________

(1) استدراك على ما تقدّم من تعيّن الاقتصار على عنوان «التعذّر» لكونه أخصّ من «الإعواز» و حاصله: أنّ المراد بالتعذّر ليس هو فقد جميع أفراد الكلّيّ حقيقة، بل المراد به التعذّر العرفيّ المساوق للإعواز، و ذلك بشهادة ما ورد في أخبار السّلم من: أنّ عدم القدرة على إيفاء المسلم فيه يوجب الخيار للمشتري. و من المعلوم أنّ المراد به التعذّر العرفيّ المتحقق بفقد المسلم فيه في البلد و حواليه.

و عليه فتعبير عدّة من المجمعين ب «لو تعذّر المثليّ» محمول على عدم حصول المثل عادة لا عقلا. فما تقدّم من قوله: «كان المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ» ممنوع، إذ لا أخصّيّة و لا أعمّيّة بين عنواني التعذّر و الإعواز، بل هما متساويان في الصّدق.

(2) كمعتبرة الحلبي، قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أسلم دراهمه في خمسة مخاتيم من حنطة أو شعير إلى أجل مسمّى، و كان الذي عليه الحنطة و الشعير لا يقدر على أن يقتضيه جميع الّذي له إذا حلّ، فسأل صاحب الحقّ أن يأخذ نصف الطعام أو ثلثه أو أقلّ من ذلك، أو أكثر، و يأخذ رأس مال ما بقي من الطعام دراهم؟

قال: لا بأس. و الزّعفران يسلم فيه الرجل دراهم في عشرين مثقالا أو أقلّ من ذلك أو أكثر. قال: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الزعفران أن يعطيه جميع ماله أن يأخذ نصف حقّه أو ثلثه أو ثلثيه، و يأخذ رأس مال ما بقي من حقّه درهم [دراهم]» «1».

و الغرض أنّ كلمة «لا يقدر» التي وردت تارة في سؤال السائل و قرّره الامام عليه السّلام، و أخرى في ذيل الرواية في كلامه عليه السّلام لا يراد بها التعذّر العقليّ، بل المراد هو العرفيّ. و قد عبّر عنه في نصوص أخر بالعجز و عدم الوجدان و نحوهما، و المقصود- كما تقدّم حكايته عن المسالك- هو الانقطاع في البلد و نواحيه.

(3) و هو البائع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 69، الباب 11 من أبواب السلف، الحديث: 7

ص: 432

إيفاء المسلم فيه تخيّر (1) المشتري» و من المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقليّ المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر، بل الظاهر منه عرفا [1] ما عن التذكرة (2). و هذا (3) يستأنس به للحكم فيما نحن فيه.

______________________________

(1) تخيير المشتري- بين الفسخ و الانتظار إلى أن يتمكّن البائع من تسليم المبيع سلما- يستفاد من معتبرة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- عند عجز البائع عن إيفاء المسلم فيه-: «فليأخذ رأس ماله أو لينظره» «1».

(2) و هو قوله: «و المراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حواليه» «2».

(3) يعني: أنّ الحكم في باب السّلم إذا علّق على عدم القدرة- المنزّلة على الموضوع العرفيّ دون العقليّ- استؤنس به للحكم في ما نحن فيه و هو تعذّر المثل، و قد تقدم في عبارة المسالك جعل التعذّر في المقامين من باب واحد.

و الحاصل: أنّ المناسب أن يكون المناط في المقامين واحدا، بأن يقال: إنّ المراد بالتعذّر فيهما هو العرفيّ. هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة من جهات البحث في إعواز المثل.

______________________________

[1] إذا كان الظاهر من عدم القدرة في أخبار السلم معناه العرفي، فليكن التعذّر في المقام كذلك. إلّا أن يكون الفرق بينهما بعدم تصوّر التعذّر المطلق في موارد نصوص أخبار السّلم من الجذع و الحنطة و غيرهما، فإنّ هذه الموارد قرينة على عدم إرادة التعذّر المطلق من تلك الأخبار، فالمراد التعذّر العرفي. بخلاف المقام، فإنّه ليس فيه قرينة على إرادة التعذّر العرفي، فيراد منه التعذّر المطلق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 72، الباب 11 من أبواب السلف، الحديث 14

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383، السطر 16

ص: 433

[المعيار في قيمة المثل المتعذّر]

ثمّ إنّ (1) في معرفة قيمة المثل مع فرض عدمه إشكالا، من (2) حيث إنّ العبرة بفرض وجوده و لو في غاية العزّة كالفاكهة في أوّل زمانها أو آخره (3)، أو وجود (4) المتوسّط؟

______________________________

المعيار في قيمة المثل المتعذّر

(1) هذه هي الجهة الخامسة، و حاصلها: أنّ قولهم: «إذا تعذّر المثل وجبت قيمته» يواجه إشكالا، و هو: أنّ المثل إن كان موجودا أمكن معرفة قيمته، سواء أ كانت أعلى من قيمته السوقيّة أم لا. و إن لم يكن موجودا- كما هو المفروض- لم يكن سبيل إلى معرفة قيمته حتى يؤدّيها الضامن إلى المالك، إلّا بفرض وجود المثل.

و لمّا كان المثليّ ذا أسعار متفاوتة بتفاوت الأزمنة، فهل يلزم تقويم المثليّ بأعلى القيم كما هو الحال في الفاكهة أوّل أوانها، و كذا في آخرها، أم أنّ المناط قيمته في أوساط زمان وجوده، بحيث يكون أقل قيمة في هذه الفترة؟ فيه احتمالان. اختار المصنّف قدّس سرّه اعتبار قيمته في أوّل زمان وجوده و آخره، بشرط أن يرغب العرف في شرائه، فلو ارتفع سعر المتاع بحدّ لا يرغب في معاملته إلّا القليل منهم لم يكن عبرة به أصلا. فالمدار حينئذ على قيمته العالية في أوّل وجوده و آخره بشرط إقبال النوع على بيعه و شرائه، هذا.

(2) هذا بيان الاشكال، و قد عرفته آنفا.

(3) أي: آخر زمان الفاكهة، يعني: أنّ العبرة بعزّة وجود الفاكهة سواء في أوّل أوانها أم آخرها.

(4) عطف على «في غاية العزّة» يعني: أنّ العبرة بقيمة متوسّطة بين زماني عزّة الفاكهة، و هو أوان وفورها، فيقال: إنّ هذه الفاكهة لو كانت موفورة كان قيمتها كذا درهما مثلا، و هذا هو قيمتها المضمونة في ظرف الإعواز و التعذّر، لا قيمتها في زمان عزّتها و غلائها.

ص: 434

الظاهر هو الأوّل (1) [1] لكن مع فرض وجوده بحيث (2) يرغب في بيعه و شرائه، فلا عبرة بفرض وجوده (3) عند من يستغني عن بيعه، بحيث (4) لا يبيعه إلّا إذا بذل له عوض لا يبذل الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم.

______________________________

(1) و هو كون العبرة بفرض المضمون في زمان عزّته و ارتفاع قيمته، لا في زمان وفوره و تنزّل قيمته.

(2) هذا قيد للقيمة المضمونة، و حاصله- كما تقدّم بيانه- أنّ المثل المتعذّر تارة يفرض وجوده في بعض الأزمنة بنحو يرغب في اقتنائه كثير من الناس، كالفاكهة في أوّل وقتها، ضرورة كونها أغلى قيمة من زمان وفورها و هو الزمان المتوسّط بين أوّل أوانها و آخرها. لكن يبذل العقلاء هذه القيمة الغالية لتحصيلها.

و اخرى يفرض وجوده بنحو لا يرغب النوع في تحصيله، لارتفاع قيمته جدّا.

و كون ثمنه مجحفا بحيث لا يبذله إلّا القليل من أغنياء الناس. نعم قد يضطرّ عامّة الناس إلى شرائه لعلاج مثلا مهما كان ثمنه، لكن المناط في المقام هو الرغبة في تحصيله في الحالات العاديّة، لا حالة الاضطرار و الإلجاء.

و المناط في تقويم المثل المتعذّر هو الفرض الأوّل، أي: بذل ثمن المثل في زمان عزّته، لكن لا مطلقا، بل خصوص الثمن الذي يبذله غالب الناس، هذا.

(3) الضمائر البارزة من «وجوده» إلى «يبيعه» راجعة إلى المثل المتعذّر.

(4) هذا بيان للاستغناء عن بيع المثل، يعني: فوجود هذا المثل لا يقدح في صدق التعذّر.

______________________________

[1] بل المتعيّن هو قيمة المثل فيما بني على زمان التقويم من يوم الإعواز، أو يوم المطالبة، أو يوم الدفع فالنزاع المزبور لا مورد له، فلا وجه للإشكال المذكور في المتن، لأنّ منشأ الاختلاف إن كان اختلاف الفصول، فتعيين قيمة يوم التعذّر أو غيره يرفع الاشتباه. و إن كان منشؤه اختلاف الأيّام في عزة الوجود و ذلّته فالتعيين المزبور أيضا يرفع الاشتباه. و إن كان منشؤه اختلاف الأمكنة و البلدان فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 435

نعم (1) لو ألجئ إلى شرائه لغرض آخر بذل ذلك (2)، كما لو فرض الجمد في الصيف عند ملك العراق، بحيث لا يعطيه (3) إلّا أن يبذله (4) بإزاء عتاق الخيل و شبهها (5). فإنّ (6) الراغب في الجمد في العراق من حيث إنّه راغب (7) لا يبذل هذا العوض بإزائه، و إنّما يبذله من يحتاج إليه لغرض آخر (8) كالإهداء إلى سلطان قادم إلى العراق مثلا، أو معالجة (9) مشرف على الهلاك به، و نحو ذلك من الأغراض، و لذا (10) لو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر

______________________________

(1) هذا استدراك على قوله: «لا يبذل الراغبون» يعني: أنّ عامّة الناس الّذين لا يبذلون الثمن الكثير- لشراء سلعة في حال الاختيار- قد يبذلونه عند عروض عنوان ثانويّ كالعلاج، كشراء بعض الفواكه الشتويّة في فصل الصيف بأضعاف قيمتها في الشتاء- حتى في أوّل أوانها- لكن هذا ليس معيارا لتقويم المثل المتعذّر.

(2) أي: ذلك العوض الكثير.

(3) أي: أنّ الملك لا يعطي الجمد و الثلج مجّانا، كما لا يعطيه بإزاء عوض متعارف، بل يعطيه في قبال الخيل الجياد ذات القيمة الغالية جدّا.

(4) أي: يبذل الملك الجمد بإزاء جياد الخيل.

(5) كالجواهر و الأحجار الكريمة التي تباع بأغلى الثمن.

(6) تعليل لقوله: «فلا عبرة بفرض وجوده» و قد عرفته آنفا.

(7) يعني: من حيث إنّه راغب في تحصيل الجمد على الوجه المتعارف، لا من حيث إنّ رغبته في الجمد يكون لغرض آخر يقتضي بذل ثمن كثير بإزائه.

(8) فإنّ هذا المثال أجنبي عن المقام، لأنّ العبرة في القيمة بالقيمة السوقيّة، لا ما يطلبه المالك اقتراحا.

(9) معطوف على «الاهداء» و ضمير «به» راجع إلى الجمد، و متعلّق ب «معالجة».

(10) أي: و لأجل إناطة فرض وجود المثل بغرض غير نادر الوقوع، فلو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر، و لا يوجب جريان حكم وجود المثل عليه.

ص: 436

كما ذكرنا في المسألة الخامسة (1). فكلّ (2) موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذّر، فلا عبرة بفرض وجوده (3) في التقويم عند عدمه.

[هل العبرة بقيمة بلد التلف أو المطالبة أو أعلى القيمتين؟]

ثمّ إنّك (4)

______________________________

(1) حيث قال فيها: «و أمّا إن كان لأجل تعذّر المثل و عدم وجدانه إلّا عند من يعطيه بأزيد مما يرغب فيه الناس .. إلخ» فراجع (ص 366).

(2) هذه نتيجة كون المعيار في قيمة المثل المتعذّر بفرض وجوده بنحو يرغب في شرائه الناس و لو بثمن غال، لكونه في أوان عزّة وجوده. و على هذا فلا عبرة بوجوده عند مثل السلطان، فهذا الوجود ملحق بالتعذّر، و لا يكون مناطا للقيمة التي يجب على الضامن أداؤها إلى المالك.

(3) هذا الضمير و ضمير «عدمه» راجعان إلى المثل، يعني: أنّ وجوده عند الملك مثلا ليس معيارا للتقويم عند فقد المثل في الظروف المتعارفة. و بهذا ينتهي الكلام في الجهة الخامسة.

هل العبرة بقيمة بلد التلف أو المطالبة أو أعلى القيمتين؟

(4) هذه سادسة الجهات المبحوث عنها في مسألة إعواز المثل في ضمان العين المثليّة التالفة أو المتلفة. و حاصلها: أنّ المالك يجوز له المطالبة بالمثل- عند وجوده- مطلقا سواء أ كان بقيمته المتعارفة أم بأزيد منها، و سواء أ كان في بلد المطالبة أم في مكان آخر. و الوجه فيه: ما تقدّم من اشتغال عهدة الضامن بالمثل، فيتعيّن عليه أداؤه، خصوصا مع مطالبة ذي الحق.

و أمّا إذا تعذّر المثل في بلدي التلف و المطالبة، و اختلفت قيمته فيهما، بأن كان ثمنه في بلد التلف عشرة دنانير مثلا، و في بلد آخر اثني عشر دينارا، فهل يستحقّ المالك المطالبة بالقيمة العليا أم لا؟ فيه وجوه ثلاثة.

أوّلها: تعيّن قيمة المثل في بلد تلف العين.

ص: 437

قد عرفت (1) أنّ للمالك مطالبة الضامن بالمثل عند تمكّنه و لو كان في غير بلد الضمان، و كان قيمة المثل هناك أزيد (2).

و أمّا مع تعذّره و كون قيمة المثل في بلد التلف مخالفا لها في بلد المطالبة، فهل له (3) المطالبة بأعلى القيمتين، أم يتعيّن قيمة بلد المطالبة، أم بلد التلف؟

وجوه (4) [1]

______________________________

ثانيها: تعيّن قيمته في بلد المطالبة.

ثالثها: أعلى القيمتين. و سيأتي وجه كلّ منها إن شاء اللّه تعالى.

(1) يعني: في أواخر المسألة الخامسة، حيث قال: «ثمّ إنّه لا فرق في جواز مطالبة المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره .. إلخ» فراجع (ص 369).

(2) و ذلك لأنّ المضمون هو المثل، فلا بدّ من أدائه إلى المالك من دون لحاظ قيمته.

(3) أي: للمالك.

(4) أمّا الاعتبار ببلد التلف فلعلّه مبنيّ على انقلاب ما في الذّمّة من المثل إلى القيمة، و كون القيمة قيمة العين، لأنّ دخالة خصوصية بلد التلف في ماليّة العين تقتضي لزوم جبران تلك الماليّة في بلد المطالبة إن كان غير بلد التلف، فإنّ تلك المرتبة من الماليّة الناشئة من خصوصيّة بلد تلف العين لا بدّ من تداركها، لفرض كونها ماليّة تحقيقيّة، لا تقديريّة حتى لا تضمن.

و أمّا الاعتبار ببلد المطالبة فلعلّه مبنيّ على بقاء العين أو المثل في الذّمّة إلى زمان المطالبة، إذ القيمة الّتي يدفعها الضامن تكون قيمة لما في الذّمّة، فإذا استحقّ

______________________________

[1] الأوجه أن يقال- كما أفيد- في إتلاف المال في بلد و مصادفة المالك للمتلف في بلد آخر لا يوجد مثله فيه مع اختلاف قيمة ذلك البلد لقيمة بلد التلف: إنّ العبرة بقيمة بلد المطالبة، لبقاء المثل في الذّمّة، فللمالك مطالبته به متى شاء و أينما شاء، لأنّ الحقّ له، فالمناط قيمة زمان الدفع و مكانه، فحال المكان حال الزمان في ذلك.

ص: 438

و فصّل الشيخ (1) في المبسوط في باب الغصب

______________________________

المالك المطالبة به في بلد معيّن استحقّ تطبيق ما في الذّمّة على الفرد الخارجيّ في ذلك البلد، فتكون خصوصيّة البلد من قيود ما يستحقه المالك، فلا بدّ من دخلها في التقويم.

و أمّا اعتبار أعلى القيمتين فهو مبنيّ على ضمان ارتفاع القيم، و كون المضمون الجامع بين العين و المثل، و بقاء المثل في الذّمّة إلى زمان المطالبة. و لكن قد تقدّم عدم ضمان القدر المشترك بين التالف و الموجود.

(1) لا بأس بنقل جملة من كلامه وقوفا على حقيقة الأمر، قال قدّس سرّه: «إذا غصب منه مالا مثلا بمصر فلقيه بمكّة، فطالبه به، لم يخل من أحد أمرين، إمّا أن يكون لنقله مئونة، أو لا مئونة لنقله. فإن لم يكن لنقله مئونة كالأثمان، فله مطالبته به، سواء كان الصّرف في البلدين متّفقا أو مختلفا، لأنّه لا مئونة في نقله في العادة. و الذّهب لا يقوّم بغيره، و الفضّة لا يقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين. و إن كان لنقله مئونة لم يخل من أحد أمرين، إمّا أن يكون له مثل أو لا مثل له. فإن كان له مثل كالحبوب و الأدهان نظرت. فإن كانت القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبته بالمثل، لأنّه لا ضرر عليه في ذلك. و إن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل و فيما لا مثل له سواء، فللمغصوب منه إمّا أن يأخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر، و إمّا أن يدع حتّى يستوفي ذلك منه بمصر، لأنّ في النقل مئونة، و القيمة مختلفة، فليس له أن يطالبه بالفضل .. إلخ» «1».

و هذه العبارة و إن كانت بظاهرها أجنبيّة عن محلّ البحث- من تعذّر المثل في بلد التلف و المطالبة- لاختصاصها بصورة وجود المثل في بلد المطالبة، و لذا يتفرّع عليه أنّ القيمة المدفوعة إلى المالك هي بدل الحيلولة. لكنّ المناسبة- الداعية لتعرّض كلام الشيخ هنا- هي اتّحاد حكم المثليّ مع القيميّ فيما لو اختلفت قيمة المثل في بلدي

______________________________

(1) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 76

ص: 439

«بأنّه إن لم يكن في نقله (1) مئونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل، سواء كانت القيمتان مختلفتين أم لا. و إن كان في نقله مئونة فإن كانت (2) القيمتان متساويتين كان له المطالبة أيضا (3)، لأنّه (4) لا ضرر عليه في ذلك، و إلّا (5) فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف، أو يصبر

______________________________

التلف و المطالبة، و توقّف نقل المثل على مئونة، كما هو صريح قوله: «و إن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل و فيما لا مثل له سواء» و أنّ المالك مخيّر بين مطالبة قيمة بلد التلف و بين الانتظار حتى العود إلى بلد التلف لاستيفاء المثل.

(1) أي: في نقل المغصوب. و هذا هو الشقّ الأوّل في عبارة المبسوط، و محصّله:

جواز مطالبة المالك بالمثل في غير بلد الغصب و الضمان، سواء اتّحدت قيمة المثل في البلدين أم لا.

(2) هذا هو الشقّ الثاني، و هو تساوي قيمة بلد الغصب و المطالبة مع توقّف النقل على مئونة. و حكمه جواز المطالبة في غير بلد الضمان.

(3) يعني: كالشقّ الأوّل الذي لم يتوقّف نقل المثل- من بلد الغصب إلى بلد المطالبة- على نفقة.

(4) الضمير للشأن، و هذا تعليل لجواز المطالبة بالمثل في غير بلد الغصب، و محصّله: أنّ الضامن لا يتضرّر بأداء المثل إلى المالك، لفرض تساوي قيمته في البلدين.

(5) هذا هو الشقّ الثالث، يعني: و إن لم تكن القيمتان متساويتين- مع توقّف النقل على مئونة- صار المثليّ كالقيميّ في أنّ المالك يتخيّر بين أخذ قيمة المثل في بلد التلف، و بين الصبر حتى الرجوع الى بلد التلف، و أداء المثل فيه إلى المالك.

ص: 440

حتى يوفيه بذلك البلد» [1] ثمّ قال: «إنّ الكلام في القرض كالكلام في الغصب» (1).

و حكي نحو هذا (2) عن القاضي أيضا، فتدبّر (3).

______________________________

(1) بخلاف السّلم، فليس للمشتري مطالبة المسلم فيه- و لا بدله- في غير بلد العقد، سواء أ كان لنقله مئونة أم لا. كذا أفاده شيخ الطائفة قدّس سرّه تلو عبارته المتقدّمة.

(2) أي: حكي نحو هذا التفصيل عن القاضي «1» كما حكي عن شيخ الطائفة قدّس سرّهما.

(3) لعلّه إشارة إلى: أنّ هذا التفصيل بشقوقه أجنبيّ عن موضوع البحث، لأنّ مورد كلامه هو صورة وجود المثل في بلدي التلف و المطالبة، و مورد البحث هو تعذّر المثل، فكان الأنسب نقل كلام المبسوط في ذيل الفرع المتقدّم في الأمر الخامس في قبال قول الحلّيّ و العلّامة و الفخر و الشهيد قدّس سرّهم القائلين بجواز مطالبة المثل عند التمكّن منه مطلقا كما صنعه في الجواهر.

مع أنّ الشقّ الأوّل من تفصيله راجع إلى جواز المطالبة في غير بلد التلف من دون تعرض فيه لتعيين القيمة. و الشق الثاني راجع إلى جواز المطالبة في صورة تساوي

______________________________

[1] الحق أن يقال: إنّ اعتبار زمان القيمة كاعتبار مكانها. فعلى القول ببقاء العين أو المثل على العهدة فالعبرة بقيمة بلد الأداء، كما تقدّم في زمان الأداء. و لا فرق بين الزمان و المكان من هذه الجهة.

و على القول بأنّ أداء القيمة عند تعذّر المثل غرامة للعين. فالعبرة بقيمة بلد تلف العين.

و على القول بكون التعذّر موجبا لضمان القيمة، فالتعذّر البدويّ موجب لضمان قيمة بلد التلف، و التعذّر الطاري موجب لضمان قيمة بلد التعذّر. و في جميع الصور لا بدّ من لحاظ الأوصاف الدخيلة في الرغبات و الماليّة.

______________________________

(1) المهذب، للقاضي ابن البرّاج، ج 1، ص 443

ص: 441

و يمكن أن يقال (1): إنّ الحكم باعتبار بلد القرض، أو السّلم (2)- على القول به

______________________________

القيمتين، و هو غير محلّ الكلام. و الشقّ الثالث راجع إلى عدم جواز المطالبة بالمثل في غير بلد التلف، و موضوعه وجود المثل، و هو غير محلّ البحث.

(1) الظاهر أنّ غرضه قدّس سرّه من هذه العبارة المناقشة في تفصيل المبسوط، و بيانه:

أنّ قوله في الشّقّ الثالث: «و إلّا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف أو يصبر حتى يوفيه بذلك البلد» مشكل، لاقتضاء أدلّة الضمان- كآية الاعتداء بالمثل- اشتغال عهدة الضامن ببدل المغصوب، و للمالك مطالبته منه، سواء أ كانا في بلد الضمان أم في بلد آخر، و سواء تساوت القيم في البلدين أم اختلفت. و لا مقيّد في البين حتى يختصّ جواز المطالبة بما إذا كانا في بلد الضمان، أو تساوت القيمتان في البلدين. بل مقتضى إطلاق الدليل استحقاق المطالبة في بلد آخر حتى إذا كانت القيمة فيه أزيد من بلد الضمان. مع أنّ شيخ الطائفة قدّس سرّه منع المالك من مطالبة الزيادة، و خيّره بين مطالبة قيمة المثل في بلد الضمان و بين الانتظار حتى يؤدّي الضامن البدل في بلد الضمان.

نعم نقول باستحقاق المطالبة بالبدل في خصوص بلد القرض و السّلم، و ذلك لانصراف إطلاق العقد إليه و عدم تقييده بأداء المضمون في مكان آخر كانصراف إطلاق عقد البيع إلى نقد بلد المعاملة لا نقد بلد آخر. و أمّا الغصب و ما بحكمه- كالمقبوض بالبيع الفاسد- فلا عقد حتى يختصّ استحقاق مطالبة البدل ببلد الضمان، بل مقتضى إطلاق دليل الضمان جواز المطالبة به في بلد آخر حتى مع تفاوت القيمتين.

(2) قد عرفت فيما نقلناه عن المبسوط أنّ شيخ الطائفة قدّس سرّه ألحق القرض بالغصب، و مقتضاه جريان الشقوق الثلاثة فيه، و لم يحكم بتعيّن بلد القرض، و إنّما صرّح بتعيّن بلد العقد في بيع السّلم خاصّة.

و كيف كان فالفرق بين القرض و السّلم- بنظر شيخ الطائفة- لا يدفع إشكال المصنف عليه، لأنّ غرضه إبداء الفارق بين الغصب و ما بحكمه، و بين القرض و السّلم.

ص: 442

مع الإطلاق- لانصراف (1) العقد إليه، و ليس [1] في باب الضمان ما يوجب هذا الانصراف (2).

[لحوق حكم سقوط المثل عن الماليّة بتعذّره]

بقي الكلام في أنّه هل يعدّ (3) من تعذّر المثل خروجه عن القيمة كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة، و الجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف، أم لا؟

الأقوى- بل المتعيّن- هو الأوّل (4)،

______________________________

(1) خبر «إنّ» و ضمير «اليه» راجع إلى بلد القرض أو السّلم.

(2) فالفارق بين الغصب و القرض و السّلم فقدان الانصراف في الأوّل، لانتفاء موضوعه أعني به العقد. بخلاف القرض و السّلم، فإنّ عقدهما منصرف إلى بلد العقد.

هذا ما يتعلق بالجهة السادسة.

لحوق حكم سقوط المثل عن الماليّة بتعذّره

(3) هذه سابعة جهات البحث في الأمر السادس، و تفترق عن الجهات الستّ المتقدّمة في أنّ الكلام في هذه الجهة ليس في إعواز المثل و عدم وجوده خارجا، بل في إلحاق سقوطه عن الماليّة بتعذّره حتى ينقلب الضمان إلى القيمة مع تيسّر الكلّي المثليّ، و ذلك كالماء إذا أتلفه في مفازة، فأراد أداء مقدار مساو له على شاطئ النهر، و المفروض عدم مالية الماء عليه، فهل يكفي ردّ المثل، أم يجب ردّ قيمة التالف في زمان الضمان و مكانه، أم قيمة المثل آنا قبل سقوطه عن الماليّة؟ وجوه، ستأتي.

(4) و هو كون سقوط المثل عن القيمة كتعذّر المثل، لأنّ المماثلة المعتبرة في ضمان

______________________________

[1] إلّا أن يقال: إنّ المنساق من أدلّة الضمانات أيضا اعتبار بلد التلف، أو البلد الذي وصل إليه العين، إذ مقتضى المماثلة و البدليّة المستفادة من التغريم ذلك، فإذا اختلفت القيم باختلاف الأمكنة، فلا بدّ من اعتبار قيمة بلد تلف العين، أو بلد وصولها إليه، فلا يبقى حينئذ فرق بين المقام و القرض و السّلم.

ص: 443

بل حكي عن بعض (1) نسبته إلى الأصحاب و غيرهم، و المصرّح (2) به في محكيّ التذكرة و الإيضاح و الدروس قيمة المثل في تلك المفازة (3).

______________________________

المثل يراد بها المماثلة في الحقيقة النوعيّة و الماليّة، إذ المماثلة في الحقيقة النوعيّة فقط- بأن تشملهما حقيقة واحدة كصدق طبيعة الماء و الجمد على الماء على الشاطئ و الثلج في الشتاء مثلا، من دون الماليّة- لا توجب المماثلة المقصودة في باب الضمان، و هي المماثلة في الحقيقة و الماليّة معا.

(1) الحاكي هو السيّد العاملي قدّس سرّه: «و في جامع المقاصد نسبته إلى الأصحاب و غيرهم» «1». و عبارة المحقّق الكركي قدّس سرّه هذه: «فالمختار هو وجوب القيمة، و لا محيد عن مختار الأصحاب و غيرهم في ذلك» «2».

و ظاهر نسبته إلى الأصحاب إجماعهم على الانتقال إلى القيمة.

(2) الظاهر أنّ غرضه الخدشة في الإجماع المستفاد من كلام المحقّق الكركي قدّس سرّه و ذلك لأنّهم اختلفوا في القيمة المستقرّة في عهدة الضامن، هل هي قيمة المغصوب كالثلج التالف في الصيف، أم قيمة المثل؟ ذهب العلّامة في التذكرة و القواعد، و فخر المحققين و الشهيد «3» إلى اعتبار قيمة المثل في مثل تلك المفازة- في مثال إتلاف الماء في الصيف- أو قيمة مثل ذلك الجمد. و ذهب المحقّق الكركي إلى ضمان قيمة المغصوب «4»، لا المثل، و معه كيف يدّعى الإجماع على ضمان قيمة المغصوب؟

(3) يعني: أنّ العبرة في تقويم المثل- الذي سقط عن القيمة- بقيمته في تلك المفازة، أي: قيمته في المكان الذي أتلفه فيه.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 252

(2) جامع المقاصد، ج 6، ص 258

(3) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383؛ إيضاح الفوائد، ج 2، ص 177؛ الدروس الشرعية، ج 3، ص 113

(4) جامع المقاصد، ج 6، ص 255

ص: 444

و يحتمل آخر مكان أو زمان سقط المثل به عن الماليّة (1) [1].

______________________________

(1) بناء على عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة و انحطاطها. فحينئذ يكون المضمون آخر زمان أو مكان ماليّته، لأنّه بعد فرض ضمان ماليّة المال المضمون كنوعيّته- و عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة- يكون المدار في الضمان آخر أزمنة و أمكنة ماليّته، بمعنى سقوطه عن الماليّة بعد ذلك الزمان و المكان.

مثلا إذا كان قيمة إناء الماء في المفازة درهمين، فتوجّها نحو الشاطئ، و تنزّلت قيمته إلى نصف درهم، لقرب المسافة إلى النهر، و لم تقلّ عن هذا الثمن بعدها، بل سقطت عن الماليّة بالكليّة، كان المدار على آخر مكان الماليّة، و هو نصف الدرهم في المثال.

و كذا الحال في إتلاف الجمد في الصيف و هو زمان ارتفاع قيمته، و تتنزّل ماليّته في فصل الخريف شيئا فشيئا كلّما قرب الشتاء، فالمدار على قيمته النازلة التي تسقط عنها بعد ذلك الزمان كآخر أيّام الخريف. و هكذا سائر الأشياء المثليّة.

______________________________

[1] الأولى التعرّض لحكم سقوط نفس العين عن الماليّة أوّلا، ثم التكلم في حكم سقوط المثل عن الماليّة، فنقول: قد أفاد المحقّق الأصفهاني قدّس سرّه ما لفظه: «إذا سقط العين عن الماليّة فمقتضى عموم على اليد المستفاد منه كون عهدة العين على ذي اليد كونها مغيّاة بأداء المأخوذ، فلا ينبغي الشكّ في خروج العين عن العهدة بأدائها و إن سقطت عن الماليّة. كما لا ريب في الخروج عن عهدة العين بأدائها مع تنزّل قيمتها. فيعلم منه أنّ الواجب أداء نفس المأخوذ، لا بما له من الصفة الاعتباريّة أعني الماليّة، و إلّا فلا فرق بين سقوطها عن الماليّة رأسا و سقوط مقدار معتدّ به عن ماليتها. و مقتضى دليل من أتلف مال الغير فهو له ضامن ليس إلّا تدارك المال بالحمل الشائع، لا تدارك الماليّة «1».

و هو قدّس سرّه تبع شيخه المحقّق الخراساني قدّس سرّه «2»، و حاصله: أنّ ردّ العين و إن سقطت

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 97

(2) حاشية المكاسب، ص 39

ص: 445

______________________________

عن الماليّة، لكنّه يصدق عليه أنّه ردّ لما أخذه.

هذا إذا كان دليل الضمان «على اليد» فإنّ إطلاق «حتى تؤديه» يقتضي خروج العين عن العهدة بأدائها مطلقا و إن سقطت عن الماليّة.

و أمّا لو كان قاعدة الإتلاف، فالظاهر منها هو إتلاف المال- لا إتلاف الماليّة- فسقوط المأخوذ عن الماليّة لا يقدح في ارتفاع الضمان بردّها، و ليس إخراج العين من مكان إلى آخر لا ماليّة لها فيه إزالة لماليّتها، و ليس كجعل الخل خمرا بعلاج، لأنّه إزالة لوصف الخليّة، و يتبعه زوال الماليّة، فضمانه من حيث إزالة الصفة، لا من حيث إزالة الماليّة.

و فيه: ما مرّ مرارا من: أنّ الأوصاف الدخيلة في الرغبات و زيادة القيم سواء أ كانت حقيقية أم اعتباريّة أم إضافيّة مضمونة، لوقوعها تحت اليد تبعا. و هذا غير القيمة السوقيّة المختلفة زيادة و نقيصة التي هي غير مضمونة كما تقدّم سابقا.

و عليه فصفة الثلج- و هي كونه في الصيف- توجب الرغبة و الماليّة، بخلاف كونه في الشتاء، فصفة الصيفيّة كصفة الخليّة مضمونة، فإذا أبقى الثلج إلى زمان الشتاء لا يكفي ردّه في ارتفاع الضمان، لبقاء ضمان صفة الصيفيّة الإضافيّة الدخيلة في قيمته في ذمّته، من غير فرق في ذلك بين كون العين في صورة التلف على العهدة أو المثل.

و يظهر ممّا ذكرنا حال الدراهم التي يسقطها السلطان، فإنّ الدرهم الموصوف بكونه معتبرا و رائجا مضمون على قابضه، فلا بدّ في مقام الأداء و تفريغ الذّمّة من لحاظ هذا الوصف، بأن تلحظ العين و تجبر موصوفة بهذا الوصف، و إلّا فلم يؤدّ ما عليه، فإنّ دليل الضمان يشمل العين و صفتها باعتبار واحد، سواء سقطت العين عن الماليّة رأسا كما إذا كانت مواد الفلوس الرائجة من القرطاس و نحوه ممّا إذا أسقطه السلطان سقط عن الماليّة رأسا، لعدم الماليّة للمادّة. أم نقصت ماليّتها، كما إذا كانت مادّتها من الذهب أو الفضّة، و إسقاط السلطان له أثّر في ماليّته من حيث السكّة فقط دون مادّته، فإنّ المضمون

ص: 446

______________________________

هو العين بوصفها الدخيل في الماليّة، فالدراهم المزبورة مضمونة بوصفها السّكيّ.

و لا بدّ من حمل إطلاق كلام الأصحاب من «أنه إذا اقترض دراهم، ثم أسقطها السلطان ليس عليه إلّا الدراهم الاولى» «1» على الدراهم التي لم تخرج عن الماليّة.

كما كان الأمر في الدراهم كذلك، لأنّ مادّتها كانت من الفضّة التي لها ماليّة. فلا وجه لتنظير المقام أعني به خروج المثل عن الماليّة بالدراهم التي أسقطها السلطان، و ذلك لعدم خروج موادّ الدراهم عن الماليّة.

و أمّا قاعدة الإتلاف فالظاهر أنّ التعبير في دليلها ب «مال الغير». دون «ملك الغير» إنّما هو لأجل إناطة الضمان بماليّة المتلف، لا بمجرّد إضافة الملكيّة، إذ لو كانت هي المدار في الضمان لزم التعبير بملك الغير، فالماليّة ملحوظة على نحو الموضوعيّة في باب الضمان.

نعم الاستيلاء على ملك الغير و إن كان حراما أيضا، إلّا أنّه ما لم يكن مالا ليس بمضمون، بل الحرمة تكليفيّة محضة.

فما أفاده قدّس سرّه من «عدم ضمان الماليّة، بل المضمون نفس المال» ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لما عرفت من أنّ كلّ صفة لها دخل في الماليّة مضمونة تبعا للعين، فنقل العين من مكان إلى مكان آخر لا ماليّة لها فيه إزالة لماليّتها الناشئة عن الصفة الإضافيّة، فإنّ الثلج المضاف إلى زمان خاص و مكان كذلك صفة دخيلة في ماليّته تلزم رعايتها.

تتمّة: إذا شكّ في خروج العهدة بدفع العين المضمونة التي سقطت عن الماليّة، فهل الأصل يقتضي الاشتغال و لزوم دفع القيمة أيضا، أم لزوم دفع العين فقط، أم القيمة كذلك؟ و هذا الشكّ ناش عن أنّ التدارك هل يجب أن يكون بالماليّة أو بخصوصيّة العين

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ص 39

ص: 447

______________________________

أو بكلتيهما؟ و مقتضى الأصل بقاء العين بماليّتها على العهدة، و عدم سقوطها بأداء ما سقطت عن القيمة إلّا بأدائها و قيمتها، فلا وجه لأن يقال: إنّ أداء العين موجب لسقوط الضمان، و اشتغال الذّمّة بخصوصيّة المال مشكوك فيه، فينفى بالبراءة.

بل يقال: إنّ ضمان العين المتمولّة قد ثبت قطعا و اشتغلت بها الذّمّة يقينا، و دفع العين الساقطة عن الماليّة إلى المالك يوجب الشك في سقوط الضمان، و مقتضى الاستصحاب بقاء العهدة إلى أن تؤدّى القيمة أيضا، فاستصحاب بقاء العهدة يقضي بلزوم دفع القيمة أيضا.

و قد نوقش في هذا الأصل بما في حاشية المحقّق الأصفهاني قدّس سرّه من «أنّه لا مجال لهذا الأصل، إذ لم يثبت للعهدة أثر شرعا و عرفا إلّا وجوب دفع العين، فلا معنى للتعبد بالقيمة من التعبد ببقاء العين إلّا بالأصل المثبت، لأنّ بقاءها مع دفع العين ملزوم عادة أو عقلا لوجوب التدارك بالماليّة. نعم أصالة بقاء الخروج عن عهدة العين بدفعها قبل سقوطها عن الماليّة لا بأس بها» «1».

و فيه: أنّ أصالة بقاء شغل الذّمّة يستلزم عقلا وجوب الخروج عن العهدة، و هذا اللازم أعمّ للحكم الواقعيّ و الظاهريّ، نظير وجوب الإطاعة عقلا الذي هو لازم أعمّ للحكم الواقعيّ و الظاهريّ، و وجوب مقدّمة الواجب، فإنّهما حكمان عقليّان للوجوب الأعمّ من الواقعيّ و الظاهريّ.

فإذا ثبت وجوب شي ء بالاستصحاب مثلا ترتّب عليه الحكمان العقليان المذكوران، كما يترتّبان على الوجوب الواقعيّ الثابت بالعلم الوجدانيّ. و من المعلوم أنّه لا شائبة لمثبتيّة الأصل في هذه الموارد. نظير استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا، فإنّ

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 97

ص: 448

______________________________

لازمه العقليّ لزوم الإطاعة بإتيان صلاة الجمعة، لكون الوجوب المستصحب كالوجوب المعلوم لازم الإطاعة عقلا. و المقام كذلك، إذ العقل كما يحكم بلزوم الخروج عن عهدة مال الغير مع العلم بالاشتغال، كذلك يحكم به مع استصحاب الاشتغال، لكون الاستصحاب حجة كحجّيّة العلم عليه، مع الفرق بينهما من حيث التعبد في الأوّل.

فالمتحصّل: أنّ الغرض من الاستصحاب إثبات الاشتغال فقط، الذي هو موضوع لحكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة بأيّ شي ء يمكن، و من المعلوم أنّ أداء العين الساقطة عن الماليّة لا يوجب العلم بالخروج عن العهدة، بل يتوقف العلم به على أداء القيمة أيضا.

و يمكن أن يقال: بعدم الحاجة إلى الاستصحاب، بل نفس قاعدة الاشتغال كافية في لزوم دفع القيمة أيضا، لتوقّف اليقين بالفراغ عليه.

و أمّا ما أفاده قدّس سرّه أخيرا من الأصل الآخر- و هو أصالة بقاء الخروج عن عهدة العين بدفعها قبل سقوطها عن الماليّة- ففيه: أنّه من الأصل التعليقيّ، إذ لا معنى للتنجيزيّ مع عدم تحقّق الدفع. و حجيّة الاستصحاب التعليقيّ الراجع إلى التعليق في الموضوع- كالمقام، لأنّ تقريبه حينئذ هو: أنّه لو دفع العين قبل خروجها عن الماليّة لكانت مسقطة للعهدة، و الآن كما كان- محلّ الاشكال، لعدم إحراز وحدة الموضوع في حالتي اليقين و الشكّ، مع سقوط العين عن الماليّة في حال الشك.

فالاستصحاب التنجيزيّ القاضي ببقاء العهدة محكّم، فلا يمكن الاكتفاء في سقوط العهدة بدفع العين الساقطة عن الماليّة، بل لا بدّ من دفع كلّ من العين و القيمة. أمّا العين فلكونها بشخصها مضمونة. و أمّا القيمة فلكونها كذلك أيضا.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بالقيمة قيمة يوم سقوط العين عن الماليّة، لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة، لا قيمة يوم الأخذ، و لا يوم الأداء، و لا أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان الأداء، أو إلى زمان التلف.

ص: 449

[القدرة على المثل بعد دفع القيمة]

فرع (1): لو دفع القيمة في المثل المتعذّر مثله، ثمّ تمكّن من المثل

______________________________

القدرة على المثل بعد دفع القيمة

(1) هذا فرع آخر ممّا تعرّض له المصنّف من المباحث المتعلّقة بإعواز المثل، و هو: حكم تمكّن الضامن من أداء المثل بعد تعذّره و دفع قيمته إلى المالك، فهل يجب عليه أداء المثل أم لا؟ ذكر المصنف مباني ثلاثة، يقتضي اثنان منها عدم الوجوب، و يحتمل الوجوب بناء على الثالث.

و توضيحه: أنّه إمّا أن نقول بعدم سقوط المثل عن الذّمّة بسبب التعذّر، و إمّا أن نقول بسقوط المثل بسبب تعذّره و استقرار القيمة. و بناء على الانقلاب نقول تارة:

إنّ المغصوب بمجرّد تعذّر مثله يصير قيميّا، و اخرى: إنّ نفس المثل بتعذّره- الذي هو كالتلف- يصير قيميّا. فهذه مبان ثلاثة.

فعلى الأوّل- و هو عدم سقوط المثل بالإعواز- لا يجب دفع المثل إلى المالك، لأنّ ما في الذّمّة كان هو المثل إلى زمان دفع القيمة، و لمّا كان إعطاء القيمة بالتراضي فقد سقط المثل، لكونه من قبيل الوفاء بغير الجنس مع التراضي- كما في القرض- و من المعلوم سقوط ما في الذّمّة به، فلا وجه لوجوب دفع المثل بعد التمكّن منه.

و على الثاني- و هو سقوط المثل بالتعذر و صيرورة المغصوب المثليّ قيميّا- لا يجب أداء المثل أيضا، لكون سقوطه بدفع القيمة أولى من الفرض الأوّل، لأنّ نفس القيمة المدفوعة مصداق لكلّيّ القيميّ الثابت في ذمّة الضامن، و من المعلوم أنّ دفع مصداق الطبيعيّ رافع لما في العهدة حقيقة.

و بعبارة اخرى: إنّ نفس القيمة حقّ المضمون له واقعا- بناء على انقلاب المضمون المثليّ إلى قيمته- فأداؤها إلى المالك أداء حقّه الواقعيّ، فيتعيّن سقوط الضمان حينئذ.

و على الثالث- و هو سقوط المثل و انقلابه بقيمته لا بقيمة العين- يكون السقوط لأجل كون القيمة بدل الحيلولة عن المثل. فمع التمكّن من أدائه يحتمل وجوب المثل.

ص: 450

فالظاهر (1) عدم عود المثل في ذمّته، وفاقا للعلّامة رحمه اللّه (2) و من تأخّر عنه (3) ممّن تعرّض للمسألة، لأنّ المثل كان دينا في الذّمّة سقط بأداء عوضه مع التراضي، فلا يعود، كما لو تراضيا (4) بعوضه مع وجوده. هذا (5) على المختار من عدم سقوط المثل عن الذّمّة بالإعواز.

و أمّا على القول بسقوطه (6) و انقلابه قيميّا، فإن قلنا بأنّ المغصوب انقلب

______________________________

هذا حكم الشقوق الثلاثة. و مذهب الماتن هو الأوّل.

(1) هذا مختار المصنّف قدّس سرّه وفاقا لجمع، و هو مبنيّ على مذهب المشهور من عدم سقوط المثل بالتعذّر، كما تقدّم في أوائل هذا التنبيه السادس بقوله: «إنّ المشهور أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع، لأنّ المثليّ ثابت في الذّمّة إلى ذلك الزمان، و لا دليل على سقوطه بتعذّره».

(2) قال في القواعد: «و لو غرم القيمة ثمّ قدر على المثل فلا تردّ القيمة، بخلاف القدرة على العين» «1».

(3) كالشهيدين و المحقّق الكركيّ و غيرهم قدّس سرّهم كما نسبه إليهم السيد العاملي قدّس سرّه «2».

(4) يعني: أنّ عدم عود المثل المتعذّر إلى الذّمّة- بعد القدرة عليه- يكون نظير تراضي المالك و الضامن على القيمة في صورة التمكّن من المثل، فلو أخذها المالك لم يكن له مطالبة المثل.

(5) أي: عدم عود المثل إلى عهدة الضامن مبنيّ على المختار .. إلخ.

(6) مقتضى السياق رجوع الضميرين إلى «المثل المتعذّر» لكنّه في «انقلابه» لا يخلو من تكلّف. و قد تقدم نظيره في (ص 404) فراجع.

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 79، السطر 24 (الطبعة الحجرية).

(2) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 243؛ و لاحظ: تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 383، السطر 37 و 38؛ الدروس الشرعية، ج 3، ص 113؛ جامع المقاصد، ج 6، ص 255 و 256؛ مسالك الأفهام، ج 12، ص 184

ص: 451

قيميّا عند تعذّر مثله (1) فأولى (2) بالسقوط، لأنّ المدفوع نفس ما في الذّمّة.

و إن قلنا: إنّ المثل بتعذره- النّازل (3) منزلة التلف- صار قيميّا (4) احتمل (5) [1] وجوب المثل عند وجوده، لأنّ (6) القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل، و سيأتي (7) أنّ حكمه عود المبدل عند انتفاء الحيلولة.

______________________________

(1) هذا هو مبنى الشقّ الثاني، المتقدّم بقولنا: «و بناء على الانقلاب فتارة نقول إنّ المغصوب بمجرّد تعذّر مثله يصير قيميّا».

(2) هذا حكم الشقّ الثاني، و هو أولوية سقوط المثل عن الذّمّة من الشقّ الأوّل، لما عرفت من انتقال حقّ المضمون له من المثل إلى القيمة، فكأنّ العين المضمونة قيميّة من أوّل ضمانها، لا مثليّة، فكيف يجب دفع المثل بعد أداء قيمة المضمون؟

(3) صفة لتعذّر المثل، يعني: أنّ تعذّر المثل يكون بمنزلة تلف جميع أفراده، الموجب لتبدّله بالقيمة.

(4) هذا مبنى الشقّ الثالث، و قد عرفته بقولنا: «و اخرى نقول: إنّ نفس المثل بتعذّره يصير قيميّا».

(5) هذا حكم الشق الثالث، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «و على الثالث ..

يكون السقوط لأجل ..».

(6) تعليل لاحتمال وجوب المثل، يعني: أنّ القيمة بدل ماداميّ، فإذا وجد المبدل سقط البدل عن الاعتبار، و يرجع الحكم إلى المبدل.

(7) يعني: في الأمر السابع بقوله: «ثم إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العين و صار ممكنا وجب ردّها إلى المالك».

______________________________

[1] لكن هذا الاحتمال ضعيف جدّا، لأنّه مع فرض الانقلاب يكون ما على العهدة خصوص القيمة، لا غيرها، فدفع القيمة رفع لمصداق ما على العهدة، فلا معنى

ص: 452

______________________________

لرجوع المثل، إذ لم يكن في الذّمّة مثل حتى يرجع بعد وجوده.

نعم في صورة عدم سقوط المثل عن العهدة يتّجه القول بكون القيمة من قبيل بدل الحيلولة، بدعوى: أنّ القيمة غير جابرة لحيثيّتي النوع و الماليّة، بل جابرة لخصوص حيثيّة الماليّة، و بدليّتها ناقصة، فمع التمكّن من الجبران التامّ تعيّن ذلك.

و كيف كان فتفصيل الكلام في المقام: أنّه على القول ببقاء العين على العهدة إلى زمان التدارك و الأداء، و كون أداء المثل أداء ناقصا، للعذر عن الأداء التامّ بسبب التلف، و كون أداء القيمة عند تعذّر المثل أداء للعين بوجه أنقص من أداء المثل.

و كذا على القول بكون المثل على العهدة، و أنّ أداء القيمة أداء ناقص للمثل، للعذر عن الأداء التام يتعيّن القول بعود المثل، لارتفاع العذر بوجود المثل عن الأداء التّام، فلا يكفي الأداء الناقص، لعدم كونه أداء عند رفع العذر.

و الحاصل: أنّ أداء ما في الذّمّة بغير مصداقه أداء ناقص، و مع التمكّن من أدائه التامّ لا يعدّ الناقص أداء له. نعم لو أسقط صاحب الحق خصوصيّة ما في الذّمّة من العين أو المثل، و طالب الضامن بأداء غيره، فمقتضى القاعدة سقوط حقّه عن المثل و لو مع وجوده فضلا عن إعوازه.

هذا كلّه بناء على كون القيمة أداء ناقصا للمثل.

و أمّا بناء على كونها أداء تامّا للمثل، كما أنّ نفس المثل أداء كامل و جبران تامّ للعين في المثليّات، فإذا تعذّر المثل و دفع القيمة كانت القيمة تمام الغرامة و مسقطة لما في العهدة، فليست القيمة غرامة ناقصة، بل هي تامّة، فمع وجود المثل يكون هو تمام غرامة العين، و مع فقده أو كون العين قيميّة تكون القيمة تمام غرامتها و جابرة لتمام الخسارة، و معه لا معنى لبقاء المثل على العهدة.

و لا وجه للتفصيل الذي أفاده المصنّف قدّس سرّه من «أنّه مع بقاء المثل في الذّمّة لا يعود المثل، لسقوطه بالقيمة مع التراضي، و مع سقوط المثل و انتقاله إلى القيمة يحتمل

ص: 453

______________________________

القول بعوده بعد وجوده، لكون القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل» و ذلك لأنّ الأمر بالعكس، فإنّ المثل إذا سقط عن الذّمّة و انتقل إلى القيمة، فالقيمة المدفوعة حينئذ نفس ما على عهدة الضامن، فيكون من الوفاء بالجنس، فلا محيص عن السقوط. و لا وجه لعود المثل إلى الذّمّة بعد كون القيمة عين ما في الذّمّة. فلا بدّ في الحكم بعود المثل بعد التمكّن منه من الالتزام ببقاء المثل في العهدة، و عدم انتقاله بسبب التعذّر إلى القيمة حتى تكون القيمة عند تعذّره من بدل الحيلولة.

و يمكن التفصيل بوجه آخر، و هو: أنّه إذا كان دفع القيمة بعنوان الصلح عمّا في الذّمّة، سواء أ كان هو العين أم القيمة، فيسقط ما في العهدة، و لا يبقى مورد لبدل الحيلولة.

و إن كان بعنوان الغرامة و تدارك ما على الضامن، فعلى القول بانتقال العين أو المثل المتعذّر إلى القيمة حقيقة فالقيمة المدفوعة عين حقّه، فلا مورد لبدل الحيلولة حينئذ أيضا.

و على القول ببقاء العين أو المثل في الذّمّة إلى زمان التدارك، و أنّ القيمة غرامة ناقصة، فالقيمة عند تعذّر المثل تكون من بدل الحيلولة، لأنّ البدليّة الناقصة العذرية ترتفع، و تنتقل إلى البدليّة التامّة الاختياريّة.

و لعلّ هذا التفصيل أولى من سابقه، لأنّه على تقدير كون العين أو المثل في الذّمّة إذا صالح المالك ما على عهدة الضامن بالقيمة فقد سقط ما عليه. و لا معنى لبدل الحيلولة حينئذ.

و على تقدير انقلاب العين التالفة أو المثل المتعذّر إلى القيمة تكون القيمة المدفوعة عين ما على العهدة، لا بدلا عنه حتى يقال: إنّه بدل الحيلولة، فلا موضوع لبحث البدليّة أصلا.

ص: 454

[السابع ضمان القيميّ بالقيمة]

اشارة

السابع (1): لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا (2) فقد حكي (3) الاتّفاق على

______________________________

ضمان القيميّ بالقيمة

________________________________________

(1) الغرض من عقد هذا الأمر بيان جهة أخرى مما يتعلّق بالمبيع بالبيع الفاسد إذا تلف بيد المشتري، و هي كيفيّة ضمان القيميّات، و أنّها مضمونة بالقيمة أو بما يماثلها. فإن كانت مضمونة بالقيمة لم يكن للمالك إلزام الضامن بالمثل، و لا للضامن كذلك. و كذا الحال لو كان القيميّ- كالمثليّ- مضمونا بالمثل. فيقع البحث في مقامين:

أحدهما: في الدليل على ضمان القيميّ بالقيمة، لا المثل.

ثانيهما: في تعيين القيمة بحسب تفاوتها في الأزمنة من يوم القبض و التلف، و أعلى القيم بينهما، و غير ذلك ممّا سيظهر.

(2) قد أشرنا إلى تعريف القيميّ في الأمر الرابع، و أنّه ما يكون مدار ماليّته على الجهات الشخصيّة، و هذا ممّا يحكم به العرف في باب الضمان.

(3) هذا شروع في المقام الأوّل، و قد استدلّ بوجوه على ضمان القيميّ بالقيمة.

الأوّل: الإجماع المنقول الذي ادّعاه الفقيه المتتبّع السيد العاملي قدّس سرّه- بعد حكاية الشهرة عن الشهيد- بقوله: «لا أجد فيه في الباب خلافا، إلّا ما يحكى عن أبي علي، و ما يظهر من قرض الخلاف، و ما لعلّه يظهر من المحقّق في باب القرض ..

و كيف كان فقد اتّفقوا هنا- يعني في باب الغصب- من غير تأمّل و لا خلاف» «1».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 243 و 244

ص: 455

كونه مضمونا بالقيمة (1). و يدلّ عليه الأخبار المتفرّقة (2) في كثير من القيميّات،

______________________________

(1) خلافا للإسكافي و الشيخ و المحقّق في باب القرض.

لكن صحّة نسبة الخلاف إلى الإسكافي لا تخلو عن إشكال، لعدم ظهور عبارته المحكيّة فيما نسب إليه، و تقدّم التعرّض له عند كلام المصنّف في أوّل التنبيه السادس، و سيأتي أيضا. و أمّا مخالفة شيخ الطائفة و المحقّق قدّس سرّهما فهي مبنية على ثبوت التلازم بين القرض و المقام أعني به المقبوض بالعقد الفاسد، المحكوم بحكم الغصب، و هو غير ثابت.

(2) أي: و يدلّ على ضمان القيميّ بالقيمة الأخبار المتفرّقة الواردة في كثير من القيميّات المضمونة بالإتلاف و الالتقاط و نحوهما من موجبات الضمان، و هذه الأخبار دليل ثان على المدّعى، و قد تقدّم بعضها في (ص 338) كرواية بيع الجارية المسروقة، و كرواية السفرة و غيرهما، و نذكر بعضها الآخر هنا، فنقول و به نستعين:

منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام، قال: «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء، هل تحلّ له؟ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هي لك أو لأخيك أو للذئب، فخذها و عرّفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها، و إن لم تعرف فكلها و أنت ضامن لها؛ ان جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردّها عليه» «1».

و تقريب الدلالة: أنّ الشاة المضمونة بالالتقاط قيميّة، فتضمن بقيمتها، لقوله عليه السّلام: «يطلب ثمنها أن تردّها عليه».

و منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام، قال: «و سألته عن الرجل يصيب اللقطة، فيعرفها سنة، ثم يتصدّق بها، فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدّق بها؟ و لمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ على صاحبها أو قيمتها؟ قال: هو ضامن لها، و الأجر له، إلّا أن يرضى صاحبها، فيدعها و الأجر له» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 365، الباب 13 من أبواب اللقطة، الحديث 7

(2) وسائل الشيعة، ج 17، ص 352، الباب 2 من أبواب اللقطة، الحديث: 14

ص: 456

فلا حاجة (1) إلى التمسّك بصحيحة أبي ولّاد الآتية في ضمان البغل [1]

______________________________

و الشاهد في كون الملتقط ضامنا لقيمة اللقطة، لأنّه عليه السّلام قرّر السائل في اشتغال عهدته بالقيمة، و قال: «هو ضامن لها».

و منها: ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام، قال: «أتاه رجل تكارى دابة فهلكت، و أقرّ أنّه جاز بها الوقت، فضمّنه الثمن و لم يجعل عليه كراء» «1». بتقريب: أنّ الدّابة الهالكة قيميّة، و المستأجر المفرّط ضامن لقيمتها.

و منها: مرسلة الصدوق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث: «و إن وجدت طعاما في مفازة فقوّمه على نفسك لصاحبه ثم كله، فإن جاء صاحبه فردّ عليه القيمة» «2».

و التقريب كما تقدّم.

و منها: رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «أنّه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم، فاحترقت، و احترق متاعهم؟ قال: يغرم قيمة الدار و ما فيها ثم يقتل» «3».

و الدلالة ظاهرة أيضا، فإنّ بعض الأمتعة المحترقة قيمي عادة، و قد حكم عليه السّلام بضمان قيمة الدار و الأثاث.

و منها: روايات أخر وردت في تلف العين المرهونة سيأتي ذكرها عند تعرّض الماتن لها.

(1) هذا تعريض بما في الجواهر من الاستدلال- على ضمان القيميّ بالقيمة-

______________________________

[1] أورد المحقّق الايرواني قدّس سرّه عليه بأنّ «إظهار الاستغناء عن الصحيحة، ثم العود إلى الاستدلال بها بعد سطرين ليس كما ينبغي» «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 257، الباب 17 من أبواب الإجارة، الحديث 5

(2) وسائل الشيعة، ج 17، ص 351، الباب 2 من أبواب اللقطة، الحديث 9

(3) وسائل الشيعة، ج 19، ص 210، الباب 41 من موجبات الضمان، الحديث 1

(4) حاشية المكاسب، ج 1، ص 101

ص: 457

..........

______________________________

بصحيحة أبي ولّاد الآتية، و بنصوص ضمان العبد المشترك المعتق بعضه، قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: «نعم للمصنّف- و هو المحقّق- في كتاب القرض ضمان القيميّ بمثله، و قد سمعت الكلام فيه هناك. كما أنّك سمعت الكلام في المحكيّ عن ابن الجنيد المحتمل لإرادة ما لا ينافي المشهور منه. و على تقديره فلا ريب في ضعفه، لظهور صحيح أبي ولّاد و غيره ممّا دلّ على ضمان الحيوان عبدا كان أو غيره في كون الكلام القيمة، و منه نصوص العتق لشريك، المقتضي للسراية المأمور بها بالتقويم، فليس للمتلف دفع المثل العرفي إلّا مع رضا المالك. كما أنّه ليس للمالك اقتراحه» «1».

و المستفاد منه: الاستدلال على اعتبار القيمة في ضمان القيميّات بطائفتين من الأخبار.

الأولى: صحيحة أبي ولّاد، الظاهرة في ضمان البغل بالقيمة، لقوله عليه السّلام: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» و لمّا كانت البغال و الحمير و الدّوابّ معدودة من القيميّات، فلو تلفت اشتغلت الذّمّة بأثمانها لا بأمثالها. و عليه فالصحيحة دليل على تعيّن القيمة في بدليّتها عن العين القيميّة المضمونة.

الثانية: ما ورد من أنّه لو كان عبد مشتركا بين جماعة، فأعتق أحدهم نصيبه،

______________________________

و الأمر كما أفاده، إذ لو كانت الصحيحة وافية بإثبات ضمان القيميّ بقيمة يوم الغصب أو التلف لم يكن وجه في الاشكال على صاحب الجواهر قدّس سرّه المستدلّ بها.

و إن لم تكن وافية به لم يبق مجال لقوله بعد سطرين «فيردّه إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة: منها صحيحة أبي ولّاد الآتية.

و يتأكد الإشكال بناء على ما عن نسخة التهذيب- التي عوّل عليها المصنّف- من تعريف «بغل» الظاهر في إرادة البغل المعهود، لا بغل كلّيّ حتى يحتمل ضمان القيميّ بالمثل، بأن تكون القيمة بدلا عن البدل.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 100

ص: 458

..........

______________________________

تعيّن عليه دفع قيمة سائر حصصه إلى شركائه، حتّى يتحرّر العبد كاملا بالسراية.

و من المعلوم أنّ العبيد و الإماء قيميّات و ليست مثليّة، فضمان قيمة العبد دليل على أنّ القيميّ لا يضمن إلّا بالقيمة.

و هذه النصوص جمعها الشيخ الحرّ قدّس سرّه في باب عنوانه «أنّ من أعتق مملوكا له فيه شريك، كلّف أن يشتري باقيه و يعتقه إن كان موسرا مضارّا، و إلّا استسعى العبد في باقي قيمته، و ينعتق، فإن لم يسع خدم بالحصص» «1».

ففي معتبرة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في عبد كان بين رجلين، فحرّر أحدهما نصفه، و هو صغير، و أمسك الآخر نصفه حتى كبر الذي حرّر نصفه. قال: يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل، و أمر الأوّل أن يسعى في نصفه الذي لم يحرّر حتى يقضيه» «2».

و نحوه سائر أخبار الباب.

و تقريب الدلالة: أنّ تحرير العبد إتلاف لمال الشريك. و حيث إنّ المضمون قيميّ- و هو العبد- كان ضمانه بالقيمة، لقوله عليه السّلام: «يقوّم قيمة». هذا توضيح نظر الجواهر.

و ناقش المصنّف فيه بمنع دلالة صحيحة أبي ولّاد و نصوص تحرير العبد المشترك على ضمان القيميّ بالقيمة. أمّا الصحيحة فلظهورها في ضمان القيميّ بالمثل لا بالقيمة، فإنّ كلمة «بغل» في قوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» نكرة، و هي ظاهرة في كون ذي القيمة بغلا غير معيّن، و يتّجه مذهب القائل بأنّ الثابت في الذّمّة بغل غير معيّن، و أنّ القيمة بدل عنه، لا أنّ المضمون قيمة البغل التالف.

و أمّا نصوص العتق فلأنّ الأمر بتقويم العبد- المعتق بعضه- غير ظاهر في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 16، ص 20، الباب 18 من أبواب كتاب العتق.

(2) المصدر، ص 21، الحديث 4

ص: 459

و لا بقوله عليه السّلام: «من أعتق شقصا من عبد قوّم عليه» (1). بل الأخبار كثيرة (2).

______________________________

ما نحن فيه من ضمان القيميّ بالقيمة، لاحتمال كون التقويم معاوضة شرعيّة قهريّة، رعاية لحرّيّة العبد المبعّض.

و المتحصل: أنّ صحيحة أبي ولّاد و أخبار تحرير بعض العبد غير وافية بإثبات المدّعى، و هو تعيّن القيمة في ضمان القيميّات.

(1) لم أظفر بهذا المتن في جوامع الأخبار من الوسائل و غيره، فلعلّ المصنّف نقله بالمعنى، أو اعتمد على ما رواه شيخ الطائفة مرسلا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

(2) يعني: أنّ الأخبار الكثيرة ظاهرة في ضمان القيميّ بالقيمة، و هي سليمة عن المناقشة، و معها لا حاجة إلى الصحيحة و نصوص العتق اللّتين استند إليهما صاحب الجواهر قدّس سرّه، مع ما فيهما من الخدشة كما عرفت آنفا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى نكتة، و هي: أنّ المصنّف قدّس سرّه ادّعى هنا كثرة الأخبار الدالّة على اعتبار القيمة في القيميّات، لقوله: «الأخبار المتفرّقة في كثير من القيميّات» و قوله: «بل الأخبار كثيرة». و هذا ربّما ينافي ما نبّه عليه في الأمر الرابع من جعل الأخبار المتكفّلة للضمان بالقيمة نادرة جدّا، حيث قال هناك: «إلّا ما شذّ و ندر». فإن كانت هذه الأخبار شاذّة لم يتّجه قوله هنا من: «أنّها كثيرة» و إن كانت كثيرة لم يتجه رميها بالندرة و الشذوذ في التنبيه الرابع.

قلت: الظاهر عدم التنافي بين التعبيرين، فإنّ ندرتها تكون بالقياس إلى النصوص المشتملة على مادّة الضمان و التغريم بصيغ عديدة في مطلق المضمونات.

سواء أ كانت مثليّة أم قيميّة، و هي أزيد من مائة رواية قطعا كما لا يخفى على المتتبّع، و قد ادّعى المصنف هناك انصراف إطلاقها إلى الأقرب إلى المضمون، و هو المثل ثم القيمة.

______________________________

(1) الخلاف، ج 3، ص 396، المسألة: 2 من كتاب الغصب، و قريب منه بزيادة «و له مال» في عوالي اللئالي، ج 3، ص 298، الحديث 24

ص: 460

بل قد عرفت (1) أنّ مقتضى إطلاق أدلة الضمان في القيميّات هو ذلك (2) بحسب المتعارف [1].

إلّا (3) أنّ المتيقّن [2] من هذا المتعارف ما كان المثل فيه متعذّرا.

______________________________

و أمّا دعوى كثرة أخبار ضمان القيميّ فصحيحة أيضا، لتحقّق الكثرة بعشر روايات أو ما يقارب العشرة. و لا ريب في أنّ ما ورد فيه لفظ «الثمن أو القيمة» لا يقلّ عن هذا العدد، كما ذكرناها بمصادرها، فلاحظ.

(1) يعني: في الأمر الرابع، حيث قال: «إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات و الأمانات المفرّط فيها و غير ذلك هو الضمان بالمثل .. ثم بعده قيمة التالف ..».

و هذا إشارة إلى دليل ثالث على اعتبار القيمة في المضمونات القيميّة، و تقريبه:

أنّ الأخبار المتفرّقة المشتملة على مادّتي «الضمان و الغرامة» لم يتعرّض فيها لكيفيّته مع كونها واردة في مقام البيان، فعدم تعرّض المتكلّم لبيان الكيفيّة دليل على إحالتها على العرف، و من المعلوم أنّهم يحكمون بأداء ما هو أقرب إلى التالف، فإن كان مثليّا تعيّن أداء المثل، و إن كان قيميّا تعيّن دفع القيمة.

و عليه فمناط هذا الوجه استفادة الحكم من الأدلّة العامّة في الضمانات، سواء أ كان المضمون مثليّا أم قيميّا.

(2) خبر قوله: «ان مقتضى» و المشار إليه هو الضمان بالقيمة.

(3) استدراك على قوله: «بل قد عرفت أنّ مقتضى إطلاق» و غرضه المناقشة في دلالة الطائفتين من الأخبار على ضمان القيميّ بالقيمة. أمّا الطائفة الأولى فسيأتي منع إطلاق دلالتها.

______________________________

[1] بل مقتضى ما تقدّم هناك: أنّ القاعدة المستفادة من أدلّة الضمان هو الضمان بالمثل، لأنّه أقرب إلى التالف من حيث المالية و الصفات، فتشمل القيميّات.

[2] هذا غير ظاهر، لعدم تفرقة العرف ظاهرا في القيميّ- بالمعنى المقابل للمثليّ- بين تيسّر المثل و تعذّره، فإنّ المثليّ و القيميّ ماهيّتان متباينتان، و تعذّر أفراد

ص: 461

..........

______________________________

و أمّا الطائفة الثانية- و هي إطلاقات الضمان- فيشكل الاستدلال بها على ضمان القيميّ بالقيمة مطلقا حتى مع تيسّر المثل العرفي للعين التالفة القيمية. وجه الاشكال: أنّ مناط الأخذ بالإطلاق المقامي هو عدم بيان كيفيّة خاصة، و إحالة الأمر إلى العرف في مقام البيان. و من المعلوم توقف الإطلاق على عدم تعارف سيرتهم على أمر آخر. مع أنّه لا ريب عندهم في كون المثل أقرب إلى التالف حتى في القيميّات.

و عليه تختص الروايات المطلقة بما إذا تعذّر المثل، مع أنّ المدّعى عام و هو ضمان القيميّ بالقيمة سواء تيسّر المثل أم تعذّر.

______________________________

إحداهما في الخارج لا يوجب انتقال ما ثبت منهما في ذمّة إلى أخرى، و لا وجه لرفع اليد عن إطلاق ما دلّ على ضمان القيميّ بالقيمة، الشامل لصورة تعذّر المثل كما صنعه المصنّف قدّس سرّه.

و كيف كان فيحتمل- في مسألة ما لو كان التالف المبيع بالبيع الفاسد قيميّا- وجوه ثلاثة: أحدها: الضمان بالقيمة مطلقا. ثانيها: الضمان بالمثل كذلك. ثالثها: ضمان المثليّ بالمثل، و القيميّ بالقيمة.

و قد استدلّ المصنّف قدّس سرّه لضمانه بالقيمة بالإجماع و الروايات المتفرّقة في كثير من القيميّات، بحيث لا يكون للضامن و المضمون له التخلّف عن الضمان بالقيمة.

لكن الظاهر عدم استفادة كيفيّة الضمان و خصوصيّاته من نفس أدلّة الضمان، كقاعدتي اليد و الإتلاف و قاعدة احترام مال المسلم، لعدم تعرّضها لخصوصيّات الضمان. فمقتضى الإطلاق المقاميّ هو إيكال كيفيّة الضمان إلى العرف. و بعد انقسام الأموال إلى قسمين مثليّ و قيميّ و تباينهما ماهيّة يحكم العرف بضمان كلّ منهما بالمثل، فالمثليّ يضمن بالمثل، لأنّه المماثل له عرفا ماهيّة و ماليّة. و القيميّ يضمن بالقيمة، لأنّها مثله عرفا.

و هذا الأمر العقلائيّ الارتكازيّ ممّا بنى عليه الشرع، لعدم تعرّضه لكيفيّة الضمان مع كونها محلّ ابتلاء النوع ليلا و نهارا. و هذا الإهمال دليل على إحالة كيفيّة الضمان إلى العرف.

نعم ربّما يستظهر بمعونة ترك الاستفصال من بعض الروايات لزوم الغرامة

ص: 462

______________________________

بالقيمة في مطلق الضمانات، كموثّق إسحاق بن عمّار، قال: «سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الرجل يرهن الرهن بمأة درهم و هو يساوي ثلاثمائة درهم فيهلك [فيهلكه] أعلى الرّجل أن يرد على صاحبه مأتي درهم؟ قال: نعم، لأنّه أخذ رهنا فيه فضل و ضيّعه.

قلت: فهلك نصف الرّهن؟ قال: على حساب ذلك. قلت: فيترادّان الفضل؟ قال:

نعم» «1». فإنّه بسبب ترك الاستفصال ظاهر في أنّ الرّهن- سواء أ كان مثليّا أم قيميّا و سواء أ كان المثل متعذّرا أم لا، و سواء وجد للقيميّ مثل أم لا- إذا هلك بالتفريط فهو مضمون بالقيمة، لكون سقوط مائة درهم دليلا على أنّ الضمان بالقيمة، و إلّا فلا وجه للسقوط. كما أنّ لزوم تأدية مأتي درهم دليل على أنّ الدراهم على عهدته في المثليّ و القيميّ مطلقا.

و نحوه غيره من الروايات المذكورة في الباب المذكور الدالّة على أنّ التالف مضمون بالقيمة مطلقا و إن كان مثليّا، لأنّ معنى ترادّ الفضل أنّه إن كان الرّهن زائدا على الدّين سقط من الضمان بمقدار الدين، و أخذ الراهن فضله. و إن كان الرّهن ناقصا عن الدّين سقط من الدين بمقداره، و أخذ المرتهن البقيّة.

و لا معنى للسقوط و التهاتر إلّا الضمان بالقيمة، إذ لو كان العهدة مشغولة بالمثل أو العين لم يكن وجه للتهاتر، بل لا بدّ في المثليّ من أداء المثل، و في القيميّ تبقى العين على العهدة إلى زمان الأداء، فالتهاتر القهريّ لا وجه له إلّا مع الضمان بالقيمة.

مضافا إلى: تصريح الروايات بالسقوط القهري، ففي صحيحة أبي حمزة، قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول عليّ عليه السّلام: يترادّان الفضل؟ فقال: كان عليّ عليه السّلام يقول ذلك. قلت: كيف يترادّان الفضل؟ فقال: إن كان الرّهن أفضل ممّا رهن به ثم عطب ردّ المرتهن الفضل على صاحبه. و إن كان لا يسوى ردّ الراهن ما نقص من حق المرتهن.

قال: و كذلك قول عليّ عليه السّلام في الحيوان و غير ذلك» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 129، الباب 7 من أحكام الرهن، الحديث 2

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 129، الباب 7 من كتاب الرهن، الحديث 1

ص: 463

______________________________

و قريب منه صحيحة محمد بن قيس «1» و غيرها من الروايات الدالّة على كون الضمان بالقيمة.

و تدلّ عليه أيضا روايات متفرّقة، كموثّقة السكونيّ عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام: «أنّه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترقت الدار، و احترق أهلها، و احترق متاعهم؟ قال: يغرم قيمة الدار و ما فيها ثم يقتل» «2» فإنّ تغريمه قيمة الدار و ما فيها من المتاع و لو كان مثليّا ظاهر في كون الضمان مطلقا بالقيمة.

إلّا أن يقال: إنّ «ما فيها» معطوف على القيمة، فيكون المراد حينئذ أنّه يغرم قيمة الدار، و يغرم ما فيها، من دون تعرّض للقيمة و غيرها. لكنّه خلاف الظاهر، فتبعد إرادته بلا قرينة.

كبعد احتمال أنّ متاع الدار في مورد قضاء أمير المؤمنين «عليه الصلاة و السلام» كان قيميّا لا يوجد مثله، لأنّ ظاهره أنّ ذلك من قضاياه الكلّيّة، لا أنّه قضيّة خارجيّة.

و لو سلّم ذلك كانت حكاية أبي عبد اللّه عليه السّلام كافية في إفادة الحكم، لبعد كونه عليه السّلام ناقلا للتاريخ. فلو كان متاع البيت قيميّا و كان حكم المثليّ غير القيميّ كان عليه بيان خصوصيّة الواقعة الدخيلة في الحكم.

و على كل حال يستفاد منها قاعدة كلّيّة، و هي: أنّ إتلاف مال الغير موجب لضمان القيمة.

و موثّقة سماعة، قال: «سألته عن المملوك بين شركاء، فيعتق أحدهم نصيبه، فقال:

هذا فساد على أصحابه، يقوّم قيمة و يضمن الثمن الذي أعتقه، لأنّه أفسده على أصحابه» «3». فإنّ موردها القيميّ و التعليل بالإفساد يدلّ على عليّة كلّ إفساد للضمان

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 129، الباب 7 من كتاب الرهن، الحديث: 4

(2) وسائل الشيعة، ج 19، ص 210، الباب 41 من أبواب موجبات الضمان، الحديث: 1

(3) وسائل الشيعة، ج 16، ص 22، الباب 18 من كتاب العتق، الحديث 5

ص: 464

______________________________

و إن لم يكن عتقا. و يمكن أن تكون هذه الموثّقة من أدلّة قاعدة الإتلاف.

و صحيحة أبي ولّاد الآتية التي موردها القيميّ أيضا.

و بالجملة: فالروايات الدالّة على الضمان بالقيمة على طائفتين:

إحداهما: ما وردت في ضمان خصوص القيميّات بالقيمة كالعبد و الجارية.

ثانيتهما: ما وردت في المضمون مطلقا سواء أ كان مثليّا أم قيميّا كالرهن التالف و احتراق ما في الدّار و غلّة الأرض، و غير ذلك مما يقتضي الإطلاق كون التالف المضمون بالقيمة مثليّا أو قيميّا.

و الظاهر عدم التنافي بينهما، لأنّ ما دلّ على الضمان بالقيمة في القيميّات لا تنفي ضمان المثليّات بها حتى يجب حمل المطلق- و هو ما دلّ على الضمان بالقيمة مطلقا و إن كان المضمون مثليّا- على المقيّد، ليكون مقتضى الحمل اختصاص ضمان القيمة بالقيميّات.

فالمتحصل: أنّ مقتضى الروايات ضمان الأشياء مطلقا- و إن كانت مثليّة- بالقيمة.

و لا بدّ في الخروج عن إطلاقها من دليل على التقييد. و قد ادّعي أنّه الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل. قال في الجواهر: «انّه من قطعيّات الفقه» «1». و عن غاية المراد «أطبق الأصحاب على ضمان المثليّ بالمثل، إلّا ما يظهر من ابن الجنيد» لكنّه أوّل كلامه أيضا.

و الحقّ أن يقال: إنّ القدر المتيقن من الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل هو صورة وجود المثل دون نادر الوجود و متعذرة، فإنّ إطلاقات ضمان القيمة محكّمة في غير المتيقن، و هو وجود المثل، لأنّه مقتضى مرجعيّة العام في المخصص المجمل.

و الحاصل: أنّ الإجماع لمّا كان لبّيّا فلا بدّ في تخصيصه من الأخذ بالمتيقّن منه و هو وجود المثل، دون نادرة و متعذرة. و على هذا فالروايات وافية بكيفيّة الضمان، فلو كان بناء العرف على غير تلك الكيفيّة كان الروايات رادعة عنها.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 85

ص: 465

بل (1) يمكن دعوى انصراف الإطلاقات الواردة في خصوص بعض

______________________________

(1) غرضه المناقشة في دلالة عدّة من الأخبار الواردة في ضمان القيميّات، كما ناقش في إطلاقات الضمان. و حاصلها: أنّ المدّعى عامّ، و هو: ضمان كلّ قيميّ بالقيمة كضمان المثليّ بمثله، مع أنّه يمكن منع إطلاق بعض الأخبار لحالة وجود مماثل عرفيّ للقيميّ المضمون، ففي صحيحة أبي ولّاد: «قيمة بغل يوم خالفته». إذ من المحتمل كون الثابت في ذمّة الضامن بغلا غير معيّن، و إنّما تعطى القيمة بدلا عنه، لا بدلا عن نفس البغل التالف أو المتلف. و لا سبيل لاستفادة ضمان قيمة البغل التالف حتى مع وجود بغل مماثل له في الصفات و الماليّة.

و كذا يمكن أن يكون تقويم العبد- و أداء قيمة ما بقي منه غير محرّر- لأجل

______________________________

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ القيميّات مطلقا مضمونة بالقيمة، و المثليّات أيضا مضمونة بالقيمة، إلّا إذا كان المثل موجودا بوجود غير عزيز. و أمّا مع عزّة وجوده فضلا عن فقدانه فضمانه بالقيمة أيضا.

و من هنا يظهر أنّ ما أفيد في مباحث تعذّر المثل- سواء أ كان التعذّر بدويّا أم طارئا- لا بدّ من تطبيقها على ما بيّناه هنا، بأن يقال: إنّ التعذّر مطلقا يوجب الانقلاب إلى القيمة، أخذا بإطلاق ما دلّ على الضمان بالقيمة و إن كان مثليّا، و اقتصارا على المتيقّن من الإجماع، و هو ضمان المثليّ بالمثل إذا كان موجودا، دون ما إذا كان مفقودا أو عزيز الوجود. فالمثل بمجرّد فقدانه أو عزّة وجوده ينتقل ضمانه إلى القيمة، هذا.

و أمّا الروايات الدالّة على الضمان بالمثل في القيميّ فهي مختصّة بالقرض، و لا ربط لها بما نحن فيه.

مضافا إلى: أنّها ضعيفة السند.

فروايات المقام كما عرفت منحصرة بالطائفتين المتقدمتين. و روايات القرض أجنبية عن باب الضمانات المبحوث عنها.

ص: 466

القيميّات كالبغل و العبد و نحوهما لصورة (1) تعذّر المثل كما هو الغالب (2).

فالمرجع (3) في وجوب القيمة في القيميّ و إن فرض تيسّر المثل له- كما (4) في من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه.

______________________________

تعذّر المثل، بحيث لو تيسّر عبد مماثل للمعتق مالية و صفة يحلّ محلّه كان مقدّما على دفع القيمة، فتأمّل.

و الحاصل: أنّ الإطلاقات المختصّة بالقيميّات تنقسم إلى طائفتين، فما كان منها متكفّلا لضمان قيمة العبد و البغل أمكن انصرافها إلى صورة تعذّر المثل كما هو الغالب في العبد و البغل. فلا يكفي أداء القيمة مع تيسّر المثل. و ما كان منها متكفّلا لضمان قيمة سائر الأمتعة يمكن إطلاقها لحالتي تيسّر المماثل و تعذّره.

(1) متعلق ب «لانصراف».

(2) يعني: أنّ الغالب في بعض القيميّات تعذّر المثل العرفيّ.

(3) غرضه أنّه- بعد انصراف إطلاقات أدلّة ضمان القيميّ بالقيمة إلى صورة تعذّر المثل، و عدم شمولها لصورة تيسّر المثل- لا بدّ من القول، بضمان القيميّ بالمثل مع وجوده، مع أنّهم لم يلتزموا به، بل التزموا بالقيمة حتى مع تيسّر المثل، فدليلهم على الضمان بالقيمة في القيميّ مطلقا و لو مع وجود المثل هو الإجماع.

(4) ذكر المصنّف قدّس سرّه مثالين لتيسّر المثل، أحدهما: أن يبيع شخص عبدا كلّيّا موصوفا بصفات تميّزه عمّن سواه بثمن معيّن، و أتلف المشتري على البائع عبدا مملوكا له بصفات العبد المبيع- قبل أن يسلّمه البائع منه- فإنّهم لم يحكموا بالتهاتر و تساقط ما في ذمّتي البائع و المشتري، بل قالوا باستقرار المبيع في ذمّة البائع، و بضمان المشتري قيمة العبد الذي أتلفه على البائع. و هذا الحكم شاهد على ضمان القيميّ بالقيمة، سواء تيسّر المثل أم تعذّر.

ثانيهما: مثال الكرباس، فإنّ الأذرع منه متماثلة، و لكن يجب دفع قيمة الذراع المتلف، لا مثله.

ص: 467

و كما لو أتلف عليه ذراعا من مائة ذراع كرباس منسوج على طريقة واحدة لا تفاوت في أجزائه أصلا- هو الإجماع (1) كما يستظهر.

و على تقديره (2) ففي شموله لصيرورة تيسّر المثل من جميع الجهات تأمّل.

خصوصا (3) مع الاستدلال عليه (4) كما في الخلاف و غيره بقوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ بناء (5) على أنّ القيمة مماثل للتالف في الماليّة فإنّ (6) ظاهر ذلك جعلها (7) من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل.

______________________________

(1) خبر قوله: «فالمرجع».

(2) يعني: و على تقدير تحقّق الإجماع، و غرضه المناقشة في شمول الإجماع- على فرض ثبوته- للمثل الموجود المماثل للتالف القيميّ من جميع الجهات، فالإجماع على ثبوت القيمة في هذه الصورة غير ثابت، لأنّه دليل لبّيّ، و المتيقّن منه غير هذه الصورة.

(3) وجه الخصوصيّة ظهور الآية الشريفة في تعيّن المماثل للتالف من جميع الجهات و إن كان التالف قيميّا، إلّا إذا تعذّر المثل، فإنّ القيمة حينئذ مما يعدّ مماثلا للتالف.

(4) أي: على وجوب القيمة في القيميّ، و قد تقدّم في (ص 339) نقل استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه بالآية الشريفة على كلّ من وجوب المثل في المثليّ، و القيمة في القيميّ، فراجع.

(5) هذا البناء هو استدلال شيخ الطائفة، و ليس أمرا آخر، إذ لو لم تكن القيمة مماثلة للتالف كانت الآية الشريفة أجنبيّة عن المدّعى. و عليه فالاستدلال بها منوط بالتوسعة في المماثلة كما تقدّم مشروحا في (ص 339).

(6) تعليل لقوله: «خصوصا» و قوله: «ذلك» إشارة إلى «الاستدلال».

(7) أي: جعل القيمة من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل، فتكون المماثلة في الماليّة.

ص: 468

و كيف كان (1) فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي (2)، و عن الشيخ و المحقّق في الخلاف و الشرائع في باب القرض (3).

فإن أرادوا ذلك (4) مطلقا

______________________________

(1) أي: سواء أ كان مقتضى إطلاقات ضمان القيميّات ضمانها بالقيمة مطلقا سواء تيسّر المثل أم تعذّر، أم كان مقيّدا بتعذر المثل، فقد حكي .. إلخ.

و غرضه من هذا الكلام الخدشة في الإجماع بمخالفة ابن الجنيد في مطلق المضمون، و مخالفة شيخ الطائفة و المحقّق في خصوص باب القرض. و هل تقدح هذه المخالفة في تحقّق الإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة أم لا؟ سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى.

(2) أمّا أبو علي فقد تقدّم كلامه في أوّل الأمر السادس، فراجع (ص 295) و أمّا الشيخ و المحقّق فيظهر منهما في باب القرض ثبوت نفس مثل العين المقترضة في ذمّة المديون، قال في الخلاف: «إذا لم يجد مال القرض بعينه وجب عليه مثله، و عليه أكثر أصحاب الشافعيّ .. دليلنا: أنّه إذا قضى مثله برئت ذمّته، و إذا ردّ قيمته لم يدلّ دليل على براءتها. و أيضا: فالذي أخذه عين مخصوصة، فمن نقل إلى قيمتها فعليه الدلالة» «1».

و قال في الشرائع: «و ما ليس كذلك- أي مثليّا- يثبت في الذّمّة قيمته وقت التسليم. و لو قيل يثبت مثله أيضا كان حسنا» «2».

(3) و أمّا في باب الغصب فوافقا المشهور من التفصيل بين المثليّ و القيميّ.

(4) أي فإن أرادوا وجوب المثل في القيميّات. ناقش المصنّف قدّس سرّه في القول بضمان القيميّ بالمثل بعدم خلوّه من شقّين ممنوعين.

توضيحه: أنّ القائلين بوجوب المثل في القيميّ إن أرادوا ذلك مطلقا سواء تيسّر المثل أم تعذّر، ففيه: أنّه مردود بإطلاقات روايات ضمان القيميّات بالقيم في

______________________________

(1) الخلاف، ج 3، ص 175، رقم المسألة: 287

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 68

ص: 469

..........

______________________________

موارد كثيرة، كصحيحة أبي ولّاد الآتية، و روايات تقويم العبد المشترك الذي أعتق بعض مواليه شقصه، و روايات سقوط الدين بتلف الرّهن، المتقدّمة في (ص 338) و روايات متفرّقة اخرى وردت في ضمان القيميّات. و لم يقيّد وجوب أداء القيمة فيها بتعذّر المثل حتى يستكشف منها أنّ العين التالفة تضمن بالمثل سواء أ كانت مثليّة أم قيميّة كي يكون أداء القيمة- في القيميّات- بدلا عمّا اشتغلت به الذّمّة و هو المثل.

و عليه فمقتضى أصالة الإطلاق ضمان القيميّ بالقيمة، و أنّها بدل عن العين المضمونة، و ليست بدلا عن المثل.

و إن أرادوا من ضمان القيميّ بالمثل ضمانه عند تيسّر المثل- لا مطلقا- لم يكن ذلك بعيدا، لوجهين:

أحدهما: ظهور آية الاعتداء في اعتبار المماثلة بين التالف و بدله، و من المعلوم أنّ المماثل للتالف القيميّ هو المثل العرفيّ لا القيمة، فمع تيسّره يتعيّن في البدليّة عن المضمون.

ثانيهما: قاعدة نفي الضرر الجارية في حقّ المالك، و ذلك لأنّ الجهات النوعيّة دخيلة في الضمان، لتحقّق المماثلة فيها، دون الجهات الماليّة المعرّاة عن الصفات النوعيّة، لعدم تحقّق المماثلة حينئذ بين التالف و بدله. فمع تيسّر المثل يتضرّر المالك بقبول القيمة، لفقدان الصفات النوعيّة، فإنّ الحنطة- في الغرامات- بدل الحنطة التالفة المضمونة، دون القيمة، فخصوصيّة الحنطية مثلا يتضرّر المالك بفقدها. و عليه فيلزم ردّ المثل في القيميّات مع الإمكان.

هذا ما يقتضيه الوجهان. لكن المانع من القول بوجوب المثل المتيسّر- في ضمان القيميّات- هو عدم القول بالفصل، لأنّهم بين قائل بضمان القيميّ بالقيمة مطلقا- كما هو المشهور- سواء وجد المماثل العرفي أم لا، و بين قائل بضمانه بالمثل مطلقا، كما يظهر من شيخ الطائفة و غيره في باب القرض، بلا فرق- أيضا- بين تيسّر المثل

ص: 470

حتّى (1) مع تعذّر المثل، فتكون (2) القيمة عندهم بدلا عن المثل حتى يترتّب عليه وجوب قيمة (3) يوم دفعها- كما ذكروا ذلك (4) احتمالا في مسألة تعيّن القيمة (5) متفرّعا على هذا القول (6)- فيردّه (7) إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة.

______________________________

و تعذّره، و لم يقولوا ببدليّة القيمة عن المثل في صورة التعذّر حتى يستكشف منه الطولية، و يكون القيمة بدلا عمّا هو بدل التالف.

و الحاصل: أنّ ما ذهب إليه شيخ الطائفة و المحقّق في باب القرض- من ترجيح ضمان القيميّ بالمثل- لا سبيل للأخذ به في القرض، فضلا عن القول به في المغصوب و المقبوض بالبيع الفاسد.

(1) بيان للإطلاق.

(2) هذا متفرع على اشتغال الذّمّة أوّلا بالمثل، فيكون هو بدل التالف، و لو تعذّر كانت القيمة بدل المثل لا بدل التالف.

(3) يعني: إذا كان وجوب دفع القيمة مترتّبا على تعذّر المثل ترتّب عليه وجوب دفع قيمة يوم الأداء، لا يوم التلف، و لا يوم تعذّر المثل، و لا أعلى القيم، و لا غير ذلك.

و وجه احتمال قيمة يوم الدفع هو: أنّ المثل ثابت في الذّمّة إلى وقت الأداء، فقيمة يوم الدفع هي ثمن المثل المنتقل إلى القيمة.

(4) أي: وجوب قيمة يوم الدفع.

(5) يعني: المسألة التي وقع فيها البحث عن أنّ الواجب هل هو قيمة يوم القبض أو يوم التلف أو أعلى القيم أو غير ذلك؟ مما سيأتي التعرّض له قريبا.

(6) أي: أنّ القول باعتبار قيمة يوم الدفع متفرّع على القول بضمان القيميّ بالمثل مطلقا و لو مع تعذّره، فإنّ مقتضاه حينئذ قيمة يوم الدفع، كما عرفت آنفا.

(7) جواب الشرط في قوله: «فإن أرادوا ذلك» و هذا إشارة إلى أوّل الشّقّين، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «ففيه أنه مردود بإطلاقات روايات ضمان القيميّات ..».

ص: 471

منها: صحيحة أبي ولّاد الآتية (1).

و منها: رواية تقويم العبد.

و منها: ما دلّ على «أنّه إذا تلف الرّهن بتفريط المرتهن سقط من دينه بحساب ذلك» فلولا (2) ضمان التالف بالقيمة لم يكن وجه لسقوط الدّين بمجرّد ضمان التالف.

و منها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة (3) [1].

______________________________

(1) لقوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» الظاهر في اعتبار قيمة البغل سواء وجد بغل مماثل للبغل الذي اكتراه أبو ولّاد، أم لم يوجد. و هكذا حال الإطلاق في روايات عتق العبد.

(2) هذا تقريب دلالة أخبار تلف العين المرهونة على ضمان القيميّ بالقيمة، لا بالمثل. و محصّله: أنّ العين المرهونة لو كانت مضمونة بالمثل لم يكن وجه للحكم بسقوط ما يساويه من الدّين، بل كان المرتهن ضامنا للمثل، و كان الدين- بتمامه- باقيا على عهدة الراهن، و لا تهاتر في البين. مع أنّ الامام عليه السّلام حكم بسقوط المقدار المساوي للدين عن ذمّة المديون، و لم يفصّل بين تيسّر مثل الرهن و تعذّره. و هذا كاشف عن ضمان القيميّ بالقيمة مطلقا سواء تيسّر المماثل العرفي أم تعذّر.

(3) يعني: من الأخبار المتفرّقة في أبواب العارية و الوديعة و الإجارة و اللقطة

______________________________

[1] كرواية السفرة المطروحة في الطريق التي تقدمت في (ص 338). لكن الاستدلال بها مشكل، لقوّة احتمال كونه من باب جواز التصرّف بالقيمة، نظير التملّك بالقيمة. و باب التقويم مغاير لباب التضمين، و لذا لا بأس بالالتزام بالتقويم حتى في المثليّ، بل البيض و اللحم اللذان هما في مورد الرواية المزبورة من المثليّات، فلاحظ و تأمّل. فجعل رواية السكونيّ من الروايات الدالّة على ضمان التالف بالقيمة لا يخلو من تأمّل.

ص: 472

..........

______________________________

و غيرها، و لا بأس بالتيمّن بذكر بعضها.

فمنها: معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل أعار جارية، فهلكت من عنده و لم يبغها غائلة، فقضى أن لا يغرمها المعار.

و لا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة» «1».

بتقريب: أنّ الجارية و الدابّة قيميّتان، و هما مضمونتان بالتعدّي عليهما، و لم يقيّد عليه السّلام الضمان بالقيمة بتعذّر المثل. فاللازم الحكم بضمانها مطلقا.

و منها: ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام، قال: «سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره، فنفقت، ما عليه؟ قال: إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها. و إن لم يسمّ فليس عليه شي ء» «2». و قد أطلق عليه السّلام الضمان، مع أنّ المضمون قيميّ، و لم يقيّد اشتغال الذّمّة بالقيمة بتعذّر المثل.

و منها: ما ورد في ضمان الغسّال و الصّبّاغ و القصّار و الصّائغ و البيطار و الدلّال و نحوهم، مع أنّ ما بأيديهم من الأعيان المضمونة قيميّات غالبا، كمعتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «سئل عن القصّار يفسد؟ فقال: كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» «3».

و منها: ما ورد في ضمان الجمّال و الحمّال و المكاري و الملّاح و نحوهم إذا فرّطوا أو كانوا متّهمين و لم يحلفوا، أو شرط عليهم الضمان، مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال: إن كان مأمونا فليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 237، الباب 1 من كتاب العارية، الحديث 9، و نحوه سائر أحاديث الباب.

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 255، الباب 16 من أحكام الإجارة، الحديث: 1، و نحوه الحديث:

2، 3، 4 و 6 من الباب 17، ص 257 و 258

(3) المصدر، ص 271، الباب 29 من أحكام الإجارة، الحديث 1 و نحوه كثير من روايات الباب البالغة عشرين حديثا.

ص: 473

و إن أرادوا (1) أنّه مع تيسّر المثل يجب المثل لم يكن (2) بعيدا، نظرا إلى ظاهر آية الاعتداء و نفي الضرر، لأنّ (3) خصوصيّات الحقائق قد تقصد.

اللّهمّ (4) إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه

______________________________

عليه شي ء. و إن كان غير مأمون فهو ضامن» «1».

و منها: ما ورد في ضمان اللقطة، كرواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام: «سألته عن الرّجل يصيب اللقطة، دراهم أو ثوبا أو دابّة، كيف يصنع؟

قال: يعرّفها سنة، فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتى يجي ء طالبها فيعطيها إيّاه، و إن مات أوصى بها. فإن أصابها شي ء فهو ضامن» «2».

فقد أطلق الحكم بالضمان، مع أنّ اللقطة قد تكون قيميّة كالدابّة و الثوب، و لم يقيّد ضمان القيمة بإعواز المماثل للتالف.

و منها: غير ذلك مما لا يخفى على المتتبّع.

(1) معطوف على قوله: «فإن أرادوا ذلك مطلقا» و هذا هو الشّقّ الثاني من المنفصلة، و قد تقدّم توضيحه بقولنا: «و إن أرادوا من ضمان القيميّ بالمثل ضمانه عند تيسّر المثل ..» راجع (ص 470).

(2) جواب الشرط في قوله: «و إن أرادوا» و ظاهره و إن كان تسليم كلام شيخ الطائفة و الإسكافي و المحقّق، لكنّه سيأتي منعه بقوله: «اللّهم إلّا أن يتحقق إجماع على خلافه».

(3) تعليل للضرر، و قد أوضحناه بقولنا: «و ذلك لأن الجهات النوعية دخيلة في الضمان .. إلخ» راجع (ص 470).

(4) هذا منع قوله: «لم يكن بعيدا» و غرضه دفع دخل خصوصيّات الحقائق في الغرامة، و حاصل الدفع: أنّه إذا قام إجماع على عدم دخل تلك الخصوصيّات في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 276، الباب 30 من أحكام الإجارة، الحديث 7. و نحوه كثير من روايات الباب.

(2) وسائل الشيعة، ج 17، ص 352، الباب 2 من أبواب اللقطة، الحديث 13. و نحوه الحديث 14

ص: 474

و لو (1) من جهة أنّ ظاهر كلمات هؤلاء (2) إطلاق القول بضمان المثل، فيكون الفصل بين التيسّر و عدمه (3) قولا ثالثا في المسألة.

[الأقوال في القيمة المعتبرة في ضمان القيميّ]
[أ: اعتبار قيمة يوم التلف]

ثمّ إنّهم (4) اختلفوا في تعيين القيمة في المقبوض بالبيع الفاسد، فالمحكيّ في

______________________________

الضمان لم يجب حينئذ مراعاتها.

(1) يعني: و لو كان طريق استكشاف الإجماع- على عدم دخل خصوصيّات الحقائق في الضمان- إطلاق كلمات الإسكافي و الشيخ و المحقّق قدّس سرّهم. و المراد من إطلاق قولهم بضمان المثل هو الإطلاق الشامل لصورة تعذّر المثل و تيسّره.

(2) و هم الإسكافي و الشيخ و المحقّق.

(3) يعني: فيكون الفصل- بضمان المثل في الأوّل و القيمة في الثاني- قولا ثالثا خارقا للإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة، من غير فرق بين تيسّر المثل و تعذّره.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، و هو إثبات ضمان القيميّ بالقيمة لا بالمثل. و سيأتي الكلام في المقام الثاني.

الأقوال في القيمة المعتبرة في ضمان القيميّ أ: اعتبار قيمة يوم التلف

(4) هذا شروع في المقام الثاني، و هو تعيين حدّ القيمة المستقرّة على عهدة الضامن، إذا اختلفت بحسب الأزمنة، فهل يضمن قيمة يوم الغصب و القبض، أم قيمة يوم التلف، أم قيمة يوم الأداء أم أعلى القيم؟ أقوال.

و المحكيّ عن جماعة هو اعتبار قيمة يوم تلف العين، لأنّ الواجب ردّ العين، و إنّما تحقّق الانتقال إلى القيمة بالتلف، فيوم التلف يوم اشتغال الذّمّة بالقيمة [1].

______________________________

[1] و القول بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف، لأنّه كالغاصب المأخوذ بأشقّ الأحوال، و لأنّ العين مضمونة في جميع الأوقات السالفة، و مقتضى الاشتغال لزوم

ص: 475

______________________________

الخروج عن العهدة. نسب هذا القول إلى ابن إدريس.

و قول بضمانه بقيمته يوم قبضه، اختاره في الشرائع، و ربّما نسب إلى الأكثر، لأنّه زمان تعلّق الخطاب بالخروج عن العهدة، و لصحيحة أبي ولّاد الآتية، بعد وضوح عدم الفرق بين موردها و بين المقبوض بالعقد الفاسد.

و قول بضمانه بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف بشرط أن يكون التفاوت بسبب نقص في العين أو زيادة، فلو كان باختلاف السوق لم يضمن. و اعتبر قيمة العين يوم التلف.

و هذا منسوب إلى الشهيد في المسالك. و وجهه: أنّه لا بدّ أن يكون المضمون أمرا متأصّلا، و ليس ذلك إلّا الزيادة العينيّة، و أمّا مجرّد الزيادة السوقية فهو أمر اعتباريّ لا يضمن. مضافا إلى دلالة خبر البغل عليه «1».

و قول بضمان قيمة يوم الأداء، و هو الذي اختاره السيد في حاشيته، بدعوى: أنّ نفس العين باقية في العهدة، و يجب الخروج عنها، لكن لمّا لم يمكن ردّ نفسها وجب دفع عوضها، فهي بنفسها باقية في العهدة إلى زمان الأداء، فالعبرة في القيمة إنّما هي بيوم الأداء.

هذه عمدة الأقوال في المسألة و مبانيها.

و قبل الخوض في تحقيق ما ينبغي الاعتماد عليه من الأقوال لا بأس بتأسيس الأصل في المسألة حتى يكون هو المرجع إذا لم نستفد من الأدلّة شيئا، فنقول:

إنّه قد يقال: إنّ قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب أعلى القيم من زمان القبض إلى زمان الأداء، فلا بدّ من دفع أعلى القيم، لتوقّف يقين الفراغ عليه.

لكن الحقّ أنّ المقام من مجاري أصالة البراءة، لكون الشكّ بين الأقلّ و الأكثر الاستقلاليّين.

______________________________

(1) مسالك الافهام، ج 12، ص 187

ص: 476

غاية المراد (1) عن الشيخين و أتباعهما تعيّن قيمة يوم التلف. و عن الدروس و الرّوضة نسبته إلى الأكثر.

و الوجه فيه على ما نبّه عليه جماعة منهم العلّامة في التحرير: «أنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف، إذ الواجب قبله هو ردّ العين» «1».

و ربّما يورد عليه (2): أنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا.

______________________________

(1) قال الشهيد قدّس سرّه فيه: «و أمّا الضّمان بالقيمة يوم التلف فلأنّ الواجب العين، و إنّما تحقّق الانتقال إلى القيمة بالتلف. و هو مذهب الشيخين و أتباعهما. و خالف ابن إدريس في ذلك، و أوجب ضمانه بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف» «2».

و نسبه في الدروس «3» إلى الأكثر. و نقله عنه الشهيد الثاني في الرّوضة، و هو مذهب ابن البرّاج و العلّامة في المختلف كما في المسالك «4».

و لكن في كونه اختيار الأكثر تأمّلا، لمعارضته بما أفاده المحقّق من جعل قول الأكثر ضمان قيمة يوم الغصب، فراجع «5».

كما أنّ ما نسب إلى شيخ الطائفة قدّس سرّه لا يخلو من شي ء، إذ في موضع من المبسوط «6» و الخلاف ضمان أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، و استحسنه المحقّق.

(2) حاصل الإيراد على كلام العلّامة قدّس سرّه هو: أنّ يوم التلف و إن كان يوم انتقال ضمان العين إلى ضمان قيمتها، و لكنّ مجرّد هذا الانتقال غير كاف في تعيين قيمة

______________________________

(1) تحرير الاحكام، ج 2، ص 139

(2) غاية المراد، ص 86، السطر 17

(3) الدروس الشرعية، ج 3، ص 113؛ الروضة البهية، ج 7، ص 41

(4) مسالك الأفهام، ج 12، ص 186

(5) شرائع الإسلام، ج 3، ص 240

(6) المبسوط، ج 3، ص 72 و 75؛ الخلاف، ج 3، ص 493، المسألة 9؛ شرائع الإسلام، ج 3، ص 240

ص: 477

و يدفع (1) بأنّ معنى ضمان العين عند قبضه كونه في عهدته، و معنى ذلك (2) وجوب تداركه (3) ببدله عند التلف حتّى يكون عند التلف كأنّه

______________________________

وقت التلف، إذ ربّما يجب أداء أعلى القيم من يوم الغصب إلى التلف. و عليه فلا بدّ من التماس دليل آخر على تعيين قيمة وقت التلف.

و لا يخفى عليك أنّه لم أظفر بمن أورد- بهذا الإيراد- على القول بضمان قيمة يوم التلف. نعم أورد به المحقّق و الشهيد الثانيان و غيرهما على القول بضمان قيمة يوم الغصب «من أنّه أوّل وقت دخول العين في ضمان الغاصب» فأوردوا عليه: «بأنّ معنى ضمان العين حينئذ هو أنّها لو تلفت وجب بدلها و هو القيمة، لا بمعنى وجوب قيمتها و العين باقية ..» «1».

و هذا الاشكال يمكن تقريره بالنسبة إلى القول بضمان قيمة يوم التلف، فيقال:

إنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة، و أمّا ضمان خصوص قيمة هذا اليوم فغير لازم.

(1) حاصل هذا الدفع: أنّ استدلال العلّامة قدّس سرّه سليم عن الإيراد المتقدّم، و ذلك لأنّ وضع اليد على مال الغير يوجب ضمانه أي دخوله في عهدته، و يجب عليه ردّه إلى مالكه ما دام موجودا، و يجب تداركه ببدله بردّ قيمته- لكونه قيميّا حسب الفرض- إذا تلف، بحيث تسدّ القيمة مسدّ نفس العين التالفة، فكأنّها لم تتلف و لم ترد خسارة على المالك أصلا. و من المعلوم أنّ جبران خسارة المالك يكون بأداء قيمة يوم التلف، لكون هذه القيمة مساوية في الماليّة للعين التالفة، و معه لا وجه لرعاية قيمة العين في المدة المتخللة بين الضمان و التلف، إذ لم تكن تلك القيم مضمونة حال وجود العين.

و عليه فلا يرد على كلام العلّامة قدّس سرّه ما أفيد، هذا.

(2) أي: و معنى كون العين في عهدة الضامن وجوب تداركه .. إلخ.

(3) الضمائر في «تداركه، ببدله، كأنّه، له، مقامه» و المستتر في «يكون، يتلف» راجعة إلى «العين» فالأولى تأنيثها.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 246؛ مسالك الأفهام، ج 12، ص 185 و 186؛ جواهر الكلام، ج 37، ص 101

ص: 478

لم يتلف (1). و تداركه (2) على هذا النحو بالتزام مال معادل له قائم مقامه.

و ممّا ذكرنا (3) ظهر أنّ الأصل في ضمان التالف ضمانه بقيمته يوم التلف، فإن خرج المغصوب من ذلك (4) مثلا فبدليل خارج.

نعم (5) لو تمّ ما تقدّم عن الحلّيّ في هذا المقام من «دعوى الاتّفاق على كون

______________________________

(1) في جبرانه من حيث الماليّة، و الجابر هو المال حين تلف العين.

(2) هذا كالصغرى لكبرى الضمان، فكأنّه قال: الضمان كلّية هو الجبران، فكأنّه لم يتلف شي ء على المالك. و الجبران يتحقّق بأداء مال معادل في الماليّة للعين التالفة قائم مقامها. و النتيجة تعيّن قيمة وقت التلف.

(3) يعني: من وجوب تدارك التالف عند التلف- و كون هذا معنى الضمان- ظهر ..، و غرضه تأسيس قاعدة كلّيّة في ضمان القيميّ في كافّة الموارد، سواء أ كان موجب الضمان غصبا أم قبضا بعقد فاسد أم قبضا بالسّوم، أم عارية مشروطة بالضمان، أم وديعة كذلك، أم غير ذلك من أسباب الضمان. ففي جميعها ينبغي تدارك العين القيميّة بقيمتها وقت التلف، لأنّه وقت انتقال الضمان من العين إلى القيمة.

و لو نهض دليل على ضمان المغصوب بقيمته يوم الغصب كان تخصيصا في أصالة الضمان بقيمة يوم التلف، و لا مانع من هذا التخصيص، و لكنه لا يلحقه سائر موارد الضمان، إلّا إذا تمّ إجماع ابن إدريس قدّس سرّه على اتّحاد المبيع بالبيع الفاسد مع الغصب في الأحكام عدا الإثم في الإمساك، فإنّه يقتضي ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم الغصب لو ثبت ضمان المغصوب به.

(4) أي: من الأصل المقتضي لضمان التالف- كلّيّة- بقيمة يوم التلف.

(5) استدراك على الأصل الذي قرّره بقوله: «و ممّا ذكرنا ظهر أنّ الأصل» و غرضه إخراج المبيع بالبيع الفاسد عن الأصل المزبور، و إلحاقه بالمغصوب في كونه مضمونا بقيمة يوم القبض، لا يوم التلف.

ص: 479

المبيع فاسدا بمنزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم» ألحقناه (1) بالمغصوب إن ثبت فيه حكم مخالف لهذا الأصل (2).

بل (3) يمكن أن يقال: إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة أبي ولّاد الآتية كشف ذلك عن عدم اقتضاء إطلاقات الضمان لاعتبار قيمة يوم التلف، إذ (4) يلزم حينئذ أن يكون المغصوب- عند كون قيمته يوم التلف أضعاف ما كانت يوم الغصب- غير واجب التدارك عند التلف، لما (5) ذكرنا من أنّ معنى التدارك التزام بقيمته يوم وجوب التدارك.

______________________________

(1) أي: ألحقنا المبيع فاسدا بالمغصوب، و ضمير «فيه» راجع إلى المغصوب.

(2) المقتضي للضمان بقيمة يوم التلف.

(3) غرضه إلحاق المقبوض بالعقد الفاسد بالمغصوب مع الغضّ عن الإجماع الذي ادّعاه الحلّيّ على كون المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب، فيكون استدراكا عن قوله: «نعم لو تمّ ما تقدّم .. إلخ» و حاصله: أنّ مفاد الإجماع إلحاق خصوص المبيع فاسدا- من موارد الضمانات- بالمغصوب في كون المدار على قيمة يوم القبض، فيبقى غيره من الموارد تحت الأصل المزبور المقتضي لضمان قيمة يوم التلف.

و مفاد قوله: «بل يمكن أن يقال» إلحاق جميع موارد الضمان بالمغصوب، إذ لو فرض كون قيمة يوم التلف أضعاف قيمته يوم القبض لزم أن يكون الغاصب أحسن حالا من غيره في هذا الفرض، و هو زيادة قيمته يوم التلف على قيمته يوم الغصب، و هو باطل بالضرورة، فينقلب الأصل المزبور إلى أصالة الضمان بقيمة يوم التلف في جميع موارد الضمان، فصحيحة أبي ولّاد تكشف عن عدم إطلاق في أدلّة الضمان يقتضي اعتبار قيمة يوم التلف.

(4) تعليل للكشف المزبور، و حاصله: لزوم التالي الفاسد، و هو كون الغاصب أحسن حالا من غيره.

(5) علّة لقوله: «يلزم» و بيان لوجه اللزوم، يعني: يترتّب اللازم الباطل المزبور

ص: 480

نعم (1) لو فرض دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم أمكن جعل التزام الغاصب بالزائد (2) على مقتضى التدارك مؤاخذة له بأشقّ الأحوال.

[ب: ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان]
اشارة

فالمهمّ حينئذ (3) صرف الكلام إلى معنى الصحيحة بعد ذكرها ليلحق به البيع الفاسد، إمّا لما ادّعاه الحلّيّ (4)، و إمّا لكشف الصحيحة عن معنى التدارك و الغرامة في المضمونات (5)، و كون العمدة في جميعها بيوم الضمان كما هو أحد الأقوال فيما نحن فيه من البيع الفاسد.

______________________________

على كون ما ذكر من معنى التدارك.

(1) استدراك على وجوب التدارك بقيمة يوم التلف. و حاصله: أنّه لو فرضنا دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم- كما استفاده الشهيد الثاني قدّس سرّه- اختصّ ذلك بالغصب، لكون الغاصب مأخوذا بأشقّ الأحوال.

(2) المراد بالزائد على مقتضى التدارك هو التفاوت بين أعلى القيم و قيمة يوم التلف أو يوم الغصب، و هذا التفاوت عقوبة مختصّة بالغاصب، لكونه مأخوذا بأشقّ الأحوال، و لا يجري في سائر الضّمناء.

(3) أي: حين تفاوت مقتضى الأصل في باب الضمان بتفاوت الاستظهار من الصحيحة.

(4) من إجماع المحصّلين على كون المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب إلّا في ارتفاع الإثم على إمساكه.

ب: ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان

(5) سواء أ كان موجب الضمان هو الغصب أم القبض بالبيع الفاسد أم العارية المشروطة أم اللقطة أم غيرها.

ص: 481

[الاستدلال بصحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الضمان]

و حيث (1) إنّ الصحيحة مشتملة على أحكام كثيرة و فوائد خطيرة (2) فلا بأس بذكرها جميعا (3)، و إن كان الغرض متعلّقا ببعضها.

فروى الشيخ في الصحيح (4) عن أبي ولّاد، قال: «اكتريت بغلا الى قصر بني هبيرة (5) ذاهبا و جائيا بكذا و كذا، و خرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل (6)، فتوجّهت نحو النّيل،

______________________________

الاستدلال بصحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الضمان

(1) غرضه من هذه الجملة توجيه نقل جميع الصحيحة، مع أنّ محلّ الاستدلال بها على ضمان يوم التلف أو يوم الغصب جملتان منها.

و محصّل التوجيه: اشتمال الصحيحة على أحكام كثيرة، و الوقوف على جهل أئمّة الضلال بأحكام الشريعة الغرّاء، و تلاعبهم بدين اللّه، و ما يستتبعه ذلك من حبس قطر السماء و بركات الأرض، فالحمد للّه الذي هدانا لولاية أوليائه عليهم السّلام و ما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

(2) سيأتي ذكر جملة من هذه الأحكام في التعليقة بعد الفراغ من توضيح كلمات المصنّف فيما يتعلّق بمورد الاستدلال بها.

(3) لكنّه قدّس سرّه لم يف بما وعده من ذكر تمام الصحيحة، و سنذكر تتمّتها.

(4) و كذا رواها ثقة الإسلام قدّس سرّه بسند صحيح، فالسند صحيح بطريقيه، و لا تختصّ الصحّة بطريق شيخ الطائفة قدّس سرّه، لكن لا مفهوم لتعبير المصنّف، و إنّما غرضه وجود طريق صحيح لهذا الخبر الشريف.

(5) هذا الموضع يسمّى في عصرنا الحاضر بالهاشميّة، و هو من أقضية محافظة بابل [الحلّة] يبتعد عن الحلّة قرابة عشرين كيلومترا. و أمّا القصر فلم يبق منه سوى أطلال. و أمّا ابن هبيرة فهو من عمّال بني أمية- لعنهم اللّه- في أواخر عهدهم و سلطنتهم. كذا قيل.

(6) و هو قرية بين كوفة و بغداد، ففي اللّسان: «و نيل: نهر بالكوفة، و حكى الأزهري، قال: رأيت في سواد الكوفة قرية يقال لها: النيل، يخرقها خليج كبير يتخلّج

ص: 482

فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد، فاتّبعته و ظفرت به و فرغت ممّا بيني و بينه (1)، و رجعت إلى الكوفة، و كان ذهابي و مجيئي خمسة عشر يوما.

فأخبرت (2) صاحب البغل بعذري، و أردت أن أتحلّل منه فيما [ممّا] صنعت و أرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهما، فأبى أن يقبل (3)، فتراضينا بأبي حنيفة و أخبرته بالقصّة، و أخبره الرّجل.

فقال لي: ما صنعت بالبغلة؟

قلت: رجّعته سليما. فقال (4): نعم بعد خمسة عشر يوما.

قال: فما تريد من الرجل؟

قال (5): أريد كراء بغلي، فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوما.

______________________________

من الفرات الكبير» «1».

(1) هذا الضمير و ضمائر «أنّه، توجّه، فاتّبعته، به» راجعة إلى «الغريم» المراد به المديون.

(2) الوجه في إخبار صاحب البغل هو مخالفة أبي ولّاد لعقد الإجارة، لأنّ السير من الكوفة إلى قصر بني هبيرة- ذاهبا و جائيا- يقلّ عن عشرة أيّام، فكان تصرّفه و ركوبه على البغل مخالفا لمقتضى الإجارة، فأراد أبو ولّاد استرضاء صاحب البغل و الاستحلال منه.

(3) يعني: أنّ صاحب البغل لم يقنع بخمسة عشر درهما، و زعم استحقاقه اجرة أزيد منها.

(4) يعني: فقال صاحب البغل: إنّ أبا ولّاد و إن أرجع البغل سليما، لكنّه أرجعه بعد خمسة عشر يوما، و هو أكثر من مدّة الإجارة المتعارفة للذهاب من الكوفة إلى قصر ابن هبيرة و الرجوع منها إلى الكوفة.

(5) يعني: قال صاحب البغل: أريد كراء البغل في مدّة خمسة عشر يوما، و هو أكثر من خمسة عشر درهما التي اقترحها أبو ولّاد.

______________________________

(1) لسان العرب، ج 11، ص 686

ص: 483

فقال (1): إنّي ما أرى لك حقّا، لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة، فخالف (2)، فركبه إلى النيل و إلى بغداد، فضمن قيمة البغل و سقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليما و قبضته لم يلزمه الكراء.

قال (3): فخرجنا من عنده و أخذ صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى (4) به أبو حنيفة، و أعطيته (5) شيئا و تحلّلت منه. و حججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبد اللّه عليه السّلام بما أفتى به أبو حنيفة.

فقال (6): في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها، و تحبس الأرض بركاتها.

______________________________

(1) يعني: فقال أبو حنيفة للمكاري: لا أرى لك حقّا على أبي ولّاد أصلا، لا خمسة عشر درهما، و لا أزيد منها، بل تستحقّ الدراهم التي تراضيتما عليها- أوّلا- حين اكتراء البغل من الكوفة إلى قصر بني هبيرة.

(2) يعني: فخالف أبو ولّاد مقتضى الإجارة، و عدل بطريقه من قرب قنطرة الكوفة إلى النيل، و لم يذهب إلى قصر بني هبيرة.

(3) يعني: قال أبو ولّاد: فخرجنا من عند القاضي و أخذ صاحب البغل يقول:

إنّا للّه و إنّا إليه راجعون. لكون قضائه جائرا مخالفا للعدل و الانصاف الذي تدعو دين الفطرة إليه، و لم يخف بطلانه على عقل أبسط الناس- و هو المكاري- و إن خفي على عقل فقيه العراق بحسب زعمه.

(4) التعبير بالفتوى- مع أنّهما ترافعا إلى القاضي- لأجل أنّ النزاع في الحكم الكلّيّ، فكان فصل الخصومة بالفتوى، لا ببيان حكم قضيّة شخصية.

(5) ضمير الفاعل من هنا إلى «فأخبرت» راجع إلى أبي ولّاد، و ضمير المفعول و المجرور في «منه» راجع إلى صاحب البغل.

(6) أي: فقال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام: في مثل هذا القضاء- المخالف لما أنزله اللّه تعالى- تحبس السماء ماءها .. إلخ.

ص: 484

فقلت (1): لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فما ترى أنت جعلت فداك؟

قال عليه السّلام (2): أرى له عليك مثل كراء (3) بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل، و مثل كراء بغل راكبا من النيل إلى بغداد، و مثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة، توفيه (4) إيّاه.

قال (5): فقلت: جعلت فداك، قد علّفته بدراهم، فلي عليه علفه؟

فقال (6): لا، لأنّك غاصب.

______________________________

(1) أي: قال أبو ولّاد لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما هو حكم اللّه في هذه المسألة؟

(2) أي: قال الإمام أبو عبد اللّه عليه السّلام: أرى لصاحب البغل عليك .. إلخ.

(3) يعني: عليك مثل أجرة بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل، و مثل كراء بغل راكبا من النيل الى بغداد، و مثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة.

(4) أي: تعطي صاحب البغل هذا الكراء، و الظاهر أنّ المراد قنطرة الكوفة لا نفس المدينة، لأنّ أبا ولّاد لم يخالف مقتضى الإجارة قبل بلوغه قنطرة الكوفة، و إنّما خالفه من القنطرة إلى النيل، ثمّ منه إلى بغداد، و منه عائدا إلى الكوفة.

و الوجه في هذه المحاسبة كون المسافة و مدّة الركوب على البغل أزيد من السير المتعارف من كوفة إلى بغداد، ثم منه إلى كوفة، لكون القصر و النيل خارجين عن الجادّة المعمولة بين كوفة و بغداد، فلأجل ذلك تزداد اجرة المثل- في الطريق التي سلكها أبو ولّاد- على اجرة السير المتعارف، فيكون ضامنا لمنفعة البغل المستوفاة.

(5) يعني: قال أبو ولّاد: قد علّفت البغل بدراهم في مدّة ركوبي عليه. و غرض أبي ولّاد من هذا الكلام: التخلّص من بعض الأجور- التي حكم الامام عليه السّلام بضمانها- بأنّ استيفاء ركوب البغل في المسافة المذكورة و إن لم يكن بعقد إجارة، إلّا أنّه صرف دراهم في تعليف البغل، فينبغي حطّ بعض اجرة المثل بإزاء التعليف، هذا.

(6) يعني: قال الامام الصادق عليه السّلام: لا تستحقّ على المكاري مئونة التعليف لأنّك غاصب، و ليس تصرّفك في البغل مستندا إلى إذن مالكيّ أو شرعيّ حتى يكون

ص: 485

قال (1): فقلت: أ رأيت، لو عطب (2) البغل و نفق أ ليس كان يلزمني (3)؟

قال (4): نعم، قيمة بغل يوم خالفته.

قلت (5): فإن أصاب البغل

______________________________

مئونته على المالك.

(1) يعني: قال أبو ولّاد: فقلت للإمام عليه السّلام: أ رأيت .. إلخ. و الظاهر أنّ أبا ولّاد استغرب من حكمه عليه السّلام بضمان اجرة المثل و بوجوب الإنفاق على البغل، و ذلك لما سمعه من قاضي الكوفة من أنّه لمّا صار ضامنا لرقبة البغل بالغصب كانت منفعته- كالركوب- مملوكة له، فلذا استفهم أبو ولّاد منه عليه السّلام، و قال: لو هلك البغل في المدّة التي كانت عنده غصبا، فهل يكون مضمونا؟ و هل يجب دفع قيمته إلى المكاري أم لا؟

فأجاب عليه السّلام: نعم، لو هلك البغل عندك كنت ضامنا لقيمته، لأنّك غاصب و كذلك تكون ضامنا لاجرة المثل، و وجب عليك تعليفه. و لا وجه لحكم القاضي الجائر اعتمادا على حديث: «الخراج بالضمان» لعدم كون مورده الغصب أصلا، كما تقدّم تفصيله في الأمر الثاني.

(2) من باب «تعب» بمعنى: هلك. كذا في المصباح «1». و فيه أيضا: «و نفقت الدابّة نفوقا من باب قعد: ماتت» «2». و الظاهر أنّ المراد من «العطب» هنا هو الموت عن الكسر، و النفوق هو الموت حتف الأنف.

(3) بالتخفيف، أي: هل تكون القيمة لازمة عليّ و مضمونة لو هلك البغل؟

(4) يعني: قال الامام عليه السّلام: لو هلك البغل لزمك قيمته يوم خالفت عقد الإجارة.

(5) هذا قول أبي ولّاد. و هو سؤال أيضا عن ضمان البغل، لكن الفارق بينه و بين سابقه أنّ السؤال الأوّل كان عن ضمان الرقبة لو مات البغل. و هذا سؤال عن

______________________________

(1) المصباح المنير، ص 416

(2) المصدر، ص 618

ص: 486

كسر أو دبر (1) أو عقر [غمز].

فقال: عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب يوم تردّه.

فقلت (2): من يعرف ذلك؟

______________________________

ضمان الطرف و الأعضاء من كسر أو قرحة أو عرج. فأجاب عليه السّلام: بضمانها أيضا كالرقبة.

و طريق معرفته تقويم البغل صحيحا من كلّ عيب، و تقويمه مع ذلك الكسر أو العرج أو القرحة، فالتفاوت بين القيمتين هو المضمون. كما إذا قوّم سليما بعشرة دنانير، و معيبا بثمانية، فالأرش ديناران يجب دفعهما إلى المكاري.

(1) قرحة الدابّة، و «العقر» بمعنى الجرح. و في بعض النسخ «غمز» و هو ميل الدابّة من رجلها و العرج الضعيف. و أمّا «الغمر» بالراء فلم يظهر له معنى يناسب المقام.

(2) هذا قول أبي ولّاد، و هو استفهام عن طريق معرفة الأرش- الذي يضمنه لو اعتلّ البغل عنده- بعد معرفة أصل ضمان العيب. و أجابه عليه السّلام بأنّ لمعرفة أرش العيب طرقا.

فإن توافق المكاري و أبو ولّاد على قيمة البغل صحيحا و معيبا، فيدفع الأرش إليه.

و إن اختلفا في القيمة، بأن ادّعى صاحب البغل زيادة قيمته، و أنكرها أبو ولّاد، حتّى يكون أرش ما بين الصحّة و العيب أقلّ، كما إذا ادّعى المكاري أنّ قيمة الصحيح عشرة دنانير، و قيمة المعيب ثمانية، فيطالب بدينارين. و ادّعى أبو ولّاد أنّ قيمة البغل السليم عشرة و قيمة المعيب تسعة، فيكون ضامنا لدينار. فيحلف المكاري على ما يدّعيه. أو يأتي بشهود على أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء عشرة دنانير مثلا.

فإن لم يأت المكاري بشهود و لم يحلف على دعواه بأن وجّه اليمين إلى منكر زيادة القيمة حلف أبو ولّاد على الثمن القليل و ثبت دعواه.

ص: 487

قال عليه السّلام: أنت و هو، إمّا أن يحلف هو (1) على القيمة فيلزمك فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة (2) لزمك ذلك. أو (3) يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا و كذا، فيلزمك.

فقلت (4): إنّي كنت أعطيته دراهم و رضي بها و حلّلني.

فقال: إنّما رضي بها و حلّلك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور و الظلم.

و لكن ارجع إليه، فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي ء عليك بعد ذلك» الخبر (5).

______________________________

(1) يعني: صاحب البغل، فيحلف على القيمة العليا، فتثبت في ذمّة أبي ولّاد.

(2) يعني: على القيمة الدّنيا، فتلزمك و تستقرّ على عهدتك.

(3) هذا عدل لقوله: «إمّا أن يحلف» يعني: أنّ للمكاري إثبات دعواه بإحدى طريقين: الحلف و البيّنة.

(4) هذا قول أبي ولّاد، و غرضه من هذا السؤال حطّ مقدار من اجرة المثل التي حكم الامام عليه السّلام باستقرارها في ذمّته، فقال: إنّي أشفقت على المكاري بعد حكم قاضي الكوفة، و أعطيته دراهم و تحلّلت منه، فهل يجوز احتسابها من اجرة المثل، أم أنّها لا تحسب منها و يجب أداء أجرة المثل كاملة؟

فأجاب عليه السّلام: بأنّ رضى المكاري بتلك الدراهم و تحلّلك منه كان ناشئا من جهله بما يستحقّه عليك واقعا، فرضي بما أعطيته إيّاه. و لكن أخبره بالحكم الواقعيّ و ما يستحقه عليك من اجرة المثل، فإن حلّلك من اجرة المثل و رضي بما أعطيته سابقا فهو، و إلّا فادفع إليه ما يستحقه من اجرة المثل كاملة.

(5) ذيل الصحيحة: «فلمّا انصرفت من وجهي [حجّتي] ذلك لقيت المكاري، فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد اللّه عليه السّلام، و قلت له: قل: ما شئت حتى أعطيكه. فقال:

قد حبّبت إليّ جعفر بن محمّد عليهما السّلام و وقع له في قلبي التفضيل، و أنت في حلّ،

ص: 488

و محلّ الاستشهاد فيه فقرتان:

الأولى: قوله: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» إلى ما بعد، فإنّ الظاهر (1)

______________________________

و إن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذته منك فعلت» «1».

و المراد بالموصول في «بما أفتاني به» هو اشتغال ذمّة أبي ولّاد بأجرة مثل البغل من الكوفة إلى النيل، و منه إلى بغداد، و منه عائدا إلى الكوفة، و قد حكم أبو حنيفة بعدم استحقاق المكاري لهذه الأجرة. فلمّا سمع المكاري فتوى الامام الصادق عليه السّلام باستحقاقها فرح بها و طابت نفسه من أبي ولّاد، و أسقط ماله في ذمّته، بل لم يكتف المكاري بهذا الاسقاط، فقال: لو شئت يا أبا ولّاد أرجعت إليك الدراهم التي أعطيتنيها بعد قضاء أبي حنيفة.

و اعلم أنّ هذه الصحيحة قد يستدلّ بها تارة على اعتبار قيمة يوم الغصب.

كما عليه جماعة و منهم المصنّف في بادئ الأمر. و اخرى على ضمان يوم التلف كما عليه آخرون، و ثالثة على ضمان أعلى القيم من الغصب إلى التلف كما عليه الشهيد الثاني، و سيأتي التعرّض لجميع ذلك إن شاء اللّه تعالى.

(1) استدلّ المصنّف قدّس سرّه بجملتين من هذه الصحيحة المباركة على مدّعاه من ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب، كما أفاده- قبل ذكر الصحيحة بأسطر- بقوله:

«بل يمكن أن يقال: إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة أبي ولّاد الآتية».

الجملة الأولى: قوله عليه السّلام في جواب أبي ولّاد: «نعم قيمة بغل يوم خالفته».

و حاصل تقريب الاستدلال بها: أنّ «اليوم» قيد للقيمة بأحد وجهين: إمّا بإضافة «القيمة» المضافة إلى «البغل» إليه، بأن يضاف القيمة أوّلا إلى البغل، و ثانيا

______________________________

(1) وسائل الشيعة، الباب 17 من كتاب الإجارة، الحديث 1، الا أنّه أسقط ذيله، و ذكر تمامه في الكافي ج 5، ص 290 و 291. ثمّ إنّ الرواية على طريقة الكافي صحيحة، و كذا على طريقة الشيخ، لأنّه رواها بإسناده إلى أحمد بن محمد و طريقه إليه صحيح، فلا إشكال في الصحيحة من حيث السند، فلاحظ.

ص: 489

أنّ «اليوم» قيد للقيمة، إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل [1]

______________________________

إلى اليوم، فيكون المتحصّل من هذه الإضافة: أنّ المضمون قيمة يوم المخالفة، يعني:

قيمة البغل الثابتة له يوم الغصب، و هو زمان الميل عن قنطرة الكوفة إلى النيل.

و إمّا بجعل «اليوم» قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل،

______________________________

[1] لا يخفى أنّه قد اختلفت نسخ الحديث، ففي الكافي و الوسائل و مرآة العقول نقلها بتنكير «البغل» في كلام أبي عبد اللّه عليه السّلام الدالّ على ضمان الكراء و ضمان البغل. و في الوافي و التهذيب نقله معرّفا باللام في جميع الموارد. و في غصب الوسائل نقله منكّرا في بعض الموارد و معرّفا في بعضها الآخر.

و كيف كان فالظاهر أنّ أبا حنيفة تمسّك فيما حكم به من عدم ضمان أجرة المثل بحديث «الخراج بالضمان» بزعم أنّ الخراج- أي المنافع- بإزاء ضمان العين، فكأنّ قيمة العين عوض منافعها، لأنّ ماليّة العين إنّما هي بإزاء منافعها، فالقيمة المبذولة بإزائها إنّما هي قيمة فوائدها، لأنّ العين المجرّدة عن المنافع لا ماليّة لها. و هذا شي ء لا تستبعده العقول، فيما إذا تلفت العين تحت يد من استوفى خراجها.

لكن ما حكم به أبو حنيفة مخالف للعقل و العدل الإسلاميّ، و لذا استرجع صاحب البغل، و تحلّل منه أبو ولّاد، إذ المفروض بقاء العين و استيفاء المنافع، فلو لم يضمن من استوفاها كان ظلما على المالك، هذا.

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق في صحة الاستدلال بالصحيحة بين تنكير البغل و تعريفه في مقدار الكراء، لما مرّت إليه الإشارة سابقا من عدم دخل الهويّة بما هي في القيم و الرغبات. و إنّما الدخيل فيها هو الخواصّ و الأوصاف الموجبة لاختلاف القيم و الرّغبات، مثل كون البغل قويّا سريع السير مرتاضا غير شموس، فقوله عليه السّلام: «له عليك كراء بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل» يراد به البغل المماثل لبغله بحسب فهم العرف و ارتكاز العقلاء، لا كراء كلّ بغل شاء، سواء كان مخالفا لبغله أم لا. و مع المماثلة لا فرق بين كراء شخص بغله و كراء مماثله، كما لا يخفى.

ص: 490

إليه (1) ثانيا، يعني: قيمة يوم المخالفة للبغل، فيكون إسقاط حرف التعريف (2) من البغل للإضافة [1]

______________________________

حيث إنّ الإضافة إمّا تفيد التعريف إن أضيف إلى المعرفة، أو الاختصاص إن أضيف إلى النكرة. فالقيمة بعد أن أضيفت إلى البغل أفادت الاختصاص، أي: اختصاص القيمة بالبغل لا غيره.

و حاصل هذا التقريب: أنّ القيمة المختصّة بالبغل هي قيمته يوم الغصب، في مقابل قيمته يوم التلف. أو أعلى القيم أو غيرهما من القيم التي تنسب إلى البغل.

و قد أشار إلى هذا التقريب بقوله: «و إمّا بجعل اليوم قيدا .. إلخ».

(1) أي: إلى اليوم، بأن أضيفت القيمة مرّة إلى البغل، و ثانية إلى اليوم كما ذكرناه آنفا. و لكن صريح كلامه في السطر الآتي إضافة «البغل» إلى «يوم المخالفة» و لذا سقط اللام من «البغل» و معنى هذا الكلام: إضافة «القيمة» إلى «بغل» و إضافة «بغل» إلى «يوم المخالفة» إذ لو كانت «القيمة» مضافة مرّتين إحداهما إلى «البغل» و الأخرى إلى «يوم المخالفة» لم يكن وجه لسقوط حرف التعريف من «بغل» لعدم كونه مضافا إلى «يوم» كي يحذف منه اللام.

(2) و هو الألف و اللام من «البغل» لأجل إضافة «البغل» إلى «يوم خالفته» و غرضه من هذا الكلام دفع ما يتوهّم من: أنّ تنكير «البغل» إنّما هو للإشارة إلى أنّ ذا القيمة ليس خصوص البغل الذي هو مورد البحث، بل المضمون قيمة بغل مماثل لهذا البغل، فتكون الرواية دليلا لمذهب من جعل القيميّ مضمونا بالمثل.

و محصّل دفع هذا التوهّم: أنّ البغل ليس نكرة، بل هو معرّف باللام، غاية الأمر أنّ اللام سقط لأجل الإضافة، فالمراد بالبغل هو خصوص البغل الذي اكتراه أبو ولّاد.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ اللام يسقط عن المضاف لا المضاف إليه كالبغل في الصحيحة.

كذا قيل. و لكن نفس «البغل» مضاف إلى اليوم، فيسقط عنه حرف التعريف، و إن كان «البغل» مضافا إليه أيضا ل «قيمة» مثل: جاءني عبد سلطان بلدكم.

ص: 491

لا (1) لأنّ ذا القيمة بغل غير معيّن، حتى توهم الرواية مذهب من جعل القيميّ مضمونا بالمثل (2)، و القيمة إنّما هي قيمة المثل (3).

و إمّا (4) بجعل «اليوم» قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل [1].

______________________________

(1) أي: ليس منشأ إسقاط حرف التعريف هو كون البغل الذي يجب دفع قيمته كلّيّا غير معيّن حتى يكون المضمون هو البغل المماثل للتالف- الذي اكتراه أبو ولّاد- و تكون القيمة بدل البدل.

(2) كالاسكافيّ و من وافقه من كون المضمون مضمونا بمثله، و لا تستقرّ القيمة في ذمّة الضامن إلّا بتعذر المثل.

(3) لا قيمة نفس التالف، فإنّها غير مضمونة بناء على ضمان القيميّ بالمماثل عرفا.

(4) هذا هو الشقّ الثاني من شقّي الاستدلال بالجملة الاولى من الصحيحة على ضمان يوم الغصب، و قد أوضحناه بقولنا: «و إمّا بجعل اليوم قيدا للاختصاص ..»

راجع (ص 490).

و قد تحصّل من كلام المصنف قدّس سرّه إلى هنا: وفاء الجملة الاولى من الصحيحة- بطريقين- لإثبات ضمان المغصوب القيميّ بقيمة يوم غصبه، لا بقيمة يوم التلف.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ الاستدلال بقوله عليه السّلام: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» على كون الضمان بقيمة يوم الغصب مبنيّ على رجوع القيد أعني به «يوم خالفته» إلى القيمة، بأحد وجوه:

الأوّل: إضافة القيمة إلى البغل، و البغل إلى اليوم بنحو تتابع الإضافات كقول الشاعر: «و ليس قرب قبر حرب قبر» بناء على تنكير البغل، إذ مع تعريفه لا تصحّ إضافته معنى، و إنّما تصح إضافته لفظا.

ص: 492

______________________________

الثاني: إضافة القيمة إلى البغل و اليوم معا.

الثالث: إضافة المتحصّل من المضاف و المضاف إليه- و هو القيمة المتخصصة بالبغل- إلى اليوم.

الرابع: كون اليوم ظرفا للقيمة من دون إضافة شي ء إليه، فيكون اليوم منصوبا بالاختصاص سواء أ كان البغل منكّرا منوّنا بإضافة القيمة إليه، كما في نسختي الكافي و الوسائل و مرآة العقول، فإنّ البغل مذكور فيها بالتنكير. فالبغل حينئذ مجرور منوّنا بإضافة القيمة إليه. أم كان البغل معرّفا باللام كما في التهذيب و الوافي، يعني: قيمة البغل المعهود يوم المخالفة. فتدلّ على أنّ المضمون قيمة يوم الغصب، هذا.

أمّا الوجه الأوّل فلا يصار إليه في المقام، لأنّ البغل من الذوات غير القابلة للتقييد بالزمان، لعدم اختلاف الأعيان باختلاف الأزمان، كما هو شأن التقييدات، فلا يصلح الزمان لأن يكون قيدا. كما لا يصح تقييد الدار و الدّكّان و نحوهما بالزمان، فلا يقال: «دار أو دكّان أو خان يوم» كما لا يقال: «بغل يوم الغصب، أو يوم الجمعة» إلّا باعتبار قيمتها التي هي معنى حدثيّ. بخلاف قوله: «و ليس قرب قبر حرب قبر» لصحّة كون «حرب» قيدا للقبر.

و أمّا الوجه الثاني- و هو إضافة القيمة إلى كلا الأمرين عرضا- فهو غير معهود في الاستعمالات، إذ يتوقف ذلك على لحاظين مستقلّين متباينين، و ذلك في استعمال واحد ممتنع.

مضافا إلى: أنّه على فرض صحّته في نفسه لا يمكن المصير إليه في المقام، إلّا بناء على تنكير البغل. و أمّا مع تعريفه باللام فلا يصحّ ذلك، لأنّ البغل لإضافته إلى «يوم» لا بدّ من تجريده عن اللام.

و بالجملة: فإشكال هذا الوجه الثاني- مضافا إلى امتناع تعدّد اللحاظين- عدم معهوديّته في الاستعمالات الشائعة.

ص: 493

______________________________

و أمّا الوجه الثالث- و هو إضافة المجموع المتحصّل من المضاف و المضاف إليه إلى اليوم- فلا بأس به.

و محصّله: أنّه يلزمك الحصّة الخاصّة من القيمة أعني بها قيمة البغل الثابتة له في يوم المخالفة، فهذه القيمة الخاصة مضمونة على الغاصب. فالظرف- و هو اليوم- متعلّق بالثابت. و مثل هذا كثير في الاستعمالات العرفيّة، فيقال: ماء رمان زيد، و حبّ رمان عمرو.

و أمّا الوجه الرابع- و هو كون اليوم منصوبا على الظرفيّة و ظرفا للقيمة- فهو أيضا ممّا لا بأس به، لأنّ «القيمة» بمعنى ما يتقوّم به، و هو معنى حدثيّ قابل للتقيّد بالزمان.

لكن يحتمل رجوع القيد- أعني يوم المخالفة- إلى قوله عليه السّلام: «نعم» الذي بمعنى يلزمك، يعني: «يجب عليك في يوم المخالفة قيمة البغل» فيدلّ على أن حدوث الضمان يكون يوم المخالفة، و لا يدلّ على تعيين القيمة، و أنّها قيمة يوم المخالفة أو يوم الغصب.

و مع هذا الاحتمال تكون الصحيحة مجملة، فلا يصح الاستدلال بها على ثبوت قيمة يوم الغصب. فيرجع في تعيين القيمة إلى القواعد. و قد تقدّم سابقا أنّ مقتضاها ضمان قيمة يوم التلف، هذا ما احتمله جمع منهم صاحب الجواهر، و سيأتي نقل كلامه في التوضيح ان شاء اللّه تعالى.

لكن يبعّده أمران:

أحدهما: ما يستفاد من كلام المصنّف من لغويّة ذكر القيد- أعني يوم المخالفة- الذي هو راجع إلى قوله عليه السّلام: «نعم» لأنّه يبيّن حينئذ مبدء الضمان و هو يوم الغصب، و ذلك معلوم عند السائل.

ثانيهما: أنّ لازم رجوع القيد إلى قوله: «نعم» انتقال العين إلى القيمة قبل تلفها، لأنّ السائل فرض المخالفة مع بقاء العين. و قد حكم الامام عليه السّلام بضمان قيمة البغل. و هذا ممّا لم يقل به أحد. فلا بدّ من ترجيح احتمال رجوع القيد- أعني به يوم المخالفة- إلى

ص: 494

______________________________

القيمة بأحد الوجهين المتقدمين، فتكون الصحيحة على هذا دليلا على ضمان قيمة يوم الغصب كما هو مدّعى من ادّعى ذلك.

لكن يمكن أن يقال: إنّها دليل على ضمان قيمة يوم التلف. تقريبه: أنّ أبا ولّاد يسأل عن الضمان إذا عطب أو نفق، و من المعلوم أنّ الذهن غير المشوب بالمناقشات ينقدح فيه من قوله: «لو عطب أو نفق أ ليس يلزمني» أنّه يلزمني قيمة البغل حال تلفه، لأنّها قيمته الفعليّة، لا قيمته في الزمان الماضي أو المستقبل.

و لمّا كان ضمان التلف تحت يده موهما لضمانه مطلقا و لو لم يكن التلف في حال الغصب فقد دفع هذا التوهّم بقوله عليه السّلام: بأنّ ضمان التلف ليس ثابتا مطلقا، بل في خصوص حال الغصب. فتلف البغل قبل الغصب- و هو في المثال من الكوفة إلى قنطرتها- لا يوجب الضمان. فيوم المخالفة قيد لضمان التلف، يعني: أنّ التلف يوجب الضمان إذا وقع في حال الغصب، لا مطلقا، ففي جوابه عليه السّلام تصديق لقول أبي ولّاد و ردع له.

أمّا تصديقه فمن جهة لزوم القيمة عند التلف التي هي في ارتكازه و ارتكاز العقلاء قيمتها حال التلف، لأنّها قيمتها الفعليّة.

و أمّا ردعه فمن جهة أنّ إطلاق ضمان التلف يقتضي ثبوت الضمان من وقت الأخذ، فردعه الامام عليه السّلام بأنّ الضمان على فرض التلف ثابت من وقت الغصب. فقوله عليه السّلام: «يوم خالفته» قيد لقوله عليه السّلام: «نعم» أو للفعل المدلول عليه به كما هو ظاهر التركيب اللغويّ. و القيمة التي ورد عليها التصديق هي قيمة يوم التلف. فكأنّه قيل: إذا مات البغل حال الغصب و المخالفة ضمن قيمته، و من المعلوم أنّ قيمته الفعلية هي قيمته يوم التلف.

و لا فرق في هذا الاستظهار بين تنكير البغل و تعريفه، لما تقدّم سابقا من عدم دخل الهويّة بما هي في القيم و الرغبات، و أنّ الدخيل فيها هي الخواصّ و الأوصاف، كقوّة البغل و سرعة سيره و كونه مرتاضا غير شموس، هذا.

ص: 495

______________________________

و الّذي ينبغي أن يقال: إنّ قول السائل: «أ يلزمني» المترتّب على العطب و النفوق، إمّا بمعنى عهدة العين، و إمّا بمعنى لزوم دفع البدل فعلا، و إمّا بمعنى لزومه على تقدير التلف، و هو الضمان بالقوّة في كلام المشهور.

أمّا الأوّل فهو غير مرتّب على العطب، لأنّه مترتّب على مجرّد الغصب، فلا يصحّ جعل العطب في كلام السائل شرطا للزوم ضمان القيمة، و لا جعل اللزوم جزاء لقوله:

«فلو عطب» لفقدان الترتّب المعتبر بين الشرط و الجزاء، حيث إنّ العهدة مضافة إلى العين، لأنّ فاعل «أ يلزمني» هو البغل، لا بدله أعني به القيمة، فلا بدّ من الاقتصار على قوله: «نعم» لأنّه يسأل عن ضمان العين، فيكفيه قوله: «نعم» فلا يتعلّق اللزوم المستفاد منه بقيمة البغل.

و أمّا الثاني- و هو لزوم دفع البدل فعلا- فهو قابل لترتّبه على العطب، إذ المترتّب عليه هو القيمة لا العين، لفرض تلفها، فيتعيّن حينئذ أن يكون «يوم خالفته» قيدا للقيمة، لا لقوله: «يلزمني» لعدم اللزوم الفعليّ للقيمة من يوم المخالفة، بل لزوم القيمة فعلا مترتّب على العطب الواقع في ظرف المخالفة.

لكن يشكل إرادة اللزوم الفعليّ للقيمة في يوم المخالفة مع إمكان إرادة اللزوم التقديريّ و إرادة العهدة منه، إذ المفروض بقاء العين.

و أمّا الثالث- أعني به لزوم دفع البدل على تقدير التلف، و هو الضمان بالقوّة- فهو مترتّب على فرض وجود العطب، لا على العطب الفعليّ، و من المعلوم أنّ قوله: «أ رأيت لو عطب البغل .. إلخ» بيان لمعنى الضمان بالقوّة، أعني به لزوم البدل على تقدير التخلّف بجعل العطب مقدّما، و جعل لزوم البدل تاليا. و هذا اللزوم التقديريّ هو الذي سمعه من أبي حنيفة، لا اللزوم الفعليّ، إذ لم يكن في الواقعة عطب فعليّ.

و منه ظهر أنّه لا وجه لاستفادة اللزوم الفعليّ، فإنّه مرتّب على العطب الفعليّ، لا على فرضه بجعله واقعا موقع الفرض و التقدير الذي هو مفاد مدخول أداة الشرط.

ص: 496

و أمّا ما احتمله جماعة (1) من «تعلّق الظرف بقوله: نعم، القائم مقام قوله عليه السّلام: يلزمك يعني: يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل»

______________________________

(1) هذا الاحتمال مذكور في مفتاح الكرامة و المستند و الجواهر «1»، عارضوا به دلالة الفقرة على ضمان المغصوب بقيمة يوم غصبه. و الفاضل النراقي قدّس سرّه و إن رجّح الضمان بقيمة يوم الغصب، إلّا أنّه استفاده من الفقرة الثانية الآتية، و هي قوله عليه السّلام:

«أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكترى كذا و كذا ..».

قال في الجواهر في ردّ استظهار ضمان قيمة يوم الغصب- ما لفظه: «و فيه:

احتمال تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله: نعم، فيكون المراد: يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب، بمعنى أنّها تتعلّق بك ذلك اليوم. و حينئذ فحدّ القيمة غير مبيّن فيه، فلا ينافي ما دلّ على القيمة يوم التلف الذي ستعرف أنّه الأصحّ. و دعوى أنّ الأوّل- و هو ضمان قيمة يوم الغصب- أظهر ممنوعة».

______________________________

و عليه فيتردّد الأمر بين أن يكون «يوم المخالفة» قيدا للقيمة، و أن يكون قيدا للزوم التقديري المستفاد من قوله عليه السّلام: «نعم» فتكون الرواية ساكتة عن وقت القيمة.

فالنتيجة: أنّ الصحيحة لا تكون ظاهرة في اعتبار قيمة يوم الغصب، كما ادّعاه القائل باعتبار قيمة يوم المخالفة، لتطرّق احتمال قيديّة يوم المخالفة لكلّ من القيمة و اللزوم. فعلى الأوّل يكون المدار على قيمة يوم الغصب و على الثاني يكون المدار على قيمة يوم التلف، لأنّ معناه حينئذ: يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل، و من المعلوم أنّ قيمته الفعليّة عند التلف هي قيمته حال التلف.

فتلخّص: أنّ الصحيحة إمّا ظاهرة في اعتبار قيمة يوم التلف، أو مجملة، و لا ظهور لها في اعتبار يوم الغصب.

______________________________

(1) راجع: مفتاح الكرامة، ج 6، ص 244؛ مستند الشيعة، ج 2، ص 368؛ جواهر الكلام، ج 37، ص 101 و 102

ص: 497

فبعيد (1) جدّا [1]،

______________________________

و الوجه في تعلّق الظرف- و هو: يوم- بفعل «يلزم» هو اعتبار تعلّق الظرف بفعل أو شبه فعل، و لا يصلح تعلّقه ب «نعم» و إنّما يتعلّق بفعل «يلزمك» الذي دلّ عليه كلمة «نعم».

و عليه فبناء على احتمال تعلّق الظرف ب «يلزمك» لا تدلّ هذه الجملة على ضمان يوم الغصب، و إنّما تدلّ على استقرار قيمة المضمون بمجرّد الغصب، و أمّا حدّ قيمة المضمون فغير مدلول عليه، فلا يعلم أنّها قيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو غيرهما. هذا. و سيأتي إيراد المصنّف قدّس سرّه على هذا الاحتمال.

(1) جواب «و أما ما احتمله».

______________________________

[1] بل قريب جدّا، لأنّ الظاهر أنّ أبا ولّاد يسأل عن أصل الضمان، و إلّا كان المناسب أن يقول: أيّ شي ء يلزمني يوم المخالفة؟

و لا يبعد أن يكون منشأ السؤال ما قاله أبو حنيفة من: أنّ ضمان الأصل لا يلائم ضمان الكراء، لأنّ الخراج بالضمان، فلمّا رأى السائل أن الامام عليه السّلام أثبت الكراء، أراد أن يستفسر منه أنّه مخالف لأبي حنيفة في الكراء، و ضمان الأصل، أو في الكراء فقط.

و بتقريب آخر: أنّ أبا حنيفة ادّعى الملازمة بين ضمان البغل و سقوط الكراء، لكون الخراج بالضمان، و حيث إنّه عليه السّلام ردّ عليه بأن الكراء ثابت، زعم أبو ولّاد- أو احتمل- أنّ ثبوت الكراء كاشف عن عدم ضمان الأصل، للملازمة بين ثبوت الضمان و نفي الكراء، على ما أفتى به أبو حنيفة، فسأل أنّه مع ثبوت الكراء هل يثبت الضمان؟

و قال: «أ رأيت لو عطب .. إلخ».

و بالجملة: سأل أبو ولّاد عن ضمان الأصل، باحتمال سقوطه مع ثبوت الكراء.

فأجاب عليه السّلام بثبوت الضمان التعليقيّ، يعني: لو عطب أو نفق، لكن- لا مطلقا- بل يوم المخالفة، فكأنّه قال: يلزمك يوم المخالفة و غصب مال الغير قيمة بغل إذا عطب أو نفق.

ص: 498

بل غير ممكن، لأنّ (1) السائل إنّما سأل عمّا يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة، بعد العلم بكون زمان المخالفة زمان حدوث الضمان، كما يدلّ عليه (2): «أ رأيت لو عطب البغل أو نفق، أ ليس كان يلزمني؟» فقوله: «نعم» يعني: يلزمك بعد

______________________________

(1) تعليل لعدم الإمكان، توضيحه: أنّ ملاحظة السؤال تقتضي علم السائل بأنّ لزوم القيمة و ضمانها يكون بعد تلف البغل، لأنّ أبا ولّاد علّق لزوم القيمة على العطب و النفوق، فلو كان ظرف اللزوم هو التلف امتنع أن يكون «يوم خالفته» قيدا له، إذ يلزم حينئذ أن يكون ظرف اللزوم يوم المخالفة أيضا. و هذا ينافي تعليق اللزوم على العطب و النفوق، فلا بدّ أن يكون «يوم المخالفة» قيدا لغير اللزوم.

هذا مضافا إلى: أنّ ظاهر السؤال هو السؤال عن المقدار اللازم بالتلف بعد العلم بثبوت الضمان بالتلف، فلا بدّ من حمل الجواب على إرادة بيان المقدار، و ذلك يقتضي تعليق الظرف بغير اللزوم، و إلّا لم يكن جوابا عن السؤال، لفرض علم أبي ولّاد بأصل لزوم القيمة.

(2) هذه الدلالة مبنيّة على كون الاستفهام تقريريّا لا حقيقيّا، فبناء على الاستفهام التقريريّ تدلّ كلمة «يلزمني» على علم أبي ولّاد بأنّ ضمان القيمة يكون بعد تلف البغل.

______________________________

فهذا المعنى التعليقيّ ثابت بالفعل يوم الغصب كما قيل بذلك أيضا في خبر «على اليد» فمضمون الصحيحة موافق لخبر «على اليد» مع اختلاف غير جوهريّ، و هو ذكر القيمة، لكون المورد من القيميّات، فلاحظ.

فالمتحصّل: أنّ نتيجة هذا الاحتمال هي ضمان قيمة البغل على فرض التلف.

و الضمان يكون من يوم المخالفة و الغصب، يعني: يحدث الضمان المعلّق على موت البغل من يوم الغصب. و أمّا كون القيمة قيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو غيرهما فالصحيحة ساكتة عنها، و مقتضى القواعد كما تقدّم سابقا هو قيمة يوم التلف.

ص: 499

التلف بسبب المخالفة قيمة بغل يوم خالفته (1).

و قد أطنب بعض (2) من جعل الفقرة ظاهرة في تعلّق الظرف بلزوم القيمة عليه، و لم يأت بشي ء يساعده التركيب اللغويّ، و لا المتفاهم العرفيّ.

الثانية (3): قوله: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل

______________________________

(1) فيكون المضمون قيمة يوم المخالفة لا يوم التلف.

(2) لعلّه إشارة إلى ما حكاه في الجواهر عن بعض بقوله: «نعم ربّما قيل: إنّه ظاهر فيه- يعني في تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله عليه السّلام: نعم- باعتبار أنّ سؤال الراوي عن الضمان بسبب التلف، لا بسبب المخالفة. فمطابقة الجواب للسؤال تقتضي أن يكون المراد منه: نعم يلزمك يوم خالفته هذا الحكم، يعني: يصير حكمك في هذا اليوم لزوم قيمة البغل إن هلك. و المتبادر منه بعد معلوميّة أنّه ليس المراد قيمته ميّتا هو أقرب زمان حياته إلى الموت، و هو قبيل التلف. و هذا معنى قيمته يوم التلف.

بل لعلّ تنكير- بغل- يومي إلى ذلك أيضا، إذ هو إشارة إلى أنّه يفرض الميّت حيّا، و إلّا فلا ريب أنّه لا يكفي قيمة أيّ بغل يكون. و هو مناسب لكون الظرف لغوا متعلّقا بقوله: يلزمك. و إلّا فلا يناسب التنكير، إذ البغل يوم المخالفة حيّ بالفرض و الاستصحاب، فالأولى تعريفه» «1».

(3) يعني: الفقرة الثانية- من صحيحة أبي ولّاد- الظاهرة في ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب، لا يوم التلف و لا أعلى القيم، و هي قوله عليه السّلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون .. إلخ».

بتقريب: أنّ البغل لو أصابه كسر أو دبر كان على أبي ولّاد دفع أرش ما بين الصحيح و المعيب إلى المكاري. و المناط في تقويم البغل صحيحا هو يوم الاكتراء.

و الظاهر أنّ مراد الامام عليه السّلام من يوم الاكتراء هو يوم مخالفة أبي ولّاد لمقتضى عقد الإجارة، و ذلك لكون البغل في يوم الاكتراء أمانة بيد أبي ولّاد لاستيفاء المنفعة منه.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 102 و 103

ص: 500

يوم اكتري كذا و كذا» فإنّ إثبات (1) قيمة يوم الاكتراء من (2) حيث هو يوم الاكتراء لا جدوى فيه (3)،

______________________________

فلا يكون مضمونا، إذ الموجب للضمان هو اليد العدوانيّة المتحقّقة بالغصب، و المفروض في هذه الصحيحة تحقّق المخالفة عند وصول أبي ولّاد إلى قنطرة الكوفة. و بما أنّ المسافة بين كوفة و قنطرتها قريبة، فإمّا أن يكون وصوله إلى القنطرة عصر يوم الاكتراء لو خرج من الكوفة صباحا، و إمّا أن يكون وصوله إليها بعد يوم. و من المستبعد جدّا تغيّر قيمة البغل بعد ساعات أو بعد يوم واحد.

و على هذا يكون المناط في تقويم البغل المضمون هو يوم الغصب المعبّر عنه بيوم الاكتراء. و الشاهد عليه أنّه لم يقل أحد باعتبار قيمة يوم الاكتراء حتى لو اختلفت مع قيمة يوم المخالفة و الغصب. و لذا قال في الجواهر: «ثمّ إنّ الظاهر بناء قوله عليه السّلام: حين اكتري على غلبة عدم التفاوت في هذه المدّة القليلة. و على الاستصحاب. و إلّا فلم يقل أحد باعتبار القيمة حين اكترى» «1».

(1) هذا تقريب دلالة الفقرة الثانية على ضمان قيمة وقت الغصب، و قد عرفته آنفا. و يستفاد هذا التقريب من الفاضل النراقي قدّس سرّه حيث قال: «فإنّ معناه: فيلزمك قيمة البغل حين اكتري. و لا يرد أنّه ليس حين المخالفة، فيلزم القيمة قبل المخالفة، و هو مخالف للإجماع. لأنّه لا فاصلة يعتدّ بها بين وقتي المخالفة و الإكراء في المورد كما يدلّ عليه صدر الحديث» «2».

(2) يعني: لا من حيث إنّ قيمة يوم الاكتراء متحدة مع قيمة يوم المخالفة، فإن الجدوى في القيمة بلحاظ الاتحاد موجودة.

(3) أي: في إثبات قيمة يوم الاكتراء.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 103

(2) مستند الشيعة، ج 2، ص 368

ص: 501

لعدم (1) الاعتبار به، فلا بدّ (2) أن يكون الغرض منه (3) إثبات قيمة يوم المخالفة، بناء (4) على أنّه يوم الاكتراء، لأنّ الظاهر من صدر الرواية (5) أنّه خالف المالك بمجرّد خروجه من الكوفة. و من المعلوم (6) أنّ اكتراء البغل لمثل تلك المسافة

______________________________

(1) تعليل لعدم الجدوى في إثبات قيمة يوم الاكتراء بالبيّنة. وجه عدم الاعتبار ما عرفته من أنّ يوم الاكتراء زمان حدوث اليد الأمانيّة غير الموجبة للضمان أصلا، و الموجب له إنّما هو اليد العدوانيّة المتحقّقة بالمخالفة في نفس يوم الاكتراء، أو في اليوم اللاحق له، و من المعلوم عدم اختلاف قيمة البغل في هذه المدّة القليلة.

فلو لم يكن المدار في الضمان على قيمة يوم الغصب لم يكن وجه لتعرّض قيمة يوم الاكتراء الذي هو زمان حدوث اليد الأمانيّة.

(2) هذا متفرّع على عدم العبرة بقيمة يوم الاكتراء لو لم تكن متّحدة مع قيمة يوم المخالفة.

(3) هذا الضمير و ضمير «به» راجعان إلى: إثبات قيمة يوم الاكتراء.

(4) هذا البناء هو ظاهر الصحيحة، لقرب المسافة بين كوفة و قنطرتها.

(5) و هو قول أبي ولّاد: «فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل» فقوله: «توجّهت نحو النيل» ظاهر في أنّ مخالفة أبي ولّاد- بعدوله عن طريق قصر أبي هبيرة إلى طريق النيل- كانت من يوم الاكتراء، أو بعده بيوم واحد، لا أكثر.

(6) غرض المصنف: أنّ استظهار ضمان يوم الغصب- من تعبير الامام عليه السّلام بيوم الاكتراء- مبنيّ على أمرين مسلّمين:

أحدهما: أنّ المسافة بين كوفة و قصر أبي هبيرة قريبة، فلو أراد أبو ولّاد اكتراء بغل لهذه المسافة لم يستأجر بغلا قبل خروجه بأسبوع مثلا ممّا يمكن اختلاف قيمة البغل فيه، بل كان يستأجر البغل قبل ساعات أو قبل يوم.

ثانيهما: أنّ قيمة البغل لا تتفاوت عادة في ساعات قلائل.

و بناء على هذين الأمرين يتّجه دلالة الفقرة الثانية على ضمان يوم الغصب.

ص: 502

القليلة إنّما يكون يوم الخروج أو في عصر اليوم السابق. و معلوم أيضا عدم اختلاف القيمة في هذه المدة القليلة.

و أمّا قوله عليه السّلام (1) في جواب السؤال عن إصابة العيب: «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه» فالظرف (2) متعلّق به «عليك»

______________________________

(1) بعد أن استظهر المصنّف قدّس سرّه من الفقرة الثانية ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب تعرّض لما ينافي هذا الاستظهار. و المنافي فقرة أخرى في الصحيحة، و هي قوله عليه السّلام: «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه».

و توضيحه: أنّ أبا ولّاد سأل عن حكم تعيّب البغل و إصابة كسر أو عرج به، فأجاب عليه السّلام بقوله: «عليك قيمة ..» و ظاهره وجوب أداء أرش العيب الحادث بقيمة يوم ردّ البغل الى مالكه، بأن يقوّم البغل يوم ردّه صحيحا تارة و معيبا اخرى، فالتفاوت بين القيمتين مستقر في ذمّة أبي ولّاد. و من المعلوم أنّ هذا الظهور مناف لما أفاده المصنّف قدّس سرّه من استقرار قيمة يوم المخالفة على عهدة أبي ولّاد، إذ لا فرق في ضمان قيمة يوم الغصب بين كون المضمون قيمة نفس البغل لو تلف بيد المستأجر، و بين كونه أرش العيب، فلو كانت العبرة بقيمة وقت الغصب لزم تقويم الأرش بذاك اليوم. و لو كانت العبرة بقيمة يوم ردّ العين المغصوبة لزم تقويم العين- لو تلفت- بقيمة يوم الأداء، هذا.

(2) جواب قوله: «و أمّا» و دفع المنافي المتقدّم، و حاصل الدفع: أنّ التنافي المزبور مبنيّ على رجوع «يوم» إلى «قيمة ما بين الصّحّة و العيب» بأن يكون المعنى:

«عليك قيمة يوم الردّ» و أنّ العبرة في الأرش بتقويم البغل يوم ردّه إلى المكاري.

و لكن هذا الاستظهار ممنوع، لرجوع الظرف إلى «عليك» و تعلّقه به. يعني:

«عليك يوم تردّ البغل قيمة ما بين الصّحّة و العيب» و عليه لا يكون الأرش مقيّدا بتقويم البغل صحيحا و معيبا يوم ردّه، حتى يستفاد منه ضمان قيمة وقت الأداء. بل مفاده وجوب ردّ الأرش، بلاد دلالة على تعيين القيمة يوم الردّ أو يوم الغصب أو غيرهما.

ص: 503

لا قيد للقيمة (1)، إذ (2) لا عبرة في أرش العيب بيوم الرّد إجماعا، لأنّ (3) النقص الحادث تابع في تعيين يوم قيمته لأصل العين. فالمعنى: عليك أداء الأرش يوم ردّ البغلة [1].

______________________________

هذا كله بناء على النسخة التي عوّل عليها المصنف قدّس سرّه. و أمّا بناء على سقوط كلمة «يوم» من الرواية- كما ادّعاه صاحب الجواهر قدّس سرّه من أنّ نسخة التهذيب المصحّحة المحشّاة التي تحضره قد سقط منها لفظ اليوم، و أنّ المذكور فيها: قيمة ما بين الصّحّة و العيب تردّه عليه- فالأمر أوضح، و لا موضوع لتوهّم التنافي، إذ لا توقيت في القيمة حتى يحتمل تعلّق «اليوم» بالقيمة، بل المدلول وجوب أصل الأرش من دون تعيين مقداره بحسب الأزمنة، هذا.

(1) حتى تتقيّد القيمة بخصوص يوم ردّ البغلة.

(2) تعليل لعدم كون الظرف قيدا للقيمة. و المراد ب «يوم تردّه» يوم ردّ العين المغصوبة، لا ردّ الأرش.

(3) حاصل هذا التعليل: أنّ المناط في تعيين مقدار أرش العيب- الحادث في العين المغصوبة- ليس هو يوم ردّ العين، حتى يكون قرينة على جعل «يوم تردّه» متعلّقا بالقيمة، بل الأرش تابع الأصل العين، فإن قلنا بضمان قيمة يوم الغصب تعيّن تقويم الأرش بقيمة ذاك اليوم. و إن قلنا بضمان أعلى القيم كان الأرش تابعا له في التقويم، و هكذا و على هذا فلا خصوصيّة في أرش العيب توجب تقويمه بقيمة يوم ردّ العين حتى يكون الظرف قيدا للقيمة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ هذا الاشكال بعينه جار في جعل الظرف و هو «يوم» قيدا ل «عليك» حيث إنّ يوم ردّ العين ليس زمان حدوث وجوب القيمة في الذّمّة إجماعا، بل زمان ثبوت القيمة على العهدة يوم حدوث العيب، لا يوم ردّ العين.

ص: 504

و يحتمل (1) أن يكون قيدا للعيب، و المراد (2) العيب الموجود في يوم الرّدّ، لاحتمال (3) ازدياد العيب إلى يوم الردّ، فهو المضمون، دون العيب القليل الحادث أوّلا.

______________________________

(1) هذا الاحتمال في قبال ما استظهره بقوله: «فالظرف متعلّق بعليك» و سيأتي تضعيف الاحتمال. و الغرض من إبداء هذا الاحتمال تقوية ضمان الأرش بقيمة يوم الرّدّ، لا تبعية الأرش لأصل العين في القيمة المضمونة.

و توضيح الاحتمال: أنّ كلمة «يوم» قيد ل «العيب» فيكون المعنى على هذا:

«عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب الموجود في يوم ردّ العين، لا قيمة العيب السابق على الرّدّ». فلو كان أرش العيب وقت حدوثه دينارا، فاتّسع الجرح و ازداد العيب إلى يوم ردّ العين، فبلغ التفاوت بين البغل الصحيح و المعيب دينارين وجب على أبي ولّاد دفع دينارين حين ردّ البغل إلى المكاري.

و نتيجة هذا الاحتمال مخالفة قيمة الأرش لقيمة نفس البغل، فالعبرة في البغل بقيمة يوم المخالفة و الغصب، و العبرة في مقدار الأرش بقيمة العيب يوم ردّ العين.

و بناء على هذا الاحتمال يشكل ما أفاده المصنف قدّس سرّه من جعل «يوم» متعلّقا ب «عليك» وجه الإشكال: دلالة هذه الجملة على اعتبار قيمة معيّنة، و هي قيمة يوم ردّ البغل المعيب.

(2) يعني: إذا كان «يوم» متعلّقا ب «العيب» كان المراد من القيمة قيمة العيب في يوم ردّ العين، لا قيمة العيب في زمان حدوثه.

(3) تعليل لإرادة العيب الموجود حين الرّدّ.

______________________________

و قد نوقش في هذا الاستدلال بوجوه:

أحدها: دلالته على ضمان العين المستأجرة بدون شرط الضمان، و هو مخالف للقواعد.

و قد دفع بأنّ المراد بيوم الإكتراء يوم المخالفة فلا يلزم الاشكال المزبور.

ص: 505

______________________________

ثانيها: منافاة قوله عليه السّلام: «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه» لضمان قيمة يوم المخالفة، لمنافاة قيمة يوم الرّد ليوم الغصب. و لا فرق في ضمان القيمة من حيث الوقت بين قيمة العين إذا تلفت و بين قيمة صفاتها.

________________________________________

و قد دفع تارة بأنّ «يوم» متعلق ب «عليك» لا قيد للقيمة، فمعناه حينئذ: عليك يوم الرّدّ قيمة ما بين الصّحّة و العيب من دون تعرّضه لزمان القيمة، فلا ينافي ما استدلّ به على اعتبار قيمة يوم الغصب.

و اخرى: بأن اعتبار تعيين الأرش بقيمة يوم الدفع مخالف للإجماع.

و فيه: أنّ الإجماع غير محقّق، و لذا طلب السيّد و النائيني من المصنف قدّس سرّهم مدركه.

فالأولى أن يقال: إنّ تعيين الأرش بقيمة يوم الدفع مخالف للقواعد.

و ثالثة بأنّ قاعدة «الأقرب يمنع الأبعد» تقتضي رجوع القيد أعني به «اليوم» إلى العيب دون القيمة، فمعناه حينئذ وجوب ردّ قيمة العيب الموجود حين الرّد، دون ما ارتفع و لم يبق إلى زمان ردّ العين. و هذا ما تقتضيه قاعدة «على اليد» الموافقة لسيرة العقلاء.

و رابعة بابتناء المناقشة على اشتمال الصحيحة على كلمة «يوم». و قد أنكر في الجواهر ذلك، و قال: «إنّ الموجود فيما حضرني من نسخة التهذيب الصحيحة المحشاة (تردّه عليه) من دون لفظ اليوم. و معناه: وجوب ردّ الأرش لا غير، فلا توقيت فيه» لكن الصواب على هذا تأنيث ضمير «تردّه» لرجوعه إلى القيمة. إلّا أنّ الأمر سهل في التذكير و التأنيث.

ثالثها: أنّ قوله عليه السّلام: «إمّا أن يحلف هو» ظاهر في ثبوت جميع الحقوق من الحلف و الردّ و البيّنة للمالك، و هو مخالف لقاعدة «البيّنة على المدّعى و اليمين على المدّعى عليه». و المصنف قدّس سرّه جعل هذه الفقرة مؤيّدة لكون المدار على قيمة يوم التلف، و موهنة لكون المدار على قيمة يوم الغصب.

و محصّل كلامه: أنّه إذا اختلف الغاصب و المالك في قيمة العين المغصوبة و كانت العبرة بقيمة يوم المخالفة كان المالك مدّعيا، لدعواه زيادة القيمة المخالفة للأصل، و كان الغاصب منكرا، لإنكاره تلك الزيادة.

ص: 506

______________________________

و عليه فمقتضى القاعدة توجّه الحلف على الغاصب لا المالك. بل الواجب على المالك إقامة البيّنة على دعواه.

لكنّ الصحيحة تدلّ على كون كلّ من اليمين و إقامة البيّنة على المالك. و هذا خلاف المقرّر من كون البيّنة على المدّعي و اليمين على المنكر، فإن كان المالك مدّعيا فوظيفته إقامة البيّنة، لا اليمين. و إن كان منكرا فوظيفته الحلف. فتوجيه الوظيفتين إلى المالك خلاف موازين القضاء.

فعلى القول بكون العبرة بقيمة يوم الغصب تكون الصحيحة مخالفة للقواعد من جهتين:

الاولى: أنّ دعوى الزيادة من المالك مخالفة للأصل، فلا تتوجّه إليه اليمين.

الثانية: أنّ اليمين إذا توجّهت إلى المالك لم تسمع منه البيّنة، فكيف حكم الامام عليه السّلام بقبول كلا الأمرين من المالك؟

فلا بدّ حينئذ من حمل الصحيحة على أنّ العبرة بقيمة يوم التلف، لا يوم الغصب، إذ يصحّ على مبنى يوم التلف توجّه كلا الأمرين إلى المالك. و ذلك لأنّ الإمام عليه السّلام تعرّض في الفقرة المزبورة لصورتين من صور التنازع بين المالك و الغاصب.

الصورة الأولى: اتّفاق المالك و الغاصب على أنّ قيمة يوم الاكتراء كذا و كذا، و لكن اختلفا في تنزّله عن تلك القيمة يوم التلف، و عدم تنزله عن تلك القيمة، فإنّه حينئذ يجب الأخذ بقول المالك، لأنّ الغاصب يدّعي نقصان القيمة، و المالك ينكره، فيقدّم قول المالك مع يمينه، لكونه موافقا للأصل أي استصحاب قيمته السابقة.

مثلا إذا اتّفقا على أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء عشرون دينارا، لكن الغاصب يدّعي نقصانها إلى يوم التلف، و ادّعى المالك بقاءها على حالها. فلا شبهة في كون قول المالك موافقا للأصل، فيقدّم مع يمينه. بخلاف قول الغاصب، فإنّه مخالف للأصل، فوظيفته إقامة البيّنة.

ص: 507

______________________________

الصورة الثانية: أنّ يتّفق المالك و الغاصب على أنّ قيمة يوم التلف متّحدة إجمالا مع قيمة يوم المخالفة، لكنّهما اختلفا في تعيين تلك القيمة، بأن ادّعى المالك أنّ قيمته يوم المخالفة عشرون دينارا، و ادّعى الغاصب أنّها عشرة دنانير. و من المعلوم أنّ المالك حينئذ يدّعي زيادة القيمة، فيجب عليه إقامة البيّنة على ذلك. أمّا الغاصب فهو منكر لتلك الزيادة، فيتوجّه عليه اليمين.

و الحاصل: أنّه بناء على حمل الصحيحة على كون المدار في تعيين القيمة على قيمة يوم التلف أمكن تصوير التغاير بين إلزام المالك بالحلف، و بين إلزامه بإقامة البيّنة.

و أمّا بناء على كون المناط قيمة يوم الغصب، فتصوير التغاير بين الأمرين بعيد جدّا، لأنّه على هذا لا بد من حملها على صورة اتّفاق المالك و الغاصب على قيمة اليوم السابق على يوم المخالفة. أو على قيمة اليوم اللاحق ليوم المخالفة، ثم ادّعى الغاصب نقصان القيمة السابقة.

لكنّه خلاف الظاهر من الصحيحة، فلا يمكن الالتزام به، مع عدم القرينة عليه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المصنّف.

و يرد عليه: أنّ حمل الصحيحة على إرادة يوم التلف، ثم فرض توجّه الحلف في صورة، و توجّه البيّنة على المالك في صورة أخرى، خلاف الظاهر جدّا، لاستلزامه فرض صورتين مغايرتين. مع أنّ ظاهر العطف ب «أو» هو التخيير في صورة واحدة بين الحلف و إقامة البيّنة. فجعل جملة «إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك. أو يأتي صاحب البغل بشهود .. إلخ» مؤيّدة لإرادة يوم التلف- دون يوم المخالفة و الغصب- ممّا لا وجه له.

مضافا إلى: إمكان فرض هاتين الصورتين بناء على كون العبرة بقيمة يوم الغصب أيضا، بأن يكون المالك في إحداهما مدّعيا عليه البينة، و في أخراهما منكرا عليه اليمين.

كما إذا اتّفقا في قيمة يوم الاكتراء، و اختلفا في قيمة يوم الغصب، فإنّ المالك حينئذ

ص: 508

______________________________

لادّعائه الزيادة إلى يوم الغصب مدّع، و الغاصب منكر. و إن ادّعى الغاصب تنزّل القيمة، و أنكره المالك انعكس الأمر، و صار المالك منكرا، و الغاصب مدّعيا.

لكن هذا الفرض أيضا خلاف ظاهر العطف بكلمة «أو» من التخيير في صورة واحدة، لا في صورتين متغايرتين.

مضافا إلى: أنّه خلاف اتّحاد زماني الاكتراء و الغصب. و قد ظهر من الأبحاث المتقدّمة وحدة زمانهما.

فمقتضى الجمود على هذا الظاهر لزوم تخصيص عموم ما ورد من «أنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» بظاهر هذه الصحيحة من توجّه كلّ من الحلف و البيّنة على المالك في خصوص الدابة المغصوبة، أو في مطلق القيميّ المغصوب.

لكنّه في غاية البعد، إذ لم يعهد من أحد الالتزام بهذا التخصيص.

و لعلّه لأجل هذا البعد قال المحقق الايرواني: «إنّ قضيّة البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر قضيّة واردة في المخاصمات. و في مورد الرواية لم تفرض مخاصمة. بل الراوي سأل عن أنّه من يعرف قيمة البغل و هو تالف؟ فقال عليه السّلام: إمّا أنت أو هو، فيكون الحلف من كلّ منهما لأجل أن يذعن الطرف المقابل الجاهل بالقيمة، لا لأجل إلزام خصمه المنكر له» «1».

و هذا ما تقتضيه أصالة العموم فيما إذا شكّ في التخصيص، بعد العلم بعدم كون شي ء محكوما بحكم العام، و الشك في كون خروجه عنه بالتخصص أو التخصيص، فإنّه تجري أصالة العموم، و يثبت لازمها أعني به عدم فرديّته للعامّ حتى يكون خروجه بالتخصيص. فإنّه لم يثبت في مورد الرواية الترافع إلى الحاكم حتى يندرج الحلف فيه في اليمين المعتبرة في ميزان القضاء، بل اندراجه فيها مشكوك فيه، فلا مانع من جريان أصالة العموم في دليل «كون اليمين على المنكر و البيّنة على المدّعى» و إثبات كون ما نحن فيه خارجا عن موضوع دليل العموم تخصّصا، لاختصاص ذلك بباب الخصومات.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 102

ص: 509

______________________________

فلا يرد: أنّ حمل الرواية على كون العبرة بقيمة يوم الغصب يستلزم مخالفة القواعد من ناحيتين: إحداهما: أنّ دعوى المالك زيادة القيمة مخالفة للأصل، فلا تتوجّه إليه اليمين، بل وظيفته البيّنة.

ثانيتهما: أنّه إذا توجّهت اليمين إلى المالك لم تسمع منه البيّنة. مع أنّ الامام عليه السّلام حكم بقبول كلّ من البيّنة و اليمين من المالك، فلا بدّ من حمل الرواية على كون العبرة بقيمة يوم التلف.

ثم إنّ هذين الإشكالين إنّما يتوجّهان بناء على إرادة قيمة البغل من قوله: «فمن يعرف ذلك». و هو الذي أوقعهم في حيص و بيص من التخصيص أو التخصّص.

و أمّا بناء على إرادة قيمة ما بين الصّحيح و المعيب كما هو الظاهر، لأنّ الجملة المتضمّنة للسؤال عن تلف العين و ضمانها و الجواب عنها قد تمّت، و السائل بعد ذلك سأل عن ضمان عيب العين مع بقائها، فأجاب عليه السّلام عنه بضمان قيمة ما بين الصحيح و المعيب. فقوله عليه السّلام: «من يعرف ذلك» ظاهر في الرجوع إلى قيمة البغل صحيحا و معيبا، لا قيمة البغل من حيث هو كما كان ذلك مبنى كلماتهم.

و على هذا الاحتمال يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: «إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك» هو الحلف على قيمة البغل المعيب الموجود بين أيديهما. و من المعلوم أنّ في اختلاف قيمة المعيب يكون صاحب البغل منكرا، لأنّه يريد جلب النفع إلى نفسه، فينكر زيادة قيمة المعيب بخلاف الغاصب، فإنّه يريد دفع الضرر عن نفسه، فيدّعي زيادة قيمته.

مثلا إذا كان قيمة الصحيح أربعين درهما، و ادّعى الضامن أنّ قيمة المعيب ثلاثون درهما، و أنكره المالك، و قال: «بل قيمته عشرون درهما» فوظيفة المالك حينئذ اليمين، لأنّه منكر للزيادة التي يدّعيها الضامن، و هي العشرة، فيحلف أو يردّ الحلف إلى صاحبه.

و أمّا قوله عليه السّلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكترى كذا و كذا» فصريح في أنّ اختلافهما راجع إلى قيمة البغل حال الصّحّة لا حال العيب، و إن كان هذا الاختلاف لتشخيص ما به التفاوت بينهما. و من المعلوم أنّ القول في هذا

ص: 510

______________________________

الاختلاف قول الضامن، لأنّه ينكر الزيادة التي يدّعيها المالك. فإذا ادّعى المالك أنّ قيمة البغل صحيحا خمسون درهما، و أنكر الضامن، كان المالك مدّعيا و الضامن منكرا، فالرواية متعرّضة لصورتين من صور الدّعوى:

إحداهما: اختلاف قيمة المعيب بعد اتّفاقهما على قيمة الصحيح، كما إذا اتّفقا على أنّ قيمة الصحيح أربعون درهما، و اختلفا في أنّ قيمة المعيب ثلاثون أو عشرون و حينئذ يكون المالك منكرا لما يدّعيه الضامن من كون قيمته ثلاثين، و لذا يحلف أو يردّ الحلف إلى الضامن.

ثانيتهما: عكس الصورة الأولى، و هي صورة اتّفاقهما على قيمة المعيب كعشرين درهما، و الاختلاف في قيمة الصحيح كما إذا ادّعى المالك أنّها أربعون، و أنكر الضامن، و قال: بل ثلاثون، فحينئذ يكون المالك مدّعيا، و لذا طولب بإقامة البيّنة.

فالمتحصّل: أنّه لا يلزم تخصيص قاعدة «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه».

و يمكن حمل قوله عليه السّلام: «إمّا أن يحلف هو .. إلخ» على بيان طرق معرفة القيمة على حسب اختلاف حالات المالك و الغاصب، لا على بيان طرق حكم الحاكم بمقدار القيمة، كي يتعيّن حمل الكلام على بيان وظيفة الحاكم المنوطة بالبيّنة، ثم يمين المنكر، ثم اليمين المردودة.

فالغاصب إن كان جاهلا- مع علم المالك- فإخباره مع يمينه حجّة. و إن كان الغاصب عالما و المالك جاهلا فأخبار الغاصب مع يمينه حجّة و طريق إلى معرفة المالك بالقيمة. و إن كان كلاهما جاهلين بالقيمة فالبيّنة حجّة و طريق لهما. فلا تشمل الرواية صورة الترافع و التنازع إلى الحاكم حتى يلزم انخرام قاعدة: البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه.

كما أنّه قد تحصّل ممّا تقدّم: عدم دلالة الصحيحة- بفقرتيها- المزبورتين- على كون العبرة في ضمان القيميّات بقيمة يوم الغصب. فالعبرة إمّا بقيمة يوم التلف، و إمّا بأعلى القيم.

ص: 511

لكن (1) يحتمل أن يكون العيب قد تناقص إلى يوم الرّد، و العبرة حينئذ (2) بالعيب الموجود حال حدوثه، لأنّ المعيب لو ردّ إلى الصّحّة أو نقص (3) لم يسقط ضمان ما (4) حدث منه و ارتفع على (5) مقتضى الفتوى.

فهذا الاحتمال (6) من هذه الجهة (7) ضعيف أيضا (8)،

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه تضعيف احتمال كون «اليوم» قيدا للعيب، بتضعيف منشئه، و هو احتمال ازدياد العيب إلى يوم ردّ العين.

و محصّل التضعيف: أنّ احتمال ازدياد العيب- بعد حدوثه- معارض باحتمال نقصانه إلى يوم الرّدّ، كما إذا تصدّى الغاصب معالجة البغل و مداواته، فزال العيب أو نقص، فلو كانت العبرة في الأرش بالعيب الموجود حال ردّ البغل لزم عدم ضمان الغاصب شيئا بإزاء العيب، أو ضمانه قيمة أقلّ من قيمة العيب يوم حدوثه. مع أنّ المناط قيمة الأرش يوم حدوثه، على ما يظهر من فتاواهم من ضمان العيب، حتى إذا نقص أو زال بيد الضامن. و لأجل هذه الفتوى يشكل المصير إلى احتمال تعلّق «يوم» بالعيب، بل المتعيّن تعلّقه ب «عليك» هذا.

(2) أي: حين تناقص العيب و زواله تدريجا.

(3) المراد بنقصان المعيب نقص عيبه.

(4) المراد بالموصول هو العيب، أي: العيب الذي حدث في المغصوب، ثم ارتفع.

(5) متعلّق ب «لم يسقط» يعني: أنّ الدليل على استقرار أرش العيب حال حدوثه على عهدة ضامن العين هو فتوى الأصحاب.

(6) أي: احتمال كون «يوم» قيدا للعيب، و هو الذي تقدّم بقوله: «و يحتمل أن يكون قيدا للعيب .. إلخ».

(7) أي: من جهة فتوى الأصحاب بضمان العيب الحادث مطلقا حتى إذا زال أو نقص.

(8) أي: كضعف ما تقدّم بقوله: «و أمّا قوله عليه السّلام في جواب السؤال عن إصابة العيب».

ص: 512

فتعيّن (1) تعلّقه بقوله: «عليك» (2). و المراد: بقيمة ما بين الصّحّة و العيب: قيمة التفاوت بين الصّحّة و العيب، و لا تعرّض في الرواية ليوم هذه القيمة، فيحتمل يوم الغصب (3)، و يحتمل يوم حدوث العيب (4) الذي هو يوم تلف وصف الصّحّة، الذي هو بمنزلة جزء العين في باب الضمانات و المعاوضات.

و حيث (5) عرفت ظهور الفقرة السابقة عليه (6) و اللاحقة له في (7) اعتبار

______________________________

(1) هذه نتيجة بطلان كلّ من تعلّق «اليوم» ب «قيمة» و تعلّقه احتمالا ب «العيب».

(2) فمعناه حينئذ «عليك يوم ردّ العين قيمة ما بين الصّحّة و العيب» من دون تعرّض لزمان هذه القيمة، فيحتمل أن يكون زمان التقويم يوم الغصب، و يحتمل أن يكون يوم حدوث العيب، الذي هو يوم تلف وصف الصّحّة، و من المعلوم أنّ وصف الصّحّة جزء معنوي مقابل بجزء من الثمن، كالأجزاء الخارجيّة.

(3) لتبعية ضمان الأجزاء- التي منها وصف الصّحّة- لضمان يوم الغصب.

(4) يعني: إذا قلنا بضمان العين المضمونة التالفة بقيمة يوم التلف ترتّب عليه ضمان العيب بقيمة يوم حدوثه، لأنّه زمان تلف وصف الصّحّة الذي هو كالجزء الخارجيّ في الضمان

(5) يعني: أنّ جملة «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه» لمّا كانت مجملة، لدوران قيمة العيب بين قيمة يوم غصب العين و بين قيمة يوم حدوث العيب، و لم تكن منافية لاستظهار قيمة يوم الغصب، تعيّن رفع إجمالها بالرجوع إلى ما ورد في صدر الصحيحة و ذيلها ممّا يدلّ على ضمان قيمة يوم الغصب.

(6) أي: على قوله عليه السّلام: «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه» و المراد من الجملة السابقة قوله عليه الصلاة و السلام: «قيمة بغل يوم خالفته». و المراد بالجملة اللاحقة قوله عليه السّلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا و كذا» فإنّ ظاهر هاتين الجملتين اعتبار قيمة يوم الغصب.

(7) متعلّق ب «ظهور الفقرة.».

ص: 513

يوم الغصب تعيّن حمل هذا (1) أيضا (2) على ذلك (3).

[تضعيف دلالة الصحيحة على اعتبار قيمة وقت الضمان]

نعم (4) يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة

______________________________

(1) أي: جملة «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه» و الوجه في التعيّن هو لزوم حمل المجمل على المبيّن.

(2) أي: كما حملنا جملة «يوم الاكتراء» على يوم الغصب، لعدم العبرة في باب ضمان العين المستأجرة بيوم الاكتراء.

(3) أي: على يوم الغصب. و بهذا يظهر عدم وجود معارض للصحيحة لإرادة يوم الغصب من الصّدر و الذيل.

هذا تمام الكلام في ما استظهره المصنف قدّس سرّه من ضمان يوم الغصب. و سيأتي تعرّضه لاستظهار ضمان يوم التلف.

تضعيف دلالة الصحيحة على اعتبار قيمة وقت الضمان

(4) استدراك على ما استظهره المصنّف قدّس سرّه- من فقرتي الصحيحة- من ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب. و غرضه تضعيف هذا الظهور، و استفادة ضمان قيمة يوم التلف وفاقا لجماعة.

و حاصل الاستدراك: أنّ الموهن لما استظهرناه من الصحيحة من اعتبار قيمة يوم الغصب هو: أنّ الحكم بضمان يوم المخالفة مبنيّ على ما هو الغالب في مورد الرواية من عدم اختلاف قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوما، لا لأجل خصوصيّة فيه، فلا يبقى للرواية ظهور في دخل خصوصيّة ليوم المخالفة كما هو المدّعى.

لا يقال: على هذا فما الوجه في العدول عن التعبير ب «يوم التلف» إلى التعبير ب «يوم المخالفة» مع إخلاله بالمقصود، لاحتمال كون المدار عليه.

فإنّه يقال: وجهه دفع توهّم أمثال صاحب البغل من العوام، و هو كون العبرة بالقيمة التي اشترى بها البغل.

ص: 514

بأنّه (1) لا يبعد أن يكون مبنى الحكم (2) في الرّواية- على ما هو الغالب في مثل مورد الرّواية- من (3) عدم اختلاف قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوما.

و يكون السّر (4) في التعبير بيوم المخالفة دفع ما ربما يتوهّمه أمثال صاحب البغل من العوام أنّ (5) العبرة بقيمة ما اشترى به البغل و إن نقص بعد ذلك، لأنّه (6) خسّره المبلغ الذي اشترى به البغلة.

______________________________

(1) متعلّق ب «يوهن» و بيان لوجه توهين ما تقدم من استفادة ضمان يوم الغصب من الصحيحة.

(2) و هو ضمان قيمة يوم الغصب، المستفاد من قوله عليه الصلاة و السلام:

«قيمة بغل يوم خالفته» و من قوله عليه الصلاة و السلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا و كذا» لدلالة الجملتين على كون العبرة بقيمة يوم الغصب، كما تقدّم مفصّلا.

(3) بيان ل «ما هو الغالب».

(4) هذا دفع دخل مقدّر، تقدّم بيانهما بقولنا: «لا يقال .. فإنه يقال ..» فغرض المصنّف إسقاط خصوصيّة «يوم المخالفة» عن دخله في تقويم المضمون.

(5) الجملة في محلّ نصب على أنّها بيان للضمير المنصوب في قوله: «يتوهمه» أو أنّها مجرورة ب «من» البيانية المبيّنة للموصول في «ما ربما».

يعني: أنّ صاحب البغل و عوام الناس يتخيّلون و يتوهّمون ضمان التالف بثمنه الذي اشتروه حتى إذا نقص عنه بعده، لصيرورة البغل فارضا قد ضعف عن السّير عليه مسافة مديدة، فإنّهم لا يعتنون بهذا النقص و يطالبون بثمن الاشتراء. فأراد عليه الصلاة و السلام تنبيه المكاري على أنّه لا يستحقّ ثمن الاشتراء، و إنّما يستحقّ قيمته الفعليّة في يوم المخالفة و إن كان أقلّ بكثير من قيمة الشراء.

(6) تعليل لتوهّم المكاري استحقاق قيمة الاشتراء، يعني: لأنّ أبا ولّاد- الذي اكترى البغل- أورد خسارة على المكاري، قدرها الثمن الذي بذله المكاري لشراء البغل.

هذا أصل توهين استظهار قيمة يوم الغصب، ثمّ أيّده المصنّف بأمرين، كما يأتي

ص: 515

و يؤيّده التعبير (1) عن يوم المخالفة في ذيل الرّواية ب «يوم الاكتراء» (2) فإنّ فيه إشعارا بعدم عناية المتكلّم بيوم المخالفة من حيث إنّه يوم المخالفة (3).

إلّا أن يقال (4): إنّ الوجه في التعبير ب «يوم الاكتراء» مع كون المناط يوم المخالفة (5) هو التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء، لكون

______________________________

و إن ناقش في أوّلهما.

(1) هذا هو المؤيّد الأوّل لإسقاط يوم المخالفة عن الموضوعيّة، يعني: و يؤيّد كون الحكم- في الصحيحة- مبنيّا على الغالب التعبير عن يوم المخالفة ب «يوم الاكتراء» كما تقدّم في الفقرة الثانية. و لو كان الحكم مترتّبا على خصوص يوم المخالفة و الغصب لم يكن وجه للتعبير ب «يوم الاكتراء» حتى لو فرض اتّحاده مع يوم المخالفة. فالتعبير «بيوم الاكتراء» مشعر بعدم اعتناء الامام عليه الصلاة و السلام بقيمة البغل في يوم المخالفة، و أنّ تعبيره عليه السّلام «بيوم المخالفة» في الجملة السابقة يكون لأجل وحدة قيمة البغل في يومي المخالفة و الاكتراء. و عليه فلا سبيل لاستظهار ضمان قيمة البغل في يوم الغصب من الصحيحة.

(2) أي: فإنّ في التعبير ب «يوم الاكتراء» إشعارا بعدم موضوعيّة قيمة البغل يوم الغصب.

(3) بل من حيث كون القيمة في يوم المخالفة مساوية لها في يوم الاكتراء إلى يوم الرّد، و من هنا يصحّ التعبير عن قيمته بقيمة يوم الاكتراء و الردّ و المخالفة.

(4) غرضه الخدشة في التأييد و التحفّظ على كون «يوم المخالفة» ملحوظا على نحو الموضوعيّة، و حاصله: أنّه مع كون العبرة بقيمة يوم المخالفة يكون النكتة في التعبير عنه ب «يوم الاكتراء» هي التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء، لكون البغل في يوم الاكتراء بمحضر المكارين، فيسهل الاطّلاع على قيمته.

بخلاف وقت المخالفة، لعدم حضورهم عند قنطرة الكوفة حتى يتيسّر تقويم البغل بالمراجعة إليهم. و عليه فالعبرة بقيمة المضمون في زمان الغصب، هذا.

(5) كما استظهره المصنّف من قوله عليه الصّلاة و السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته».

ص: 516

البغل فيه غالبا (1) بمشهد من الناس و جماعة من المكارين (2). بخلاف زمان المخالفة من حيث (3) إنّه زمان المخالفة.

فتغيير التعبير ليس لعدم العبرة بزمان المخالفة، بل للتنبيه على سهولة معرفة القيمة بالبيّنة. كاليمين (4)- في مقابل قول السائل (5): «و من يعرف ذلك؟» فتأمّل (6).

______________________________

(1) أي: في يوم الاكتراء.

(2) الّذين هم خبراء بثمن البغال و الدّوابّ.

(3) لمّا كان يوم الاكتراء و المخالفة واحدا في مورد الصحيحة، و كانت العبرة بقيمة يوم المخالفة، لزم تقييد «اليوم» عند ترتب حكم على حيثيّة المخالفة. فغرضه قدّس سرّه من قوله: «من حيث إنّه زمان المخالفة» أنّ مناط معرفة قيمة البغل يوم الاكتراء لا زمان المخالفة، فالعبرة في الضمان بيوم الغصب، و طريق معرفة القيمة إخبار المكارين الّذين يسهل حضورهم في زمان الاكتراء، و يصعب في زمان المخالفة.

(4) يعني: كمعرفة القيمة باليمين في السهولة.

(5) يعني: في جواب سؤال أبي ولّاد، حيث قال عليه الصلاة و السلام: «أنت و هو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك، أو يأتي صاحب البغل بشهود ..».

(6) لعلّه إشارة إلى: أنّ الخدشة في المؤيّد- المتقدمة بقوله: «إلّا أن يقال»- لا يوجب ارتفاع التوهين في أصل المطلب.

أو إلى: أنّ الخدشة في المؤيّد ممنوعة. و أنّ التعبير ب «يوم الاكتراء» موهن لاستظهار ضمان قيمة يوم المخالفة. و ما ذكر من «سهولة معرفة القيمة بالبيّنة و صعوبتها في يوم المخالفة» غير وجيه، لأنّه- بعد اقتران المخالفة زمانا بالاكتراء- يسهل معرفة قيمة البغل في كلّ من زمان الاكتراء و المخالفة، فلو كانت العبرة بيوم المخالفة تعيّن التعبير به.

ص: 517

و يؤيّده (1)

______________________________

و عليه فالتعبير ب «يوم الاكتراء» كاشف عن عدم موضوعيّة يوم المخالفة، هذا.

(1) هذا مؤيّد ثان لكون الحكم في الرّواية- من ضمان قيمة يوم المخالفة- مبنيّا على الغالب، لا لموضوعيته له. و حاصل وجه التأييد: أنّ قوله عليه السّلام: «أنت و هو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك .. إلخ» يدلّ على عدم خصوصيّة في تقويم البغل بيوم المخالفة، إذ لو كانت العبرة بخصوص يوم المخالفة لم يكن وجه لكون قول المالك مقدّما على قول المستأجر، مع كون قوله مخالفا للأصل، لأنّه يدّعي زيادة القيمة بعد الاكتراء، و هذه الدعوى مخالفة لأصالة براءة ذمّة الضامن، أو مخالفة لاستصحاب عدم الزيادة.

و لم يكن أيضا وجه لقبول بيّنته، لأنّ من يقبل قوله فليس عليه البيّنة، بل البيّنة على صاحبه.

و بالجملة: فهذا كلّه مخالف لموازين القضاء، و موهن لظهور الصحيحة في كون العبرة بقيمة يوم الغصب.

و بتعبير آخر: أنّ الامام عليه الصّلاة و السّلام جعل طريق إثبات القيمة الزائدة التي يدّعيها المكاري- حتى تستقرّ على عهدة أبي ولّاد- أمرين، أحدهما:

الحلف، و الآخر: إقامة البيّنة. و جعل عليه السّلام طريق إثبات القيمة التي يدّعيها أبو ولّاد خصوص اليمين المردودة.

و عليه نقول: لو كانت العبرة بقيمة البغل يوم الغصب، أشكل تطبيق جواب الامام عليه الصّلاة و السّلام على موازين باب القضاء. أمّا أوّلا: فلأنّ مالك البغل مدّع لزيادة قيمته يوم الغصب على قيمته يوم الإكتراء بيمينه، و من المعلوم أنّ قوله مخالف لأصالة عدم الزيادة. و لا وجه لتقديم قوله بمجرّد يمينه، لأنّ المتّبع في باب القضاء توجيه الحلف أوّلا إلى المنكر، فإن حلف ثبت قوله، و إن ردّها إلى المالك فحلف ثبت قوله.

ص: 518

أيضا (1) قوله عليه السلام فيما بعد (2) في جواب قول السائل: «و من يعرف ذلك؟» قال: أنت و هو، امّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك. فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه. أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون على أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا و كذا، فيلزمك» الخبر، فإنّ (3) العبرة لو كانت بخصوص يوم

______________________________

مع أنّه عليه الصّلاة و السّلام قدّم قول المالك بحلفه على القيمة، فقال: «إمّا أن يحلف هو على القيمة ..».

و أمّا ثانيا: فلأنّ المقرّر في باب القضاء «البيّنة على المدّعي و اليمين على المنكر» فالوظيفة الأوّليّة لكلّ منهما تغاير وظيفة الآخر، فعلى المدّعي إقامة البيّنة لإثبات مقصوده، و على المنكر اليمين للتخلّص من دعوى المدّعي. و من المعلوم عدم صدق عنواني «المدّعي و المنكر» على شخص واحد حتى تثبت دعواه بكلّ من اليمين و البيّنة. مع أنّه عليه الصّلاة و السّلام جمع بين اليمين و البيّنة في حقّ المالك هذا.

و لا مخلص من هذين الإشكالين إلّا بجعل العبرة بقيمة يوم التلف، إذ يمكن توجيه كلّ من تقديم قول المالك، و توجيه اليمين و البينة معا إلى المالك كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء اللّه تعالى.

(1) يعني: كما تأيّد الحكم- بضمان قيمة يوم التلف- بالمؤيّد الأوّل.

(2) يعني: بعد الفقرة الأولى، و هي قوله عليه الصّلاة و السّلام: «نعم قيمة بغل يوم خالفته».

(3) هذا تعليل لقوله: «و يؤيّده أيضا» و بيان لوجه التأييد، و حاصله- كما عرفت تفصيله- أنّه لو كانت العبرة بضمان قيمة يوم الغصب لزم مخالفة موازين باب القضاء من جهتين. إحداهما: قبول قول المالك المدّعي لزيادة قيمة البغل، و المفروض مخالفة دعواه لأصالة عدم الزيادة.

ثانيتهما: الجمع بين قبول يمينه و قبول بيّنته، مع امتناع كون شخص واحد مدّعيا و منكرا.

ص: 519

المخالفة لم يكن وجه لكون القول قول المالك مع كونه مخالفا للأصل (1).

ثم لا وجه لقبول بيّنته (2)، لأنّ من كان القول قوله، فالبيّنة بيّنة صاحبه.

و حمل (3) الحلف هنا على الحلف المتعارف الذي يرضى به المحلوف له

______________________________

(1) أي: استصحاب عدم زيادة القيمة على قيمة ما قبل يوم المخالفة.

(2) أي: بيّنة المالك، و من المعلوم أنّ قبول بيّنته مخالف لما تقرّر من أنّ من يقبل قوله لا تقبل بيّنته، و إنّما تقبل من صاحبه.

(3) مبتدأ خبره «خلاف الظاهر» و الحامل هو صاحب الجواهر قدّس سرّه و قد بسط الكلام لتثبيته، و لئلّا يلزم طرح الصحيحة من جهة مخالفتها لموازين القضاء، قال قدّس سرّه:

«قلت: لكن قد يقال: يمكن حمله على إرادة بيان أنّ ذلك طريق لمعرفة القيمة مع التراضي بينهما في ذلك، لا أنّ المراد بيان تقديم قوله مع عدم التراضي. و إلّا لم يكن معنى لقوله عليه السّلام: أو يأتي بشهود، ضرورة عدم الحاجة إليهم في إثبات قوله، بناء على أنّ القول قوله .. إلى أن قال: فلا دلالة في الصحيح المزبور على فرض المسألة بما عند الأصحاب من كون المراد شغل ذمّة الغاصب بالزائد و عدمه. بل إن لم يحمل على ما ذكرنا من التراضي بينهما على اليمين لم يكن معنى لقوله عليه السّلام: تعرفها أنت و هو، ضرورة كون المعرفة للمالك حينئذ، بناء على أنّ القول قوله. و ليس المراد من قوله عليه السّلام- فإن ردّ اليمين عليك- اليمين المردودة المصطلحة، إذ تلك إنّما هي على نفي ما يدّعيه المنكر، لا على إثبات ما يدّعيه الغاصب. فلا محيص حينئذ عن حمل الصحيح المزبور على ما ذكرناه، و إلّا نافى قواعد القضاء، فتأمّل جيّدا، و اللّه العالم» «1».

و غرضه قدّس سرّه من هذا الحمل توجيه العمل بهذه الصحيحة بنحو لا ينافي ما تقرّر في باب القضاء من «أن البينة على المدّعي و اليمين على من أنكر» و ادّعى صاحب الجواهر عدم دلالة الصحيحة على كون مورد تقديم قول المالك و قبول بيّنته- معا- هو إنكار الغاصب زيادة قيمة المغصوب، بل مورده التداعي. و أقام

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 224 و 225

ص: 520

..........

______________________________

قرائن داخليّة على مدّعاه، و كان المناسب توضيحها تسهيلا للأمر على إخواننا المشتغلين أيّدهم اللّه تعالى. لكن لخوف الإطالة و الخروج عن حدود التوضيح نقتصر على شرح ما لخّصه المصنّف في المتن، فنقول و به نستعين:

إنّ المراد بالحلف في قوله عليه الصّلاة و السّلام: «إمّا أن يحلف هو ..» ليس الحلف الذي يكون ميزانا لفصل الخصومة حتى يلزم مخالفة قاعدة «اليمين على المنكر و البيّنة على المدّعي» بل المقصود بالحلف هنا هو اليمين المتعارفة عند عامّة الناس بداعي تصديق الطرف الآخر و إذعانه بالمحلوف عليه، كما يشاهد في مقام المعاملة، فيحلف البائع مثلا على أنّ المبيع كلّفه كذا دينارا، أو أنّه صرف عليه كذا مبلغا، فيصدّقه المشتري، و يرضى بالثمن، و لولا اليمين بالأسماء المقدّسة لم تقنع نفس المشتري بما يدّعيه البائع.

و كذا الحال في حلف الموجر على الأجرة التي يجعلها على داره أو دكّانه.

و من هذا القبيل اختلاف أبي ولّاد و المكاري في قيمة البغل، فلو ادّعى المكاري قيمة عليا و حلف عليها رضي أبو ولّاد بها، و احتمل عدم تصديقه إيّاه بدون الحلف.

و على هذا فلا ربط للحلف المذكور في الصحيحة بباب القضاء حتى تنخرم قاعدة «اليمين على من أنكر» إذ لا أثر في الصحيحة من الترافع إلى القاضي في خصوص معرفة قيمة البغل، هذا.

فإن قلت: لو كان المراد من الحلف هو المتداول في مقام المماكسة عند المعاملة لم يكن وجه لتعبير الامام عليه الصّلاة و السّلام: «فان ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه» لأنّ ظاهر «الرّدّ» هو كون الحلف حقّا للمالك ابتداء، و أنّ الحاكم الشرعيّ يأمر المالك بالحلف، فإن أبى منه وجّهه الحاكم إلى الغاصب، و من المعلوم أنّ «ردّ اليمين» من شؤون القضاء و فصل الخصومة عند الحاكم و الترافع إليه، فلا وجه لحمل «الحلف» على ما يتداول بين عامّة الناس في مقام المعاملة، هذا.

ص: 521

و يصدّقه (1) فيه من دون (2) محاكمة. و التعبير (3) بردّ [بردّه] اليمين على الغاصب من جهة أنّ المالك أعرف بقيمة بغله، فكان الحلف حقّا له ابتداء خلاف (4) الظاهر.

______________________________

قلت: التعبير ب «ردّ اليمين» لا ينافي إرادة الأيمان المتعارفة بين الناس، و ذلك لخصوصيّة في هذه القصّة، و هي أنّ تقديم قول المكاري- بضميمة حلفه على القيمة- ناش من كونه أعرف بقيمة بغلة من غيره، فلذا حكم الامام عليه الصّلاة و السّلام بتوجّه اليمين إليه أوّلا، فإن حلف ثبتت القيمة العليا في ذمّة أبي ولّاد، و إن ردّ اليمين عليه، فحلف على القيمة النازلة لزم على المكاري قبولها.

و الحاصل أنّه: لا مانع من حمل الحلف في الصحيحة على الحلف المتعارف بين الناس، و لا يراد به الحلف المعتبر في فصل الخصومة حتى يشكل استظهار قيمة يوم الغصب من الصحيحة.

(1) الضمير المستتر راجع إلى المحلوف له و هو أبو ولّاد، و الضمير البارز راجع إلى الحالف و هو المكاري. و ضمير «فيه» راجع إلى «المحلوف عليه» المستفاد من العبارة، و المراد به قول المكاري.

(2) متعلّق ب «يرضى» يعني: أنّ الطرف الآخر يرضى بما يحلفه الحالف، و لا حاجة إلى مراجعة المحكمة للحلف فيها.

(3) مبتدأ خبره قوله: «من جهة» و تقدّم توضيح الدخل و جوابه بقولنا:

«إن قلت .. قلت».

(4) خبر قوله: «و حمل» و ردّ له. و حاصل الرّدّ: أنّ شأن الإمام عليه الصّلاة و السّلام بيان الحكم الشرعيّ الكلّيّ، و القانون العامّ لحلّ المنازعة بين المكاري و أبي ولّاد، و ليس عليه السّلام بصدد إرجاعهما إلى ما تعارف بين الناس لحلّ المرافعة، إذ لا عبرة بها لو لم تنطبق على الموازين الشرعيّة. هذا ما أفاده المصنف قدّس سرّه و قد بيّن في التعليقة ما يتعلّق به، فراجع.

فتحصّل: أنّ المؤيّد الثاني لضمان قيمة يوم التلف- دون قيمة يوم المخالفة- سليم عن الخدشة المتقدّمة.

ص: 522

و هذا (1) بخلاف ما لو اعتبرنا يوم التلف،

______________________________

(1) هذا مرتبط بقوله: «فإنّ العبرة لو كانت بخصوص يوم المخالفة» و تتمّة للمؤيّد الثاني، و حاصله: أنّ مدلول الصحيحة إن كان ضمان قيمة يوم التلف لم يلزم خرق قواعد باب القضاء أصلا، لإمكان حمل حكمه عليه الصّلاة و السّلام «بتقدّم قول المكاري بيمينه» على صورة من صور نزاعهما في قيمة البغل، و حمل حكمه صلوات اللّه و سلامه عليه بقبول بيّنته على صورة أخرى.

توضيحه: أنّ اختلاف المكاري و أبي ولّاد في قيمة البغل يفرض تارة فيما إذا اتّفقا على قيمته يوم المخالفة بأن كانت خمسين درهما مثلا، و ادّعى أبو ولّاد نقصان ثمنه يوم التلف بأن صارت أربعين درهما، و أنكر المكاري هذا النقص، فيحمل قوله عليه الصّلاة و السّلام: «إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك» على هذه الصّورة، و هو مطابق لقاعدة «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» و حيث إنّه لا بيّنة لأبي ولّاد على دعوى نقصان القيمة يتجه قبول قول المكاري بيمينه، لموافقته لاستصحاب بقاء قيمة البغل على حالها.

و أخرى فيما إذا اتّفقا على عدم تغيير قيمته السوقيّة من زمان الغصب إلى زمان التلف، و إنّما اختلفا في قيمته السابقة، فالمكاري يدّعي أنّها خمسون درهما، و الغاصب ينكره و يقول إنّها أربعون درهما. و يحمل قوله عليه الصّلاة و السّلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود ..» على هذه الصّورة، لكون الغاصب منكرا للزيادة، و يطابق قوله للأصل، و المكاري مدّعيا للزيادة، و عليه إقامة البيّنة على أنّ قيمة البغل خمسون درهما، و ليس في هذا مخالفة لقانون القضاء «البيّنة على المدّعي» بل هو مصداق للقاعدة المسلّمة.

و ثالثة فيما إذا اتّفقا على قيمة البغل يوم الغصب و أنّها خمسون درهما مثلا، و ادّعى المالك ارتفاعها إلى ستّين درهما يوم التلف، و أنكر الغاصب هذا الارتفاع، و أنّ القيمة لم تزدد على الخمسين. و هذه الصّورة و إن لم تذكر في الصحيحة، لكن يعلم

ص: 523

فإنّه (1) يمكن أن يحمل توجّه اليمين على المالك على (2) ما إذا اختلفا في تنزّل القيمة يوم التلف، مع اتّفاقهما أو الاطّلاع (3) من الخارج على قيمته سابقا. و لا شكّ حينئذ (4) أنّ القول قول المالك.

و يكون سماع البيّنة (5) في صورة اختلافهما في قيمة البغل سابقا مع

______________________________

حكمها من حكم الصّورة الأولى، فيحلف الغاصب على نفي زيادة القيمة، و إن نكل و ردّ اليمين على المكاري و حلف على ارتفاع القيمة، استقرّ على عهدة الغاصب حينئذ.

فالنتيجة: أنّ الصحيحة إن دلّت على اعتبار قيمة يوم الغصب لزم إمّا مخالفة قواعد القضاء كما عرفته مفصّلا، و إمّا حمله على فرد نادر من موارد النزاع كما سيأتي توضيحه قريبا. و إمّا على التعبّد كما سيأتي أيضا. و إن دلّت على ضمان قيمة يوم التلف كان قبول قول المكاري بيمينه و قبول بيّنته مطابقا لموازين القضاء، بعد حمل مورد الحلف على صورة، و مورد البيّنة على صورة أخرى، هذا.

(1) هذا تقريب مطابقة الصحيحة لموازين باب القضاء بناء على أمرين:

أحدهما: كون العبرة بقيمة يوم التلف.

ثانيهما: التفكيك بين موردي تقدّم قول المالك بيمينه، و بين قبول يمينه، كما عرفت.

(2) متعلّق ب «أن يحمل».

(3) يعني: أنّ اتّفاقهما على القيمة السابقة إمّا لعلمهما بها، و إمّا لاستعلام القيمة من الخبراء و المقوّمين.

(4) أي: حين اتّفاقهما على قيمته سابقا. و الوجه في تقديم قول المالك حينئذ هو إنكاره لما يدّعيه الغاصب من نقصان قيمة المعيب.

(5) هذه صورة ثانية من صور نزاعهما في قيمة البغل. و في هذا الفرض تكون وظيفة المالك إقامة البيّنة، و لا مورد ليمينه و لا ليمين الغاصب، و قد عرفت توضيحه بقولنا: «و اخرى فيما إذا اتفقا على عدم تغيير قيمته السّوقيّة .. إلخ».

ص: 524

اتّفاقهما على بقائه عليها إلى يوم التلف، فيكون (1) الرّواية قد تكفّلت بحكم صورتين من صور تنازعهما. و يبقى بعض الصور، مثل: (2) دعوى المالك زيادة قيمة يوم التلف عن يوم المخالفة (3). و لعلّ حكمها- أعني حلف الغاصب- يعلم من حكم عكسها (4) المذكور في الرّواية.

و أمّا على تقدير كون العبرة في القيمة بيوم المخالفة فلا بدّ (5) من حمل

______________________________

(1) هذا متفرّع على ما تقدّم من حمل مورد قبول حلف المالك على الصّورة الاولى، و حمل مورد قبول بيّنته على الصّورة الثّانية.

(2) هذه هي الصّورة الثّالثة من صور النزاع، و قد تقدّم توضيحها أيضا.

(3) يعني: عن قيمة يوم المخالفة، المتّفق عليها بينهما.

(4) أي: الصّورة الاولى، و هي اختلافهما في تنزّل القيمة- يوم التلف- عن قيمتها السّابقة المتّفق عليها.

هذا كلّه في توجيه الصّحيحة بناء على كون العبرة بقيمة يوم التلف.

(5) غرضه من هذا الكلام إلى الشروع في استفادة ضمان أعلى القيم هو توجيه الصّحيحة بناء على دلالتها على ضمان قيمة يوم المخالفة، بذكر وجهين، و المناقشة فيهما.

توضيح الوجه الأوّل: أنّه يمكن تطبيق الصحيحة على قاعدة «الحلف وظيفة المدّعى عليه، و البيّنة وظيفة المدّعي» بحمل قوله عليه الصّلاة و السّلام: «إما أن يحلف هو فيلزمك» على صورة من صور النزاع، و هي ما إذا اتّفقا على قيمة البغل في اليوم السابق على يوم المخالفة، بأن كانت خمسين درهما، ثم اختلفا في قيمته يوم المخالفة، بأن ادّعى الغاصب نقصانها يوم المخالفة إلى أربعين درهما، و ادّعى المالك بقاءها على الخمسين درهما، إذ يكون المالك حينئذ منكرا، لموافقة قوله لأصالة عدم النقصان، فيتّجه قبول قوله مع يمينه.

و كذا الحال لو اتّفقا على قيمة البغل في اليوم اللاحق ليوم المخالفة، و هي خمسون درهما، و لكن الغاصب يدّعي كونها في يوم المخالفة أربعين، فيتّجه قبول يمينه، لموافقة قوله للاستصحاب القهقرائيّ الدالّ على كون قيمته يوم المخالفة خمسين درهما.

ص: 525

الرّواية على ما إذا اتّفقا على قيمة اليوم السّابق على يوم المخالفة، أو اللاحق له (1)، و ادّعى الغاصب نقصانه عن تلك (2) يوم المخالفة. و لا يخفى بعده (3).

و أبعد منه (4) حمل النّصّ على التّعبّد، و جعل حكم خصوص الدابّة

______________________________

و الحاصل: أنّه بناء على حمل الصحيحة على هذه الصورة من صورة النزاع لا يلزم مخالفة قاعدة القضاء. لكن ردّه المصنّف قدّس سرّه بالبعد، و سيأتي توضيحه كما سيأتي توضيح الوجه الثاني إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: ليوم المخالفة.

(2) أي: عن تلك القيمة المتّفق عليها، و الظرف منصوب ل «نقصانه» أي: وقع النقصان في يوم المخالفة.

(3) لعلّ وجهه عدم ابتلاء الغاصب بالبغل قبل المخالفة ليتمشّى منه موافقة المكاري على قيمته قبل الاكتراء، فيلزم حينئذ حمل الصحيحة على فرد نادر، لأنّهما لو اتّفقا على قيمة البغل قبل المخالفة بيوم- أو بعدها كذلك- كانت دعوى الغاصب نقصان القيمة في يوم المخالفة بعيدة جدّا، إذ ليست البغال كسائر أموال التّجارة التي تتغيّر أسعارها و أثمانها تغييرا فاحشا في يوم أو يومين.

و حيث كان هذا الحمل بعيدا كان الأولى حملها، على الصّورتين المتقدّمتين المبتنيتين على ضمان يوم التلف.

(4) أي: من حمل الرّواية على ما إذا اتّفقا .. و هذا التّوجيه الثاني يستفاد من فتوى شيخ الطائفة قدّس سرّه في موضعين من النهاية، و لا بأس بنقل كلامه فيهما تسهيلا للأمر على إخواننا أعزّهم اللّه تعالى.

فنقول: قال- في باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز- ما لفظه:

«و من غصب غيره متاعا، و باعه من غيره، ثمّ وجده صاحب المتاع عند المشتري كان له انتزاعه من يده. فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه إيّاه .. فإن اختلف في قيمة المتاع كان القول قول صاحبه مع يمينه باللّه تعالى» «1».

______________________________

(1) النهاية، ص 402

ص: 526

أو مطلقا مخالفا للقاعدة المتّفق عليها نصّا و فتوى من «كون البيّنة على المدّعي

______________________________

و وجّهه المحقّق بقوله: «إنّما كان القول قول المالك، لأنّ الثابت في الذّمّة هو الشي ء المغصوب، فإذا ادّعى الغاصب أنّ القدر المدفوع هو قيمته، و أنكر المالك، كان القول قوله، لأنّ الغاصب يدّعي خلاص ذمّته ممّا هو ثابت فيها بالقدر المدفوع، و أنّ القدر هو قيمة ما في الذّمّة. و على هذا التخريج لا تكون هذه الصورة خارجة عن الأصل» «1».

هذا كلّه فيما اختاره شيخ الطائفة في بيع المغصوب في كتاب المتاجر.

و قال في باب الإجارة- في من اكترى دابّة على أن يركبها إلى موضع مخصوص، فتجاوزه- ما لفظه: «و متى هلكت الدابّة- و الحال ما وصفناه- كان ضامنا لها، و لزمه قيمتها يوم تعدّى فيها. فان اختلفا في الثمن كان على صاحبها البيّنة، فإن لم تكن له بيّنة كان القول قوله مع يمينه. فإن لم يحلف و ردّ اليمين على المستأجر منه لزمه اليمين، أو يصطلحان على شي ء. و الحكم فيما سوى الدّابّة فيما يقع الخلف فيه بين المستأجر و المستأجر منه، كانت البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه» «2».

و هذا الكلام صريح في اختصاص الدّابّة المغصوبة بحكم، و هو الجمع بين مطالبة البيّنة من المالك، ثم قبول قوله مع اليمين. و الوجه فيه- كما صرّح به المحقّق في نكت النهاية «3»- العمل بصحيحة أبي ولّاد. فتكون مخصّصة لقاعدة «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه» و أمّا غير الدّابّة مما يقع الخلاف في ثمنه فمشمول لعموم القاعدة.

و قد ظهر بما نقلناه من كلمات الشيخ و المحقّق قدّس سرّهما اختلاف كلامي الشيخ في بابي البيع و الإجارة، ففي بيع المغصوب حكم بتقديم قول المالك مطلقا، سواء أ كان المغصوب دابّة أم غيرها. و في باب الإجارة خصّ الحكم بالدّابّة المغصوبة

______________________________

(1) النهاية و نكتها، ج 2، ص 179

(2) النهاية، ص 446

(3) النهاية و نكتها، ج 2، ص 280 و 281

ص: 527

و اليمين على من أنكر» كما حكي عن الشيخ في بابي الإجارة و الغصب (1).

______________________________

عملا بصحيحة أبي ولّاد. و لأجل هذا الاختلاف عبّر المصنّف ب «أو» فقال:

«خصوص الدّابّة أو مطلقا».

إذا اتّضح ما ذكرناه- من صحّة نسبة هذا الحمل إلى شيخ الطائفة قدّس سرّه- قلنا في توضيحه: إنّ الأصل المقرّر في باب القضاء من «أنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه» حكم شرعيّ كلّيّ كسائر القواعد الشرعيّة العامّة القابلة للتخصيص كقاعدة التجاوز و الفراغ و لا ضرر و لا تعاد و نحوها. و ليست أحكاما كلّيّة آبية عن التخصيص.

و حيث كانت صحيحة أبي ولّاد جامعة لشرائط الحجّيّة تعيّن تخصيص القاعدة المقرّرة في باب القضاء بها، و يقال: إنّ النزاع في ثمن الدّابّة المغصوبة مختصّ بحكم تعبّديّ، و هو تقديم بيّنة المالك و قبول يمينه، و لا يندرج في عموم «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه» هذا.

و قد ناقش المصنف قدّس سرّه في هذا الحمل بأنّه أبعد من الحمل السابق. و لعلّ وجه الأبعديّة عدم ذهاب أحد إلى التعبّد و تخصيص قاعدة «البيّنة على المدّعي ..» مع كون تخصيص العامّ جمعا عرفيّا واضحا. و يكفي لإثبات عدم عرفيّة هذا التخصيص إعراض جماعة ممّن نقل فتوى الشيخ عنه، و اعتراضهم عليه كابن إدريس و المحقّق و العلّامة و غيرهم «1» قدّس اللّه أسرارهم.

(1) المراد من الغصب هو بيع المغصوب، لا باب الغصب.

هذا تمام الكلام في ترجيح استظهار ضمان المغصوب بقيمة يوم التلف من صحيحة أبي ولّاد، و عدم وفائها بإثبات ضمان يوم الغصب. و سيأتي الكلام في استظهار ضمان أعلى القيم من الصحيحة.

______________________________

(1) راجع: السرائر، ج 2، ص 465؛ شرائع الإسلام، ج 2، ص 187، المسألة الثانية؛ مختلف الشيعة، ج 6، ص 150؛ مسالك الأفهام، ج 5، ص 221.

ص: 528

[ج: القول الثالث: ضمان أعلى القيم]

و أضعف من ذلك (1) الاستشهاد بالرواية على اعتبار أعلى القيم من حين

______________________________

ج: القول الثالث: ضمان أعلى القيم

(1) المشار إليه هو الاستشهاد بالصحيحة على كون العبرة بقيمة يوم الغصب.

و قد نبّه على ضعفه بقوله: «نعم يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة بأنّه لا يبعد .. إلخ».

و استدلّ على ضمان أعلى القيم من يوم الغصب إلى التلف بوجوه:

أوّلها: صحيحة أبي ولّاد، على ما صرّح به الشهيد الثاني قدّس سرّه و إن لم يذكر تقريب دلالة الصحيحة على ذلك. قال في المسالك في عدّ الأقوال المذكورة في ضمان القيميّ: «و ثانيها: ضمان القيمة يوم التلف .. و هذا القول قويّ. إلّا أنّ في صحيحة أبي ولّاد- فيمن اكترى البغل و تجاوز به محلّ الشرط- ما يدلّ على وجوب أعلى القيم بين الوقتين. و لولاها لما كان عن هذا القول عدول» «1».

و قوّى هذا القول في شرح اللمعة «لمكان هذا الخبر الصحيح».

و لكنّه قدّس سرّه استدلّ بالصحيحة- قبل سطر- على ضمان قيمة يوم الغصب، حيث قال: «و في صحيح أبي ولّاد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في اكتراء البغل و مخالفة الشرط ما يدلّ على هذا القول» «2».

و كيف كان فيمكن أن يكون نظره- في دلالة الصحيحة على قيمة زمان الغصب- إلى الظهور البدويّ في جملة «نعم قيمة بغل يوم خالفته» كما في مفتاح الكرامة «3».

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 186؛ الروضة البهية، ج 7، ص 43 و 44؛ و حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ج 6، ص 244.

(2) الروضة البهية، ج 7، ص 42.

(3) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 244.

ص: 529

..........

______________________________

و قد تقدّم بيان المصنّف قدّس سرّه في كيفيّة الدّلالة.

و أمّا دلالة الصحيحة على ضمان أعلى القيم من زمان الغصب إلى التلف فلم يبيّنها الشهيد الثاني قدّس سرّه و يمكن توجيهما بوجهين.

أحدهما: استفادة الحكم من جملة «نعم قيمة بغل يوم خالفته» بإلغاء المعنى الحدثي، و إرادة المعنى الاسمي على ما سيأتي توضيحه في التعليقة. و لعلّ هذا الوجه ظاهر الجواهر، حيث قال قدّس سرّه: «اللهم إلّا أن يقال: إنّه بناء على تعلّق الظرف بالفعل المستفاد من قوله: نعم، يكون المراد أنّ ابتداء الضمان من ذلك اليوم إلى يوم التلف، فيضمن الأعلى منه حينئذ. بل إن جعل متعلقا بالقيمة يكون المراد منه ذلك أيضا، لعدم معقولية ضمان القيمة مع وجود العين، فيكون الحاصل: أنه تلزمه القيمة مع العطب من يوم المخالفة» «1».

ثانيهما: استفادة الحكم من مجموع الجملتين، و هما: قوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» و قوله عليه السّلام: «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه». بتقريب: أنّ القيمة المضمونة ليست خصوص قيمة يوم الغصب، بل المستقرّ على ذمّة أبي ولّاد- عند تعيّب البغل- هو إحدى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف، أو إلى ردّه معيبا إلى المكاري. و من المعلوم اقتضاء إطلاق القيمة بين هذين الوقتين ضمان الجامع بين القيم، و أداء هذا الجامع منوط بدفع الأعلى.

فلو كان ثمن البغل يوم المخالفة خمسين درهما مثلا، ثم ارتفع إلى ستّين، و تنزّل إلى أربعين، و كان في يوم تلفه أو يوم ردّه معيبا خمسا و أربعين كان على عهدة الضامن ستّون درهما، لإطلاق قوله عليه السّلام «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب» لاستقرار القيمة العليا بمجرّد ارتفاع القيمة في الفترة بين الغصب و الرّد، أو بين الغصب و التلف. و لا تفرغ الذّمّة بأداء القيمة النازلة، لعدم كونها جامعة بين القيم المختلفة في المدة التي كانت العين تحت يد الغاصب.

______________________________

(1) جواهر الكلام؛ ج 37، ص 104.

ص: 530

الغصب إلى التلف كما حكي عن الشهيد الثاني، إذ (1) لم يعلم لذلك وجه صحيح، و لم أظفر بمن وجّه دلالتها على هذا المطلب (2).

نعم استدلّوا على هذا القول (3) بأنّ العين مضمونة في جميع تلك الأزمنة التي منها زمان ارتفاع قيمته.

و فيه (4) أنّ ضمانها

______________________________

(1) تعليل لقوله: «و أضعف» و التعبير به إنّما هو لعدم الظفر بوجه دلالة الصحيحة على ضمان أعلى القيم، و هذا بخلاف دلالتها على ضمان يوم الغصب، فإنّها ليست ببعيدة، و لذا استظهره جماعة كالفاضل النراقي و غيره، و كذا المصنّف في بادئ الأمر، و إن عدل عنه إلى ترجيح اعتبار قيمة يوم التلف.

(2) قد وجّهه صاحب الجواهر قدّس سرّه كما أشرنا إليه آنفا، لكنه ضعّفه لكونه ضمانا تقديريا لا تحقيقيّا، فراجع.

(3) كذا في مفتاح الكرامة و الجواهر «1» أيضا، و المستدلّ بهذا الوجه جماعة، منهم الفاضل المقداد و ابن فهد الحلّي قدّس سرّهم. و كذا الشهيد الثاني «2»، إلّا أنّه ناقش فيه و اعتمد على صحيحة أبي ولّاد، فراجع المسالك.

و كيف كان فحاصل هذا الوجه الثاني القول بضمان أعلى القيم بين الغصب و التلف هو: أنّ العين مضمونة في جميع أزمنة الغصب و المخالفة، و من تلك الأزمنة زمان ارتفاع قيمتها، و لا تفرغ الذّمّة بدفع قيمة يوم الغصب أو يوم التلف لو كانت أقلّ القيم في هذه المدّة، لفرض اشتغال الذّمّة بالقيمة العليا.

(4) هذا ردّ الوجه المزبور لإثبات ضمان أعلى القيم بين الغصب و التلف، و هو مذكور- مختصرا- في كلام الشهيد الثاني و السيّد العامليّ و صاحب الجواهر «3» قدّس سرّهم،

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 244؛ جواهر الكلام، ج 37، ص 104

(2) لاحظ: التنقيح الرائع، ج 4، ص 70، المهذّب البارع، ج 4، ص 252، مسالك الأفهام، ج 12، ص 187.

(3) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 244، جواهر الكلام، ج 37، ص 104، مسالك الأفهام، ج 12، ص 187.

ص: 531

في تلك الحال (1) إن أريد به وجوب قيمة ذلك الزمان لو تلف فيه فمسلّم، إذ تداركه لا يكون إلّا بذلك، لكن المفروض أنّها (2) لم تتلف فيه.

و إن أريد به استقرار قيمة ذلك الزمان (3) عليه فعلا (4) و إن تنزّلت بعد ذلك، فهو (5) مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان ارتفاع القيمة مع ردّ العين.

______________________________

و حاصله: أنّه إن أريد بضمان العين في أزمنة الغصب وجوب قيمة ذلك الزمان على تقدير تلفها فيه، فهو مسلّم، إذ تداركها حينئذ منحصر بذلك. لكنّه خلاف المفروض، لأنّها لم تتلف، و هذا الضمان التقديريّ لم يصر فعليّا.

و إن أريد به أنّ قيمة ذلك الزمان قد استقرّت عليه و ثبتت على عهدته فعلا- و إن لم تتلف العين و تنزّلت قيمته بعد ذلك- فهو مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان ارتفاع القيمة مع ردّ العين.

و إن أريد به استقرار القيمة على الغاصب بمجرّد الارتفاع مراعى بالتلف،- يعني: إن تلفت العين كان ارتفاع القيمة مضمونا، و إن لم تتلف و ردّها على صاحبها لم يضمن تلك القيمة العليا- قلنا: إنّ هذا الاحتمال و إن لم يخالف اتّفاقهم على عدم ضمان ارتفاع القيمة لو ردّ العين، إلّا أنّ الموهن للالتزام به هو مخالفته لأصالة براءة الذّمّة عن القيمة المرتفعة، و المفروض عدم وجود حجّة على اشتغال الذّمّة بتلك القيمة العليا.

و بهذا ظهرت الخدشة في استدلال الجماعة على ضمان أعلى القيم.

(1) أي: في حال ارتفاع القيمة.

(2) أي: أنّ العين لم تتلف في زمان ارتفاع قيمتها حتى تضمن بتلك القيمة المرتفعة، و عليه فضمان هذه القيمة تقديريّ، يعني: لو تلفت العين في ذلك الزمان لكانت مضمونة بتلك القيمة العليا.

(3) أي: الزمان الذي ارتفعت فيها قيمة العين المضمونة.

(4) هذا و «عليه» متعلّقان ب «استقرار» أي: استقرار القيمة العليا على الضامن لمجرّد ارتفاع القيمة في بعض الأزمنة و إن تنزّلت بعده.

(5) جواب قوله: «و إن أريد به».

ص: 532

و إن أريد استقرارها (1) عليه بمجرّد الارتفاع مراعى بالتلف، فهو (2) و إن لم يخالف الاتّفاق، إلّا أنّه (3) مخالف لأصالة البراءة من غير دليل شاغل (4) عدا ما حكاه في الرياض «1» عن خاله العلّامة قدّس اللّه تعالى روحهما من قاعدة نفي الضرر الحاصل (5) على المالك.

و فيه (6) نظر، كما اعترف به بعض من تأخّر.

______________________________

(1) أي: استقرار القيمة المرتفعة على الضامن لمجرّد الارتفاع، لكنّها منوطة بالشرط المتأخّر، و هو التلف في زمان تنزّل القيمة.

(2) أي: فاستقرار القيمة العليا و إن لم يخالف الاتّفاق- إذ معقد الاتّفاق على عدم ضمان ارتفاع القيمة إنّما هو مع ردّ العين، و أمّا مع التلف فلا اتفاق على عدم ضمانه- إلّا أنّ وجوب أعلى القيم مخالف لأصالة البراءة.

إلّا أن يقال- كما عن الوحيد البهبهاني قدّس سرّه- بجريان قاعدة نفي الضرر عن المالك، الحاكمة على أصل البراءة.

(3) أي: أنّ استقرار ارتفاع القيمة مخالف لأصالة البراءة المقتضية لعدم اشتغال الذّمّة بالقيمة العليا.

(4) أي: شاغل لذمّة الضّامن.

(5) صفة للضرر، و وجه تضرّر المالك هو عدم تمكّنه من العين في زمان ارتفاع قيمتها، و من المعلوم أنّ الضرر منفيّ في الشريعة.

(6) أي: و في كون نفي الضرر شاغلا للذّمّة بأعلى القيم نظر، كما اعترف صاحب الجواهر بهذا النظر، حيث قال- في ذيل بيان وجه تردّد المحقّق قدّس سرّه في اعتبار زيادة القيمة و نقصانها بعد التلف- ما لفظه: «و لعلّه لذا قيل: إنّ وجه القول قاعدة الضرر، و ذلك لأنّ عدم تمكينه منها حين ارتفاع القيمة ضرر عليه، و تفويت لتلك المنفعة العليا، و من هنا كان خيرة العلّامة الأكبر الآغا محمد باقر البهبهاني قدّس سرّه فيما

______________________________

(1) رياض المسائل، ج 2، ص 304

ص: 533

نعم (1) يمكن توجيه الاستدلال المتقدم من كون العين مضمونة في جميع

______________________________

حكي عنه. إلّا أنّك قد عرفت فيما تقدّم اقتضاء القاعدة المزبورة ضمان الأعلى مع فواته و إن ردّ العين نفسها، و هو مخالف للإجماع بقسميه، بل قد عرفت عدم الضّمان فيما لو منعه من بيع ماله بقيمة عالية» «1».

و حاصله: أنّ الضامن مكلّف بأداء العين ما دامت موجودة مهما كانت قيمتها، و لم تشتغل ذمّته بالبدل حتى تقتضي قاعدة نفي الضرر الاشتغال بأعلى القيم.

هذا تمام الكلام في الوجه الثاني مما استدلّ به على ضمان أعلى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف، و سيأتي تقريبه بوجه آخر يمكن جعله وجها ثالثا للحكم.

(1) هذا استدراك على مناقشته في الوجه الثاني بقوله: «و فيه أنّ ضمانها في تلك الحال ..» و غرضه تقريب الوجه المزبور ببيان آخر يسلم عن المناقشة، و حاصله:

وحدة مناط الضّمان في الحيلولة و التلف، توضيحه: أنّ العين المضمونة لو تلفت حين ارتفاع قيمتها تضمن قيمتها العليا، لكون زمان التلف وقت اشتغال الذّمّة بالبدل بعد ما كانت مشغولة بالعين.

و الوجه في الضّمان حرمان المالك عن العين و عدم تمكّنه من الانتفاع بماله.

و هذا المناط موجود في صورة بقاء العين في يد الضامن حين ارتفاع قيمتها، فإنّها و إن لم تتلف، لكنّ حيلولة الضامن بين المالك و ملكه، و منعه عن التّصرّف فيه موجبة لضمان القيمة المرتفعة و إن كان تلفها في زمان تنزّل قيمتها.

نعم لا يقتضي هذا الوجه ضمان أعلى القيم لو ردّ الضامن العين إلى المالك في زمان تنزّل القيمة، و ذلك لأنّ ردّ العين يوجب تدارك تلك القيمة العليا، و لو لا هذا التدارك لزم ردّ التفاوت- بين القيمة الفعليّة و أعلى القيم- عند ردّ العين. هذا محصّل التوجيه، و سيأتي في المتن مزيد توضيح له.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 105.

ص: 534

الأزمنة- بأنّ (1) العين إذا ارتفعت قيمتها في زمان و صار ماليّتها مقوّمة بتلك القيمة (2)، فكما أنّه إذا تلفت حينئذ (3) يجب تداركها بتلك القيمة، فكذا إذا حيل بينها (4) و بين المالك حتى تلفت، إذ (5) لا فرق- مع عدم التمكّن منها- بين أن تتلف أو تبقى.

نعم (6) لو ردّت تدارك تلك الماليّة بنفس العين. و ارتفاع (7) القيمة السوقيّة أمر اعتباريّ لا يضمن بنفسه، لعدم كونه مالا، و إنّما هو مقوّم لماليّة المال، و به تمايز الأموال كثرة و قلّة.

______________________________

(1) متعلّق ب «توجيه» و بيان له.

(2) أي: القيمة المرتفعة.

(3) أي: حين صيرورة ماليّة العين مقوّمة بتلك القيمة العليا.

(4) أي: بين العين و بين المالك.

(5) تعليل لوجوب تدارك العين بالقيمة العليا.

(6) استدراك على ضمان القيمة العليا، يعني: أنّ مناط ضمان أعلى القيم و إن كان موجودا في صورة بقاء العين عند الغاصب، إلّا أنّ ردّ العين- في زمان تنزّل القيمة- جابر لتلك القيمة العليا.

(7) هذا دفع دخل، حاصله: أنّ القيمة المرتفعة لو كانت مضمونة لم يختلف الحال بين بقاء العين- و ردّها بعد ذلك- و بين تلفها، فكيف حكم الماتن بتدارك القيمة العليا بردّ العين و عدم ضمانها؟

و حاصل الدّفع: أنّ ارتفاع القيمة السوقيّة أمر اعتباريّ غير مضمون، و إنّما المضمون هو العين المتموّلة التي استولى عليها الضامن. و هذا الأمر الاعتباريّ ليس بمال حقيقة، بل يكون مقوّما لماليّة العين، و لهذا حكموا بفراغ ذمّة الضامن بردّ نفس العين ما لم تسقط عن الماليّة، كما تقدّم في التنبيه السادس في مثال الماء على الشاطئ

ص: 535

و الحاصل (1): أنّ للعين في كلّ زمان من أزمنة تفاوت قيمته مرتبة من الماليّة أزيلت يد المالك منها، و انقطعت سلطنته عنها، فإن ردّت العين فلا مال سواها يضمن (2). و إن تلفت استقرّت عليها تلك المراتب، لدخول الأدنى تحت الأعلى (3). نظير ما لو فرض للعين منافع متفاوتة متضادّة، حيث إنّه يضمن الأعلى منها (4).

______________________________

و الثلج في الشتاء.

ففي المقام يفصّل بين تلف العين و بقائها، فإن تلفت في زمان ارتفاع قيمتها ضمن قيمتها حين التلف. و إن بقيت و نقص قيمتها و ردّها إلى المالك لم يضمن ارتفاع قيمتها، و إن كان مناط الضمان- و هو حرمان المالك عن ماله في زمان أعلى القيم- موجودا في حالتي البقاء و التلف.

(1) يعني: و حاصل توجيه الاستدلال على ضمان أعلى القيم هو: أنّ للعين .. إلخ.

(2) لما تقدّم من أنّ ارتفاع القيمة و رغبة العقلاء و إن كان مقوّما لماليّة المال، إلّا أنّ المضمون هو المال، لا الماليّة، فلا يضمن أعلى القيم لو ردّ العين إلى مالكها.

(3) فلا يلزم الجمع بين القيمة العليا و المتوسطة و النازلة، بل يكفي دفع القيمة الجامعة بين تمام القيم، و هي أعلى القيم خاصّة.

(4) و لا يضمن جميع تلك المنافع الفائتة، قال في الجواهر: «إنّما الكلام فيما لو تعدّدت منافعه كالعبد الخيّاط الحائك، ففي القواعد في موضع منها: و المنافع المباحة مضمونة بالفوات تحت اليد و التفويت. و لو تعدّدت المنافع كالعبد الخيّاط الحائك لزمه أجرة أعلاها، و لا تجب اجرة الكلّ ..» «1» و المسألة لا تخلو من بحث، فراجع الجواهر.

و إلى هنا تمّ توجيه المصنّف قدّس سرّه للاستدلال، و سيأتي الاستشهاد عليه بكلام العلّامة قدّس سرّه.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 167

ص: 536

و لأجل ذلك (1) استدلّ العلّامة في التحرير للقول باعتبار يوم الغصب بقوله: «لأنّه زمان إزالة يد المالك» (2).

و نقول في توضيحه: إنّ كلّ زمان من أزمنة الغصب قد أزيلت فيه يد المالك من العين على حسب ماليّته (3)، ففي زمان أزيلت من مقدار درهم، و في آخر عن درهمين، و في ثالث عن ثلاثة، فإذا استمرّت الإزالة إلى زمان التلف وجبت غرامة أكثرها، فتأمّل (4).

______________________________

(1) أي: لأجل كون الحيلولة سببا للضمان استدلّ .. إلخ، لأنّ إزالة يد المالك حيلولة حقيقة بين المال و مالكه، و مانعة عن سلطنة المالك على ماله.

و الظاهر أنّ نظر المصنّف في قوله: «و لأجل ذلك» إلى جعل إزالة يد المالك و قطع سلطنته عن ماله موجبة للضمان، و لذا جعل العلّامة انقطاع السلطنة سببا له، لأنّ يوم الغصب زمان انقطاع السلطنة. فنظر المصنّف قدّس سرّه منحصر في أصل الضمان من ناحية إزالة يد المالك عن ماله، لا في كيفيّته، و إلّا كان عليه الالتزام بأعلى القيم كما قرّبه في المتن.

و بعبارة أخرى: تعليل العلّامة ناظر إلى ضمان يوم الغصب، مع أنّ المصنّف في مقام الاستدلال على ضمان أعلى القيم، فالاستشهاد بعبارة التحرير لإثبات ضمان أعلى القيم منوط بتقريب آخر، و هو ما أفاده المصنّف بقوله: «إن كل زمان من أزمنة الغصب ..».

(2) قال في التحرير: «فالأكثر على ضمان القيمة يوم الغصب، لأنّه الوقت الذي أزال يده عنه» «1».

(3) أي: ماليّة العين في كل زمان من أزمنة الغصب، فالأولى تأنيث الضمير.

(4) الظاهر أنّه إشارة إلى ما ذكرناه من عدم ابتناء قول العلّامة- بضمان قيمة يوم الغصب- على ما أفاده المصنّف، بل على خصوص كون سلب سلطنة المالك موجبا للضمان.

أو إشارة إلى: عدم كون الحيلولة عن القيمة كالحيلولة عن العين، بكون حيلولة

______________________________

(1) تحرير الأحكام، ج 2، ص 139

ص: 537

و استدلّ في السرائر و غيرها على هذا القول (1) بأصالة الاشتغال، لاشتغال ذمّته بحقّ المالك، و لا يحصل البراءة إلّا بالأعلى.

و قد يجاب (2) بأنّ الأصل في المقام البراءة، حيث إنّ الشكّ في التكليف بالزائد.

______________________________

العين موجبة لضمان القيمة العليا، بخلاف الحيلولة عن القيمة مع بقاء العين، فإنّها لا توجب ضمان ارتفاع القيمة.

(1) أي: على القول بضمان أعلى القيم من حين الغصب إلى التلف، و هذا إشارة إلى وجه ثالث يظهر من كلام ابن إدريس، قال قدّس سرّه: «فإن لم يردها- أي العين المغصوبة- حتى هلكت العين لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، لأنّه إذا أدّى ذلك برئت ذمّته بيقين، و ليس كذلك إذا لم يؤدّه» «1».

و علّله في باب البيع «ببقاء المال على ملك صاحبه، ما انتقل عنه» «2». و ظاهره وجود الدليل على ضمان أكثر القيم، فراجع.

و كيف كان فتقريب اقتضاء قاعدة الاشتغال الضمان بالقيمة العليا هو: أنّ ذمّة الضامن اشتغلت بماليّة المغصوب في جميع المدّة من القبض إلى التلف، و منها زمان ارتفاع القيمة، و يشكّ في فراغ الذّمّة بدفع القيمة النازلة أو المتوسّطة، و قد تقرّر اقتضاء الاشتغال اليقينيّ للفراغ كذلك.

(2) الظاهر أنّ المجيب هو صاحب الجواهر قال قدّس سرّه: «و دعوى أنّه- أي الوجه- قاعدة الاشتغال .. يدفعها ما تحقّق في الأصول من أنّ مثله يجري فيه أصل البراءة، ضرورة رجوعه إلى الشّكّ في التكليف بين الأقلّ و الأكثر» «3».

و محصّله: أنّ الشكّ في ضمان القيمة السفلى أو العليا يكون من موارد الشكّ في الأقلّ و الأكثر الاستقلاليّين، و هو مجرى أصالة البراءة لا الاشتغال.

______________________________

(1) السرائر الحاوي، ج 2، ص 481

(2) المصدر، ص 326

(3) جواهر الكلام، ج 37، ص 106

ص: 538

نعم (1) لا بأس بالتّمسّك باستصحاب الضّمان المستفاد من حديث اليد [1].

______________________________

(1) استدراك على عدم صغرويّة المقام لقاعدة الاشتغال، و غرضه قدّس سرّه إثبات وجوب أعلى القيم بوجه رابع و هو الاستصحاب، بتقريب: أنّ حديث «على اليد» يدلّ على الضمان بمجرّد الاستيلاء على مال الغير إلى زمان أدائه أو أداء بدله، فالحالات الطارئة على العين مضمونة، و منها ارتفاع قيمتها، فلو تلفت العين حين نقص قيمتها، و دفع تلك القيمة النازلة إلى المالك يشكّ في فراغ ذمّته عمّا اشتغلت به قطعا، و من المعلوم أنّ مقتضى الاستصحاب وجوب دفع أعلى القيم. هذا.

و لا يخفى أنّه لو جرى الاستصحاب كان حاكما على كلّ من أصالة الاشتغال المثبتة لأعلى القيم، و أصالة البراءة النافية له. و ظاهر سكوت المصنّف قدّس سرّه ارتضاؤه له، إلّا أن يستفاد مبناه ممّا تقدّم من تسالمهم على عدم ضمان ارتفاع القيمة لو كان التلف حين نقصها.

______________________________

[1] لا يخفى أنّه قد استدلّ على اعتبار أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف بوجوه:

الأوّل: ما أفاده الشهيد الثاني في المسالك و الروضة، و تقدّم كلامه في التوضيح.

و قيل في توجيه الاستدلال على ذلك: بأنّ المغصوب مضمون على الغاصب في جميع أزمنة الغصب التي منها زمان ارتفاع القيمة، إذ يصدق على ذلك زمان المخالفة أيضا، ضرورة أنّ المراد من يوم المخالفة في الصحيحة إنّما هو طبيعي يوم المخالفة الذي يصدق على كلّ يوم من أيّام الغصب، لا اليوم الخاصّ.

و عليه فإن ردّ الغاصب نفس المغصوب فهو، و إلّا فإن ردّ أعلى القيم فقد ردّ قيمة يوم المخالفة بقول مطلق، لدخول القيمة السفلى في القيمة العليا، ضرورة أنّه لا يجب على الغاصب قيم متعدّدة بتعدّد أيّام المخالفة. كما أنّه لو ردّ القيمة النازلة لما ردّ قيمة يوم المخالفة بقول مطلق، بل أدّى قيمة بعض أيّام المخالفة.

ص: 539

______________________________

و بالجملة: مبنى هذا التوجيه إرادة معنى اسم المصدر من المخالفة، بحيث ينسلخ عن المعنى المصدري أي إحداث المخالفة، و إرادة الجنس أو الاستغراق من «اليوم» فيعمّ جميع أيّام المخالفة التي منها يوم أعلى القيم. لأنّ علّة الضمان- و هي الغصب- ما دامت موجودة لاقتضت الضمان، فلا اختصاص لآن حدوث الغصب. فتدلّ على لزوم قيمة كلّ يوم تكون المخالفة فيه موجودة حتى يوم أعلى القيم، و لازمه ضمان أعلى القيم الجامع لقيم تمام أيّام المخالفة، هذا.

و فيه: أنّه خلاف الظاهر من المخالفة حدوثا، و هو منحصر بوقت واحد. و الظاهر أنّه اشتبه الضمان التعليقيّ بالتنجيزيّ، فإنّ القيمة العليا مضمونة مع التلف. و أمّا بدونه فلا، فلو تنزّلت قيمته لأجل السوق- لا لزوال صفة دخيلة في الماليّة- لم يضمن الغاصب تلك القيمة المرتفعة.

و بالجملة: ضمان أعلى القيم فعلا منوط بالتلف في يوم أعلى القيم، و الضمان المعلّق على التلف لا يثبت فعليّة الضمان في غير حال التلف.

و عليه فالاستدلال بالصحيحة على الضمان الفعلي لأعلى القيم غير وجيه، لأنّ ضمان قيمة العين في أزمنة الغصب و إن كان ثابتا، لكنّه تعليقيّ، لكونه معلّقا على التلف.

و مع بقاء العين و ردّها إلى المالك لا ضمان لأعلى القيم إجماعا.

الثاني: ما حكاه السيّد صاحب الرياض عن خاله الوحيد البهبهانيّ قدّس سرّهما: من قاعدة الضرر الوارد على المالك «1». و لكن تنظّر فيه الجواهر بما مرّ في التوضيح «2».

و يرد على الجواهر: أنّ الإجماع على عدم جريان قاعدة الضرر في صورة ردّ نفس العين لا يقتضي سقوط القاعدة في غيره من الموارد التي لا إجماع على خلافها، فلا مانع من إجراء القاعدة في صورة تلف العين.

فالعمدة في عدم جريان قاعدة الضرر في مورد تلف العين هي: أنّ القاعدة تنفي

______________________________

(1) رياض المسائل، ج 2، ص 304

(2) جواهر الكلام، ج 37، ص 105

ص: 540

______________________________

الحكم الضرريّ، و لا تثبت حكما يلزم من عدم ثبوته الضرر كالمقام، فإنّ قاعدة الضرر لا تثبت الضمان الذي يلزم من عدم جعله الضرر على المالك.

الثالث: أنّ الغاصب باستيلائه على مال الغير اشتغلت ذمّته به، فلو أدّى المغصوب بعينه أو قيمتها العليا مع تلفها برئت ذمّته قطعا. و أمّا لو أدّى قيمتها المتوسّطة أو السّفلى، فلا يعلم بصدق التأدية و بفراغ ذمّته، فيستصحب اشتغال ذمّته إلى أن يؤدّي القيمة العليا.

و فيه: أنّ المورد من صغريات الأقلّ و الأكثر الاستقلاليّين، فيؤخذ بالأقلّ، لأنّه المتيقّن، و تجري البراءة في الزائد عليه، فالشكّ إنّما هو في حدوث الاشتغال بالأكثر، لا في البقاء حتى يجري فيه الاستصحاب.

و لو سلّم، فإن جرى الاستصحاب في ضمان نفس العين في الذّمّة فلازمه دفع الغاصب قيمة يوم الرّدّ، لا أعلى القيم. و إن جرى في ضمان القيمة فيرد عليه: أنّ المتيقّن هو اشتغال ذمّته بالقيمة النازلة، و أمّا الزائد عليها فهو مشكوك فيه، فتجري فيه البراءة. فما هو المتيقّن قد ارتفع قطعا، و غيره لم يتعلّق به اليقين من الأوّل.

و الحاصل: أنّ الاستصحاب إمّا لا يجري أصلا، و إمّا يجري و لكن الثابت به هو قيمة يوم الرّدّ، لا أعلى القيم.

الرابع: ما أفاده المحقّق الايرواني قدّس سرّه من قوله: «فالأحسن في الاستدلال على ضمان أعلى القيم أنّه يصدق عنه صعود القيمة أنّ الغاصب معتد يوم صعود القيمة بماليّة صاعدة، و مقتضى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ جواز أخذ تلك الماليّة منه بعد التلف مجازاة لاعتدائه» «1».

و فيه: ما تقدّم سابقا من عدم دلالة الآية على الضمان، فضلا عن الضمان بأعلى القيم.

الخامس: ما أفاده المصنّف من استصحاب الضمان.

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 102

ص: 541

______________________________

و فيه: أنّه إن أريد به ضمان نفس العين حتى بعد تلفها بأن تكون العين على العهدة إلى يوم الأداء، ففيه: أنّ مقتضاه اعتبار قيمة يوم الأداء، سواء أ كانت أعلى القيم أم غيره. و إن أريد به ضمان القيمة فالثابت منها هو الأقلّ، لكون الزائد منفيّا بالبراءة.

نعم إذا شكّ في أنّ الثابت على العهدة عند تلف العين هو المثل أو القيمة- و حيث إنّهما متباينان- فاللازم دفع القيمة العليا، لتوقّف العلم بالفراغ عليه.

و الحاصل: أنّ العلم بأداء ما في الذّمّة منوط بإعطاء القيمة العليا، سواء أ كان ما في الذّمّة نفس العين أم القيمة أم المثل، فإنّ استصحاب ما في الذّمّة جار إلى دفع أعلى القيم إلى زمان الأداء، هذا.

تكملة: لا يخفى أنّ ما ذكر من ضمان ارتفاع القيمة إنّما هو بحسب الأزمنة. و أمّا بحسب الأمكنة، فعلى القول باعتبار يوم التلف- كما ربّما يستفاد من صحيحة أبي ولّاد و سائر أدلّة الضمان- لا ينبغي الإشكال في ضمان مكان التلف أيضا، لأنّ ظاهر أدلّة ضمان القيمة في القيميّات التالفة هو القيمة الفعليّة، و هي قيمة حال التلف في مكان التلف، لدخل المكان في القيمة. و أمّا قيم سائر الأمكنة فهي تقديريّة، كتقديريّة سائر الأزمنة، إذ يقال: لو كان هذا الشي ء في مكان كذا كانت قيمته كذا. و هذا خلاف ظاهر أدلّة الضمان.

و على القول باعتبار زمان الغصب- كما استظهره الشيخ و غيره من صحيحة أبي ولّاد- فيشكل الالتزام بقيمة مكان التلف، لأنّ اعتبار قيمة يوم الغصب في مكان يقع فيه التلف بعد ذلك ممّا لا يستظهر من الأدلة، فإنّه تقييد في الأدلّة من غير دلالة فيها عليه، بل تعيين قيمة يوم الغصب يدفع اعتبار قيمة مكان التلف.

لا يقال: إنّ مقتضى الجمع بين الضمان بيوم التلف كما هو قضية إطلاق أدلّة الضمان، و بين صحيحة أبي ولّاد الدالة على اعتبار يوم الغصب هو ضمان قيمة يوم الغصب في مكان التلف.

ص: 542

______________________________

فإنّه يقال: مضافا إلى عدم دلالة صحيحة أبي ولّاد على ضمان قيمة يوم الغصب كما تقدم إنّه ليس جمعا عرفيا، لأنّ الصحيحة على فرض دلالتها على ضمان يوم الغصب ظاهرة في ضمان ذلك المكان أيضا، لا المكان الآخر، فإنّ اعتبار المكان الآخر قيد زائد ينفيه إطلاق أدلّة الضمانات.

و بالجملة: فالمضمون هو القيمة الفعليّة حال التلف المنوطة بلحاظ مكان التلف.

و أمّا بناء على اعتبار قيمة يوم الغصب فالمدار على قيمته في مكان الغصب كزمانه، لأنّ حدوث ضمان القيمة كان بزمان الغصب المستلزم لدخل خصوصيّة مكان الغصب فيه، لدخل ذلك المكان في القيمة المقدّرة بيوم الغصب.

و ينبغي التعرّض للفوائد التي تظهر من صحيحة أبي ولّاد.

الأولى: أنّ الافتراء على اللّه سبحانه و تعالى يوجب الحرمان من فضله، و استحقاق عذابه و غضبه، لقوله عليه السّلام- بعد ما قصّ عليه أبو ولّاد الواقعة-: «في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها و تمنع الأرض بركتها» بل المستفاد منه حرمان الآخرين أيضا، و إحاطة البلاء بهم، و عدم اختصاص العقوبة الدنيويّة بالمفتري عليه جلّ و عزّ، لأنّ حبس قطر السماء و بركة الأرض ضيق على الجميع، حتى الصبيان و الحيوانات، فيلزم احتراق الكلّ بنار أشعلها المفتري، نعوذ باللّه من شرور أنفسنا.

الثانية: ضمان المنافع المستوفاة بأجرة المثل، حيث إنّ أبا ولّاد استوفى منفعة البغل، فركبه إلى النيل ثمّ إلى بغداد، ثمّ منه إلى الكوفة. لقوله عليه السّلام: «أرى له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل .. توفيه إياه».

و المستفاد منه أمور:

الأوّل: ضمان كراءات ثلاثة، لاختلاف المسافات بين كلّ بلدين، و لا يكفي دفع أجرة واحدة للسير من كوفة إلى بغداد ثم العود إلى كوفة. و ذلك لعدم السّير من الطريق المتعارف، و عدم كون «النيل» في الجادّة المستقيمة بين كوفة و بغداد. و لا ريب حينئذ

ص: 543

______________________________

في اختلاف أجور المثل، فتكون كلّها مضمونة.

الثاني: أنّ الغاصب يضمن اجرة مثل المنفعة المستوفاة، فلا تفرغ الذّمّة بدفع أقلّ منها، و لا يجوز للمغصوب منه مطالبة زيادة عليها. نعم يستحقّ المالك الأجرة المسمّاة أيضا. و لا ينافيه عدم استيفاء المنفعة الخاصة التي وقع العقد عليها بين المكاري و أبي ولّاد.

و الوجه في عدم المنافاة: أنّ المكاري سلّمه البغل ليسير عليها إلى قصر بني هبيرة، فخالفه أبو ولّاد بإرادته و اختياره بعد أن أخبر بخروج الغريم إلى النيل.

الثالث: نفي قاعدة «الخراج بالضمان» التي استند إليها قاضي الكوفة، فإنّ الإمام عليه السّلام ضمّن أبا ولّاد اجرة المنافع مع كونه ضامنا لنفس العين، كما ورد في فقرتين من الصحيحة. و عليه فقاعدة «الخراج بالضمان» إمّا ساقطة من أصلها، و إمّا مخصوصة بالعقد الصحيح كما تقدّم شطر من الكلام حولها في الأمر الثالث، فراجع (ص 236 الى 250).

الرابع: عدم ضمان المنافع الفائتة، لأنّ الصحيحة تكون في مقام بيان تمام الوظيفة، فسكوتها عن المنافع غير المستوفاة دليل على عدم ضمانها. و هذا ربّما يعارض القول بضمانها كما مرّ تفصيله في الأمر الثالث.

و يمكن الجواب عنه بعدم كون الصحيحة في مقام بيان جميع ما يضمنه أبو ولّاد، لأنّ السؤال كان عن خصوص المنافع المستوفاة، فتدبّر.

أو يقال: بالاعراض عن هذا السكوت، فلا معارض للقول بالضمان.

الثالثة: عدم احترام مال يصرفه الغاصب في حفظ العين المغصوبة، حيث إنّه عليه السّلام أجاب السائل- عن الدراهم التي صرفها في تعليف البغل- بقوله: «لا لأنك غاصب».

و يستفاد منه أيضا أنّ مخالفة مقتضى عقد الإجارة توجب تبدل اليد الأمانيّة بالعادية الضمانيّة، و إلّا فالعين المستأجرة أمانة بيد المستأجر لا يضمنها لو تلفت بنفسها.

ص: 544

______________________________

الرابعة: ضمان القيميّ بالقيمة، لقوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» بناء على إرادة البغل المغصوب، لا قيمة بغل مثله، و إلّا دلّت على ضمان المغصوب بالمثل و إن كان قيميّا. و قد تقدّم تفصيله في الأمر السابع.

كما يستفاد من هذه الفقرة ضمان قيمة يوم القبض بناء على استظهار المصنّف قدّس سرّه أوّلا، أو قيمة يوم التلف كما قال به آخرون.

الخامسة: صحّة ضمان الأعيان الخارجيّة، لأنّ ضمان قيمة يوم الغصب يكشف عن صيرورة العين مضمونة في يوم الغصب. لكن الضمان في صورة وجود العين تعليقيّ، و في صورة تلفها تنجيزيّ، ضرورة أنّ العين ما دامت موجودة وجب ردّها لا قيمتها، فضمان قيمتها معلّق على تلفها، فتبدّل اليد الأمانيّة بالعدوانيّة يوجب ضمانا تعليقيّا لم يكن قبل التبدّل المزبور، إذ مع فرض أمانيّة اليد لا ضمان أصلا لا فعليّا و لا تعليقيّا كما لا يخفى، السادسة: ضمان التفاوت بين الصّحّة و العيب.

و بعبارة أخرى: ضمان وصف الصّحّة في العين المغصوبة. و ذلك لقوله عليه السّلام- في جواب سؤال أبي ولّاد عن إصابة كسر و شبهه بالبغل-: «عليك قيمة ما بين الصّحّة و العيب يوم تردّه عليه». و ظاهره اعتبار الأرش بقيمة يوم الرّدّ، لا يوم حدوثه.

السابعة: أنّه يستفاد من قوله عليه السّلام: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا و كذا، فيلزمك» اعتبار الاستصحاب، حيث إنّ قيمة يوم الاكتراء تستصحب إلى زمان الغصب، فإنّ إطلاق اعتبار قيمة يوم الاكتراء يقتضي اعتبارها و لو مع تخلّل زمان بين زماني الاكتراء و الغصب يمكن تغيّر القيمة فيه، فإنّ قول المالك بعدم تنزّل القيمة من يوم الاكتراء إلى يوم الغصب يكون موافقا للأصل أعني به الاستصحاب.

ص: 545

______________________________

و منه يظهر تقدّم قول المالك أيضا في صورة اتّفاقهما على قيمة معيّنة في يوم الاكتراء، و اختلافهما في التنزّل و عدمه، حيث إنّ قول المالك بعدم التنزّل موافق للأصل.

و الحاصل: أنّ الجملة المزبورة تدلّ و لو بالالتزام على اعتبار الاستصحاب في قيمة يوم الاكتراء.

الثامنة: أنّ الجملة المزبورة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في مؤديات الطرق و الأمارات، و أنّ مؤدّى الأمارات كالمعلوم في جريان الاستصحاب فيها إذا شكّ في بقائها، فإنّ هذه الجملة تصلح لإثبات أعمّيّة اليقين المعتبر في الاستصحاب من الوجدانيّ و التعبّديّ، فلا حاجة إلى إثبات أعمّيّة اليقين إلى التّشبّث بأدلّة حجّيّة الأمارات، و دعوى: أنّها تنزّل غير العلم منزلة العلم، كما هو ظاهر.

التاسعة: إن المناط في الخروج عن العهدة بإحلال صاحب الحق هو كون الداعي إلى الإحلال أمرا واقعيّا، لا الأعمّ منه و من الاعتقاديّ و إن خالف الواقع. و هذه الفائدة يكثر نفعها في الفقه جدّا.

و تستفاد هذه من جوابه عليه السّلام لكلام أبي ولّاد: «إني أعطيته دراهم و رضي بها و حلّلني» حيث قال عليه السّلام: «إنّما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور و الظلم، و لكن ارجع إليه و أخبره بما أفتيتك به ..».

العاشرة: إنّ الإبراء إيقاع، فلا يتوقّف على القبول، لقوله عليه السّلام: «فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي ء عليك».

هذا ما استفدناه من الصحيحة، و قد أشار الشيخ الأعظم قدّس سرّه إلى تضمّنها لها بقوله:

«مشملة على أحكام كثيرة و فوائد خطيرة» و لعلّه أراد منها ما ذكرناه من الفوائد، أو أراد ما هو أزيد منها، ممّا ربّما تظهر بالتأمل فيها. وفّقنا اللّه تعالى للاستنارة بكلمات أوليائه الأئمّة المعصومين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين.

ص: 546

[د: ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم البيع]

ثمّ إنّه (1) حكي عن المفيد و القاضي و الحلبي: الاعتبار بيوم البيع في

______________________________

د: ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم البيع

(1) هذا إشارة إلى قول رابع في ضمان المقبوض بالبيع الفاسد، ذهب إليه الشيخ المفيد و القاضي ابن البرّاج و أبو الصلاح الحلبي قدّس سرّهم على ما نقله عنهم العلّامة في المختلف في بيع الغرر و المجازفة «1».

و هذا القول يختصّ به حكم المبيع فاسدا، و لا يشمله حكم المغصوب، فلا يضمن المبيع بيوم قبضه و لا بيوم تلفه و لا بأعلى القيم بينهما، بل يضمن بقيمة يوم البيع سواء قبضه المشتري فيه أم لا. كما أنّ ظاهر هذا القول التفصيل في فساد البيع بين أن يستند إلى جهالة الثمن و عدم تعيينه في العقد، فيضمن المبيع بقيمة يوم البيع، و بين غيرها من اختلال شرط الصّحّة، فيضمن بقيمة القبض و الأخذ.

و كيف كان فهذه الفتوى تظهر من النهاية أيضا، حيث قال: «و من اشترى شيئا بحكم نفسه، و لم يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلا، فإن هلك الشي ء في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتاعه .. إلخ» «2». و الشاهد في هذه الجملة الأخيرة، حيث أوجب على المشتري قيمة يوم البيع، لا قيمة يوم القبض.

و لعلّ نظرهم في هذا الحكم إلى صحيحة رفاعة الخنّاس، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ساومت رجلا بجارية فباعنيها بحكمي، فقبضتها منه على ذلك، ثمّ بعثت إليه بألف درهم، فقلت: هذه ألف درهم حكمي عليك أن تقبلها، فأبى أن يقبلها منّي. و قد كنت مسستها قبل أن أبعث إليه بالثمن، فقال: أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة، فإن كان قيمتها أكثر ممّا بعثت إليه كان عليك أن تردّ عليه [إليه] ما نقص من القيمة. و إن كان ثمنها أقلّ ممّا بعثت إليه فهو له. قلت: جعلت فداك: إن وجدت بها عيبا بعد ما مسستها؟ قال: ليس لك أن تردّها، و لك أن تأخذ قيمة ما بين الصّحّة

______________________________

(1) مختلف الشيعة، ج 5، ص 243 و 244؛ المقنعة، ص 593؛ الكافي لأبي الصلاح، ص 353، و لم أظفر بالمطلب في جواهر الفقه لابن البرّاج.

(2) النهاية و نكتها، ج 2، ص 145 و 146

ص: 547

ما كان فساده من جهة التفويض (1) إلى حكم المشتري.

و لم يعلم له (2) وجه. و لعلّهم (3) يريدون به يوم القبض، لغلبة اتّحاد زمان

______________________________

و العيب منه» «1».

و الشّاهد في قوله عليه السّلام: «أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة» و ذلك بناء على تماميّة أمور ثلاثة:

الأوّل: فساد البيع الذي فوّض فيه تعيين الثمن إلى المشتري- كما هو مورد الرواية- على ما هو المشهور، بل قيل بعدم خلاف فيه إلّا من صاحب الحدائق.

فلو قيل بصحّته خرجت المسألة عن المقبوض بالبيع الفاسد.

الثاني: صيرورة الجارية بعد المسّ أم ولد، حتى تصير بمنزلة التالف، و يتّجه حينئذ ضمان قيمتها، لامتناع ردّها إلى بائعها شرعا.

الثالث: أن يكون المراد من قوله عليه السّلام: «قيمة عادلة» قيمة يوم البيع.

فإن تمّت هذه الأمور الثلاثة كانت الصحيحة دليلا تعبّديّا على لزوم قيمة يوم البيع فيما كان منشأ فساده تفويض الثمن إلى تعيين المشتري بعد العقد، و يختصّ بمورده.

و إن لم تتم- كما هو الظاهر- كان المقبوض بالبيع الفاسد محكوما بحكم الغصب.

(1) يعني: إيكال تعيين الثمن إلى المشتري، بأن يقول البائع له: «بعتك هذا بما حكمت به من الثمن» أو: «بعتك هذا بأيّ ثمن شئت». و هو باطل عندهم، لفقد الشرط و هو معلوميّة العوضين.

(2) أي: و لم يعلم لاعتبار قيمة يوم البيع وجه. بل المناط في ضمان المبيع فاسدا بيوم القبض، و صحيحة رفاعة غير ظاهرة في اعتبار قيمة يوم البيع من حيث إنّه يوم البيع، لظهورها في تحقّق القبض في يوم العقد، فلو اعتبر تقويم الجارية بقيمة يوم البيع احتمل أن يكون لاتّحاده مع يوم القبض، فيتحد مفادها مع قول المشهور من ضمان يوم القبض.

(3) غرضه توجيه كلامهم حتى لا يخرج عن حيّز الأقوال المذكورة في ضمان

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص 271، الباب 18 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 1

ص: 548

البيع و القبض، فافهم (1).

[حكم زيادة ثمن القيميّ بعد التلف]

ثمّ إنّه (2) لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف

______________________________

المغصوب، إذ بناء على ظاهر كلمات هؤلاء ينفرد المقبوض بالبيع الفاسد- بضمان قيمة يوم البيع- عن المغصوب، فالمصنّف احتمل إرادة يوم القبض من «يوم البيع» حتى لا ينفرد المقبوض بالبيع الفاسد بحكم يخصّه.

(1) لعلّه إشارة إلى بعد هذا التوجيه، لأنّه خلاف الظاهر من دون قرينة.

و قد تحصّل من الأبحاث المتقدّمة في الأمر السابع: أنّ القيميّ يضمن بقيمته يوم تلفه، لا بقيمة يوم القبض و الغصب، و لا بأعلى القيم بين الغصب و التلف، من دون فرق بين المغصوب و المقبوض بالبيع الفاسد. و لا بين كون منشأ الفساد تفويض الثمن إلى حكم المشتري، أو اختلال شرط آخر.

و سيأتي لبحث ضمان القيمي تتمّة تتضمّن أمورا ثلاثة:

أحدها: حكم زيادة قيمة القيميّ بعد تلفه.

ثانيها: اختلاف قيمة القيميّ بحسب الأمكنة في ما كان بلد الغصب مغايرا لبلد التلف.

ثالثها: ضمان ارتفاع القيمة لو كان لزيادة في العين.

حكم زيادة ثمن القيميّ بعد التلف

(2) هذا شروع في الأمر الأوّل، و توضيحه: أنّ محطّ الأقوال المتقدّمة- من ضمان قيمة يوم الغصب أو التلف أو الأعلى بينهما- إنّما هو زيادة قيمة العين المضمونة في المدّة التي كانت عند الضامن، فلو لم ترتفع قيمتها عنده حتى تلفت، و زادت قيمة أمثالها بعده لم تكن هذه الزيادة مضمونة، لما عرفت من أنّ موضوع الأقوال المتقدّمة بقاء العين حتى يدّعى ضمان أعلى قيمها، لوقوع العين في حالة زيادة القيمة تحت يد الضامن، و من المعلوم فقد هذا المناط لو كان ارتفاع القيمة بعد التلف.

ص: 549

على جميع الأقوال [1] إلّا أنّه تردّد فيه (1) في الشرائع.

______________________________

و هذا و إن كان واضحا، إلّا أن المحقق قدّس سرّه تردّد فيه، و قال: «و لا عبرة بزيادة القيمة و لا بنقصانها بعد ذلك- أي التلف- على تردّد» «1».

و وجّهه الشهيد الثاني بقوله: «نعم لو قلنا بأنّ الواجب في القيميّ مثله- كما ذهب إليه ابن الجنيد مخيّرا بين دفع المثل و القيمة، و مال إليه المصنّف في باب القرض- اتّجه وجوب ما زاد من القيمة إلى حين دفعها، كما في المثليّ.

و المصنّف رحمه اللّه تردّد في ذلك، لما ذكرناه من الشك في كون الواجب في القيميّ المثل أو القيمة» «2».

و نحوه كلامه في الرّوضة فراجع. و محصّله: أنّ الشك في المبنى يستلزم الشكّ في الفروع المبتنية عليه.

(1) أي: في عدم العبرة بزيادة القيمة بعد التلف.

______________________________

[1] بل ينافيه القول باعتبار قيمة يوم الأداء، لكونها قيمة للتالف بعد مراعاة قيمته في أزمنة تلفه. و يشهد له آية الاعتداء و قاعدة نفي الضرر بناء على صحّة التمسّك بهما في الضمانات، فيكون ما بعد التلف كما قبله.

إلّا أن يريد المصنف من قوله: «جميع الأقوال» خصوص الأقوال الثلاثة التي تعرّض لها في الأمر السابع، و هي اعتبار قيمة يوم الغصب و التلف و الأعلى بينهما، إذ لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على هذه الأقوال الثلاثة.

و ما في بعض الكلمات من «توجيه عدم ضمان زيادة القيمة بعد التلف حتى على

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 3، ص 240

(2) مسالك الأفهام، ج 12، ص 188؛ الروضة البهية، ج 7، ص 40 و نحوه في جواهر الكلام، ج 37، ص 105

ص: 550

و لعلّه (1)- كما قيل (2)- من جهة احتمال كون القيميّ مضمونا بمثله، و دفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل (3).

و قد تقدّم (4) أنّه مخالف لإطلاق النصوص و الفتاوى.

______________________________

(1) أي: و لعلّ تردّد المحقّق قدّس سرّه. و قوله: «من جهة» خبر قوله: «و لعلّه».

(2) القائل- كما عرفت- هو الشهيد الثاني و غيره.

(3) فيكون المثل مستقرّا في الذّمة إلى زمان دفعه أو دفع قيمته، فلم ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة بمجرّد تلف العين المضمونة حتى لا يضمن ارتفاع القيمة بعد التلف.

(4) هذا ردّ مبنى تردّد المحقّق قدّس سرّه و قد نبّه عليه المصنّف قدّس سرّه في أوائل هذا التنبيه بقوله: «فإن أرادوا ذلك مطلقا حتى مع تعذّر المثل فتردّه إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة .. إلخ».

و حاصله: مخالفة كلام ابن الجنيد لإطلاق نصوص ضمان القيميّات، و فتاوى الأصحاب بضمان القيميّ بالقيمة سواء وجد المثل أم لم يوجد.

و اقتصر في الجواهر في ردّه على قوله: «و هو كما ترى».

______________________________

القول بأنّ القيميّ مضمون بالمثل، لأنّ عمدة دليل الضمان قاعدة اليد، و هي لا تشمل المثل الذي على العهدة و لو قلنا بضمان ارتفاع القيم، و ذلك لأنّ موضوع دليل اليد هو الاستيلاء على مال الغير، و كون الشي ء على العهدة غير كونه تحت اليد و الاستيلاء، فما في العهدة خارج عن دليل اليد موضوعا» «1» لا يخلو من غموض، لأنّه بعد صدق اليد يصدق الأداء- الذي جعل غاية للعهدة و رافعا لها- على كلّ من العين و بدلها، فلا بدّ من إرادة معنى من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد» ينطبق على كلّ ممّا تحت اليد و فوق العهدة.

______________________________

(1) كتاب البيع، ج 1، ص 430

ص: 551

[ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة]

ثمّ إنّ ما ذكرنا (1) من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة.

و أمّا إذا كان بسبب الأمكنة كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة، و في مكان التلف بعشرين، و في مكان المطالبة بثلاثين، فالظاهر اعتبار محلّ التلف (2)، لأنّ (3) ماليّة الشي ء تختلف بحسب الأماكن، و تداركه بحسب (4) ماليّته.

______________________________

ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة

(1) هذا هو الأمر الثاني المذكور في تتمّة مباحث ضمان القيميّ، و حاصله: أنّ ما تقدّم من الخلاف- في كون القيميّ مضمونا بقيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو الأعلى بينهما- ناظر إلى اختلاف قيمة المضمون بحسب الأزمنة. و قد تحقّق عدم ضمان ارتفاع القيمة ما دامت العين باقية. و أمّا إذا نقل الغاصب العين إلى بلد آخر فتلفت فيه، و طالبه المالك بها في بلد ثالث، و تعدّدت الأسعار في البلاد الثلاثة، فهل يقال بضمان أعلاها أم تتعيّن قيمة بلد الغصب أم بلد التلف؟

اختار المصنف قدّس سرّه اعتبار قيمة مكان التلف، لأنّ اشتغال الذّمّة بالبدل حصل فيه. و لا مجال للقول بضمان أعلى القيم، و لا مكان الغصب، و إن قيل بكلّ منها فيما اختلفت القيم بحسب الأزمنة، هذا.

(2) هذا بناء على اعتبار قيمة يوم التلف. و أمّا بناء على اعتبار يوم الغصب فلا كما ذكرناه في التعليقة، فراجع.

(3) توضيحه: أنّ وجود المال في مكان يكون من الصفات الدخيلة في الرغبات و الماليّة التي تكون مضمونة على الضامن، و من المعلوم أنّ تدارك الشي ء يكون بماليّته المختلفة بصفاته، فالمتعيّن ماليّة محلّ التلف.

(4) خبر «و تداركه».

ص: 552

[ضمان ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينيّة]

ثمّ (1) إنّ جميع ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة الناشئة من تفاوت رغبة الناس. و أمّا إذا كان حاصلا من زيادة العين (2)

______________________________

ضمان ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينيّة

(1) هذا هو الأمر الثالث، و هو ناظر إلى تحديد موضوع البحث- في ضمان القيميّ- من جهة أخرى. و حاصله: أنّ ما ذكرناه من عدم ضمان ارتفاع القيمة- خلافا للقائل باعتبار أعلى القيم- ناظر إلى ارتفاع القيمة السوقية مع بقاء العين على حالها، و عدم حدوث تغيير فيها.

فلو ارتفعت القيمة عند الغاصب لأجل زيادة عينيّة كسمن الشاة، أو تعلّم صنعة ككتابة العبد المغصوب و خياطته- ثم عادت العين إلى ما كانت عليه حين الغصب حتّى تلفت عند الغاصب- كانت هذه الزيادة أو الصفة مضمونة، كضمان العين المغصوبة، لوضوح دخل تلك الصفة في رغبات الناس التي هي مدار ماليّة الأشياء.

و مثّل له الشهيد الثاني قدّس سرّه بقوله: «حتى لو غصب جارية قيمتها مائة، فسمنت و بلغت القيمة ألفا، و تعلّمت صنعة فبلغت ألفين، ثم هزلت و نسيت الصنعة، فعادت قيمتها إلى مائة، ردّها و غرم ألفا و تسعمائة. و لو علّم العبد المغصوب سورة من القرآن أو حرفة فنسيها، ثم علّمه حرفة أو سورة أخرى فنسيها أيضا ضمنهما» «1».

(2) يعني: حصلت زيادة في العين المغصوبة عند ما كانت بيد الغاصب، ثم زالت- كما تقدّم آنفا في كلام المسالك- كانت الزيادة مضمونة، فإن ردّ العين إلى المغصوب منه لزمه ردّ قيمة الزيادة الفائتة معها. و إن تلفت العين لزمه ردّ القيمة العليا، و هي قيمة العين حال تلك الزيادة. و لا يكفي ردّ قيمة يوم التلف. قال المحقق قدّس سرّه:- فيما زادت القيمة لزيادة صفة ثم زالت-: «أمّا لو تجدّدت صفة غيرها، مثل أن سمنت فزادت قيمتها، ثم هزلت فنقصت قيمتها، ثم تعلّمت صنعة فزادت قيمتها، ردّها

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 220

ص: 553

فالظاهر كما قيل (1) عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم. و في الحقيقة (2) ليست قيم التالف مختلفة، و إنّما زيادتها في بعض أوقات الضمان لأجل الزيادة العينية الحاصلة فيه (3)، النازلة (4) منزلة الجزء التالف.

نعم (5) يجري الخلاف المتقدم في قيمة هذه الزيادة الفائتة، فإنّ العبرة بيوم فواتها أو يوم ضمانها أو أعلى القيم؟

______________________________

و ما ضمن بفوات الأولى» «1».

(1) القائل صاحب الجواهر قدّس سرّه، قاله بعد عبارة المحقّق المتقدّمة: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه ..» «2».

(2) غرضه أنّ ضمان أعلى القيم للصفة الزائلة مغاير للقول بضمان نفس المغصوب بأعلى القيم بين الغصب و التلف. و الفارق بينهما: أنّ القيمة السوقيّة للعين المغصوبة لم تختلف من حين غصبها إلى حين تلفها لو بقيت بحالها، بشهادة عدم زيادة قيمة أمثالها. فارتفاع قيمتها في حال سمنها أو تعلّم الصنعة يكون في مقابل هذه الزيادة أو الصفة، و حيث إنّهما بمنزلة جزء المغصوب كان زوالهما بمنزلة نقص جزء من العين المغصوبة، فتكون مضمونة. كما إذا غصب دابة فعرجت عنده، فإنّه يضمن الأرش على ما تقدّم مفصّلا في صحيحة أبي ولّاد.

(3) أي: في التالف، و هو العين المغصوبة.

(4) صفة للزيادة العينيّة.

(5) استدراك على قوله: «ففي الحقيقة ليست قيم التالف مختلفة» الذي ملخصه:

أنّ العبرة بضمان قيمة يوم التلف مع تلك الزيادة التالفة.

و محصّل الاستدراك: أنّه إذا غصب عبدا قيمته ألف درهم، و بقي عنده سنة و تعلّم الخياطة عنده، فإن لم تتغير قيمة هذه الصنعة بأن كانت ألف درهم كان ضامنا

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 3، ص 245

(2) جواهر الكلام، ج 37، ص 173

ص: 554

[مباحث بدل الحيلولة]
اشارة

ثمّ (1) إنّ في حكم العين في جميع ما ذكر من ضمان المثل أو القيمة

______________________________

للألفين، فإن ردّ العبد ردّ معه ألفا لو نسي الخياطة.

و إن تغيّرت قيمة الخياطة بأن كانت تسعمائة في شهر، و ألفا في شهر آخر، و ثمانمائة في شهر ثالث، ثم نسي الخياطة فيه، جرت هنا الأقوال الثلاثة في ضمان نفس العين.

فإن قلنا: إنّ العبرة بيوم التلف ضمن القيمة النازلة، و هي ثمان مائة درهم، لكون نسيان الصنعة بمنزلة تلف العين.

و إن قلنا بضمان العين بأعلى القيم، ضمن ألف درهم.

و إن قلنا بضمان يوم الغصب ضمن تسعمائة درهم، لأجل الخياطة المنسيّة، فيردّ هذا الأرش مع العبد إن كان موجودا، أو مع قيمته إن كان تالفا.

مباحث بدل الحيلولة

(1) هذا أوّل مباحث بدل الحيلولة، و موضوعه وجود العين، لكن مع تعذّر الوصول إليها لإباق أو ضياع أو غيرهما.

و توضيحه: أنّ ضمان مال الغير لا يخلو من إحدى حالات ثلاث، لأنّه إمّا أن تكون العين موجودة، و إمّا أن تكون تالفة، و على الأوّل إمّا أن يتمكّن من ردّها إلى المالك، لكونها بمتناول يده، و إمّا أن يتعذّر، لضياعها أو سرقتها.

فإن كانت موجودة عنده و أمكن ردّها إلى المالك فقد تقدّم في الأمر الثاني وجوب ردّها فورا إليه، و الضمان في هذه الصورة تقديريّ، بمعنى أنّه لو هلكت وجب دفع بدلها.

و إن كانت تالفة وجب ردّ بدلها من المثل أو القيمة، و قد تقدّمت مباحثه مفصّلة في الأمر الرابع إلى السابع.

و إن كانت العين موجودة لم تنعدم بعد، إلّا أنّ الضامن عاجز عن ردّها فعلا

ص: 555

حكم (1) تعذّر الوصول

______________________________

إلى المالك كما إذا سرقت منه، فهل يلحق هذا بالتلف حتى يضمن بدلها من المثل أو القيمة، أم لا يلحق بالتلف؟ لرجاء القدرة على ردّها. و هذا هو البحث المعروف ببدل الحيلولة. و قد تعرّض له المصنّف قدّس سرّه تبعا للأصحاب. قال المحقق قدّس سرّه: «إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل، و يملكه المغصوب منه، و لا يملك الغاصب العين المغصوبة، و لو عادت كان لكلّ منهما الرجوع» «1». و يبحث فيه عن جهات:

منها: الدليل على وجوب بدل الحيلولة.

و منها: تحديد الموضوع، و انّه يعتبر العلم بعدم الظفر بالعين، أو يكفي الظنّ به، أو غير ذلك.

و منها: أنّ المالك يملك بدل الحيلولة أو يباح له التّصرّف؟

و منها: أنّه يضمن ارتفاع قيمة العين بعد دفع بدل الحيلولة أو لا؟

و منها: وجوب ردّ العين فورا لو تمكّن منه بعد أداء البدل، و عدمه.

و منها: أنّ العين تدخل في ملك الغاصب أو لا؟

و منها: حكم تصرف المالك في البدل بما يخرجه عن الملك.

و منها: حكم تمكن المالك من أخذ العين، و عجز الغاصب عن أدائها إليه.

و منها: غير ذلك مما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ البحث عن بدل الحيلولة ليس من فروع خصوص التنبيه السابع الباحث عن حكم ضمان القيميّ، بل يتفرّع على الأمر الرابع أيضا، إذ لو كان المضمون مثليّا و تعذّر ردّه إلى مالكه وجب على الضامن ردّ بدل الحيلولة، و هو المثل، لاتّحاد التلف و الحيلولة حكما، هذا.

(1) يعني: أنّه كما يجب في صورة تلف العين دفع البدل، كذلك في صورة تعذّر الوصول إلى العين لغرق أو ضياع أو سرقة أو نحوها، إذ لا ينعدم المال حقيقة في هذه

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 3، ص 241

ص: 556

إليه (1) و إن لم يهلك، كما لو سرق أو غرق أوضاع أو أبق، لما دلّ (2) على الضمان بهذه الأمور في باب الأمانات المضمونة.

[أ- مورد بدل الحيلولة]

و هل يقيّد ذلك (3) بما إذا حصل اليأس من الوصول

______________________________

الموارد، و إنّما يتعذّر الوصول إليه.

(1) الضمير راجع إلى العين فالأولى تأنيثه. كما أن الأولى أن يقال: «تهلك» مؤنّثا لا مذكّرا.

(2) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على وجوب دفع بدل الحيلولة، و هو النصوص الواردة في ضمان الودعيّ و المستبضع و المستعير و المستأجر، الدالّة بمفهومها أو منطوقها على ضمان العين، إذا لم يتمكّن من ردّها إلى المالك، سواء أ كان بسبب التلف الحقيقيّ، أم بعدم الظفر بها كما إذا أبق العبد، أو سرق المتاع، أو ضاعت الوديعة و نحوها.

و قد تقدّم نقل جملة من هذه النصوص في (ص 189 و 334- 336) فراجع و نقتصر هنا بذكر واحدة منها تبرّكا، و هي معتبرة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: سألته عن العارية يستعيرها الإنسان، فتهلك أو تسرق؟ فقال: إن كان أمينا فلا غرم عليه» «1». فإنّ مفهومه الضمان بدون الأمانة، بلا فرق بين التلف الحقيقيّ المعبّر عنه بالهلاك، و بين الحكميّ، لتعذّر الوصول إليها لسرقة و ضياع، كما هو مورد البحث في بدل الحيلولة.

أ- مورد بدل الحيلولة

(3) أي: الضمان، و غرضه قدّس سرّه بيان مورد بدل الحيلولة، و المذكور في العبارة صور أربع تشترك في أمرين، أحدهما: بقاء العين و عدم ذهاب صورتها النوعيّة، و الثاني: عدم كونها بمتناول اليد حتى تردّ إلى المالك. و حينئذ فيحتمل وجوه:

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 237، الباب 1 من كتاب العارية، الحديث 7

ص: 557

..........

______________________________

الأوّل: تقييد وجوب بدل الحيلولة باليأس من الوصول إلى العين، أي الاطمئنان بعدم الظفر بها. فلو لم يطمئنّ بعدم الظفر بها لم يجب البدل، سواء حصل له الظن بعدم الوصول أم لم يحصل بأن شكّ فيه.

الثاني: تقييد وجوب البدل بعدم الظنّ بوجدان العين، و لا يعتبر اليأس الذي هو العلم أو الاطمئنان بعدم الوصول، بل يكفي عدم رجاء الوجدان في وجوب بدل الحيلولة.

فالفارق بين الوجهين أمران:

أحدهما: اعتبار حصول اليأس من الوصول إلى العين في الوجه الأوّل، و عدم اعتباره في الثاني.

ثانيهما: أنّ المناط في الأوّل هو اليأس عن الوصول، و ظاهره الوصول بنفسه.

و في الثاني هو الوجدان، و ظاهره إعمال مقدمات تنتهي إلى الظفر بالعين.

و يمكن انطباق كلّ واحد من الوجهين على موارد بدل الحيلولة من الضياع و السرقة و الإباق و الغرق، و ان قيل بأنّ المال المسروق و الغريق ممّا ييأس وصوله، بخلاف الضائع الذي لا يأس عن الظفر به و إن لم يظنّ وجدانه.

و لعلّ الوجه الأوّل يختصّ بما إذا تعذّر إعادة العين و إن كان عودها بنفسها مرجوّا، كطائر فرّ من عشّه، و لكنّه يرجى عوده بنفسه إليه، لأنسه به.

الثالث: القول بالتفصيل في ضمان البدل بين المدّة القصيرة و الطويلة، و بين التضرّر و عدمه، فيقال بعدم الضمان فيما لو علم بوجدان العين في مدة قصيرة، سواء تضرّر فيه المالك أم لا. و كذا لو علم به في مدّة طويلة مع عدم تضرّر المالك بالانتظار. و يقال بالضمان في ما لو علم بوجدانها في أمد بعيد مع تضرّر المالك بالصبر إلى التمكّن من العين.

الرابع: القول بضمان البدل مطلقا بمجرّد تعذّر العين، سواء أ كانت مدّة الوصول إليها طويلة أم قصيرة.

________________________________________

ص: 558

إليه (1)، أو بعدم رجاء وجدانه (2)، أو يشمل (3) ما لو علم وجدانه في مدّة طويلة يتضرّر المالك من انتظارها، أو (4) و لو كانت قصيرة؟ وجوه (5). ظاهر أدلّة ما ذكر من الأمور الاختصاص بأحد الأوّلين (6).

لكن ظاهر إطلاق الفتاوى الأخير (7) كما يظهر (8) من إطلاقهم أنّ اللوح

______________________________

هذا ما يحتمل ثبوتا في تحديد موضوع الحكم.

و أفاد المصنّف قدّس سرّه في مقام الإثبات أنّ مفاد أدلّة وجوب أداء بدل الحيلولة يختلف عن ظاهر الفتاوى، إذ مقتضى الأدلّة اختصاص الوجوب بأحد الوجهين الأوّلين، و هما اليأس من الوصول و عدم رجاء الوجدان، لكونهما قدرا متيقّنا من «تعذّر الوصول» الذي هو بحكم التلف الحقيقيّ. و لكن مقتضى إطلاق الفتاوى وجوب بدل الحيلولة حتى لو تمكّن الضامن من الظفر بالعين في مدّة قصيرة كي يردّها إلى المالك، و سيأتي نقل فتواهم إن شاء اللّه تعالى.

(1) هذا هو الاحتمال الأوّل.

(2) هذا هو الاحتمال الثاني، و قد عرفت الفرق بينه و بين الاحتمال الأوّل.

(3) هذا هو الاحتمال الثالث، و هو معطوف على قوله: «يقيّد» و مقابل له، و غرضه التعميم و بيان احتمال عدم اختصاص التعذّر بصورة اليأس عن الوصول أو اليأس عن الوجدان، بل «تعذّر الوصول» أعمّ منهما و ممّا علم وجدانه في مدّة طويلة.

(4) معطوف على «مدّة طويلة» يعني: يصدق «التعذّر» حتّى في صورة العلم بوجدان العين في مدّة قصيرة، و هذا هو الاحتمال الرابع.

(5) مبتدء مؤخّر لمحذوف، و هو «فيه».

(6) أي: حصول اليأس من الوصول إليه، أو عدم رجاء الوجدان.

(7) و هو قوله: «أو و لو كانت قصيرة».

(8) قال في الجواهر: «و إن كانت- أي السفينة التي أدرج فيها لوح مغصوب- في اللّجة، و خيف من النزع غرق حيوان محترم- آدميّ أو غيره- أو مال كذلك لغير الغاصب الجاهل بالغصب، ففي القواعد و التذكرة و جامع المقاصد و المسالك

ص: 559

المغصوب في السفينة إذا خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب (1) انتقل إلى قيمته إلى أن يبلغ الساحل.

و يؤيّده (2) أنّ فيه جمعا بين الحقّين، بعد فرض رجوع القيمة إلى ملك الضامن (3) عند التمكّن من العين، فإنّ (4) «تسلّط النّاس على مالهم» الذي فرض

______________________________

و الروضة و ظاهر غيرها عدم وجوب النزع، بل في مجمع البرهان: لا خلاف فيه، جمعا بين الحقّين، و لاحترام روح الحيوان، سواء كان الغاصب أو للغاصب أو غيره ..» «1».

و قوله: «جمعا بين الحقّين» شاهد على أنّهم أطلقوا الحكم بالانتقال إلى القيمة، أعني بها قيمة اللوح المتعذّر أخذه فعلا لخوف غرق مال غير الغاصب مع كون اللوح معلوم الوصول و الوجدان، و لم يفرّقوا بين كون مدة الوصول إلى الساحل طويلة أو قصيرة.

(1) إذ لو كان المال الموجود في السفينة ملكا للغاصب أو لمن يعلم بغصبيّته وجب نزع اللوح المغصوب فورا، لعدم احترام مثل هذا المال، و لم تصل النوبة إلى انتقال الضمان من العين إلى بدل الحيلولة.

(2) يعني: يؤيّد هذا الإطلاق أنّ الانتقال إلى القيمة إلى زمان وصول العين جمع بين حقّي المالك و الغاصب، لأنّ مقتضى سلطنة المالك على ماله جواز مطالبته عينا أو بدلا، و مقتضى عدم تضرّر الغاصب هو أن يدفع المالك إليه بدل الحيلولة الذي أخذه منه، بعد وصول العين المغصوبة إلى مالكها.

و التعبير بالتأييد لعدم إحراز ثبوت حقّ للمالك مع فرض بقاء العين و وصولها إليه في مدّة قصيرة.

(3) لقولهم بترادّ العين و بدل الحيلولة، كما نقلناه عن المحقق في (ص 556).

(4) تعليل لثبوت حقّ للمالك يقتضي جواز مطالبة بدل الحيلولة من الضامن.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 77

ص: 560

كونه في عهدته يقتضي (1) جواز مطالبة الخروج عن عهدته (2) عند تعذّر نفسه.

نظير ما تقدّم (3) في تسلّطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذّر في المثليّ.

نعم (4) لو كان زمان التعذّر قصيرا جدّا- بحيث لا يحصل صدق عنوان الغرامة و التدارك على أداء القيمة- أشكل الحكم (5).

[ب: المراد بالتعذّر هو العرفيّ لا العقليّ]

ثم الظاهر (6) عدم اعتبار التعذّر المسقط للتكليف،

______________________________

(1) خبر قوله: «انّ تسلّط» و ضمير «عهدته» راجع إلى الضامن.

(2) مرجع هذا الضمير و ضميري «كونه. نفسه» هو «مال الناس».

(3) حيث قال في الأمر السادس: «انّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك، و جمع بين حقّ المالك بتسليطه على المطالبة، و حقّ الضامن بعدم تكليفه بالمتعذّر أو المعسور».

(4) استدراك على إطلاق حكمهم بضمان بدل الحيلولة حتّى في ما إذا كان زمان تعذّر الوصول إلى العين المضمونة قصيرا. و الوجه في الاستدراك: أنّ بدل الحيلولة غرامة على الضامن لأجل تدارك حرمان المالك عن ماله مدّة التعذّر، و من المعلوم أنّ صدق عنوان «الغرامة» يتوقّف على حصول النقص و الفوت على من له الغرم، و مع قصر المدّة لا يصدق فوت مال المالك و لا نقصه عليه، فلا موجب للغرامة.

(5) منشأ الاشكال أمران، يقتضي أحدهما الضمان، و الآخر عدمه، فقاعدة السلطنة تقتضي جواز المطالبة حين التعذّر الموجب للانتقال إلى القيمة حتّى في المدّة القصيرة. و صدق التمكّن عرفا من ردّ العين- لقصر الزمان- يقتضي عدم الانتقال إلى القيمة.

ب: المراد بالتعذّر هو العرفيّ لا العقليّ

(6) غرضه تحديد التعذّر الموجب للبدل، و حاصله: أنّ الانتقال إلى بدل الحيلولة لا يناط بسقوط التكليف بوجوب ردّ العين، فلو لم يصل التعذّر إلى هذا الحدّ

ص: 561

بل لو كان ممكنا (1) بحيث يجب عليه السعي في مقدماته لم يسقط القيمة (2) زمان السعي.

لكن (3) ظاهر كلمات بعضهم التعبير بالتعذّر.

______________________________

وجب دفع بدل الحيلولة أيضا، كما تقتضيه فتاواهم بالانتقال إلى القيمة في اللوح المغصوب، مع إمكان الوصول إليه و لو بالسعي مقدّمات الإيصال إلى الساحل.

و بعبارة أخرى: المراد بالتعذّر ليس هو الامتناع الذي يعدّونه من مسقطات التكليف، نظير الامتثال و انتفاء الموضوع، كسقوط أحد المتزاحمين- المتساويين ملاكا- عن الوجوب الفعليّ التعيينيّ، و التخيير في الامتثال. فلو كان التعذّر في المقام بهذا المعنى لم يبق موضوع لبدل الحيلولة، لفرض بقاء صورتها النوعيّة على ما كانت عليه، كالعبد الآبق و اللوح المدرج في السفينة. فالمراد بالتعذّر هنا ما يجتمع مع التكليف بأداء العين، حتى لو توقّف الوصول إليها على تمهيد مقدّمات و السعي إليها.

و قد ظهر أنّ تعبير المصنف قدّس سرّه بالتعذّر ليس مساوقا للوجه الأوّل- و هو اليأس عن الوصول- حتى يكون ذلك تكرارا، إذ التعذّر العقليّ المسقط للتكليف أخص من اليأس، فإنّ عدم القدرة فعلا على تحصيل العين لا ينافي القطع بحصوله فيما بعد، فضلا عن رجاء حصوله. كما أنّ اعتبار التعذّر العرفيّ في سقوط التكليف بردّ العين لا يساوق الصورة الأخيرة، و هي الحكم ببدل الحيلولة بمجرّد التعذّر الفعليّ، بل التعذّر العرفي أعمّ من التعذّر الفعلي و التعذّر في مدّة قصيرة.

(1) يعني: لمّا كان الوصول إلى العين ممكنا في نفسه- و لو بتمهيد مقدّمات- وجب السعي إليها ليظفر بها.

(2) يعني: بدل الحيلولة.

(3) هذا استدراك على إرادة التعذّر العرفيّ في المقام، و حاصله: أنّ ظاهر كلمات بعضهم اعتبار التعذّر المسقط للتكليف، كقول المحقّق قدّس سرّه: «و إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل» و قريب منه عبارة القواعد و الدروس.

ص: 562

و هو (1) الأوفق بأصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه بردّ العين، فتأمّل (2).

و لعلّ المراد به (3) التعذّر في الحال

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه الاستدلال لما هو ظاهر تعبير جماعة بالتعذّر الذي يلوح منه سقوط التكليف بأداء العين. و تقريبه: أنّ الدليل على استحقاق البدل هو سلطنة المالك على ماله، و لا ريب في اقتضائها جواز مطالبة البدل في مورد تعذّر الوصول إلى العين. أمّا لو لم يتعذّر الوصول إليها فقاعدة السلطنة تقتضي مطالبة العين، لا بدل الحيلولة. و لو شكّ في ثبوت سلطنته على مطالبة كلّ من المبدل و البدل كان مقتضى أصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه بردّ العين عدم سلطنته على مطالبة البدل، هذا.

(2) الظاهر أنّه إشارة إلى الخدشة في الأصل المذكور، إمّا لأنّه قد يفضي إلى تضرّر المالك بحرمانه عن ماليّة ماله، فلو ثبتت له سلطنة المطالبة بالبدل لم يتضرّر بذلك، و إن لم تصل إليه خصوصيّات ماله. و إمّا لأنّ السلطنة على مطالبة بدل الحيلولة لا تنافي سلطنته على العين، لاختصاص زمان وجوب البدل بتعذر الوصول إلى العين، و هو وقت السعي في مقدّمات تحصيل العين، و اختصاص وجوب ردّ العين بزمان حصولها عنده، فلا تكليف بردّها قبل حصولها حتى يقال بنفي الزائد- و هو وجوب البدل- بأصالة عدم السلطنة.

(3) غرضه توجيه أخذ «التعذّر» في الحكم ببدل الحيلولة، و بيانه: أنّ ظاهر التعذّر و إن كان هو التعذّر المطلق، يعني التعذّر في الحال و الاستقبال، بأن يحصل اليأس من الظفر بالعين، لكن يحتمل إرادة التعذّر الفعليّ أي حين السعي في مقدّمات تحصيل العين، فيكفي هذا التعذّر في جواز مطالبة بدل الحيلولة من الضامن، لأنّ نفس تأخير تسليم المال إلى مالكه ضرر عليه ينبغي تداركه بالبدل، هذا.

ص: 563

و إن كان (1) لتوقّفه على مقدّمات زمانيّة يتأخّر لأجلها ذو المقدّمة.

[ج: جواز امتناع المالك من أخذ بدل الحيلولة]

ثم (2) إنّ ثبوت القيمة مع تعذّر العين ليس كثبوتها مع تلفها في كون دفعها حقّا للضامن، فلا يجوز (3) للمالك الامتناع، بل (4) له أن يمتنع من أخذها، و يصبر إلى زوال العذر، كما صرّح به الشيخ في المبسوط (5).

______________________________

(1) يعني: و إن كان هذا التعذّر الفعليّ مستندا إلى استلزام مقدّمات تحصيل العين لزمان طويل.

ج: جواز امتناع المالك من أخذ بدل الحيلولة

(2) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة، و غرضه إبداء الفرق بين ثبوت القيمة مع بقاء العين، و تعذّر ردّها إلى المالك، و بين ثبوتها مع تلفها.

و حاصل الفرق أنّه في صورة التلف يجب على المالك أخذ القيمة، لأنّ للضامن إبراء ذمّته بدفع القيمة، لامتناع تكليفه بردّ العين؛ فليس للمالك الامتناع من الأخذ.

و في صورة التعذّر يجوز للمالك الامتناع من الأخذ، و الصبر إلى زوال العذر و إمكان ردّ العين.

(3) هذا متفرّع على المنفيّ، و هو كون دفع القيمة- عند التلف- حقّا للضامن يجب على المالك قبولها.

(4) معطوف على «ليس» يعني: أنّ للمالك الامتناع من أخذ بدل الحيلولة، بأن يصبر إلى زوال العذر من ردّ العين. و هذا هو الفارق بين تلف العين حقيقة بذهاب صورتها النوعيّة، و بين تلفها حكما بالتعذّر.

(5) حيث قال قدّس سرّه: «إذا غصب ملكا لغيره، فخرج عن يده، مثل أن غصب عبدا فأبق، أو فرسا فشرد، أو بعيرا فندّ، أو ثوبا فسرق، كان للمالك مطالبته بقيمته، لأنّه حال بينهما بالغصب ..» «1». و غرض المصنّف من نسبة التصريح إلى الشيخ قوله «كان للمالك» لدلالته على كون المطالبة بالقيمة حقّا له، و ليس للغاصب الإلزام

______________________________

(1) المبسوط، ج 3، ص 95.

ص: 564

و يدلّ عليه (1) قاعدة تسلّط الناس على أموالهم.

[د: خروج العين عن الماليّة]

و كما أنّ (2) تعذّر ردّ العين

______________________________

بأخذها، فيجوز الصبر إلى الظفر بالعين المضمونة.

(1) يعني: و يدلّ على جواز امتناع المالك من أخذ القيمة- أي بدل الحيلولة- قاعدة السلطنة، لاقتضائها جواز كلّ من مطالبة البدل الموقّت، و من الامتناع عنه، بأن يصبر حتى الظفر بالعين، أو إحراز تلفها، فيأخذ بدلها الدائميّ المستقرّ على عهدة الضامن. و هذا بخلاف ما إذا تلفت العين، لانقطاع سلطنته عليها من أوّل الأمر، و استقرار بدلها في ذمّة الضامن، فله تفريغها بأداء المثل أو القيمة، و لا يجوز للمالك الامتناع من أخذ البدل.

د: خروج العين عن الماليّة

(2) ظاهره بيان مورد آخر مما يجب فيه بدل الحيلولة، و هو خروج المال عن التقويم، توضيحه: أنّ المناط في ضمان بدل الحيلولة- كما تقدّم- أمران، أحدهما: بقاء العين و عدم ذهاب صورتها النوعيّة، و ثانيهما: تعذّر إيصالها إلى المالك.

و بناء على اعتبار هذين يتّجه البحث عمّا إذا أمكن إيصال العين إلى مالكها، لكنّها سقطت عن الماليّة، فيحتمل لحوق هذا الفرض ببدل الحيلولة، كما اختاره المصنّف قدّس سرّه و يحتمل كونه من موارد التلف الحقيقيّ- لأنّ التموّل صفة مقوّمة لضمان العين- فالواجب حينئذ دفع البدل الدائميّ إلى المالك، و لا ربط له ببدل الحيلولة الذي هو بدل محدود و مغيّا بالوصول إلى العين.

فإن قلت: مختار المصنف هنا ربما ينافي ما تقدّم في التنبيه السادس من حكمه بأنّ سقوط المثل عن الماليّة يوجب الانتقال إلى القيمة كالماء على الشاطئ و الجمد في الشتاء. فتشتغل ذمّة الضامن بالقيمة- التي تكون بدلا دائميّا لا محدودا- و يسقط المثل عن العهدة.

ص: 565

في حكم التلف (1)، فكذا خروجه (2) عن التقويم.

[ه: هل البدل ملك المضمون له أم مباح له؟]

ثمّ إنّ (3) المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف،

______________________________

وجه المنافاة: أنّ خروج المثل عن الماليّة لو اقتضى انقلاب ضمانه بالقيمة فليكن خروج العين عن التموّل مثله، فكيف حكم المصنّف: بأنّه كتعذّر العين في أنّ البدل محدود من باب الحيلولة بين المال و مالكه؟

قلت: يمكن دفع التنافي بأنّ خروج المال عن التقويم على نحوين، فتارة لا يرجى عود الماليّة إليه، كاللحم المتعفّن و الفاكهة الفاسدة، فالواجب فيهما المثل أو القيمة من باب التلف الحقيقيّ، لكون تلف الماليّة كتلف العين. و اخرى يرجى عود الماليّة، كما إذا ضمن ماء في المفازة و لم يتلف حتى وصل الشاطئ، و أراد اجتيازه إلى مفازة أخرى، فيقال: بأنّ للمالك مطالبة بدل الحيلولة عند الشاطئ، و لو بقي الماء بحاله إلى الوصول إلى المفازة الأخرى وجب على الضّامن دفعه إلى المالك.

و لعلّ هذا الفرض الثّاني محطّ نظر الماتن هنا، حيث عدّ سقوط المال عن التقويم من موارد بدل الحيلولة. مضافا إلى فرق آخر بين المقام و المثليّ، بأنّ العين واجدة لخصوصيّتها الشخصيّة المضمونة، و لا ينتقل إلى البدل إلّا بالتلف الحقيقيّ، و المفروض عدمه. بخلاف المثليّ، المشارك للعين في الصنف، هذا.

(1) في وجوب البدل المحدود، و هو بدل الحيلولة.

(2) أي: خروج العين عن الماليّة، فالأولى تأنيث الضمير.

ه: هل البدل ملك المضمون له أم مباح له؟

(3) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة، و الغرض منه بيان حكمه من حيث صيرورته ملكا لمن له الغرم أو أنّه يباح له التصرّف فيه. و أثبت المصنّف قدّس سرّه كونه ملكا له بنفي الخلاف بين المسلمين، و استوجهه بأنّ التدارك لا يحصل إلّا بصيرورة بدل الحيلولة ملكا للمغصوب منه، حيث إنّ فوات المال عنه لا ينجبر إلّا بذلك.

ص: 566

كما في المبسوط (1) و السرائر و الخلاف و الغنية. و ظاهرهم (2) إرادة نفي الخلاف بين المسلمين.

______________________________

و لولا هذان الوجهان- و هما الإجماع و اقتضاء الغرامة و التدارك الملكيّة- أمكن القول ببقاء بدل الحيلولة على ملك الغارم، غاية الأمر أنّه يباح لمالك العين الانتفاع به و التصرّف فيه حتى بما يتوقّف على الملك، و يشترط دخوله في ملكه بتلف العين.

و عليه فيكون بدل الحيلولة كالمعاطاة- بناء على نظر من تقدّم على المحقّق الثاني قدّس سرّه من كونها مفيدة للإباحة- بلا فرق بين ما لا يتوقّف على الملك، و ما يتوقّف عليه كالعتق و البيع و الهديّة، و قد جزم بهذا الاحتمال المحقّق القمّيّ قدّس سرّه على ما حكي عنه.

(1) حيث قال- بعد ما نقلناه عنه في (ص 564) ما لفظه: «فإذا أخذ القيمة ملكها بلا خلاف، لأنّه أخذها لأجل الحيلولة» «1». و الغرض أنّ دعوى «عدم الخلاف» مصرّح بها في كلام السيد أبي المكارم، و ابن إدريس أيضا.

(2) و في مفتاح الكرامة أيضا: «و ظاهرهما- يعني كلام الخلاف و الغنية- نفيه بين المسلمين» «2». يعني: أنّ الحكم ليس مجمعا عليه بين الإماميّة خاصّة، بل هو متّفق عليه بين المسلمين. و منشأ استظهار نفي الخلاف بين المسلمين هو قول شيخ الطائفة- بعد العبارة المتقدّمة-: «فإذا ملك القيمة فهل يملك المقوّم أم لا؟ فعندنا أنّه ما يملكها، و أنّها باقية على ملك المغصوب منه» لظهور قوله: «فعندنا» في إجماع الإماميّة على بقاء العين في ملك المغصوب منه، و إذا ظفر بالعين وجب ردّ بدل الحيلولة إلى الغاصب، لخروجه عن ملك المغصوب منه حينئذ.

و ربّما تكون نسبة الحكم إلى أصحابنا في هذه المسألة قرينة على أن مراده بنفي

______________________________

(1) المبسوط، ج 3، ص 95؛ الخلاف، ج 3، ص 412، كتاب الغصب، المسألة 26؛ غنية النزوع، ص 538، (ضمن الجوامع الفقهية)؛ السرائر، ج 2، ص 486

(2) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 254

ص: 567

و لعلّ الوجه فيه (1) أنّ التدارك لا يتحقّق إلّا بذلك (2).

و لو لا ظهور الإجماع (3) و أدلّة الغرامة في الملكيّة لاحتملنا أن يكون مباحا له (4) إباحة مطلقة و إن لم يدخل في ملكه. نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة على القول بها فيها (5)، و يكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين (6).

______________________________

الخلاف في المسألة السابقة نفي الخلاف بين المسلمين، و لولاه لم يكن وجه للتعبير تارة بنفي الخلاف، و أخرى ب «عندنا».

(1) اي: و لعلّ الوجه في تملّك المغصوب منه لبدل الحيلولة هو: أنّ تدارك حرمان المالك عن العين المتعذّرة إنّما هو بدخول البدل في ملكه حتى يتسلّط على التصرّف فيه، كما كان يتصرّف في المبدل لو كان حاضرا عنده.

و هذا الوجه يستفاد من كلام الجواهر أيضا، كقوله: «بل أدلّة الضمان التي منها- على اليد- شاملة لذلك قطعا فهي حينئذ مقتضية لملك المالك القيمة .. فالقيمة حينئذ مملوكة، و العين باقية على الملك للأصل» «1».

(2) أي: بكون المال المبذول- المسمّى ببدل الحيلولة- ملكا للمغصوب منه.

(3) أي: على القول بالإباحة في المعاطاة، غرضه: أنّه بالإباحة يتحقّق التدارك. و لا يتوقف ذلك على القول بالملكية، فالموجب له هو ظهور الإجماع و أدلّة الغرامة.

(4) أي: لمالك العين، و المراد بالإباحة المطلقة ما يشمل التصرّف المشروط بالملك كالبيع.

(5) أي: على القول بالإباحة المطلقة في المعاطاة، لتحقّق التدارك بهذه الإباحة، و لا موجب لدخول بدل الحيلولة في ملك مالك العين: فدليل القول بالملكيّة هو الإجماع و أدلّة الغرامة.

(6) كما أنّ تملّك المأخوذ بالمعاطاة مشروط بتلف العوض.

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 131

ص: 568

و حكي الجزم بهذا الاحتمال (1) عن المحقّق القمي رحمه اللّه في أجوبة مسائله (2).

[و: دفع بدل الحيلولة لا يقتضي انتقال العين الى الغارم]

و على أيّ حال (3) فلا ينتقل العين إلى الضامن،

______________________________

(1) أي: احتمال الإباحة المطلقة.

(2) الموجود في جامع الشتات كون بدل الحيلولة نوعا من الملك، و لم يرد في كلامه التصريح بالإباحة، و لكن الظاهر إرادة الإباحة، لأنّه قدّس سرّه أراد التفصّي عن إشكال الشهيد الثاني- الآتي قريبا- من أنّه يلزم الجمع بين العوض و المعوّض لو قلنا بصيرورة بدل الحيلولة ملكا لمالك العين، و الالتزام بالملك المتزلزل. فتخلّص المحقّق القمّيّ عنه بقوله: «فلا مانع من أن يكون ذلك نوعا من التملّك، و حاصله: أنّ للمالك التصرّف [في البدل] للبدل حتى بالإتلاف و البيع و غير ذلك. و ذلك مراعى إلى حين ظهور العين المغصوبة، فإن ظهر العين و البدل باق فللغاصب استرداد ماله إذا كان باقيا، بخلاف ما لو أتلفه» «1».

و: دفع بدل الحيلولة لا يقتضي انتقال العين الى الغارم

(3) يعني: سواء قلنا بدخول بدل الحيلولة في ملك المضمون له أم بالإباحة المطلقة، فلا ينتقل العين .. إلخ. و هذا فرع آخر، و هو أنّ الغرامة التي يدفعها الضامن إلى المالك- بسبب الحيلولة- لا توجب دخول العين المضمونة في ملك الضامن، للفرق بين العوض في العقود المعاوضيّة، و بين بدل الحيلولة الذي هو غرامة، و ليس أداء للعين من حيث ماليّته حتى يستلزم دخول العين في ملكه من جهة امتناع اجتماع العوض و المعوّض عند واحد.

و الحاصل: أنّ بدل الحيلولة غرامة يبذلها الضامن، و لا تقتضي دخول العين في ملكه معاوضة، كما أنّ البدل الدائميّ الذي يبذله الضامن لا يوجب صيرورة العين التالفة ملكا له، هذا.

______________________________

(1) جامع الشتات، ج 1، ص 152، السطر: 6.

ص: 569

فهي غرامة (1) لا تلازم فيها بين خروج المبذول عن ملكه، و دخول العين في ملكه، و ليست معاوضة ليلزم الجمع بين العوض و المعوّض، فالمبذول هنا (2) كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له.

و قد استشكل في ذلك (3) المحقّق و الشهيد الثانيان.

قال الأوّل في محكيّ جامعه: «إنّ هنا إشكالا، فإنّه كيف يجب القيمة و يملكها الآخذ، و يبقى العين على ملكه؟ و جعلها (4) في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» انتهى.

و قال الثاني: «إنّ هذا لا يخلو من إشكال من حيث اجتماع العوض

______________________________

و قد تقدّم في عبارة المبسوط التصريح بعدم دخول العين في ملك الغارم، و لكن استشكل فيه المحقّق و الشهيد الثانيان، و سيأتي.

(1) لا أداء للعين من حيث الماليّة حتى يلزم دخول العين في ملك الغاصب ببذل البدل.

(2) هذه نتيجة كون بدل الحيلولة غرامة لا أداء للعين من حيث الماليّة، يعني:

أنّ المبذول بعنوان بدل الحيلولة كالمبذول مع تلف العين.

(3) يعني: في صيرورة بدل الحيلولة ملكا لمالك العين.

(4) مبتدء خبره «لا يكاد» و غرض المحقّق الثاني قدّس سرّه دفع دخل، حاصله: أنّ بدل الحيلولة ليس في قبال نفس العين المضمونة حتى يلزم إشكال الجمع بين العوض و المعوّض في ملك المضمون له، بل يكون البدل عوضا عن حيلولة الغاصب- بين العين و مالكها- المفوّتة لسلطنته عليها، فلا إشكال حينئذ «1».

و دفعه المحقّق الثاني بأنّ بدليّة المثل أو القيمة عن الحيلولة- لا عن نفس العين- غير متّضحة، إذ لو تلفت لزم عوضها و سقط التكليف بردّ العين، و إن بقيت- كما هو الفرض- فما الدليل على استحقاق بدل محدود لأجل الحيلولة؟.

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 261

ص: 570

و المعوّض على ملك المالك من دون دليل واضح (1) [1].

و لو قيل (2) بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلا (3)، و توقّف تملّك المغصوب منه للبدل على اليأس (4) من العين- و إن جاز له التصرّف- كان وجها (5) في المسألة» «1».

و استحسنه في محكي الكفاية (6).

______________________________

(1) يعني: لو دلّ دليل على جواز اجتماع العوض و المعوّض في ملك واحد أمكن الالتزام بمالكيّة المضمون له- هنا- لكلّ من العين و بدل الحيلولة، و لكن حيث لا دليل عليه إثباتا يشكل المصير إليه.

(2) غرض الشهيد الثاني التخلّص من محذور اجتماع العوض و المعوّض- بالقول بالملك المتزلزل لا المستقرّ، فالمضمون له يملك بدل الحيلولة، كمالكيّة ذي الخيار للمبيع متزلزلا، و استقرار الملك مراعى باليأس من العين، و قبل اليأس يجوز للمالك التصرّف في البدل بأنحاء التصرّف.

و لا يخفى عليك أنّ هذا الملك المتزلزل قول ثالث في المسألة في قبال كلّ من الملك المستقرّ، و الإباحة المطلقة.

(3) أي: التزلزل مستمر إلى اليأس، و به يستقرّ الملك.

(4) بل على التلف، و يمكن أن يكون اليأس طريقا إليه.

(5) إذ به يندفع إشكال الجمع بين العوض و المعوّض.

(6) يعني: استحسن الفاضل السبزواري قدّس سرّه القول بالملك المتزلزل لحلّ إشكال الجمع بين العوض و المعوّض.

______________________________

[1] ظاهره كظاهر المستند عدم كون محذور اجتماع العوض و المعوّض عقليّا، مع أنّ محذورة عقليّ، لأنّ العوض في الملكيّة عبارة عن كون مال بدلا عن مال آخر، بحيث تكون إضافة الملكيّة قائمة بمال لم يكن ملكا له.

______________________________

(1) الحاكي هو السيد العاملي قدّس سرّه في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 255؛ مسالك الافهام، ج 12، ص 201 كفاية الأحكام، ص 259

ص: 571

أقول: الذي ينبغي أن يقال (1) هنا: إنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن، و لازم ذلك (2) إقامة مقابله من ماله مقامه (3)، ليصدق ذهابها من كيسه.

ثم (4) إنّ الذّهاب إن كان على وجه التلف الحقيقيّ أو العرفيّ المخرج للعين

______________________________

(1) ناقش المصنّف في كلام المحقّق و الشهيد الثانيين و الفاضل السبزواري قدّس سرّهم من جعل محذور اجتماع العوض و المعوّض مانعا من دخول البدل في ملك المضمون له، ثم تخلّص الشهيد الثاني عنه بالملك المتزلزل.

و حاصل المناقشة: اقتضاء الدليل دخول البدل في ملك المضمون له، و ذلك لأنّ معنى ضمان العين- و كون عهدتها على الضامن- هو كون ذهابها من كيس الضامن، بحيث يرد نقصان في ماله، و لازم ذلك جعل مقابله من ماله مقام التالف في الملكيّة، بمعنى: إقامة إضافة الملكيّة بما يبذله للمالك، فما يدفعه إلى المالك يقوم مقام ماله التالف في الملكيّة. هذا في التلف الحقيقيّ.

و أمّا في تعذّر الوصول إلى العين كالمقام- و فوات الانتفاع بها- فمعنى الضمان تدارك السلطنة الفائتة، و هذا المقدار و إن كان يتحقّق بإباحة البدل للمالك، لتمكّنه من التصرّف فيه مطلقا، إلّا أنّ الموجب للقول بمالكيّة المضمون له هو عدم جواز بعض التصرّفات للمباح له، كالعتق و البيع و الوقف و نحوها، فيلزم قصر سلطنة المالك حينئذ، و لا سبيل لتدارك تلك السلطنة المطلقة على ماله إلّا بدخول البدل في ملكه، هذا.

و عليه فما أفادوه- من عدم دليل واضح على اجتماع العوض و المعوّض عند المالك- قد عرفت منعه، لاقتضاء أدلّة الضمان جبر السلطنة الفائتة و تداركها، و لا يكون إلا بالملك.

(2) أي: و لازم ذهاب العين من مال الضامن هو إقامة مقابلها من ماله مقامها.

(3) أي: مقام العين، فالأولى تأنيث الضمير.

(4) هذا تفصيل لقوله: «إنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن»

ص: 572

عن قابليّة الملكيّة (1) [الملك] عرفا وجب قيام مقابله من ماله مقامه (2) في الملكيّة. و إن كان (3) الذهاب بمعنى انقطاع سلطنته عنه و فوات الانتفاع به في الوجوه التي بها قوام الملكيّة وجب قيام مقابله مقامه (4) في السلطنة، لا في الملكيّة (5) ليكون (6) مقابلا و تداركا للسلطنة الفائتة. فالتدارك لا يقتضي ملكيّة المتدارك (7) في هذه الصورة (8).

______________________________

و حاصله: أنّ لذهاب العين صورتين، إحداهما: التلف الحقيقيّ أو العرفيّ، و الأخرى انقطاع السلطنة، و هو التلف الحكمي، و تقدّم بيانهما آنفا، و سيأتي أيضا.

(1) الظاهر أنّ الصواب «الماليّة» لقيام المنافع بالشي ء من حيث كونه مالا، لا ملكا. و يمكن توجيه «الملكيّة» بأنّها- في المقام- غالبا لا تنفكّ عن الماليّة، فتتحد قابليّة الملكيّة و الماليّة، و الأمر سهل.

(2) أي: مقام العين في إضافة الملكيّة، فيكون البدل الدائميّ ملكا لمالك العين التالفة. و الأولى تأنيث الضمير، كما مرّ.

(3) معطوف على «إن كان» و هو بيان مورد بدل الحيلولة، و أنّ حكمه الإباحة المطلقة، و حاصله: أنّ المراد بالذهاب انقطاع سلطنة المالك عن ماله، فاللازم جعل مال في مقابل السلطنة الفائتة عن ماله، لا في مقابل الملكيّة، فالتدارك لا يقتضي ملكية البدل المبذول لتدارك السلطنة، إذ لا يتوقّف تداركها على ملكيّة البدل، بل يحصل بالإباحة و السلطنة المطلقة عليه.

(4) هذا الضمير و ضمائر «عنه، به، مقابله» راجعة إلى «العين» فالأولى تأنيثها.

(5) يعني: أنّ الفارق بين التلف الحقيقيّ و فوات السلطنة هو لزوم كون تدارك الأوّل بدخول البدل في ملك المضمون له، بخلاف الثاني، لكفاية إباحته له.

(6) أي: ليكون هذا المقابل مقابلا للسلطنة الفائتة و تداركا لها.

(7) بالكسر، أى: البدل الموجب للتدارك.

(8) أي: صورة انقطاع سلطنة المالك و فوات الانتفاعات.

ص: 573

نعم (1) لمّا كانت السلطنة المطلقة المتداركة للسلطنة الفائتة متوقّفة على الملك، لتوقّف بعض التّصرّفات عليها، وجب ملكيّته للمبذول، تحقيقا لمعنى التدارك و الخروج عن العهدة.

و على أيّ تقدير (2) فلا ينبغي الإشكال في بقاء العين المضمونة على ملك مالكها (3).

إنّما الكلام في البدل المبذول، و لا كلام أيضا في وجوب الحكم بالإباحة (4) و بالسلطنة المطلقة عليها.

______________________________

(1) استدراك على أنّ التدارك لا يقتضي ملكيّة المتدارك- بالكسر- لكن لمّا كانت السلطنة المطلقة الجابرة للسلطنة الفائتة منوطة بالملك، لتوقّف بعض التّصرّفات عليه، وجب الحكم بكون البدل ملكا للمالك، و ذلك لأنّ التدارك يقتضي ذلك حيث إنّ السلطنة المطلقة الفائتة لا تتدارك إلّا بسلطنة مثلها، فنفس انقطاع سلطنة المالك و إن لم يقتض ملكيّة بدل الحيلولة، إلّا أنّ كيفية السلطنة الفائتة تقتضي كون السلطنة الجابرة لها مثلها.

(2) يعني: سواء قلنا بملكيّة بدل الحيلولة للمالك، أم قلنا بإباحتها المطلقة.

(3) لعدم موجب لخروجها عن ملك مالكها، و مع الشكّ يجري الاستصحاب، و قد تقدّم أيضا بقوله: «و على أيّ حال فلا ينتقل العين إلى الضامن».

(4) كما اختاره المحقّق القمّي قدّس سرّه لكفاية هذه الإباحة المطلقة في جبر فوات سلطنة المالك على ماله، و لا يتوقّف التدارك على دخول بدل الحيلولة في ملك المضمون له. نعم هذه الإباحة تستلزم الملك من أوّل الأمر، أو تنتهي إليه عند التّصرّف، حتى تصحّ التّصرّفات المشروطة بالملك فيه. و قد تقدّم تفصيل الكلام في رابع تنبيهات المعاطاة. لكن الذي تحصّل من كلامه هناك الإشكال في الإباحة المطلقة فراجع «1».

______________________________

(1) هدى الطالب، ج 2، ص 94 إلى ص 120

ص: 574

و بعد ذلك فيرجع محصّل الكلام حينئذ (1) إلى أنّ إباحة جميع التّصرّفات- حتى المتوقّفة على الملك- هل يستلزم الملك من حين الإباحة أو يكفي فيه حصوله من حين التّصرّف؟ و قد تقدّم في المعاطاة بيان ذلك.

[ز: اشتراط وجوب البدل بفوات معظم منافع العين]

ثم (2) إنّه قد تحصّل ممّا ذكرنا (3) أنّ تحقيق ملكيّة البدل (4) أو السلطنة (5)

______________________________

(1) أي: حين وجوب الحكم بإباحة البدل و السلطنة المطلقة عليه.

ز: اشتراط وجوب البدل بفوات معظم منافع العين

(2) هذا البحث يتعلّق بكون بدل الحيلولة ملكا أو مباحا لمالك العين، و الغرض منه تحديد موضوع البحث و حصر مورده بما إذا كان الفائت على المالك معظم الانتفاعات حتّى يتصف البدل بكونه غرامة. فلو كان الفائت منفعة غير مقوّمة لماليّة العين فمقتضى ما تقدّم عدم كون بدل الحيلولة ملكا و لا مباحا للمالك.

إلّا إذا حكم الشارع بغرامة العين، فإنّها تكشف عن انتقال العين إلى الغارم، كما في البهيمة الموطوءة، فإنّ الشارع ضمّن الواطي قيمة الحيوان و أوجب نفيه عن البلد، و لكن لا يسقط به عن الماليّة و التقويم، و إنّما هو حيوان معيب، فإيجاب دفع البدل يدلّ على تحقّق مبادلة شرعيّة بينه و بين الحيوان.

و هذا بخلاف سقوط العين عن الماليّة، فلا يكون وجوب دفع البدل مقتضيا لخروج المبدل عن الملك، لكون البدل غرامة للسلطنة الفائتة و للخروج عن الماليّة.

و سيأتي مزيد بيان للمطلب.

(3) يعني: من بقاء العين على ملك مالكها، و كون دفع البدل غرامة عمّا فات من سلطنة المالك.

(4) بناء على دخوله في ملك المضمون له.

(5) بناء على إباحته له.

ص: 575

المطلقة عليه مع بقاء العين على ملك مالكها إنّما (1) هو مع فوات معظم الانتفاعات به، بحيث يعدّ بذل البدل غرامة و تداركا (2). أمّا لو لم يفت إلّا بعض ما ليس به قوام الملكيّة (3)، فالتدارك لا يقتضي ملكه (4) و لا السلطنة على البدل.

و لو فرض (5) حكم الشارع بوجوب غرامة

______________________________

(1) خبر قوله: «أن تحقيق».

(2) لأنّ التدارك عبارة عن «قيام شي ء مقام آخر فيما زال عنه من الأوصاف» و مقتضاه تعنون الشي ء الثاني بالعنوان الزائل عن الأوّل- من الملكيّة- في مورد الانتفاع بجميع وجوه المنافع.

(3) الأولى تبديل الملكيّة بالماليّة، لأنّ الانتفاع يدور مدار الماليّة لا الملكيّة كما هو ظاهر.

(4) أي: ملك البدل، و لو قال: «لا يقتضي ملك البدل و لا السلطنة المطلقة عليه» كان أقرب إلى السلاسة.

(5) هذا حكم صورة بقاء معظم الانتفاعات مع وجوب البدل شرعا كالحيوان الموطوء، و توضيحه: أنّ الحيوان المقصود ظهره- كالخيل و البغال و الحمير- إذا وطأه غير المالك لا يفوت معظم الانتفاعات به بمجرّد وطئه، لأنّه يحرم بيعه في خصوص بلد الوطي، لا مطلقا، فلا يصدق التدارك هنا، لأنّ المناط في صدقه بقاء الانتفاعات التي بها قوام الماليّة، و هي باقية بعد الوطء أيضا، لأنّ وجوب نفيه في بلد الوطي و بيعه في آخر لا يرفع مناط الماليّة، فلا يصدق التدارك حتى يحكم بوجوبه على الواطئ. فحكم الشارع بغرامة القيمة و دخولها في ملك مالك الحيوان كاشف عن مبادلة شرعيّة بين الحيوان و قيمته، فينتقل الحيوان إلى ملك الغارم تعبّدا، و هذا تخصيص في ما تقدّم من قيام الإجماع على عدم خروج العين من ملك المضمون له في موارد بدل الحيلولة، هذا.

ثمّ إنّ الشارع حكم حقيقة- لا فرضا- بوجوب التدارك في فوات بعض

ص: 576

قيمته حينئذ (1) لم يبعد كشف ذلك عن انتقال العين إلى الغارم. و لذا (2) استظهر غير واحد (3) أنّ الغارم لقيمة الحيوان الذي وطأه يملكه، لأنّه (4) و إن وجب بالوطي نفيه عن البلد و بيعه في بلد آخر، لكن هذا لا يعدّ فواتا لما به قوام الماليّة.

هذا (5) كلّه مع انقطاع السلطنة عن العين مع بقائها على ملكيّتها السابقة.

______________________________

الانتفاعات مع عدم تقوّم الماليّة بها، كالبهيمة الموطوءة المقصود ظهرها، لقول الباقر عليه السّلام في حسنة سدير: «و إن كانت مما يركب ظهره غرم قيمتها، و جلد دون الحدّ، و أخرجها من المدينة التي فعل بها فيها إلى بلاد أخرى حيث لا تعرف، فيبيعها فيها كيلا يعيّر بها صاحبها» «1». فالقيمة يملكها المالك، كما أنّ الحيوان الموطوء يصير مملوكا للغاصب، مع أنّه لم يفت ما به قوام ماليّته.

(1) أي: حين عدم فوات معظم المنافع التي تدور الماليّة مدارها.

(2) أي: و لأجل كشف الغرم- مع بقاء معظم الانتفاعات- عن المبادلة التعبّديّة استظهر غير واحد مالكيّة الغارم للحيوان الموطوء.

(3) كالشهيدين و السيّد الطباطبائي، قال في الرياض: «و إن كان غيره- أي و إن كان الفاعل غير المالك- فالظاهر أن تغريمه القيمة يوجب ملكه للبهيمة ..

و بذلك صرّح الشهيدان في النكت و الروضة» «2».

(4) تعليل لدخول الحيوان الموطوء في ملك الفاعل، و أنّ مجرّد نفيه عن البلد و بيعه في بلد آخر لا يسقطه عن الماليّة.

(5) المشار إليه قوله: «ثم إنّ تحقيق ملكيّة البدل أو السلطنة المطلقة عليه» و حاصله: أنّ محطّ البحث عن مالكيّة المضمون له للبدل أو إباحته له إنّما هو في صورة بقاء العين على ماليّتها، و كون الغرامة عوضا عن السلطنة الفائتة، ففي مثله يقال بملكية البدل أو بالسلطنة المطلقة عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص 571، الباب 1 من أبواب نكاح البهائم، الحديث: 4

(2) رياض المسائل، ج 2، ص 499، السطر 9، الروضة البهية، ج 9، ص 311.

ص: 577

أمّا لو خرج (1) عن التقويم مع بقائها على صفة الملكيّة (2) فمقتضى قاعدة الضمان وجوب كمال القيمة مع بقاء العين على ملك المالك، لأنّ (3) القيمة عوض الأوصاف و الأجزاء التي خرجت العين لفواتها عن (4) التقويم، لا عوض (5) العين نفسها، كما (6) في الرطوبة الباقية بعد الوضوء بالماء المغصوب، فإنّ بقاءها على ملك مالكها لا ينافي معنى الغرامة،

______________________________

و أمّا لو خرجت العين عن التقويم- مع كونها باقية على ملك مالكها- فمقتضى قاعدة الضمان وجوب تمام القيمة، لأنّ الغارم فوّت ماليّتها على مالكها. و قد تقدّم عدم التنافي بين كون كلّ من العين و غرامتها ملكا للمضمون له. فلو كسر إناء الغير وجب عليه دفع قيمته مع عدم خروج رضاضه عن ملكه، و عدم انتقالها إلى ملك الغارم.

(1) الأولى أن يقال: «خرجت».

(2) كالظروف المكسورة، و الدّهن الذي تنجّس بإلقاء القذر فيه، بناء على عدم جواز الانتفاع به، فيجب على الكاسر و الملقي دفع تمام القيمة، مع بقاء الظرف و الدهن المتنجّس على ملك المالك.

(3) تعليل لوجوب تمام القيمة مع عدم انتقال العين إلى ملك الغارم.

(4) متعلّق ب «خرجت» و «لفواتها» علّة للخروج عن التقويم.

(5) معطوف على «عوض الأوصاف» و بيانه: أنّه لو كانت القيمة عوض نفس العين لزم دخولها في ملك الغارم لئلّا يجتمع العوض و المعوّض عند واحد، و لكن حيث كانت القيمة عوض الأوصاف أو الأجزاء لم يلزم الاجتماع.

(6) هذا مثال لخروج العين عن التقويم لفوات أجزائها.

و يمكن أن يكون مثالا لفوات الأوصاف أيضا، لأنّ وصف الاجتماع لأجزاء الماء دخيل في ماليّته، و المفروض فوات ذلك الوصف الموجب لخروجه عن التقويم.

ص: 578

لفوات (1) معظم الانتفاعات، فيقوى عدم جواز المسح بها إلّا بإذن المالك (2) و لو (3) بذل القيمة. قال في شرح القواعد فيما لو (4) خاط ثوبه بخيوط مغصوبة:

«و لو طلب المالك نزعها و إن أفضى إلى التلف وجب، ثم يضمن الغاصب النقص، و لو لم يبق لها قيمة غرم جميع القيمة» انتهى (5).

و عطف (6) على ذلك في محكيّ جامع المقاصد قوله: «و لا يوجب ذلك

______________________________

و كيف كان فالمراد برطوبة الماء المغصوب- مع اعتبار إباحة الماء- هو الالتفات إلى غصبيّة الماء بعد الغسلتين و قبل المسحتين، إذ لو أحرز غصبيّته قبل الوضوء لم يصحّ و ضوؤه من أوّل الأمر.

(1) تعليل لصدق معنى الغرامة، و حاصله: صدق الغرامة هنا، لفوات معظم الانتفاعات المقوّم لصدق الغرامة.

(2) إذ المفروض بقاء الرطوبة على ملك مالكها، و المسح بها تصرّف فيها، فجوازه منوط بإذنه، لأنّ حرمة التصرّف من آثار الملك، لا المال، فلا يضرّ عدم صدق المال على الرطوبة.

(3) وصليّة، يعني: يقوى بطلان المسح بدون إذن المالك حتى إذا بذل القيمة.

(4) هذه العبارة نصّ كلام القواعد، و فيه أيضا: «وجب نزعها مع الإمكان، و لو خيف تلفها لضعفها فالقيمة» «1».

(5) هذا نصّ كلام المحقّق الثاني في شرح العبارة «2». و مراده بالتلف بقرينة قوله بعده: «النقص» أنّ الخيوط تارة تتلف بالنزع، لكونها ضعيفة تتقطّع و تخرج عن حيّز الانتفاع بها ثانية، فلا تقابل بالمال. و اخرى تنقص قيمتها. فعلى الأوّل يجب دفع تمام قيمة الخيوط إلى مالكها، و على الثاني يجب دفع نقص ماليّتها.

(6) هذا ظاهر في كون العبارة السابقة لغير جامع المقاصد، مع أنّها عين كلامه

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 81، السطر 6 (الطبعة الحجرية).

(2) الحاكي هو السيد العاملي، مفتاح الكرامة، ج 6، ص 285؛ جامع المقاصد، ج 6، ص 304 و 305

ص: 579

خروجها عن ملك المالك كما سبق من أنّ جناية الغاصب توجب أكثر الأمرين، و لو استوعب القيمة أخذها (1) و لم تدفع العين» انتهى.

و عن المسالك في هذه المسألة: «أنّه إن (2) لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة، و لا يخرج بذلك عن ملك مالكه كما سبق، فيجمع بين العين و القيمة» «1» (3)

______________________________

كما عرفت، فالأولى أن يقال: «و عطف على ذلك قوله».

(1) يعني: لو كانت الجناية مستوعبة للقيمة أخذ المالك تمام القيمة، مع بقاء العين على ملكه، فيجتمع لديه العين و القيمة، و لا يدفع العين إلى الضامن.

كما إذا غصب عبدا فجنى عليه بقطع يده، فالدية المقدّرة نصف قيمة العبد، لكن يفصّل في المسألة بين ما لو تنزّلت قيمة العبد- بهذه الجناية- عن نصف قيمته، فيجب دفع أكثر من نصف قيمته، و بين ما لو تنزّلت قيمته أقلّ من النصف تعيّن المقدّر الشرعيّ. مثلا إذا قوّم العبد المغصوب سليما بألف دينار، كانت دية قطع يده خمسمائة دينار، و لكن يلاحظ قيمة العبد مقطوع اليد، فإن كانت خمسمائة كفى دفع الدية المقدّرة.

و إن كانت قيمته أربعمائة دينار وجب دفع ستمائة، و لا يجزي دفع خمسمائة دينار، و هي الدية المقدّرة. هذا.

و لو جنى عليه جناية أخرى بحيث صار دية المجموع ألف دينار وجب دفع الألف- مع العبد المجنيّ عليه- إلى مالكه. و الشاهد في جواز اجتماع العبد و قيمته في ملك مالكه.

(2) عبارة المسالك: «و إن لم يبق ..».

(3) يعني: فلا يدخل العين في ملك الضامن بدفع البدل، بل كلّ من المبدل و البدل ملك للمالك.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 178

ص: 580

لكن عن مجمع البرهان في هذه (1) المسألة اختيار عدم وجوب النزع، بل قال: «يمكن أن لا يجوز، و يتعيّن القيمة، لكونه بمنزلة التلف (2). و حينئذ (3) يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط، إذ لا غصب فيه يجب ردّه. كما قيل بجواز المسح (4) بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الذي حصل العلم به بعد (5) إكمال الغسل و قبل المسح» «1» انتهى.

و استجوده بعض المعاصرين (6) ترجيحا (7) لاقتضاء ملك المالك للقيمة خروج المضمون عن ملكه، لصيرورته (8) عوضا شرعا.

______________________________

(1) يعني: مسألة الخيوط المغصوبة.

(2) يعني: فلا مال له حتى يكون سلطانا على مطالبته، فلو طالبه كان نزع الخيوط ضررا على صاحب المخيط، فلا يجوز له مطالبة الخيوط، بل له مطالبة القيمة.

(3) أي: حين كونه بمنزلة التلف و دخول الخيوط في ملك الغاصب يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب.

(4) جواز الصلاة في الثوب المخيط بالخيوط المغصوبة- و جواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب- لأجل كون الخيوط و الرطوبة المذكورتين بمنزلة الشي ء التالف.

(5) التقييد ببعديّة إكمال الغسلتين للاحتراز عن العلم بغصبيّة الماء قبل إكمالهما، لبطلان الوضوء حينئذ.

(6) و هو صاحب الجواهر، و وافقه السيّد في الحاشية «2».

(7) يعني: ترجيحا لاقتضاء ملك المالك .. إلخ على استصحاب ملك المالك للمضمون.

(8) علّة للاقتضاء، و ضميره راجع إلى المضمون، و المراد بالمعوّض هو القيمة.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 521

(2) جواهر الكلام، ج 37، ص 80؛ حاشية المكاسب، ج 1، ص 108

ص: 581

و فيه: أنّه لا منشأ لهذا الاقتضاء (1). و أدلّة الضمان قد عرفت أنّ محصّلها يرجع إلى وجوب تدارك ما ذهب من المالك، سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف الحقيقيّ، أو كان الذاهب السلطنة عليها التي بها قوام ماليّتها، كغرق المال، أو كان الذاهب الأجزاء أو الأوصاف التي يخرج بذهابها العين عن التقويم مع بقاء ملكيّته (2).

______________________________

(1) أي: اقتضاء ملك المالك للقيمة خروج العين المضمونة عن ملكه، و دخولها في ملك الضامن، لصيرورتها عوضا شرعا عن القيمة التي دفعها الضامن إلى المالك.

و حاصله: أنّه لا منشأ للاقتضاء المزبور أصلا، لأنّ ما يتوهّم أن يكون منشأ له هو أدلّة الضمان، و هي غير صالحة لذلك، لأنّ المستفاد من تلك الأدلة هو وجوب تدارك ما فات عن المالك، سواء أ كان الفائت نفس العين كما في التلف الحقيقيّ، أم كان الفائت السلطنة عليها مع بقاء عين المال كغرقها، فيما لم يكن الماء معدما لها، كالأحجار الكريمة التي تبقى في الماء، أم كان الفائت الأجزاء أو الأوصاف التي تخرج العين بذهابها عن القيمة مع بقاء الملكيّة.

و من المعلوم أنّ العين على التقدير الأوّل تخرج عن الملكيّة عرفا، فلا تقبل إضافة الملكيّة حتى يقال: إنّ طرف الإضافة هو المالك أو الضامن.

و على التقدير الثاني تكون السلطنة المطلقة على البدل بدلا عن السلطنة المنقطعة عن العين. و هذا معنى بدل الحيلولة، لا بدلا عن نفس العين، حتى يدّعى صيرورتها ملكا للضامن ببذل البدل.

و على التقدير الثالث يكون البدل المبذول بدلا عن ماليّة المال، إذ المفروض خروجه عن الماليّة مع بقاء عينه، فليس البدل المبذول بدلا عن نفس العين حتى يكون ملك المالك للقيمة مقتضيا لخروج العين المضمونة عن ملكه، و دخولها في ملك الضامن، لصيرورتها شرعا عوضا عن البدل المبذول للمالك.

(2) الأولى «ملكيّتها» لرجوع الضمير إلى العين.

ص: 582

و لا يخفى أنّ العين على التقدير الأوّل (1) خارج (2) عن الملكيّة عرفا.

و على الثاني (3) السلطنة المطلقة على البدل بدل عن السلطنة المنقطعة عن العين. و هذا معنى بدل الحيلولة.

و على الثالث (4) فالمبذول عوض عمّا خرج المال بذهابه عن التقويم، لا عن نفس العين، فالمضمون في الحقيقة هي تلك الأوصاف التي تقابل بجميع القيمة، لا نفس العين الباقية، كيف؟ (5) و لم تتلف هي، و ليس لها على تقدير التلف أيضا عهدة ماليّة، بل الأمر بردّها مجرّد تكليف لا يقابل بالمال (6). بل لو استلزم ردّه ضررا ماليّا على الغاصب أمكن سقوطه (7)، فتأمّل (8).

______________________________

(1) و هو تقدير تلف العين حقيقة، فإنّ العين التالفة لا تعدّ ملكا و لا مالا.

(2) الأولى «خارجة».

(3) و هو تقدير فوت السلطنة، مع بقاء العين في مكان لا تنالها اليد فعلا.

(4) و هو كون الذاهب الأجزاء و الأوصاف المقوّمة لماليّة العين.

(5) يعني: كيف يكون المبذول بدلا عن نفس العين؟ مع أنّها باقية غير تالفة.

(6) حتى يقال: إنّ بدل الحيلولة بدل عن العين، فملك المالك للبدل يقتضي خروج المبدل عن ملكه، و دخوله في ملك الضامن. بل الحكم بوجوب ردّ العين حينئذ تكليف محض لا يستتبع الوضع.

و بالجملة: فعلى جميع التقادير لا يكون البدل بإزاء نفس العين حتى يدّعى اقتضاؤه لملكيّة المبدل للضامن.

(7) أي: سقوط التكليف. و الوجه في سقوطه حكومة قاعدة نفي الضرر عليه، و ليست معارضة بضرر المالك مالا، لفرض خروج العين عن الماليّة، التي استوفاها بالغرامة.

(8) لعلّه إشارة إلى: منع جريان قاعدة الضرر هنا، لأنّها في مقام الامتنان، فلا تجري في حقّ الغاصب، فيبقى إطلاق ما دلّ على وجود الرّد بحاله.

ص: 583

و لعلّ (1) ما عن المسالك من «أنّ ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب، بعد خروجه عن القيمة بالإخراج، فتعيّن القيمة فقط»

______________________________

(1) غرضه توجيه ما في المسالك من: «أن ظاهر الفقهاء عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب، و الخشبة عن البناء».

و حاصل التوجيه: أنّ عدم وجوب الرّدّ في هذين الموردين إنّما هو لأجل استلزام الرّد الضرر على مالك الثوب و البناء.

ثم لا يخفى أنّ ما نسبه المصنف قدّس سرّه إلى المسالك و إن كان في محلّه، إلّا أنّ العبارة المنقولة ليست نصّ كلامه، بل هي تلفيق بين كلماته في مسألتين كما نبّه عليه الفقيه المامقاني قدّس سرّه. «1»

و لتوضيح الأمر ننقل أوّلا عنوان المسألة في الشرائع، ثمّ ما في المسالك.

قال المحقّق قدّس سرّه: «يجب ردّ المغصوب ما دام باقيا و لو تعسّر، كالخشبة تستدخل في البناء، أو اللوح في السفينة، و لا يلزم المالك أخذ القيمة .. و لو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة، فإن أمكن نزعها الزم ذلك، و ضمن ما يحدث من نقص، و لو خشي تلفها بانتزاعها لضعفها ضمن القيمة» «2».

و ظاهره وجوب الرّدّ مطلقا، سواء فسدت الخشبة بالنزع من البناء أم لم تفسد، و على تقدير عدم الفساد لا فرق بين تضرّر المالك و عدم تضرّره. و سيأتي من المصنّف إمكان حمل هذا الإطلاق على صورة عدم تضرّر مالك البناء بنزع الخشبة، فلو تضرّر لم يجب النزع، بل وجب دفع قيمتها.

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في حكم الخشبة المغصوبة: «إذا غصب خشبة و أدرجها في بنائه أو بنى عليها لم يملكها الغاصب، بل عليه إخراجه من البناء و ردّه إلى المالك .. إلى أن قال: ثمّ إذا أخرجها و ردّها لزمه أرش النقص إن دخلها نقص.

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 318

(2) شرائع الإسلام، ج 3، ص 239

ص: 584

محمول على صورة تضرّر المالك (1) بفساد الثوب المخيط، أو البناء المستدخل فيه الخشبة، كما لا يأبى عنه (2) عنوان المسألة (3)، فلاحظ.

و حينئذ (4) فلا تنافي ما تقدّم عنه سابقا من بقاء الخيط على ملك مالكه،

______________________________

و لو بلغت حدّ الفساد على تقدير الإخراج بحيث لا يبقى لها قيمة فالواجب تمام قيمتها.

و هل يجبر على إخراجها حينئذ؟ نظر من فوات الماليّة، و بقاء حقّ المالك في العين.

و ظاهرهم عدم الوجوب، و أنّها تنزّل منزلة المعدومة. و لو قيل بوجوب إعطائها المالك لو طلبها كان حسنا، و إن جمع بين القيمة و العين» «1».

و قال في مسألة خياطة الثوب بخيط مغصوب: «الخيط المغصوب إن خيط به ثوب و نحوه فالحكم كما في البناء على الخشبة، فللمالك طلب نزعه، و إن أفضى إلى التلف. و يضمن الغاصب النقص إن اتّفق. و إن لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة، و لا يخرج بذلك عن ملك المالك كما سبق، فيجمع بين العين و القيمة» «2».

و قد اتّضح من هذا أن قول الماتن قدّس سرّه: «ما عن المسالك من أن ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب» غير مذكور في مسألة الخيط، بل ذكره في حكم الخشبة، و لكن حيث قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «كما سبق، فيجمع بين العين و القيمة» صحّت النسبة المزبورة، لاتّحاد حكم الخيط و الخشبة المغصوبين.

(1) أي: مالك الثوب.

(2) أي: كما لا يأبى كلام المحقّق- في عنوان المسألة- عن الحمل على صورة تضرّر المالك .. إلخ.

(3) يعني: مسألة البناء المستدخل فيه خشبة مغصوبة.

(4) أي: و حين حمل فتواهم بتعيّن القيمة- في مسألتي الخيط و الخشبة المغصوبين- على صورة تضرّر المالك فلا تنافي ما تقدّم .. إلخ.

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 12، ص 176

(2) مسالك الأفهام، ج 12، ص 178

ص: 585

و إن وجب بذل قيمته.

ثمّ إنّ هنا قسما رابعا (1) و هو ما لو خرج المضمون عن الملكيّة مع بقاء حقّ الأولويّة فيه، كما لو صار الخلّ المغصوب خمرا. فاستشكل في القواعد وجوب

______________________________

وجه المنافاة: أنّ بقاءه على ملك مالكه يقتضي وجوب ردّه، فيجب إخراجه مقدّمة لردّه. و هذا الحكم ينافي حكمهم بعدم وجوب الإخراج، لكشفه عن عدم وجوب الرّدّ.

و أمّا وجه عدم المنافاة فهو: أنّ وجوب الرّدّ مقيّد بعدم استلزامه الضرر على الرادّ.

و الحاصل: أنّ المنافاة ناشئة من الملازمة بين الملكيّة و وجوب الرّدّ، فالملازمة منحصرة بعدم تضرّر الرادّ بالرّد، لا مطلقا حتى في صورة التضرّر به، فيمكن ان يكون مالكا، و لا يحب على الغاصب ردّه لتضرّره به، هذا.

لكن كلام المسالك آب عن هذا الحمل، لأنّه قال- فيما لو خيف من نزع الخشبة هلاك مال غير الحيوان أو هلاك نفس السفينة، و المال له أو لمن يعلم أن فيها لوحا مغصوبا- بأنّ فيه وجهين: «أحدهما، و هو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف، و صرّح به الأكثر: أنّه ينزع أيضا، كما يهدم البناء لردّ الخشبة، و لا يبالي بما صنع، لأنّ دفع المغصوب إلى المالك واجب على الفور، و لا يتمّ إلّا بهذا. و عدوان الغاصب لا يناسبه التخفيف، و هو الذي أدخل الضرر على نفسه ..» «1».

(1) غرضه أنّ الأقسام و التقادير الثلاثة المتقدّمة كانت بالنسبة إلى العين المملوكة، الّتي خرجت عن الملكيّة أو الماليّة رأسا. و يبقى حكم قسم آخر، و هو خروج العين عن الملكيّة، و تعلّق حق الأولويّة بها، كما إذا غصب خلّا فانقلب عنده خمرا، فإنّه يجب دفع قيمة الخلّ إلى المالك، و هل يجب ردّ الخمر إليه- أيضا- أم لا؟

استشكل العلّامة فيه.

فالوجه في وجوب ردّها هو استصحاب الحكم قبل انقلابها خمرا، للشكّ في

______________________________

(1) مسالك الأفهام، ج 13، ص 177

ص: 586

ردّها مع القيمة (1).

و لعلّه (2) من استصحاب وجوب ردّها. و من (3) أنّ الموضوع في المستصحب ملك المالك، إذ لم يجب إلّا ردّه، و لم (4) يكن المالك إلّا أولى به.

______________________________

انتفاء وجوب الرّدّ بمجرّد الانقلاب.

و الوجه في عدم وجوب الرّدّ منع جريان الاستصحاب هنا، لأنّ متعلّق الحكم هو «مال الغير و ملكه» و حيث إنّ المفروض زوال إضافة الملكيّة عن هذا المائع لم يبق مجال لاستصحاب الوجوب المتعلّق بمال الغير.

ثم تأمّل المصنّف في هذا الوجه، بأنّ المستصحب وجوب ردّ المائع الذي طرأ عليه حالتا الخلية و الخمرية، و ليستا مقوّمتين للموضوع حتى يقطع أو يشكّ في ترتّب الحكم عليه. و لهذا ذهب جمع إلى وجوب ردّها، لأنّ المرجع في تعيين معروض المستصحب- أي الموضوع- هو العرف. و يتأيّد المطلب بما تقرّر من أنّه لو عادت الخمر خلّا وجب ردّه إلى المغصوب منه قطعا، و لو كان الموضوع متعدّدا لم يكن وجه لوجوب الرّدّ.

(1) قال في القواعد: «و لو غصب عصيرا فصار خمرا ضمن المثل، و في وجوب الدفع إشكال .. فإن صار خلّا في يد الغاصب ردّه مع أرش النقصان إن قصرت قيمة الخلّ» «1».

(2) أي: و لعلّ الاستشكال ينشأ من الاستصحاب، و المحقّق الثاني جعل منشأ وجوب الرّدّ بقاء الأولويّة، ثمّ قال: «و في وجوب الدفع قوّة» «2».

(3) هذا وجه عدم وجوب الرّدّ، لتعدّد الموضوع المانع عن الاستصحاب.

(4) يعني: و الحال أنّه ليس للمالك إلّا حقّ الأولويّة لا الملك، و موضوع وجوب الرّد هو الملك.

______________________________

(1) قواعد الاحكام، ص 80، السطر 29 (الطبعة الحجرية).

(2) جامع المقاصد، ج 6، ص 292

ص: 587

إلّا أن يقال: (1) إنّ الموضوع في الاستصحاب عرفيّ. و لذا (2) كان الوجوب مذهب جماعة، منهم الشهيدان و المحقّق الثاني (3). «1»

و يؤيّده أنّه لو عاد خلّا ردّت إلى المالك بلا خلاف ظاهر (4).

______________________________

(1) غرضه ترجيح وجوب الرّدّ، و قد عرفت تقريبه.

(2) أي: و لأجل جريان الاستصحاب- لوحدة الموضوع عرفا- كان الوجوب مختار جماعة.

(3) نعم، لكن لا للاستصحاب الذي وجّه المصنّف الحكم به، بل لوحدة موضوع دليل الضمان، فراجع كلام المحقّق و الشهيد الثانيين.

(4) كما نقله صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال شارحا للمتن: «و لو غصب عصيرا فصار خمرا ثم صار خلّا في يد الغاصب قبل أن يدفع بدله، بل و بعده إذا كان على وجه كدفع الحيلولة كان للمالك، على ما صرّح به غير واحد، بل عن رهن غاية المرام و المسالك نفي الخلاف فيه، لأنّه عين ماله» «2».

و الظاهر عدم الإشكال في وجوب ردّه إلى المالك قبل دفع البدل. و أما بعد دفعه فقد استشكل فيه غير واحد على ما يظهر من عباراتهم، لكنّه لا ينافي نفي ظهور عدم الخلاف.

ثمّ إنّ الوجه في جعله مؤيّدا لا دليلا هو عدم الملازمة بين ملك المالك له لو صار خلّا و بين ثبوت الحقّ، لجواز أن يكون دخوله في ملكه لأجل كون أصله ملكا له حين كان خلّا، فهو نظير الملك بالتبعيّة.

______________________________

(1) الدروس الشرعية، ج 3، ص 112؛ جامع المقاصد، ج 6، ص 292؛ مسالك الافهام، ج 12، ص 237

(2) جواهر الكلام، ج 37، ص 199 و 200

ص: 588

[ح: عدم ضمان ارتفاع القيمة و الزيادة بعد دفع البدل]

ثمّ إنّ (1) مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم عن عهدة العين و ضمانها، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد الدفع (2)، سواء كان (3) للسوق أو للزيادة المتصلة (4)، بل (5) المنفصلة كالثمرة، و لا يضمن منافعه (6)، فلا يطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلك (7).

______________________________

ح: عدم ضمان ارتفاع القيمة و الزيادة بعد دفع البدل

(1) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة، و هو عدم ضمان الغاصب ارتفاع قيمة العين بعد دفع البدل، و قد سبق في الأمر السابع عدم ضمان ارتفاع قيمة العين التالفة على جميع الأقوال، و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين أن يكون ارتفاعها قبل دفع القيمة و بعدها. و فصّل هناك بين كون ارتفاع القيمة للسوق فلا يضمن، و بين الزيادة العينيّة فتضمن. هذا في التلف الحقيقيّ.

و أمّا زيادة القيمة في بدل الحيلولة فلا تضمن مطلقا.

و ملخّص تقريب عدم الضمان: أنّ الغارم يخرج عن عهدة ضمان العين بدفع البدل، و لازمه عدم ضمانه لزيادة قيمة العين مطلقا و إن كانت للزيادة في العين. و كذا لا يضمن منافعه، لخروج العين عن عهدته و ضمانها بدفع البدل، فلا ارتباط للعين بالضامن.

(2) أي: دفع بدل الحيلولة.

(3) أي: كان ارتفاع القيمة.

(4) كالسمن في الحيوان، و تعلّم الصنعة في العبيد و الإماء.

(5) الإتيان بكلمة الإضراب لأجل أنّ ضمان الزيادة المنفصلة كالثمرة لا يخلو من وجه، لكونها عينا اخرى يحتمل ضمانها، لكن حيثيّة كونها نماء للعين المضمونة التي دفع بدلها إلى مالكها توجب عدم ضمانها.

(6) في ضمان المنافع بعد دفع بدل الحيلولة قولان: أحدهما ذلك، و الآخر العدم كما سيأتي في المتن.

(7) يعني: بعد دفع البدل. و وجه عدم ضمان المنافع حينئذ واضح، إذ المفروض

ص: 589

و عن التذكرة و بعض آخر (1) ضمان المنافع، و قوّاه (2) في المبسوط بعد أن

______________________________

خروج العين- بدفع البدل- عن ضمان الغاصب، فلا مجال لقاعدة تبعيّة المنافع للعين في الملكيّة.

(1) الحاكي لكلام العلّامة و غيره هو السيّد العاملي و غيره، قال قدّس سرّه:

«و قد قرّب في التذكرة اللزوم و الوجوب، و قال: إنّه أصحّ وجهي الشافعيّة، لأنّ حكم الغصب باق، و إنّما وجبت القيمة للحيلولة، فيضمن الأجرة .. و مال إليه في المسالك، و كأنّه قال به في مجمع البرهان و هو الأصحّ» «1». و جعله في الجواهر- بعد ما نسبه إلى جماعة- موافقا للتحقيق «لبقاء العين المغصوبة على ملك المالك، و على وجوب ردّها على الغاصب مع التمكّن، و على ضمانها و ضمان نمائها، و أنّ القيمة للحيلولة غرامة شرعيّة ثبتت بالأدلّة، و هي لا تقتضي براءة، و لا تغييرا للحال الاولى» «2».

و فيه: أنّ القيمة المدفوعة اقتضاها الضمان على نحو اقتضائه لها في التلف على أن تكون تداركا لما فات، فكأنّه لم يفت، من غير فرق بين أن تكون بدلا عن العين أو عن الحيلولة، فكأنّ العين في يده، فكيف تكون حينئذ مضمونة؟

(2) أي: قوّى ضمان المنافع، قال شيخ الطائفة قدّس سرّه: «و أجرتها- أي العين- من حين دفع القيمة إلى حين الرّدّ على وجهين، أحدهما: لا اجرة عليه .. و هو الأقوى.

و الثاني: عليه أجرتها .. و هذا قويّ أيضا» «3». فما نسبه المصنّف قدّس سرّه إليه لا يخلو من مسامحة، إذ الأقوى بنظر الشيخ هو عدم ضمان المنافع، و القويّ ضمانها، و الأمر سهل.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 6، ص 249 (أواخر الصفحة)؛ تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 382؛ مسالك الأفهام، ج 12، ص 201؛ مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 538

(2) جواهر الكلام، ج 37، ص 139

(3) المبسوط، ج 3، ص 96

ص: 590

جعل الأقوى خلافه. و في موضع من جامع المقاصد «أنّه موضع توقّف» (1) و في موضع آخر: رجّح الوجوب (2).

[ط: ضمان ارتفاع قيمة العين و النماء قبل دفع البدل إلى المالك]

ثم (3) إنّ ظاهر عطف التعذّر على التلف في كلام بعضهم «1»- عند التعرّض لضمان المغصوب بالمثل أو القيمة- يقتضي عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة

______________________________

(1) قال بعد بيان وجهي الإشكال- في ضمان منافع العبد الآبق السابقة على الغرم- ما لفظه: «و المسألة موضع توقّف» «2».

(2) حيث قال بعد بيان وجهي الإشكال في ضمان النماء المتّصل و المنفصل- إذا تجدّد بعد دفع البدل- ما لفظه: «و الأصحّ استحقاق الرجوع به أيضا على الغاصب، استصحابا لما كان إلى أن يعلم المزيل» «3».

ط: ضمان ارتفاع قيمة العين و النماء قبل دفع البدل إلى المالك

(3) ما تقدّم بقوله: «ثمّ إن مقتضى الغرامة» إلى هنا كان حكم ارتفاع قيمة العين بعد أداء بدل الحيلولة، و كذا منافعها المتجدّدة. و غرضه الآن بيان حكم ارتفاع القيمة قبل أداء البدل إلى المالك، فأفاد قدّس سرّه: أنّ مقتضى تنزيل التعذّر منزلة التلف في كلام مثل المحقّق قدّس سرّه هو ترتيب آثار التلف على التعذر، التي منها عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة المتحقّق بعد التعذّر و قبل الدفع، كالارتفاع الحاصل بعد التلف.

لكن مقتضى القاعدة ضمانه له، و ذلك لأنّ التلف يوجب تعيّن القيمة، و لذا يجب على المالك قبولها، و ليس له الامتناع عن أخذها. بخلاف تعذّر العين، إذ لا يتعيّن به القيمة، بل للمالك الصبر إلى زمان التمكّن من العين، و تبقى العين في عهدة الضامن في مدّة التعذّر. و لو تلفت كان للمالك قيمتها من حين التلف أو أعلى القيم أو يوم الغصب، على الخلاف السابق.

______________________________

(1) كالمحقق في المختصر النافع، ج 2، ص 296؛ و العلامة في تحرير الاحكام، ج 2، ص 139

(2) جامع المقاصد، ج 6، ص 251

(3) المصدر، ص 273

ص: 591

الحاصل بعد التعذّر و قبل الدفع، كالحاصل بعد التلف (1).

لكن مقتضى القاعدة (2) ضمانه له (3)، لأنّ (4) مع التلف يتعيّن القيمة (5)، و لذا ليس له الامتناع من أخذها. بخلاف تعذّر العين، فإنّ القيمة غير متعيّنة، فلو صبر المالك حتى يتمكّن من العين كان له ذلك، و يبقى العين في عهدة الضامن في هذه المدّة، فلو تلفت كان له قيمتها من حين التلف، أو أعلى القيم إليه، أو يوم الغصب على الخلاف.

و الحاصل: أنّ قبل دفع القيمة يكون العين الموجودة في عهدة الضامن، فلا عبرة بيوم التعذّر.

و الحكم (6) بكون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف مع الحكم بضمان الأجرة

______________________________

و الحاصل: أنّ العين الموجودة قبل دفع بدلها تكون في عهدة الضامن. و عليه فلا عبرة بيوم التعذّر، و الحكم بكون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف.

(1) على ما صرّح به في الأمر السابع بقوله: «ثم إنّه لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على جميع الأقوال» و مراده بالقيمة هي السوقيّة، لا لزيادة عينيّة، كما صرّح به هناك أيضا، فراجع (ص 549).

(2) يعني: قاعدة كون بدل الحيلولة غرامة، لا بدلا عن العين المتعذّرة.

(3) أي: ضمان الغاصب لارتفاع القيمة.

(4) هذا بيان الفارق بين التلف و التعذّر في عدم ضمان الارتفاع في الأوّل، و ضمانه في الثاني.

(5) يعني: لا يملك مالك العين التالفة- في عهدة الضامن- إلّا القيمة.

(6) غرضه تضعيف كون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف، و حاصله: أنّ الالتزام بذلك يوجب التناقض. توضيحه: أنّ لازم كون يوم التعذّر كيوم التلف عدم ضمان الأجرة و النماء بالتعذر و قبل أداء البدل، فالحكم بضمان الأجرة و النماء بعد التعذّر و قبل أداء البدل مناف لذلك، فمقتضى القاعدة ضمان ارتفاع القيمة إلى يوم دفع البدل.

و أمّا بعده فلا.

ص: 592

و النماء إلى دفع البدل و إن تراخى (1) عن التعذّر مما لا يجتمعان ظاهرا، فمقتضى القاعدة ضمان الارتفاع إلى يوم دفع البدل، نظير دفع القيمة (2) عن المثل المتعذّر في المثليّ.

[ي: وجوب ردّ العين فورا بارتفاع العذر]

ثم (3) إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العين و صار ممكنا وجب ردّها (4) إلى مالكها- كما صرّح به في جامع المقاصد- فورا (5) و إن كان في إحضارها

______________________________

(1) أي: تراخى دفع البدل. و غرضه أنّه لا فرق في التنافي بين الحكمين- و هما كون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف، و وجوب دفع بدل المنفعة قبل دفع بدل الحيلولة- بين أن يدفع بدل الحيلولة عقيب تعذّر ردّ العين فورا، أم بعده تراخيا.

و الوجه في عدم الفرق كون التعذّر بمنزلة التلف، فكما لا موضوع لضمان ارتفاع قيمة التالف، فكذا لا مجال لضمان ارتفاع قيمة العين المتعذّر إيصالها إلى المالك.

فالقول بضمان الارتفاع منوط برفع اليد عن المبنى، و هو وحدة حكم التلف و التعذّر.

(2) يعني: نظيره في ضمان ارتفاع القيمة إلى يوم دفعها في المثليّ المتعذّر مثله.

ي: وجوب ردّ العين فورا بارتفاع العذر

(3) هذا فرع آخر من فروع بدل الحيلولة، و هو وجوب ردّ العين إلى مالكها بمجرّد ارتفاع التعذّر و التمكّن منه، و لو توقّف إحضار العين على مئونة وجب على الضامن بذلها، كما وجب بذلها قبل التعذّر، يعني: لو وضع يده على مال الغير و أمكن إيصاله إليه وجب ردّه فورا، سواء توقّف على بذل مئونة أم لم يتوقّف عليه. لكون البذل مقدّمة للرّد الواجب، على ما سبق تفصيله في الأمر الثاني، فلاحظ (ص 201).

(4) لأنّه عين ماله، و مع إمكان دفعها لا تصل النوبة إلى بدلها، و الغرامة المدفوعة إلى المالك إنّما تكون بدلا دائميّا في صورة تلف العين، لا في صورة وجودها، إذ البدليّة حينئذ ماداميّة.

(5) قال قدّس سرّه في الظفر بالعبد الآبق المغصوب: «بل يجب على الغاصب ردّ العبد

ص: 593

مئونة كما كان قبل التعذّر، لعموم (1) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (2).

و دفع (3) البدل لأجل الحيلولة إنّما أفاد خروج الغاصب عن الضمان، بمعنى انّه لو تلف لم يكن عليه قيمته بعد ذلك (4)، و استلزم ذلك (5) [و لازم ذلك]

______________________________

مطلقا على الفور» «1». و تقدم كلام آخر منه (في ص 202) دالّ على كون مئونة الرّدّ على المشتري، فراجع.

(1) تعليل لوجوب ردّ العين.

(2) لأنّ الغاية لا تصدق حقيقة إلّا بردّ نفس العين لا بدلها.

هذا بناء على دلالة الحديث على خصوص الحكم التكليفيّ أو الأعمّ منه و من الوضعيّ. و أمّا بناء على ظهوره في الوضع- كما تقدّم في أوّل مسألة المقبوض بالبيع الفاسد- فقد يشكل استظهار وجوب الرّد من الحديث، فتأمّل.

(3) مبتدء، خبره «إنما أفاد» تعرّض المصنّف قدّس سرّه لدفع توهّمين قد يردا على وجوب ردّ العين المضمونة بعد زوال التعذّر.

الأوّل: أنّه لا يجب ردّ العين إلى مالكها، إذ الضامن دفع الغرامة إلى المالك، و هي ماليّة العين، و مقتضى التدارك عدم وجوب ردّ العين بعد ارتفاع العذر.

و دفعه المصنف قدّس سرّه بأنّ بدل الحيلولة لا يرفع التكليف بردّ العين، و إنّما يفيد أمرين، أحدهما: خروج الضامن عن عهدة قيمة العين لو تلفت بعد أداء البدل، فيصير البدل المحدود دائميّا، و لا يجب شي ء آخر.

ثانيهما: عدم ضمان المنافع الحاصلة في العين بعد دفع الغرامة.

و من المعلوم أنّ هذين الحكمين المترتّبين على أداء بدل الحيلولة لا يمنعان عن فعليّة وجوب ردّ العين عند التمكّن منه.

(4) أي: بعد التلف.

(5) أي: خروج الغاصب عن الضمان، و هو إمّا فاعل «يستلزم» و إمّا مضاف

______________________________

(1) جامع المقاصد، ج 6، ص 261.

ص: 594

على ما اخترناه (1) عدم ضمان المنافع و النماء المنفصل و المتّصل بعد دفع الغرامة.

و سقوط (2) وجوب الرّدّ حين التعذّر للعذر العقليّ، فلا يجوز استصحابه، بل مقتضى الاستصحاب (3) و العموم هو الضمان المدلول عليه بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

______________________________

إليه لقوله: «و لازم» بناء على ما في بعض النسخ، و قوله: «عدم ضمان» إمّا مفعول ل «يستلزم» و إمّا خبر ل «لازم».

و على كلّ فعدم ضمان المنافع- بعد أداء بدل الحيلولة- حكم آخر، و هو يترتّب على الحكم الأوّل أعني به خروج الغاصب عن عهدة العين

(1) من قوله: «ثمّ إنّ مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم ..».

(2) مبتدء، خبره قوله: «للعذر العقليّ». و هذا إشارة إلى التوهّم الثاني، و حاصله: أنّه لا يجب ردّ العين بعد التمكّن منه، و ذلك لاستصحاب عدم وجوب ردّها حال التعذّر، و مع هذا الأصل المحرز لا مجال لتكليف الضامن بردّ العين عند القدرة عليه.

و قد دفعه المصنف قدّس سرّه بمنع جريان الاستصحاب هنا، لانتفاء قيد المستصحب، توضيحه: أنّ سقوط وجوب دفع العين كان مقيّدا عقلا بالتعذّر المسقط للتكليف، و حيث إنّ المفروض زوال العذر، فلو أريد تسوية الحكم إلى ما بعد التعذّر كان إثبات حكم موضوع لموضوع آخر، و لا معنى للاستصحاب حينئذ.

(3) بأن يقال: إنّ المتيقن في السابق هو الضمان مطلقا في حالتي التعذّر و التمكّن، و دفع الغرامة في حال التعذّر يوجب الشك في أنّ المرتفع به أصل الضمان أو خصوص الضمان في حال التعذّر و ما دام متعذّرا، فلا يحصل القطع بارتفاع الضمان بالمرّة، بل هو مشكوك فيه، لاحتمال ارتفاع الضمان الخاصّ لا أصله، فلا مانع من استصحاب أصل الضمان في حال التمكّن. و يترتّب عليه وجوب الرّدّ، لوجود المقتضي و هو الضمان، و عدم المانع عنه و هو التعذّر.

ص: 595

[ك: هل ينتقل البدل إلى الغارم بتمكّن دفع العين؟]

و هل الغرامة (1) المدفوعة تعود ملكه إلى الغارم بمجرد طروء التمكّن،

______________________________

ثم إنّ الجمع بين الاستصحاب و العموم خلاف ما قرّره قدّس سرّه في الأصول من حكومة الثاني على الأوّل.

ك: هل ينتقل البدل إلى الغارم بتمكّن دفع العين؟

(1) هذا فرع آخر من فروع بدل الحيلولة، و هو أنّه: إذا تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك بعد دفع بدل الحيلولة، و لكنّه لم يوصل العين إلى المالك، ففي خروج بدل الحيلولة من ملك المضمون له، و عدمه وجهان:

الأوّل: أنّ التمكّن من العين يوجب خروج البدل عن ملك المضمون له، و دخوله في ملك الضامن، و حيث إنّه لم يوصل العين إلى مالكها يصير ضامنا لها بضمان جديد. و يترتب عليه أنّه لو تلفت عنده اعتبرت قيمتها الفعليّة، لا قيمتها السابقة في حال التعذّر. فبناء على ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان تتعيّن قيمتها يوم التمكّن منها، أي حين ارتفاع العذر.

و بناء على ضمانه بقيمة يوم التلف تعتبر قيمتها فيه.

و بناء على ضمان أعلى القيم بين وقت الضمان و التلف يتعيّن أعلاها.

الثاني: أنّ مجرّد التمكّن من العين لا يقتضي انتقال بدل الحيلولة إلى ملك الغارم، فلو لم يوصلها إليه و تلفت عنده لم يضمنها بضمان جديد، بل يصير بدل الحيلولة بدلا دائميّا مستقرّا، بعد أن كان بدلا محدودا مغيّا بوصول العين أو تلفها. و حينئذ ينتفي احتمال ضمان يوم القبض أو وقت التلف أو الأعلى بينهما.

و استظهر المصنّف قدّس سرّه هذا الاحتمال، و استدلّ عليه بالاستصحاب، بتقريب:

أنّ بدل الحيلولة كان ملكا لمالك العين حين التعذّر، و لو شك في زواله بمجرّد تمكّن الضامن من ردّ العين جرى استصحاب ملكه له.

ص: 596

فيضمن (1) العين من يوم التمكّن ضمانا جديدا (2) بمثله أو قيمته يوم (3) حدوث الضمان، أو (4) يوم التلف، أو أعلى القيم. أو أنّها باقية على ملك مالك العين، و كون (5) العين مضمونة بها لا بشي ء آخر في ذمّة الغاصب، فلو تلفت (6) استقرّ ملك المالك على الغرامة، فلم (7) يحدث في العين إلّا حكم تكليفيّ بوجوب ردّه، و أمّا الضمان و عهدة جديدة فلا؟ وجهان (8)، أظهرهما الثاني (9) لاستصحاب كون العين مضمونة بالغرامة، و عدم طروء ما يزيل ملكيّته عن الغرامة، أو يحدث (10) ضمانا جديدا.

______________________________

(1) هذا متفرّع على عود بدل الحيلولة- الذي هو بدل محدود بالتعذّر- إلى ملك الغارم، و اشتغال ذمّته بقيمة أخرى كما عرفت.

(2) في قبال بدل الحيلولة الذي كان ضمانا قديما في حال تعذّر ردّ العين.

(3) متعلّق ب «قيمته» أي: قيمته يوم حدوث الضمان، أو قيمته يوم التلف أو أعلى القيم، على الخلاف المتقدّم في الأمر السادس و السابع.

(4) هذا عدل قوله: «تعود» يعني: هل الغرامة تعود ملكا إلى الغارم أم هي باقية على ملك مالك العين؟ و قد أوضحناه آنفا بقولنا: «الثاني: أن مجرّد التمكّن من العين ..».

(5) بالجرّ معطوف على «ملك» المجرور ب «على». و الواو بمعنى «مع» أي: مع كون العين مضمونة بتلك الغرامة لا بغيرها. و ضمير «بها» راجع إلى الغرامة.

(6) أي: فلو تلفت العين- بيد الغاصب بعد التمكّن من ردّها إلى المالك- صار بدل الحيلولة ملكا مستقرّا لمالك العين، و لم يحدث ضمان جديد.

(7) هذا متفرّع على بقاء ملك الغرامة لمالك العين، و عدم انتقالها إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين إلى مالكها.

(8) خبر قوله: «و هل الغرامة المدفوعة».

(9) و هو بقاء الغرامة على ملك المغصوب منه.

(10) معطوف على «يزيل» و «يحدث» بصيغة الفاعل من باب الافعال، يعني:

ص: 597

و مجرّد (1) عود التمكّن لا يوجب عود سلطنة المالك حتى يلزم من بقاء مالكيّته على الغرامة الجمع بين العوض و المعوّض.

غاية ما في الباب (2) قدرة الغاصب على إعادة السلطنة الفائتة المبدلة عنها بالغرامة، و وجوبها عليه.

و حينئذ (3) فإن دفع العين فلا إشكال في زوال ملكيّة [مالكية] المالك للغرامة.

و توهّم (4) أنّ المدفوع كان بدلا عن القدر الفائت من السلطنة في زمان

______________________________

و عدم طروء ما يزيل ملكيّته من الغرامة، أو ما يحدث ضمانا جديدا، فمجرّد تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك لا يجدي في رفع الضمان، بل الضمان باق على حاله.

(1) غرضه قدّس سرّه بيان عدم طروء ما يزيل ملكيّة مالك العين لبدل الحيلولة، إذ قد يتوهّم: اختصاص البدل بحال التعذّر، فلو فرض تمكّن الغاصب من إيصال العين إلى مالكها لزم خروج بدل الحيلولة إلى ملك الغارم حتى لا يجتمع العوض و المعوّض عند واحد.

و أجاب عنه المصنف بعدم عروض ما يزيل ملكيّة المضمون له للبدل، و بقاء ملاك تغريم الضامن، و ذلك لأنّ فوات سلطنة المالك على ماله اقتضى دفع البدل، و لا فرق فيه بين تمكّن الغاصب من ردّ العين و بين تعذّره عليه. فخروج البدل عن ملك مالك العين منوط بوصولها إليه. و عليه فلا موضوع للجمع بين العوض و المعوّض عند واحد.

(2) يعني: غاية ما يلزم من عود تمكّن الغاصب من ردّ المغصوب إلى المغصوب منه هو قدرته على إعادة ما فات عن المالك من السلطنة الّتي أبدلت بالغرامة.

(3) يعني: و حين قدرة الغاصب على إعادة السلطنة، فإن دفع العين فلا إشكال في زوال مالكيّة المالك للغرامة.

(4) غرض المتوهّم منع عود بدل الحيلولة إلى الغاصب بعد دفع العين إلى

ص: 598

التعذّر فلا يعود، لعدم عود مبدله، ضعيف في الغاية. بل كان (1) بدلا عن أصل السلطنة يرتفع (2) بعودها، فيجب دفعه أو دفع بدله مع تلفه، أو خروجه (3) عن ملكه بناقل لازم بل جائز.

و لا يجب (4) ردّ نمائه المنفصل.

______________________________

المالك. و تقريبه: أنّ بدل الحيلولة لمّا كان عوضا عن السلطنة الفائتة في زمان تعذّر ردّ العين إلى مالكها لم يكن موجب لإعادته إلى الغاصب، ضرورة أنّ محذور اجتماع العوض و المعوّض غير لازم في المقام، لأنّ بدل الحيلولة كان بدلا عن السلطنة الفائتة التي يستحيل عودها إلى المالك. و السلطنة الحادثة بعد ردّ العين لم تكن في قبال بدل الحيلولة. و عليه فلا وجه لأن يقال: «فلا إشكال في زوال ملكيّته للغرامة، بل يبقى البدل على ملكيّة المضمون له».

و دفعه قدّس سرّه بقوله: «ضعيف في الغاية» و بيانه: أنّ الغرامة التي دفعها الضامن كانت بدلا عن أصل السلطنة، بحيث تكون البدليّة ملحوظة بين البدل و السلطنة حدوثا و بقاء. ففي زمان التعذّر يكون البدل بدلا عن السلطنة في ذلك الزمان، و في زمان التمكّن لو بقي البدل ملكا للمالك كان ملكا له بلا مبدل منه، لعدم فوات السلطنة في ذلك الزمان حتى يكون مبدلا منه.

(1) أي: بل كان المدفوع بدلا عن أصل السلطنة.

(2) يعني: يرتفع البدل عن البدليّة بعود السلطنة، فيجب حينئذ دفع البدل إلى الضامن، أو دفع بدله مع تلفه، أو خروجه عن ملك المغصوب منه بناقل لازم بل جائز، لكون النقل كالتلف.

(3) معطوف على «تلفه» يعني: أنّ وجوب دفع البدل ثابت في التلف و في الخروج عن الملك بناقل.

(4) لأنّه نماء ملكه بما أنّه ملكه، لا بما أنّه بدل عن السلطنة حتى يجري عليه حكم العين من الرجوع إلى ملك الغارم. و أمّا النماء المتّصل فهو تابع للعين عرفا،

ص: 599

و لو لم يدفعها (1) لم يكن له مطالبة الغرامة أوّلا، إذ ما لم يتحقق السلطنة لم يعد الملك إلى الغارم، فإنّ الغرامة عوض السلطنة، لا عوض قدرة الغاصب على تحصيلها للمالك، فتأمّل (2).

نعم (3) للمالك مطالبة عين ماله،

______________________________

فينتقل إلى الغارم، كما أنّ العين تنتقل إليه.

(1) معطوف على قوله: «فإن دفع العين» يعني: و لو لم يدفع الغارم العين المغصوبة إلى المالك لم يكن له مطالبة الغرامة من المالك، لأنّ الغرامة عوض السلطنة الفائتة، لا عوض قدرة المالك على تحصيل السلطنة. نعم يجوز للمالك المطالبة بالعين كما سيأتي.

(2) الظاهر أنّه إشارة إلى تثبيت ما ذكره، و دفع توهم كون المقام نظير البيع، و أنّ لكلّ من البائع و المشتري امتناع تسليم ماله حتى يتسلّم مال الآخر.

و وجه الاندفاع هو الفرق بين باب الغرامة و باب المعاوضة، إذ لا ريب في عوضيّة كلّ من الثمن و المثمن عن الآخر. بخلاف المقام، فإنّ الغرامة عوض، و السلطنة معوّض، فما لم يرتفع المعوّض- بمعنى تحقّق السلطنة للمالك و عودها إليه- لم يرجع الغرامة إلى الغارم.

(3) غرضه بيان الفارق بين الضامن و المضمون له في مطالبة كلّ منهما ما له، فالضامن ليس له مطالبة الغرامة قبل تسليم العين إلى المالك كما عرفت آنفا. و أمّا المالك فيجوز له مطالبة عين ماله من الضامن، و ذلك لإطلاق قاعدة السلطنة، فإن طالبه و ردّ الضامن العين اتّجه ردّ بدل الحيلولة إليه، و إلّا فلا.

فإن قلت: كما يجوز للغارم مطالبة البدل، فكذا ليس للمالك مطالبة العين، فهما سواء من هذه الجهة. و الوجه في عدم استحقاق المالك المطالبة بالعين هو: أنّ الغرامة التي دفعها الضامن تكون بدلا عن سلطنته التامة على ماله، فالسلطنة المطلقة للملّاك على أموالهم غير ثابتة في المقام، لفرض تدارك سلطنته على العين ببدل الحيلولة الذي

ص: 600

لعموم (1) «الناس مسلطون على أنفسهم» و ليس (2) ما عنده من المال عوضا من مطلق السلطنة (3) حتى سلطنة المطالبة، بل (4) سلطنة الانتفاع بها على الوجه المقصود من الأملاك. و لذا (5) لا يباح لغيره بمجرّد بذل الغرامة.

______________________________

دفعه الضامن إليه، و بتحديد سلطنته و تضييقها لا سبيل لإثبات استحقاق مطالبة العين. و عليه فإن اختار الضامن ردّ العين إلى مالكها استردّ بدل الحيلولة منه، و إلّا فليس لأحد منهما المطالبة.

قلت: إنّ قاعدة السلطنة تقتضي جواز مطالبة العين من الغارم. و لا يتضيّق هذا الحقّ إلّا بكون بدل الحيلولة بدلا عن سلطنة المالك المطلقة على ماله، أو بدلا عن سلطنته على مطالبة ماله، إذ على كلّ منهما يسقط حقّ المطالبة و لا بدّ من انتظار إقدام الضامن حينئذ بأن يردّ العين إلى المالك و يستردّ البدل. و لكنّ الصحيح احتمال ثالث، و هو كون بدل الحيلولة بدلا عن خصوص سلطنة انتفاع المالك بالمال، المفروض فواتها في زمان تعذّر الوصول إلى العين، و أمّا سلطنته المطلقة على جميع أنحاء التقلّب في المال فلم تقابل ببدل الحيلولة حتى يسلب عن المالك حقّ مطالبة العين.

(1) المراد بالعموم هو الإطلاق كما مرّ غير مرّة.

(2) هذا إشارة إلى وهم، و جوابه قوله: «بل سلطنة الانتفاع» و قد أوضحناهما بقولنا: «فان قلت. قلت».

(3) إذ لو كان بدل الحيلولة بدلا عن مطلق السلطنة- بأن كانت العين المسلوبة السلطنة عليها ملكا للمضمون له- لم يستحقّ المالك مطالبة العين.

(4) يعني: يكون بدل الحيلولة عوضا عن بعض أنحاء السلطنة، و هو سلطنة الانتفاع بالملك. و أمّا السلطنة على الجهات الأخرى فباقية للمالك، و لم تعوّض بشي ء أصلا، و بناء على هذا فله المطالبة.

(5) غرضه إقامة الشاهد على كون بدل الحيلولة عوضا عن حيثيّة خاصّة من حيثيّات السلطنة، أي: و لأجل عدم كون الغرامة عوضا عن مطلق السلطنة لا يباح العين لغير

ص: 601

و ممّا ذكرنا (1) يظهر أنّه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يدفع المالك، القيمة، كما اختاره (2) في التذكرة و الإيضاح و جامع المقاصد «1».

و عن التحرير «2» الجزم بأنّ له ذلك (3). و لعلّه (4) لأنّ القيمة عوض، إمّا عن العين، و إمّا عن السلطنة عليه. و على أي تقدير فيتحقّق التّراد.

و حينئذ فلكلّ من صاحبي العوضين حبس ما بيده حتى يتسلّم ما بيد الآخر (5).

______________________________

المالك، يعني: أنّ مالك العين لو بذل الغرامة للغاصب- بأن قال: «ما أريد منك الغرامة» أو ردّها إليه على وجه البذل و العطيّة بعد أخذها منه- لم يكن مجرّد بذلها موجبا لإباحة العين للغاصب.

و لو كانت الغرامة عوضا عن مطلق سلطنة المالك حتى سلطنة المطالبة و قد بذل العوض بعد قبضه أو قبله كان ذلك بمنزلة بذل المعوّض عنه، و كان من اللازم سقوط سلطنة المطالبة، بل إباحة العين للغاصب.

(1) يعني: من عدم عود الغرامة إلى ملك الغارم إلّا بعد إرجاع السلطنة على العين إلى مالكها يظهر أنّه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يردّ مالك العين القيمة المدفوعة غرامة، إذ ليس للغاصب حينئذ مال عند المالك حتّى يجوز له ذلك، كما في المعاوضة.

(2) أي: عدم جواز الحبس.

(3) أي: الحبس.

(4) يعني: و لعلّ وجه جزم التحرير بأنّ للغاصب حبس العين إلى دفع المالك إليه القيمة هو تحقّق المعاوضة بين العين و البدل بأحد نحوين، فإمّا أن يكون المعوّض نفس العين، و إمّا السلطنة المطلقة عليها.

و على كلّ منهما يجوز للغاصب حبس العين حتى يردّ المالك البدل إلى الغارم، و لا يجب عليه المبادرة إلى تسليم العين إليه، كما يجوز للمالك الحبس حتى تصل إليه العين.

(5) كما هو الشأن في المعاوضات.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 385، إيضاح الفوائد، ج 2، ص 178، جامع المقاصد؛ ج 6، ص 161.

(2) تحرير الأحكام، ج 2، ص 140، و الحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة؛ ج 6، ص 256.

ص: 602

و فيه (1): أنّ العين بنفسها ليست عوضا و لا معوّضا (2)، و لذا تحقّق للمالك الجمع بينها و بين الغرامة، فالمالك مسلّط عليها (3). و المعوّض للغرامة السلطنة التي هي في معرض العود بالتّراد.

اللهم إلّا أن يقال: له حبس العين من حيث تضمّنه لحبس (4) مبدل الغرامة، و هي السلطنة الفائتة.

و الأقوى الأوّل (5).

[ل- لو حبس العين فتلفت، فالعبرة بأيّ القيم؟]

ثمّ لو قلنا (6) بجواز الحبس لو حبسه فتلفت العين محبوسا؛ فالظاهر أنّه

______________________________

(1) حاصل المناقشة في جواز حبس العين هو عدم تحقّق المعاوضة بين العين و البدل. أمّا عدم كون العين عوضا فمعلوم. و أمّا عدم كونها معوّضا فلأنّ بدل الحيلولة غرامة عن سلطنة الانتفاع الثابتة لكلّ مالك على ماله. و ممّا يشهد بعدم تحقّق المعاوضة اجتماع العين و البدل في ملك المضمون له، مع أنّ قوام المعاوضة بدخول أحد العوضين في كيس من خرج منه العوض الآخر. و هذا كاشف عن كون البدل عوضا عن السلطنة الفائتة.

(2) حتى يجوز للغارم حبس العين عن المالك إلى أن يأخذ الغرامة منه، و كذا حبس المالك الغرامة حتى يتسلّم العين من الغارم.

(3) أي: على الغرامة.

(4) أي: للغاصب حبس العين، و حاصله: أنّ حبس العين علّة لحبس السلطنة التي هي مبدل الغرامة، فيكون من هذه الحيثيّة نظير المعاوضة.

(5) و هو عدم جواز حبس العين للغاصب.

ل- لو حبس العين فتلفت، فالعبرة بأيّ القيم؟

(6) هذا من فروع المسألة، و تعبيره ب «لو قلنا» ظاهر في عدم التزامه به، لما تقدّم منه من عدم خروج الغرامة عن ملك مالك العين بمجرّد تمكن الغاصب من ردّها إليه، إذ بناء عليه لا مجال لجواز حبس العين.

و عليه فكلامه هنا مبنيّ على مقالة العلّامة قدّس سرّه في التحرير، فأفاد المصنف قدّس سرّه:

ص: 603

لا يجري عليه حكم المغصوب، لأنّه حبسه بحقّ (1).

نعم (2) يضمنه، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه.

و الظّاهر أنّه (3) بقيمته يوم التلف [1] على ما هو الأصل في كلّ مضمون [2].

______________________________

أنّ الغاصب لو حبس العين لم يجر عليها حكم المغصوب بقول مطلق، بل ينفكّ التكليف عن الوضع، فلا تكليف بوجوب ردّها إلى المالك، لكون حبسها حقّا له.

و لكنّه يضمنها لو تلفت في الحبس. و يتفرّع على اشتغال عهدته بها أنّ العبرة هل تكون بقيمته يوم الحبس أو يوم التلف أو أعلى القيم؟ فبناء على ضمان القيميّ بقيمته يوم التلف يضمنها الغاصب هنا.

(1) إذ كان له ذلك حتى يتسلّم الغرامة من المالك، فكان الحبس بحكم الشارع، فلا إثم عليه.

(2) غرضه أنّ نفي حكم الغصب إنّما هو بالنسبة إلى الحرمة التكليفية فقط.

و أمّا الحكم الوضعيّ- و هو الضمان- فهو باق، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه، كما في المستام. و الخارج عن عموم «على اليد» المقتضي للضمان هو خصوص اليد الثابتة على مال الغير لمصلحة المالك، فلو لم تكن اليد لمصلحة المالك كانت مضمّنة.

(3) أي: أنّ المغصوب مضمون بقيمته يوم التلف، لأنّه زمان الانتقال إلى القيمة.

______________________________

[1] الظاهر كما عن المحقّق الرشتي قدّس سرّه منافاة العبرة بقيمته يوم التلف لما اختاره سابقا من عدم تجدّد الضمان بمجرّد التمكّن، و أنّ العين مضمونة بالغرامة المدفوعة، لا بما في ذمّة الغاصب حتى يكون المدار على قيمة يوم التلف.

لكن يمكن توجيه ضمان قيمة يوم التلف بابتنائه على نظر العلّامة القائل بجواز الحبس المقتضي لتجدّد الضمان عند التمكّن.

[2] هذا صحيح بناء على كون المضمون بعهدة الضامن. و أمّا في موارد بدل الحيلولة تكون الغرامة المدفوعة بدلا عن المضمون بحيث لو تلفت العين كانت مضمونة ببدل الحيلولة.

ص: 604

و من قال بضمان المقبوض بأعلى القيم (1) يقول به هنا من زمان الحبس (2) إلى زمان التلف.

و ذكر العلّامة في القواعد «أنّه لو حبس، فتلف محبوسا فالأقرب ضمان قيمته الآن، و استرجاع القيمة الأولى» «1».

و الظاهر أنّ (3) مراده بقيمة الآن مقابل القيمة السابقة بناء على زوال حكم الغصب عن العين، لكونه (4) محبوسا بغير عدوان، لا خصوص (5) حين

______________________________

(1) كما هو مذهب جماعة من القدماء، على ما سبق في الأمر السادس و السابع.

(2) يعني: لا من زمان الغصب، إذ المفروض أنّ الغرامة كانت بدلا عن العين.

و أمّا بعد التمكّن من ردّها و جواز حبسها لاسترداد بدل الحيلولة فالمدار في ضمانها لو تلفت على أعلى القيم من زمان الحبس إلى زمان التلف، لتجدّد الضمان بالحبس.

(3) لمّا كان ظاهر «الآن» اعتبار قيمة وقت تلف العبد، فتصدّى المصنّف لتوجيهه بأنّ المراد ليس خصوص القيمة الفعليّة، بل ما يقابل القيمة السابقة، و هي زمان غصب العبد. و لعلّ الداعي إلى هذا الحمل اختيار العلّامة ضمان أعلى القيم، لا قيمة يوم التلف، فيراد من «قيمته الآن» تمام زمان الحبس، لا خصوص يوم التلف، فلو كانت قيمته أوّل أيّام الحبس أكثر من قيمته يوم التلف لم يبعد ضمان الأكثر.

و لو أبقينا «الآن» على ظاهره- و هو يوم التلف- كان منافيا لمختار العلّامة في القواعد من ضمان أعلى القيم.

(4) تعليل لزوال حكم الغصب، لفرض تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى مالكها و امتناعه عن تسلّمها، و ردّ بدل الحيلولة، فحبس العين يكون حقّا للغاصب و إن كان ضامنا بضمان جديد، فلو اختلفت قيمتها من يوم حبسها إلى يوم تلفها لم تتعيّن قيمة يوم التلف، بل يرجع إلى ما أسّسه كلّ في ضمان القيمي، من أنّ العبرة بقيمة يوم الضمان، أو التلف، أو الأعلى بينهما.

(5) لمخالفته لمبنى العلّامة قدّس سرّه من ضمان أعلى القيم.

______________________________

(1) قواعد الاحكام، ص 79، السطر 30 (الطبعة الحجرية)

ص: 605

التلف و كلمات كثير منهم لا تخلو عن اضطراب (1).

ثم إنّ أكثر ما ذكرناه مذكور في كلماتهم في باب الغصب، لكن (2) الظاهر أنّ أكثرها- بل جميعها- حكم المغصوب من حيث كونه مضمونا، إذ ليس في الغصب خصوصيّة زائدة.

نعم ربّما يفرّق من جهة نصّ في المغصوب مخالف (3) لقاعدة الضمان، كما احتمل في الحكم بوجوب قيمة يوم الضمان من جهة صحيحة أبي ولّاد، أو أعلى القيم، على ما تقدّم من الشهيد الثاني دعوى دلالة الصحيحة عليه (4).

و أمّا (5) ما اشتهر من «أنّ الغاصب مأخوذ بأشقّ الأحوال» فلم نعرف له

______________________________

(1) كما يظهر بمراجعة كلام السيد العميد و المحقق الثاني «1» و ما علّقه صاحب الجواهر عليه.

هذا تمام الكلام في بدل الحيلولة، و به تمّ الكلام في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد.

(2) يعني: لا في المقبوض بالبيع الفاسد. و غرضه بيان وجه ما فصّله في ضمان القيميّ و المثليّ و بدل الحيلولة مع كونها مذكورة في باب الغصب، و وجه التّعدّي منه إلى غيره من موارد الضمان- كالمقبوض بالعقد الفاسد- هو: أنّ الغصب لمّا كان أجلى أفراد موجبات الضمان فقد ذكروا أحكام الضمان فيه، و عليه فتكون الأحكام أحكام كلّ مضمون، لا خصوص المضمون بالغصب.

(3) مخالفة الغصب للقاعدة المقتضية لضمان قيمة يوم التلف مبنيّة على دلالة صحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الغصب، و ذلك غير ظاهر كما سبق بيانه عند التكلّم في مفاد الصحيحة.

(4) و قد تقدّم هناك تفصيل البحث.

(5) غرضه أنّه قد يتوهّم دلالة ما اشتهر من «أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال» على ضمان المغصوب بأعلى قيمته، لأنّ المناسب بحاله هو جبران خسارة المضمون له بدفع الأشقّ و هو أعلى القيم. و لا بأس به دلالة، لكن حيث إنّ هذه

______________________________

(1) كنز الفوائد، ج 1 ص 662 جامع المقاصد، ج 6، ص 262.

ص: 606

مأخذا واضحا (1).

________________________________________

و لنختم بذلك أحكام المبيع بالبيع الفاسد، و إن بقي منه آخر أكثر مما ذكر (2)،

______________________________

القاعدة لم تكن مفاد رواية معتبرة، و لا متصيّدة من نصوص متفرّقة لم يكن وجه للاعتماد عليها. فالعبرة حينئذ في المغصوب بقيمته يوم الغصب أو يوم التلف، على ما تقدّم تفصيله في البحث عن صحيحة أبي ولّاد.

(1) قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه ما لفظه: «وجدت فيما حرّره بعض الفضلاء ممّا أفاده الشيخ الفقيه المحقّق موسى بن جعفر الغروي قدّس سرّه في مجلس البحث تقييد هذه القاعدة المشهورة بما إذا كانت المشقّة في الغرامة و المؤنة، احترازا عمّا إذا كانت المشقّة في الكيفية، كما لو كان الرّدّ مشتملا على العسر. قال في مسألة وجوب ردّ المغصوب إلى صاحبه: و لو أدّى ردّه إلى عسر، العسر الذي لا نضايق عنه في الإلزام بردّ العين هو ما لم يصل إلى حدّ المشقّة غير المتحمّلة عادة، فلو وصل إلى ذلك الحدّ فهو في حكم التعذّر. بل الظاهر أنّهم كلّما يعبّرون بالتعذّر مع الإطلاق يريدون به ما يعمّ هذا النوع من التعسّر الذي كاد يكون من التعذّر الحقيقيّ العاديّ.

إن قلت: لم لا يجوز الإلزام بردّ العين و إن أدّى إلى عسر غير متحمّل، و من أين إلحاق هذا النوع من العسر بالتعذّر. بل الدليل على الحاقه بالعسر غير المضايق عن لزومه موجود، و هو ما اشتهر عندهم من أنّ الغاصب يؤخذ بالأشقّ.

قلنا: المراد بقولهم المذكور إنّما هو أخذه بالأشق في الغرامة، لا في غيرها، و المشقّة الحاصلة في الرّد ليس ممّا ذكروا فيها الأخذ بالأشقّ، فلو كانت للنقل مثلا مئونة فهي على الغاصب، لما ذكر، و هكذا، فلا تذهل» «1».

(2) غرضه قدّس سرّه أنّا و إن فصّلنا الكلام في أحكام المبيع بالبيع الفاسد، إلّا أنّ ما لم نتعرّض له أزيد بكثير ممّا ذكرناه، إذ بعد اتّحاده حكما مع المغصوب يجري فيه كثير من مسائل الغصب. و ما تقدّم من مباحث المثليّ و القيميّ و بدل الحيلولة قليل من كثير، و لا تنحصر أحكام الغصب في الأبحاث السابقة. مثلا لو مزج المبيع بالعقد

______________________________

(1) غاية الآمال، ص 319.

ص: 607

و لعلّ بعضها يجي ء في بيع الفضولي [1].

______________________________

الفاسد بغيره، بحيث يشقّ تمييزه كالحنطة بالشعير، أو الدخن بالذرّة، فهل يقال بالشركة القهريّة أو يكلّف تمييزه؟

و لو اشترى أرضا فزرعها أو آجرها من غيره، فزرعها كان عليه ردّ الأرض و أجرة الغرس و الزرع و أرش الأرض إن نقصت بالزرع، و عليه طمّ الحفر.

و لو اشترى حبّا فزرعه، أو بيضا فاستفرخه، فهل الزرع و الفرخ للمشتري أم للبائع؟ و غير ذلك مما هو كثير.

و بهذا ينتهي الكلام في شرح ما أفاده شيخنا الأعظم من مباحث المقبوض بالبيع الفاسد، و سيأتي الكلام في الجزء الرابع في شرائط المتعاقدين إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] تفصيل الكلام في بدل الحيلولة يقع في الدليل عليه، و ما يترتّب عليه من أمور، فنقول: قد استدلّ لوجوبه بوجوه:

الأوّل: ما في المتن من الروايات الدالّة على الضمان بهذه الأمور من الضياع و السرقة و الإباق و نحوها.

و فيه: أنّ موردها التلف، لا التعذّر.

لكن فيه ما لا يخفى، إذ المذكور فيها التلف و الضياع و السرقة، فلا تختصّ بالتلف.

الثاني: ما في حاشية السيد قدّس سرّه «1» من قاعدة الضرر، بتقريب: أنّ صبر المالك إلى حين الوصول الى ماله ضرر عليه.

أو ببيان: أنّ عدم الحكم بضمان البدل ضرر على المالك.

أو: بأنّ امتناع الضامن عن أداء البدل ضرر على المالك.

و فيه: ما قيل: من أنّ دليل نفي الضرر يرفع الحكم الناشئ عنه الضرر، بمعنى نفي تشريع الحكم الملقي للمكلّف في الضرر. و أمّا الضرر الناشئ عن عدم تشريع الحكم فلا يشرّع حكما لا يلزم منه الضرر، كالحكم بوجوب البدل على الضامن إلى أن يتمكّن

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 106

ص: 608

______________________________

من دفع العين إلى المالك، و إلّا يلزم الحكم بوجوب تدارك الضرر المتوجّه إلى مسلم من بيت المال، و من المعلوم عدم صحّة هذا التمسّك.

مضافا إلى: عدم وفاء قاعدة نفي الضرر بالمدّعى، و هو لزوم بدل الحيلولة مطلقا، سواء لزم من صبر المالك ضرر أم لا، إذ من الواضح كون النسبة بين موارد بدل الحيلولة و بين موارد تضرّر المالك هي العموم من وجه، إذ قد لا يتضرّر المالك بصبره إلى زمان التمكّن من الوصول إلى ماله، و مع ذلك يحكم بلزوم أداء بدل الحيلولة. و قد يتضرّر المالك من حيلولة الغاصب بينه و بين ماله مدّة قليلة كساعة أو ساعتين، مع أنّه ليس من موارد بدل الحيلولة، لاعتبار الفقهاء قدّس سرّهم في ثبوت بدل الحيلولة تعذّر وصول المالك إلى ماله مدّة طويلة. و قد يتعذّر وصوله إلى المالك مع تضرّره بعدم وصوله إليه. و مع هذه النسبة لا يصحّ الاستدلال بقاعدة الضرر مطلقا.

و دعوى إقدام الضامن على ضرر نفسه فاسدة، لأنّه لم يقدم إلّا على ضمان العين دون سائر الجهات التي منها، بدل الحيلولة.

الثالث: ما في المتن و حاشية السيد «1» أيضا من قاعدة سلطنة الناس على أموالهم، بتقريب: أنّ مقتضاها جواز مطالبة العين وسيلة إلى أخذ البدل الذي هو ممكن.

أو بتقريب: أنّ السلطنة على مطالبة ماليّة ماله المضمون تقتضي جواز مطالبة البدل حتى ينتفع ببدل ماله.

أو بتقريب: أنّ السلطنة على الانتفاع بماله تقتضي جواز مطالبة بدل ماله لينتفع به.

و الكلّ لا يخلو من محذور. أمّا السلطنة على مطالبة العين للتوسّل إلى أخذ البدل، فإن أريد منها صورة إمكان ردّ العين فلازمها جواز إلزام الغاصب بردّ ماله، فيجب عليه السعي في مقدّمات تحصيله، و لا يجب على الغاصب حينئذ دفع البدل.

و إن أريد منها صورة عدم إمكان ردّ العين و تحصيلها- و إن أمكن حصولها فيما بعد- فلا وجه لجواز مطالبة العين، لكونه لغوا، إذ المفروض عدم إمكان تحصيلها و ردّها

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 106

ص: 609

______________________________

إلى المالك. و مع اللغويّة و عدم تعقّل الترخيص في مطالبة العين كيف يترتّب عليه دفع البدل؟ و قد فرض المستدلّ جواز مطالبة العين وسيلة إلى أخذ البدل.

و أمّا السلطنة على مطالبة ماليّة ماله نظرا إلى كون عين ماله ذات شؤون ثلاثة، من حيث الشخصيّة، و من حيث الطبيعة النوعيّة، و من حيث الماليّة، و امتناع مطالبة الاولى لا يمنع عن مطالبة الباقي، ففيها: امتناع سلطنة المالك على مطالبته. أمّا الماليّة القائمة بنفس العين فلتعذّرها. و أمّا الماليّة القائمة ببدلها فهي حصة أخرى من الماليّة، و السلطنة عليها سلطنة على مطالبة مال الغير، لا على مال نفسه.

و أمّا السلطنة على مطالبة السلطنة على الانتفاعات بماله، ففيها: أنّ تلك السلطنة الشخصيّة على الانتفاع بماله متعذّرة بتعذّره، و السلطنة على الانتفاع بالبدل المدفوع سلطنة أخرى ليس للمالك مطالبتها إلّا بعد استحقاق البدل، و هو أوّل الكلام.

نعم بناء على مشرّعيّة قاعدة السلطنة يمكن إثبات جواز مطالبة البدل. لكنّه في حيّز المنع، بل قاعدة السلطنة لا تقتضي إلّا جواز التصرّفات التي ثبتت مشروعيّتها.

فالمتحصّل: أنّ قاعدة السلطنة لا تصلح لإثبات جواز مطالبة البدل.

الرابع: أنّ فيه جمعا بين الحقّين، مع فرض رجوع البدل إلى الضامن بعد ارتفاع العذر.

و فيه: أنّه مبنيّ على تعلّق حقّ للمالك على الضامن مع بقاء عين ماله ليكون ذلك جمعا بين الحقّين، لكن لا يلتزم أحد بتعلّق حقّ للمالك بالبدل مع بقاء العين و عدم تلفها، بل لا حقّ له إلّا على العين.

الخامس: حيلولة الغاصب بين المالك و ماله.

و فيه: أنّ الحيلولة ليست من موجبات الضمان بالاستقلال، إلّا إذا اندرجت تحت اليد أو الإتلاف، و المفروض أنّ قاعدة اليد لا تقتضي ردّ البدل مع عدم التلف أو الإتلاف.

السادس: أنّ الغاصب فوّت سلطنة المالك، فيجب عليه تداركها بدفع البدل.

فالمراد بهذا الدليل هو قاعدة الإتلاف، غايته أنّ متعلق الإتلاف ليس نفس العين، بل السلطنة عليها، فتفويت هذه السلطنة يوجب الضمان.

و فيه: أنّه ليس للمالك إلّا الملك. و أمّا السلطنة عليه فهي من أحكام الملك،

ص: 610

______________________________

و لا معنى لتعلّق الضمان بها.

و هذا مراد المحقّق الثاني قدّس سرّه من قوله: «جعل القيمة في مقابل الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» و حاصل إشكاله: أنّ مجرّد منع الضامن عن إعمال المالك سلطنته في ماله و حيلولته بينه و بين ماله لا يوجب أن تكون القيمة واجبة عليه.

إلّا أن يقال: ليس المراد من السلطنة التي التزم المصنّف بتداركها هي الحكم الشرعيّ، بل المراد هي الجدة الاعتباريّة، فالبدل بدل لهذه الجدة التي هي عبارة عن كون المال تحت استيلاء المالك يتقلّب فيه ما يشاء، و يتصرّف فيه بكلّ ما يريد.

بل قيل: هذه هي التي تقع متعلّقة للإجارة في مثل الدار و الدّكان، فإنّ الأجرة تقع بإزاء كون العين تحت يده، فإذا كان الضامن سببا لتفويت هذه الخصوصيّة على المالك وجب عليه تداركها، و هو لا يتحقّق إلّا بأداء ما هو بدل المال من المثل أو القيمة حتى يتصرّف المالك فيه على مشيّته.

و فيه أوّلا: أنّ مورد قاعدة الإتلاف هو المال، و صدقه على السلطنة كما ترى.

و ثانيا: أنّ مقتضى هذا الدليل هو لزوم البدل فيما إذا كان تعذّر الوصول إلى المال من جهة حبس المالك و منعه عن التصرّف فيه أيضا.

و ثالثا: أنّ مقتضى هذا الدليل إمّا ضمان المنافع، أو التفاوت بين كون العين داخلة تحت استيلائه و بين كونها خارجة عنه.

و أمّا بدل نفس العين كما هو المبحوث عنه في بدل الحيلولة فلا يقتضيه هذا الدليل، فإنّ المالك و إن لم يقدر على جميع أنحاء التقلّبات في ماله لأجل الحيلولة، إلّا أنّ هذا لا يقتضي إلّا ضمان المنافع أو النقص، فإمّا يستحقّ أجرته أو أرشه، لا بدل نفس العين، إذ الفائت هو السلطنة على العين بالتصرّف و التقلّب فيها، فلا بدّ من تداركها المتوقّف على أداء الأجرة أو الأرش، فبدل الحيلولة- و هو الأجرة أو الأرش- أجنبيّ عن بدل العين.

السابع: النبويّ المعروف «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بتقريب: أنّ المال بجميع خصوصيّاته الشخصيّة و النوعيّة و الماليّة و السلطنة عليه في عهدة الضامن

ص: 611

______________________________

بمجرّد وضع اليد عليه، خرج منه صورة ردّ العين إجماعا، فيبقى الباقي، فيشمل صورة التلف و ما بحكمه، و صورة التعذّر بأقسامه، لأنّه لو كان المال بماليّته و خصوصيّاته في عهدة الغاصب مشروطا بعدم ردّه، فإذا لم يمكن ردّ عينه فللمالك مطالبة بدله، سواء صدق التلف أم التعذّر، أم لم يصدق، و سواء خرج المال عن القيمة أم لم يخرج، كان التعذّر عقليّا أم عرفيّا، كان زمانه قصيرا أم طويلا، حصل اليأس من العين أم لم يحصل.

و هذا التقريب يدلّ على ضمان الغاصب سلطنة المالك على ماله، و تدارك هذه السلطنة إنّما يكون ببذل بدل العين إلى المالك ليتسلّط عليه و يتصرّف فيه بما يشاء.

و هذا بدل الحيلولة، حيث إنّ المراد به بدل العين التي تلفت جميع الانتفاعات بها في بعض الأزمنة، كاللوح المنصوب في السفينة الذي يخاف من نزعه على النفس المحترمة، و لو كان هو الغاصب، أو تلف مال غير الغاصب ممّا يكون محترما.

و ليس المراد تلف العين حقيقة، و لا جميع الانتفاعات في تمام الأزمنة، سواء خرجت العين عن الملكيّة، و لم يبق إلّا حق الاختصاص كصيرورة الخلّ خمرا، و تنجّس الدهن. أم بقيت على الملكيّة كالظروف المنكسرة و المرآة كذلك.

و لا تلف بعض الانتفاعات الّذي لا يتقوّم به الملكيّة في جميع الأزمنة، كما لو صار الحيوان غير المقصود أكل لحمه موطوءا، فإنّه لم يتلف منه إلّا الانتفاع به دائما في بلد الوطي، لا في سائر البلاد، هذا.

لكن فيه: أنّ هذا التقريب لقاعدة اليد لا يقتضي خصوص البدل المثليّ إن كان المضمون مثليّا أو القيمي إن كان قيميّا، بل يقتضي ما لا يمكن الانتفاع به في زمان يتعذّر وصول المال إلى المالك، إذ المقصود تدارك السلطنة التي فوّتها الغاصب على المالك، و من المعلوم أنّها تجبر ببذل اجرة المنافع أو الأرش، و هو التفاوت بين قيمة العين باقية تحت سلطنة المالك، و خارجة عن حيّز سلطنته، و لا يقتضي قاعدة اليد خصوص بدل الحيلولة. مع أنّ الظاهر تسالمهم على أنّ بدل الحيلولة هو البدل لنفس العين على تقدير التلف، لا بدل المنافع أو الأرش بين استيلاء المالك على العين و عدمه، كما هو قضيّة هذا الدليل، هذا.

ص: 612

______________________________

مضافا إلى: أنّ مقتضاه لزوم البدل مطلقا و إن كانت مدّة التعذّر قليلة، مع أنّ الفقهاء لم يلتزموا بلزوم البدل في هذه الصورة، هذا.

و يمكن تقريب الاستدلال بحديث «على اليد» بوجه آخر، و هو أنّه ظاهر في الضمان الفعليّ للمأخوذ إلى زمان الأداء، فكأنّه قال: إنّ غرامة المأخوذ على الآخذ إلى زمان أدائه، و هذا بعينه ضمان بدل الحيلولة. فهذا الحديث سيق لبيان بدل الحيلولة، لأنّ الغاية لا تناسب ضمان التلف، فالضمان بدليل اليد ثابت إلى ردّ العين، فلا بدّ من أداء قيمة اللوح المغصوب إلى زمان أدائه.

لكن فيه: عدم ظهور معتدّ به للنبويّ في هذا المعنى مع تطرّق احتمالات أخر فيه.

الثامن: دعوى الإجماع على ثبوت بدل الحيلولة مع تعذّر وصول المال إلى مالكه.

و فيه: أنّه- بعد تسليم الإجماع- يحتمل أن يكون مستند المجمعين بعض الوجوه المتقدّمة أو كلّها، و معه لا علم لنا بوجود إجماع تعبّديّ في المقام.

و لكن لا بأس بنقل بعض كلمات الفقهاء في بدل الحيلولة، فإنّه قد وقع التنصيص في عباراتهم على سببيّة الحيلولة للضمان.

قال المحقّق قدّس سرّه: «إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل، و يملكه المغصوب منه، و لا يملك الغاصب العين المغصوبة. و لو عادت كان لكلّ منهما الرجوع» «1».

و قال الشهيد قدّس سرّه في القواعد- بعد تقسيم الضمان إلى ما يكون بالقوّة و ما يكون بالفعل- ما نصّه: «و الضمان الفعليّ تارة بعد تلف العين، و لا ريب أنّه مبرء لذمّة الضامن، و يكون من باب المعاملة على ما في الذمم بالأعيان، و هو نوع من الصلح. و تارة مع بقاء العين، لتعذّر ردّها، و هو ضمان في مقابلة فوات اليد و التصرّف، و الملك باق على ملك مالكه .. إلخ» «2».

و هذا الذي أفاداه بيان على وجه الكلّيّة، و قد صرّحوا بذلك في موارد مخصوصة:

______________________________

(1) شرائع الإسلام، ج 3، ص 241

(2) القواعد و الفوائد، ج 1، ص 347 و 348

ص: 613

______________________________

منها: ما ذكره العلّامة رحمه اللّه في القواعد، حيث قال: «و لو أبق العبد المغصوب ضمن في الحال القيمة للحيلولة، فإن عاد ترادّا» «1».

و منها: ما لو أقرّ إنسان بما في يده من العين لزيد مثلا، ثم أقرّ بها لعمرو، فإنّهم حكموا بأنّه يغرم للثاني، للحيلولة بينه و بين العين بالإقرار «2».

و منها: ما لو شهدت البيّنة بالطلاق، ثم رجعت عن الشهادة بعد حكم الحاكم بالتفريق بين المرء و زوجته، فإنّهم حكموا بأنّ الشهود يغرمون للزوج المهر. و كذا الحال في رجوع البيّنة عن الشهادة في الماليّات «3»، كلّ ذلك لمكان الحيلولة المستندة إلى الشهادة.

و منها: ما لو باع أو صالح أو وهب شيئا على أنّه له، ثم أقرّ به لزيد، فإنّهم حكموا بأنّه يغرم للمقرّ له عوضه مثلا أو قيمة، لحيلولته بين المقرّ له و ماله بالعقد الناقل.

و منها: ما ذكروه من ضمان الامام عليه السّلام المهر للزوج الكافر المهادن إذا هاجرت زوجته إلى بلد الامام عليه السّلام أو نائبه مسلمة، ثم طلبها الزوج، فمنعه عنها الامام عليه السّلام، فإنّ أصحابنا قد أجمعوا على أنّ على الامام عليه السّلام حينئذ غرامة المهر للزوج. و استدلّ العلّامة رحمه اللّه في المنتهى لهذا الحكم بقضيّة الحيلولة. «4»

و منها: ما ذكروه من: أنّ على واطئ البهيمة لمالكها القيمة، لمكان الحيلولة. «5»

و منها: ما ذكروه في كتاب القصاص من: أنّ من أطلق مستحقّ القصاص من يد وليّ المقتول، ألزم بدفع المال، للحيلولة، ثمّ إن تمكّن منه الوليّ لزمه ردّ المال إلى القاهر المطلق، لأنّ أخذ المال إنّما كان للحيلولة، و قد زالت.

إلى غير ذلك من الموارد التي تشرف الفقيه على القطع بسببيّة الحيلولة للضمان.

______________________________

(1) قواعد الأحكام، ص 79 (الطبعة الحجريّة).

(2) شرائع الإسلام، ج 3، ص 154؛ قواعد الاحكام، ص 115

(3) قواعد الاحكام، ص 241

(4) منتهى المطلب، ج 2، ص 977 و 978 (الطبعة الحجرية).

(5) الروضة البهية، ج 9، ص 313

ص: 614

______________________________

فلو نوقش في الأدلّة المتقدّمة لكان تسالم الفقهاء على ما يظهر بالتتبّع في كلماتهم- من تعليلاتهم بالحيلولة على سببيّتها للضمان، و أنّها من موجباته- كافيا في إثبات ذلك.

فلو كانت الوجوه المتقدّمة المحتجّ بها على ضمان بدل الحيلولة ضعيفة و غير معتبرة عندهم، فالتعليلات المزبورة في كلماتهم كاشفة عن تسلّم سببيّة الحيلولة عندهم للضمان.

بقي أمور ينبغي التنبيه عليها:

الأوّل: أنّ مورد بدل الحيلولة على ما يستفاد من كلمات الأعلام صرف التعذّر، لا التلف و ما بحكمه، كما إذا خرج المال عن الماليّة شرعا كالبهيمة الموطوءة، أو عرفا كالمال المسروق الذي لم يعرف سارقه، أو المال الذي غرق، فإنّهما خارجان عن موضوع بدل الحيلولة، فيختصّ مورده بوجود العين و إمكان الانتفاع بها في نفسها، و انحصار المانع بالتعذّر. فلو خرجت العين عن قابليّة الانتفاع شرعا كالبهيمة الموطوءة أو عرفا كغرقها لم يكن من مورد بدل الحيلولة، بل يحكم عليه بحكم التلف.

و لو شكّ في صدق التعذّر على بعض الموارد كما إذا غرق أو سرق، و لم يحصل اليأس من الوصول إليه، فبناء على كون حديث «على اليد» دالّا على وقوع المال بجميع خصوصيّاته- الّتي منها سلطنة المالك عليه- في العهدة يحكم بضمان هذه السلطنة. و بناء على عدم اقتضاء «على اليد» إلّا ضمان ماليّة المال عند التلف- لا ضمان شخص المال فضلا عن توابعه، حتى يجب عليه الخروج عن عهدة ذلك مع بقاء العين- يكون الأصل براءة ذمّة الغاصب و من بحكمه.

الثاني: هل المدار في التعذّر على التعذّر العقليّ المسقط للتكليف بردّ العين، أو الأعمّ منه و من العرفيّ؟ وجهان مبنيّان على ما تقدّم من الاختلاف في تقريب الأصل في المسألة. و لكن مقتضى الأدلّة عدم الفرق بين الصورتين، لورود الضرر على المالك، و فوت سلطنته في كلتا الصورتين. ففي مورد التعذّر العرفيّ و إن وجب على الضامن السعي في تحصيل العين، إلّا أنّ هذا لا ينافي وجوب البدل في زمان السعي، و ذلك لإطلاق قاعدة «على اليد» و عموم السلطنة و قاعدة لا ضرر، و غير ذلك من الأدلة التي أقاموها على ثبوت البدل و استحقاق المالك المطالبة به.

ص: 615

______________________________

كما أنّ مقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق أيضا بين العلم بحصول العين و اليأس منه و رجائه. و التخصيص بمورد اليأس غير وجيه. إذ ليس دليل بدل الحيلولة لبّيّا حتى يكون المتيقّن منه صورة اليأس.

إلّا أن يقال: إنّ دليله هو الإجماع، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بالمتيقن منه من جميع الجهات، فتأمّل.

فالمتحصّل: أنّ المدار على مطلق التعذّر، لا خصوص العقليّ.

و أمّا زمان التعذّر فدعوى انصراف الأدلّة عن قصره جدّا قريبة، لعدم صدق فوات السلطنة أو الانتفاع أو غير ذلك عرفا على الزمان القصير جدّا.

لكن الفقهاء أفتوا في اللوح المغصوب في السفينة بوجوب القيمة، مع إمكان الوصول إليه و نزعه بوصول السفينة إلى الساحل. و هذا يكشف عن كون التعذّر و لو في زمان قليل موجبا لوجوب البدل.

فتلخّص: أنّ المدار على مطلق التعذّر، و عدم دخل الياس من الوصول إلى العين فيه.

الثالث: أنّه هل للضامن إجبار المالك على أخذ بدل الحيلولة، بأن يكون بدل الحيلولة حقّا لكلّ من المالك و الضامن، كجواز إجباره على أخذ بدل العين حين التلف أم لا؟ بأن يكون حقّا للمالك فقط.

قد يقال: إنّ الأدلّة الدالّة على وجوب بدل الحيلولة لا تدلّ على جواز إجبار الضامن المالك على قبول البدل. و ليس هنا دليل آخر يدلّ على ذلك غير تلك الأدلّة.

و عليه فيتخيّر المالك بين قبول البدل و بين الصبر إلى زمان زوال العذر، و إجبار الضامن إيّاه على قبول بدل الحيلولة خلاف سلطنته، إذ المالك يستحقّ على الضامن نفس العين، فإجبار الضامن إيّاه على قبول بدلها خلاف سلطنته. و هذا مراد المصنّف قدّس سرّه من تمسّكه بقاعدة السلطنة في المقام.

و الفرق بين التلف و التعذّر أنّه بتلف العين تسقط الخصوصيّات عن عهدة الضامن قهرا، فلا يبقى في ذمّته إلّا الطبيعي من المثل أو القيمة، فيكون للضامن حق إلزام المالك بقبول ذلك، لأنّه عين ما يملكه في عهدته فعلا. بخلاف صورة التعذّر، فإنّ

ص: 616

______________________________

الخصوصيّات غير ساقطة، و ذمّة الضامن مشغولة بها، غاية الأمر أنّ للمالك إسقاطها و الإغماض عنها، و الرّضا بالطبيعيّ أو القيمة. و أمّا الضامن فلا حقّ له في إلزام المالك بإسقاط حقّه.

أقول: لا حاجة إلى غير أدلّة بدل الحيلولة في جواز إلزام الضامن المالك بأخذ البدل، لأنّ المستفاد من تلك الأدلّة إن كان وجوب دفع البدل إلى المالك، لاشتغال ذمّته به، فله إلزام المالك بأخذه لتفريغ ذمّته، لأنّ إبقاء ذمّته مشغولة بمال الغير نقص و حرج عليه.

و إن لم يكن مفاد أدلّة بدل الحيلولة إلّا ثبوت حقّ للمالك في المطالبة من دون اشتغال ذمّة الضامن به، غايته أنّه لو طالبه المالك بالبدل وجب عليه إجابته فليس للضامن إلزام المالك بذلك، لانتفاء الحكم الوضعيّ أعني به شغل الذّمّة، فلا موجب للإلزام المذكور.

و لعلّ هذا هو الأظهر إن لم يكن مفاد حديث «على اليد» غرامة المأخوذ على الآخذ، و إلّا فعليه يكون للضامن إلزام المالك.

و لو شكّ في ثبوت هذا الحقّ للضامن فالأصل عدم ثبوته، لأنّه قبل التعذّر لم يكن هذا الحقّ ثابتا له، فمقتضى الاستصحاب بقاؤه.

الرابع: أنّ بدل الحيلولة هل يملكه المالك أم يباح له التصرّف فقط؟ الظاهر اختلاف ذلك باختلاف المباني، و إن ذكر المصنّف: «أنّ المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف كما في المبسوط و الخلاف و الغنية و التحرير. و ظاهرهم إرادة نفي الخلاف بين المسلمين».

فإن كان المستند فيه حديث «لا ضرر» فهو لا يقتضي إلّا لزوم جبر الضرر، و من المعلوم انجباره بإباحة التصرّف في البدل، دون ملكيّته للمالك.

و إن كان المستند فيه دليل السلطنة بتقريب: أنّ الغاصب فوّت سلطنة المالك على ماله، فيجب عليه تدارك هذه السلطنة له، لم يثبت أيضا له إلّا إباحة التصرّف في البدل على النحو الذي يتصرّف في ملكه، لانجبار السلطنة الفائتة بإباحة التصرّفات في البدل، و عدم توقّف الانجبار على الملكيّة.

نعم مقتضى إباحة التصرّفات مطلقا حتّى المتوقّفة على الملك هو الالتزام

ص: 617

______________________________

بالملكيّة الآنيّة قبل التصرّف المنوط بها، كالمعاطاة بناء على إفادتها الإباحة المطلقة.

و بالجملة: تنجبر السلطنة الفائتة القائمة بالعين بالسلطنة على بدلها من مال الغاصب، و هذه السلطنة لا تقتضي الملكيّة.

و إن كان المستند فيه قاعدة اليد، فمقتضى كون البدل أداء لنفس العين المأخوذة- ليصدق عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حتى تؤدّي» بعد غضّ المالك عن خصوصيّات ماله- صيرورة البدل ملكا للمالك، تحقيقا لمعنى البدليّة في الملكيّة. فكما أنّ إضافة الملكيّة قائمة بالبدل في صورة التلف، لسقوط الخصوصيّات بسببه عن عهدة الضامن، و بقاء الطبيعيّ على عهدته، فكذلك في صورة التعذّر، فبدل الحيلولة يصير قائما مقام العين حال التعذّر في الملكيّة.

و الحقّ أن يقال: إنّه لو ثبت للمالك حقّ في أخذ البدل عن العين في الماليّة فهو ملك للمالك. و لو ثبت له حقّ في أخذ المال بدلا عن السلطنة الفائتة فهو غير مملوك للمالك، بل يباح له التصرّف فيه ما دام محجورا عن التصرّف في عين ماله.

و الظاهر ثبوت الحقّ، كما يدلّ عليه ما أشار إليه المصنّف قدّس سرّه من الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة، لظهور لفظ: «الغرامة و الضمان» الواردين في تلك الروايات في الملكيّة، فالبدل مملوك للمالك لا مباح له.

و أمّا توجيه القول بالإباحة بعدم اجتماع العوض و المعوّض في ملك المالك فغير وجيه.

أمّا أوّلا: فبإمكان التزام صيرورة العين المتعذر ردّها ملكا للضامن، كما اختاره الجواهر «1» في بعض أقسام التعذّر كالخيط الذي بردّه يتلف المخيط، و الرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء. و اختار ذلك السيد «2» في جميع أقسام التعذّر. و بهذا الوجه يرتفع الاشكال.

و أمّا ثانيا: فبأنّ البدل من باب الغرامة لا العوض، فاجتماع البدل و المبدل في

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 37، ص 80

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 107 و 108

ص: 618

______________________________

ملك المالك كاجتماع الأرش و العين المعيبة. هكذا قيل.

لكن فيه: أنّ الأرش بدل عن وصف الصحّة، و ليس بدلا عن العين حتى يلزم الجمع بين العوض و المعوّض.

ثمّ إنّه يترتّب الثمرة على ملكيّة البدل للمالك و إباحته له: أنّه على الأوّل يكون البدل دينا على الضامن، فينفذ إبراؤه، و يصحّ بيعه، و إصداقه، و الضمان عنه، و الحوالة عليه، و حصول التهاتر به، و الوصيّة به، و وجوب قبوله على المالك إذا دفعه إليه الضامن.

بخلافه على الثاني، لأنّه حينئذ حكم تكليفيّ صرف، و لا تشتغل ذمّته بشي ء حتى يترتب عليه آثار الملكيّة.

و لا يخفى أنّ عبارات الأصحاب مختلفة، فبعضها ظاهر في اشتغال ذمّة الضامن بالبدل، و بعضها ظاهر في مجرّد الوجوب التكليفيّ، و بعضها محتمل للاحتمالين، فلاحظها.

الخامس: هل تنتقل العين إلى الضامن بإعطاء البدل أم لا؟

قد يقال: بانتقال العين إلى الضامن، و البدل إلى المالك، لاستحالة بدليّة شي ء عن شي ء إلّا بقيام البدل مقام المبدل في جهة من جهاته، و تلك الجهة في المقام هي إضافة الملكيّة.

و قد يقال: بأنّ المالك يملك البدل، و أمّا الضامن فلا يملك المبدل، لأنّ المأخوذ بعنوان البدليّة ليس عوضا حقيقيّا حتى تستحيل البدليّة إلّا بدخول العين المتعذّرة في ملك الضامن، بل هو غرامة خالصة كالمبذول عند تلف العين. و من البيّن أنّ عنوان «الغرامة» لا يستلزم خروج البدل عن ملك الضامن، و لا دخول العين المتعذّرة في ملكه حتى يكون ذلك معاوضة قهريّة شرعيّة، هذا.

لكن فيه: أنّه بناء على كون بدل الحيلولة ملكا للمالك- كما تقتضيه الروايات المشار إليها الواردة في الموارد المتفرّقة، و كذا قاعدتا الإتلاف و اليد الدّالّتان على أنّ ما يدفعه الضامن إلى المالك هو عين ماله- لا بدّ من الالتزام بصيرورة المبدل المضمون ملكا للضامن بالمعاوضة القهريّة الشرعيّة، إذ لو لا ذلك لزم اجتماع العوض و المعوّض في ملك مالك العين.

و يؤيّد ذلك بل يدلّ عليه حسنة سدير المتقدّمة في التوضيح، الدالّة على غرامة

ص: 619

______________________________

الواطي قيمة البهيمة الموطوءة، الظاهرة في صيرورتها ملكا للواطي الغارم بدفع القيمة.

نعم بناء على كون البدل مباحا للمالك- لا ملكا له- لا وجه لخروج المبدل عن ملك مالكه و دخوله في ملك الضامن.

و يترتّب على خروج المبدل عن ملك المالك و عدم خروجه عنه فروع:

أحدها: أنّه إذا توضّأ- جهلا أو غفلة- بماء مغصوب، و علم أو تذكّر بعد إكمال الغسلات و قبل المسح، فعلى القول بدخول الرطوبة في ملك الضامن يجوز المسح بها.

و على القول ببقائها على ملك المالك لا يجوز، بل عليه الاستيناف.

إلّا أن يقال: إنّ الرطوبة بمنزلة الشي ء التالف، فلا يملكها مالكها، فلا مانع حينئذ من المسح بها.

لكنّه مشكل جدّا، لأنّها كيف تكون كالتالف؟ مع أنّ المسح المتمّم للوضوء يتحقق بها، و يترتّب عليها، فتكون هذه الرطوبة ملكا و مالا، و لذا لو قال له الغاصب: «إن أعطيتني مقدارا معيّنا من المال فأنا راض بالتصرّف الوضوئيّ» فأعطاه و رضي، صحّ وضوؤه.

ثانيها: إنّه إذا غصب أحد خمرا محترمة لغيره، و انقلبت خلّا فعلى القول بالمعاوضة القهريّة بين البدل و المبدل كان الخلّ بعد أداء البدل ملكا للضامن، و إلّا فهو للمضمون له.

ثالثها: أنّه إذا خاط أحد ثوبه بخيوط مغصوبة، فعلى القول بدخول الخيوط في ملك الغاصب بعد أداء البدل جازت له الصلاة في ذلك الثوب. و كذلك التصرفات الأخر، و إلّا فلا.

إلّا أن يقال: إنّ تلك الخيوط بمنزلة التالف، إذ لا يمكن ردّها غالبا إلى مالكها إلّا بعد سقوطها عن الماليّة بسبب النزع، بل في مجمع البرهان «1» الجزم بعدم وجوب النزع، بل قال بإمكان عدم الجواز، لكونه بمنزلة التلف، فيتعيّن القيمة. و حينئذ فيمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط، إذ لا غصب فيه حتى يجب ردّه، هذا.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 521

ص: 620

______________________________

لكنّ الحقّ أنّ الخيوط- و إن قلنا بسقوطها عن الماليّة بالنزع- باقية على ملك مالكها، و حرمة التصرّف في المغصوب إنّما هي باعتبار إضافة الملكيّة، لا باعتبار الماليّة، فتنزيلها منزلة التلف في غير محلّه، فلا بدّ من ابتناء المسألة على مالكيّة الغاصب للمبدل و عدمها. فعلى الأوّل تجوز التصرّفات، و على الثاني لا تجوز.

رابعها: أنّه لو غصب أحد دهنا و خلطه بطعامه، فعلى القول بدخول المبدل في ملك الغاصب بعد ردّ بدله جاز له التصرّف في ذلك الطعام، و إلّا فلا يجوز له التصرّف فيه إلّا برضى مالك الدهن.

إلى غير ذلك من الفروع.

السادس: لو زال التعذّر، و تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المغصوب منه بعد أداء بدل الحيلولة، فالظاهر ثبوت الترادّ، بل عن بعضهم نفي الخلاف بينهم فيه، من غير فرق في ذلك بين مثل الغرق و السرقة و الضياع مما يعدّ تلفا عرفا، و بين ما لا يعدّ كذلك، إلّا أنّه متعذّر الحصول. بل لا يبعد أن يكون الأمر كذلك لو فرض عود التالف الحقيقيّ بخرق العادة.

و عن المحقّق النائيني قدّس سرّه: «إذا ارتفع العذر، و تمكّن من ردّ العين إلى مالكه وجب الرد فورا حتى على القول بالمعاوضة القهريّة الشرعيّة، لأنّ حكم الشارع بالمعاوضة مترتّب على عنوان التعذّر و يدور مداره» «1».

و قد يقال: بابتناء جواز الرجوع و عدمه على كون ملكيّة البدل لمالك العين لازمة أو جائزة. فعلى الأوّل لا يجوز ذلك، و على الثاني يجوز. نظير المعاطاة بناء على إفادتها الملكيّة. «2» هذا.

و لا يخفى أنّه بناء على الملكيّة لا بدّ من البناء على اللزوم، لأنّه الأصل في الملك، فلا وجه لجواز رجوع المالك إلى العين. و عليه فيكون التعذّر علّة محدثة و مبقية لمالكيّة

______________________________

(1) منية الطالب، ج 1، ص 161

(2) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 221

ص: 621

______________________________

المغصوب منه للبدل، و مالكيّة الضامن للمبدل، كسائر المعاوضات الشرعيّة. و جواز الملك محتاج الى الدليل، و مجرّد احتمال الجواز ثبوتا لا يجدي إثباتا. هذا.

فالأولى في وجه وجوب ردّ العين إلى مالكها بعد ارتفاع التعذّر هو: أنّ حقيقة البدليّة و الغرامة تقتضي وجوب الرّدّ عند التمكّن، إذ حقيقة البدليّة هي القيام مقام الغير و بدلا عنه، فبدليّة البدل الطوليّ متقوّمة بعدم المبدل. و مع وجوده لا معنى للبدليّة و الغرامة، و إلّا كان بدلا عرضيّا، و هو خلاف الفرض. فيجب ردّ عينه، لأنّه أداء للمأخوذ حقيقة، كما يدلّ عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النبويّ: «حتى تؤدّي» بخلاف البدل، فإنّه ليس أداء للمأخوذ حقيقة.

و احتمال المعاوضة و انتقال العين إلى البدل- كما في المعاوضة على ما في الذمم- ضعيف جدّا، لأنّ المعاوضة المالكية مفقودة، لعدم انقداح معاوضة في ذهنهما، و عدم إنشائهما لها.

و كذا المعاوضة القهريّة العقلائيّة، لعدم اعتبارهم لها بالنسبة إلى التالف الحقيقيّ، و عدم جعلهم التالف الحقيقيّ ملكا للغارم في مقابل بدله الذي يؤدّيه إلى المالك. و ليس اعتبارهم الضمان في التلف الحقيقيّ مغايرا لاعتباره في التلف العرفيّ.

و كذا المعاوضة القهريّة الشرعيّة، لأنّ أدلّة الغرامات و الضمانات منزّلة على ما يفهمه العرف، و ليست الغرامة عند المتشرّعة غير ما لدى العقلاء، و هي بدليّة البدل عن مال المضمون له ما دام ردّ العين متعذّرا.

لا يقال: إنّ المقام كتعذّر المثل في المثليّ في عدم وجوب ردّ المثل هناك بعد التمكّن منه و دفع القيمة، لاشتراكهما في تعذّر الرّدّ في زمان، فلا بدّ فيما نحن فيه من الالتزام بعدم وجوب ردّ العين أيضا بعد التمكين منه إلى المالك.

فإنّه يقال: بوضوح الفرق بينهما، حيث إنّ الثابت هناك في ذمّة الضامن هو كلّيّ المثل، فإذا رضي المالك بالقيمة فقد رضي بتبديل ذلك الكلّيّ بالقيمة، فيصير حقّه تلك القيمة، من قبيل الوفاء بغير الجنس مع التراضي، فيسقط حقّه لا محالة، كسائر المعاملات الواقعة على ما في الذمم في اللزوم، و عدم جواز الرجوع.

ص: 622

______________________________

و هذا بخلاف المقام، فإنّ العين الشخصيّة لا تدخل في الذّمّة حتى تقع المعاوضة بين ما في الذّمّة و بدله، و تبرء ذمّته، بل يجب بعد ارتفاع العذر ردّ نفس العين كما هو مقتضى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حتى تؤدّى».

السابع: هل ترجع الغرامة إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين إلى المالك أم بردّها خارجا؟ وجهان، أقواهما الثاني، لأنّ التعذّر و إن أوجب استحقاق البدل، لكنّه علّة للوجوب، لا أنّه موضوع له حتى تبطل البدليّة بمجرّد التمكّن، و ذلك لأنّ صرف التمكّن لا يخرج العين عمّا هي عليه من انقطاع سلطنة المالك عنها، و عدم كونها تحت يده، فما لم ترجع العين إلى المالك لا تدخل تحت يده و استيلائه، و لا تعدّ مالا من أمواله، فالموضوع لثبوت ملكيّة المالك لبدل الحيلولة هو انقطاع سلطنته عن ماله، لا التعذّر، فإنّه علّة للوجوب، كالتغيّر الموجب لعروض النجاسة على الماء، فإذا زال التغيّر بنفسه و شكّ في أنّه علّة محدثة فقط أو مبقية أيضا فتستصحب النجاسة.

ففيما نحن فيه إذا شكّ في كون التعذّر علّة محدثة فقط أو مبقية أيضا فلا مانع من استصحاب بقاء البدل على ملك المالك، فلا يوجب التمكّن من ردّ العين الجمع بين العوض و المعوّض، بأن يقال: إنّ التمكّن يوجب الجمع بين العوض و المعوّض عند المالك، لكون التمكّن موجبا لعود ملكيّة العين له، و البدل أيضا ملكه. بل التمكّن كعدمه.

فالبدل لا ينتقل إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين، بل يتوقّف على ردّها خارجا، لأنّ الغرامة بدل السلطنة الفائتة عن المالك، و من المعلوم أنّ عود السلطنة الفعليّة السابقة يتوقّف على ردّ العين إليه خارجا، لا على مجرّد تمكّن الغاصب من ردّها.

و بالجملة: لو كان مجرّد التعذّر علّة محدثة و مبقية لوجوب البدل على الغارم كان صرف التمكّن من الرّدّ موجبا لخروج البدل عن ملك المالك، لكنّه ليس كذلك.

و عليه فليس للغارم استحقاق حبس العين، لأنّه لا يستحقّ الغرامة إلّا بردّ العين، فإذا كان الرّدّ علّة استحقاقه للغرامة فكيف يتقدّم المعلول- و هو الاستحقاق- على علّته و هي الردّ؟

و لو تسامح الضامن في دفع العين بعد تمكّنه منه فللمالك مطالبته، لقاعدة «الناس

ص: 623

______________________________

مسلّطون على أموالهم». و لا يجوز للضامن حبس العين و مطالبته البدل من المالك، لما مرّ آنفا من أنّ البدل بدل عن السلطنة الفائتة، لا عن القدرة على دفع العين.

فالمتحصّل: أنّ الغرامة لا تعود إلى الغارم بمجرّد التمكّن من ردّ العين إلى المالك، بل يناط ذلك بردّها إلى مالكها.

الثامن: إذا خرج المغصوب عن صورته النوعيّة، ثم رجع إليها، فهل يضمن الغاصب بدله من المثل أو القيمة، أم عينه؟ مثاله غصب الخلّ، ثم انقلابه خمرا، ثم صيرورته خلّا، فيه قولان:

أحدهما: ضمان البدل، لانعدام المغصوب بزوال صورته النوعيّة، و الموجود ثانيا غيره، لتخلّل العدم بينهما، و من البيّن أنّ المعدوم لا يعاد.

ثانيهما: ضمان العين نفسها، لأنّ الموجود ثانيا عين الأوّل في نظر العرف.

و تحقيق المقام: أنّ هنا مسألتين:

إحداهما: حكم المبدل قبل أداء البدل، و الثانية حكمه بعد أدائه.

أمّا المسألة الأولى فحاصل الكلام فيها: أنّ الظاهر وجوب أداء العين نفسها على الغاصب، لأنّ الثابت ابتداء على الضامن هو نفس العين، فيجب عليه ردّها على مالكها، و إذا تلفت العين انتقل الضمان إلى بدلها من المثل أو القيمة. و من المعلوم أنّ العين إذا عادت ثانيا فثبوت الضمان فيها أولى من ثبوته في بدلها، لكونها جامعة لجميع الخصوصيّات الّتي كانت موجودة في العين المغصوبة، من دون فرق عرفا في ذلك بين كون العائد عين الأوّل و غيره.

و أمّا المسألة الثانية فقد استشكل فيها غير واحد. و الظاهر أنّه من صغريات العين التالفة، فإنّ الضامن بعد دفع الغرامة برئت ذمّته. فإن رجعت العين إلى نظام الوجود كانت ملكا للضامن، لأنّ حقّ الأولويّة الثابت بالسيرة العقلائيّة انتقل إلى الضامن بعد دفع الغرامة، بناء على كونها أداء لمال المالك بعد إسقاطه للخصوصيّات كما عليه سيرة العقلاء، فبأداء البدل يسقط الضمان عن الغاصب، و ليس دليل آخر يقتضي ضمان العين ثانيا.

إلّا أن يقال: إنّ حقّ الأولويّة لا يسقط بمجرّد دفع البدل، و لا ينتقل إلى الضامن إلّا

ص: 624

______________________________

بإسقاط المالك له، فحينئذ يكون المالك مستحقا لماله العائد بعد زواله، فالأحوط التصالح.

ثمّ إنّ ظاهر كلام المصنّف بقاء حق الأولويّة للمالك. و أيّده برجوع الخلّ المنقلب عن الخمر إلى مالكه حين كونه خلّا، و ليس هذا إلّا من جهة بقاء حقّه المسمّى بحقّ الاختصاص.

و قد أجاب المحقّق الأصفهاني قدّس سرّه عن هذا التأييد بما حاصله: «أنّ وجوب ردّ الخلّ المنقلب عن الخمر إلى المالك لا يكشف عن بقاء حق الأولويّة له، لأنّه من قبيل عود الملك إلى مالكه، فيكون من باب ردّ الملك إلى مالكه، لا من باب أولويّة المالك به.

و السّرّ في ذلك أنّ إطلاق أسباب الملكيّة من الهبة و الصلح و الإرث و غيرها يقتضي تأثيرها بنحو الإطلاق، إلّا إذا اقترنت بمانع يمنع عن تأثيرها، و إذا ارتفع المانع أثّر المقتضي أثره، من دون أن يثبت هنا حقّ الأولوية عند سقوط المقتضي عن التأثير.

و بالجملة: فزوال الملكيّة تارة يكون لموجب الانتقال إلى الغير، كالبيع و غيره من موجبات الانتقال. و اخرى لوجود مانع من تأثير مقتضي الملكيّة بقاء كانقلاب الخلّ خمرا. فسقوط المقتضي لحدوث الملكيّة بقاء إنّما هو لوجود المانع، فإذا زال المانع أثّر المقتضي أثره، من دون وجود حق الأولويّة في حال سقوطه عن التأثير، و عدم لزوم الترجيح بلا مرجّح، بعد وجود المقتضي للملكيّة لمالك العين دون غيره» «1». انتهى ملخّصا.

و فيه: أنّ الملكيّة من الأحكام الشرعيّة الاعتباريّة، و هي من الأفعال الاختيارية للشارع، و هي سعة و ضيقا تابعة لكيفيّة جعلها، و لا تقاس بالمقتضيات الخارجيّة كالنار المقتضية للإحراق و الموانع التكوينيّة، كرطوبة الثوب المانعة عن احتراقه بالنار، التي بزوالها يؤثّر المقتضي لاحراقه- و هو النار- أثره، فيحترق بها الثوب بعد جفافه. بل لا بدّ من الرجوع إلى الأدلّة، و هي تدلّ على أنّ الخلّ يملك بالهبة و البيع و الإرث و غيرها.

و لكن إذا انقلب خمرا خرج عن الملكيّة، و لو عاد إلى الخليّة كان الحكم بملكيّته للمالك الأوّل منوطا بالدليل، و هو مفقود في المقام. و السبب السابق كالهبة و البيع لا يؤثّر في

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 111

ص: 625

______________________________

حدوث الملكيّة بعد الانقلاب إلى الخلّ، و ليس كالمقتضي التكوينيّ كالنار.

و بالجملة: فأولويّة المالك بالخمر المنقلبة عن الخلّ الثابتة بالسيرة المتشرعيّة أوجبت رجوع الخلّ المنقلب عن الخمر إلى المالك، لا السبب الناقل للخل إليه.

هذا بناء على خروج الخمر عن الملكيّة. و أمّا بناء على عدم خروجها عنها- كما قيل- فلا كلام، فإن ظاهر الشيخ في الخلاف عدم قيام إجماع على عدم ملكيّة الخمر. قال في رهن الخلاف: «الخمر ليست بمملوكة، و يجوز إمساكها للتخليل و التخلّل» ثم قال:

«دليلنا: إجماع الفرقة على نجاسة الخمر، و على تحريمها الإجماع، فمن ادّعى صحّة أنّها مملوكة فعليه الدلالة» «1» حيث تمسّك في مورد المسألة المبحوث عنها بعدم الدليل، فلو قام الإجماع على عدم المملوكيّة تمسّك به جزما كما هو دأبه في الكتاب.

التاسع: أنّه هل يكون تمكّن المالك من استرداد ماله كافيا في رجوع العين إليه و ارتفاع الضمان و انتقال البدل إلى الضامن، أم لا بدّ من تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك؟

لا ينبغي الارتياب في أنّ المناط في ثبوت بدل الحيلولة على القول به إنّما هو عدم تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى مالكها، سواء تمكّن المالك بنفسه من ذلك أم لا، بداهة أنّ سبب الضمان المستفاد من قاعدة اليد هو وضع اليد و الاستيلاء على مال الغير.

و إذا تلف أو ضاع أو سرق مثلا وجب عليه بدله حقيقة في التلف، و للحيلولة في غيره، فتمكّن المالك لا دخل له في ارتفاع الضمان عن الغاصب، و هذا واضح جدّا.

العاشر: ما تعرّض له المصنّف قدّس سرّه بقوله: «ثمّ إنّ مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم عن عهدة العين و ضمانها، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد دفع الغرامة سواء كان الارتفاع للسوق أو للزيادة المتّصلة بل المنفصلة كالثمرة .. إلخ».

و حاصل ما أفاده: ضمان ارتفاع القيمة و المنافع قبل دفع البدل، و عدمه بعد دفعه.

و لكن عن العلّامة في التذكرة و عن بعض آخر ضمان المنافع. و قد قوّاه في المبسوط بعد أن جعل الأقوى خلافه.

______________________________

(1) الخلاف، ج 3، ص 241، المسألة 36 من كتاب الرهن.

ص: 626

______________________________

أقول: المسألة مبنيّة على أنّ الغرامة هل هي بدل عن العين أم السلطنة. فإن كانت بدلا عن العين المتعذّرة كما هو مقتضى دليل ضمان اليد فلا محالة تنقطع علاقة المالك عن العين، و تصير ملكا للضامن بجميع شؤونها حتى النماءات المنفصلة فضلا عن المتّصلة، و عن زيادة القيمة السوقيّة.

و إن كانت بدلا عن السلطنة الفائتة- كما هو قضيّة قاعدة السلطنة- ضمن الغاصب جميع شؤون العين، سواء أ كانت تلك الشؤون فائتة أم لا.

و الحقّ أنّ يقال: إنّ البدل المدفوع بدل عن العين و لو من جهة فوات السلطنة. كما أنّه في صورة التلف يكون البدل بدلا عن العين، فحينئذ يكون بدلا عن العين بشؤونها، فلا يضمن ارتفاع القيمة و لا منافعه. هذا في صورة دفع الضامن للبدل.

و أمّا إذا لم يدفع البدل، فمقتضى ضمان العين بجميع شؤونها هو ضمان المنافع و ارتفاع القيمة السوقيّة.

الحادي عشر: قد عرفت أنّ المدار في ثبوت بدل الحيلولة- على القول به- تعذّر الوصول إلى العين، بحيث لا يتمكّن المالك من الانتفاع بها، فلو تمكّن المالك من الانتفاع بها مع حصول نقص فيها و لو في بعض أوصافها خرجت عن مورد بدل الحيلولة، لفرض إمكان الانتفاع بها، و عدم ارتفاع سلطنته عنها، كصورة امتزاج العين بعين اخرى الموجب للشركة، فإنّ العين بعد امتزاجها بغيرها لا تخرج عن قابليّة انتفاع المالك بها، غاية الأمر أنّه حدث عيب في ماله، لأنّ الشركة نقص في العين المملوكة بالاستقلال، فيجب على الغاصب أداء الأرش للمالك. فهذا المورد خارج عن موارد بدل الحيلولة، لإمكان الانتفاع بالعين.

الثاني عشر: أنّ أسباب الضمان على ما أفاده المصنّف قدّس سرّه بقوله: «سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف الحقيقيّ .. إلخ» أمور أربعة.

الأوّل: تلف العين حقيقة، و تسقط حينئذ عن الملكيّة عرفا، فيجب بدلها على متلفها و الخروج عن عهدتها بدفع بدلها، لأدلّة الضمان.

الثاني: التلف الحكميّ، و هو قطع سلطنة المالك عن ماله كالغرق و السرقة

ص: 627

______________________________

و نحوهما ممّا لا يكون عوده مرجوّا. و هذا مورد بدل الحيلولة.

الثالث: إزالة الأوصاف التي لها دخل في مالية العين بحيث تخرج العين بذهابها عن الماليّة مع انحفاظ العين بنفسها في ملك مالكها، و سلطنته عليها تسلّط الملّاك في أملاكهم، فالضمان حينئذ بالماليّة الخالصة دون العين المغصوبة، كالثلج في الشتاء و الماء على الشاطئ.

الرابع: ذهاب الأوصاف التي بها تخرج العين عن الملكيّة أيضا، إمّا شرعا كالخلّ المنقلب خمرا، و إمّا عرفا كالكوز المكسور، لكن تبقى العين متعلّقة لحقّ المالك. هذا ما أفاده المصنّف قدّس سرّه.

و لا يخفى أنّ ما ذكره في القسم الأوّل أعني به التلف الحقيقي- من زوال ملكيّة المالك عن العين- متين، غاية الأمر أنّ العين قد تعتبر ملكا للغاصب فيما إذا ترتّب عليه الأثر كما في تعاقب الأيدي.

و أمّا ما ذكره في القسم الثاني من كونه موردا لبدل الحيلولة فهو غير تامّ، لأنّ مورده صورة بقاء العين مع تعذّر الوصول إليها، بحيث يرجى زوال العذر أيضا. و أمّا إذا كان العثور عليها مقطوع العدم و كان الضامن مأيوسا من الوصول إليها كما في المال المسروق أو الملقى في البحر فهو تالف عرفا، فيلحق بالقسم الأوّل، إذ ليس المراد من التلف الانعدام الحقيقيّ الذي ذهب بعض الفلاسفة إلى استحالته، بل المراد هو التلف العرفيّ، فلا يكون موردا لبدل الحيلولة المصطلحة.

و أمّا ما أفاده في القسم الثالث- من زوال الماليّة مع بقاء ملكيّة العين- فربّما يناقش فيه كما في حاشية السيد قدّس سرّه بأنّ ذهاب الوصف إن أوجب سقوط العين عن قابليّة الانتفاع بها، فتسقط عن الملكيّة أيضا، و إلّا فهي مال، «1» هذا.

لكن الظاهر إمكان سقوطها عن الماليّة التي مناطها إمكان الانتفاع المعتدّ به بها، دون ملكيّتها التي هي إضافة خاصّة بين الشي ء و مالكه، و لا يناط اعتبار الملكيّة بالماليّة

______________________________

(1) حاشية المكاسب، ج 1، ص 110

ص: 628

______________________________

كحبّة حنطة و الرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء، و الخيط الباقي في الثوب المخيط و نحوها.

و أمّا ما أفاده في القسم الرابع- من سقوط العين عن الماليّة و الملكيّة معا- فلا إشكال في صحّته، لأنّ المتلف يضمن بدل العين من المثل أو القيمة، كما لا شبهة في بقاء حق الاختصاص بها للمالك.

و لنختم الكلام هنا في بدل الحيلولة و بذلك فرغنا من مباحث المقبوض بالبيع الفاسد، و به تمّ الجزء الثالث من شرحنا على «متاجر» شيخنا الأعظم، آملا منه تعالى القبول، و سائلا منه التوفيق لا كماله بحقّ سادة أوليائه محمّد و آله المعصومين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و اللعن على كافّة أعدائهم إلى يوم الدين يا ربّ العالمين.

ص: 629

ص: 630

صورة

ص: 631

صورة

ص: 632

صورة

ص: 633

صورة

ص: 634

صورة

ص: 635

صورة

ص: 636

صورة

ص: 637

صورة

ص: 638

صورة

ص: 639

صورة

ص: 640

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.